|
الكتب معرفة ومتعة - كتاب إلكترونى 1
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 3927 - 2012 / 11 / 30 - 22:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(مقدمات وعروض لكتبى المترجمة ومقدمات وعروض ومقالات مترجمة لكتب أخرى) (كتاب إلكترونى، 2012) الجزء الأول خليل كلفت المحتويات الجزء الأول أولا: عروض مترجمة لكتب غير مترجمة أو من ترجمة آخرين سياسة وفكر: 1: الشرف والغضب لا يكفيان عن كتاب: Deterring Democracy [الحيلولة دون الديموقراطية] تأليف: نعوم تشومسكى Noam Chomsky،1991 (عرض: جاريث چنكنز Gareth Jenkins). 2: الحروب الوشيكة The Next War [الحرب القادمة]، تأليف: كاسپر واينبرجر Caspar Weinberger و پيتر شڤايتسر Peter Schweizer، 1997 (عرض: إينياسيو رامونيه Ignacio Ramonet). أدب: 3: زيارة جديدة إلى مزرعة الحيوانات، عن رواية "مزرعة الحيوانات"، Animal Farm، چورچ أورويلJeorges Orwell ، 1945 (مقال: چون مولينو John Molyneux). 4: عوالم عديدة مفقودة، عن رواية "پيدرو پارامو" Pedro Páramo، خوان رولفو Juan rulfo، 1953 (عرض: مايك جونثالث Mike Gonzalez). 5: صوت ڤالزر، عن قصص مختارة Selected Stories، روبرت ڤالزر Robert Walser، 1983 سوزان سونتاج Susan Sontag، (مقدمة). 6: تذييل عن كتاب روبرت ڤالزر بقلم: كريستوفر ميدلتون. 7: مارسيل پروست، عن رواية "البحث عن الزمن الضائع"، بقلم: أناتولى لوناتشارسكى (مقال). 8: پروست مؤرّخًا اجتماعيًّا بقلم: أندريه موروا (مقال). 9: حول الأسلوب فى السينما، عن فيلم "الأمل"، إخراج: أندريه مالرو، وهو مقتبس من روايته "الأمل"، فصل من كتاب أندريه بازان Le Cinéma Français de Libération à la Nouvelle Vague (1945-1958) [السينما الفرنسيّة من التحرير إلى الموجة الجديدة (1945-1958)]. 10: مقدمة جاستون ماسپيرو لكتابه الصادر بعنوان: الأغانى الشعبية فى صعيد مصر، جاستون ماسپيرو Gaston Maspero، إعداد د. أحمد مرسى و محمود الهندى، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000 (مقدمة). ثانيا: مقدمتان لى لكتابيْن لمترجميْن آخريْن سياسة وفكر: 11: ڤالتر بنيامين Walter Benjamin، هاوارد كايجل howard keigel وآخرون، 2000، ترجمة: وفاء عبد القادر مصطفى، المشروع القومى للترجمة، 2005 (مقدمة). 12: إشكالية مدرسة فرانكفورت (مقال لى ملحق بمقدمتى لكتاب ڤالتر بنيامين). 13: مصر وبلاد النوبة Egypt in Nubia، 1965، وولتر إمرى Walter Emery، ترجمة: تحفة حندوسة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2005 (مقدمة). ثالثا: مقدماتى أو عروضى لكتب من ترجمتى سياسة وفكر: 14: الأساطير والميثولوچيات السياسية Mythes et mythologies politiques، راؤول چيرارديه Raoul Girardet، 1986، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1995 (عرض) 15: مصير العالم الثالث Les destins du Tiers Monde, analyse, bilan et perspectives، 1993، توما كوترو Thomas Coutrot و ميشيل إسُّون Michel Husson، دار العالم الثالث، القاهرة، 1995 (عرض). الجزء الثانى 16: النظام القديم والثورة الفرنسية L’Ancien Régime et La Révolution، أليكسى دو توكڤيل Alexis De Tocqueville، 1856، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010 (مقدمة). 17: النظام القديم والثورة الفرنسية (عرض) 18: كيف نفهم سياسات العالم الثالث: نظريات التغيير السياسىّ والتنمية Understanding Third World Politics: Theoris of Political Change and Development,، ، بى سى سميث B. C. Smith، 2009، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2011 (مقدمة). 19: انهيار النموذج السوڤييتى: الأسباب والنتائج، كريس هارمان Chris Harman، الطبعة الأولى، دار النهر، 1995، الطبعة الثانية، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010 (مقدمة). 20: انهيار النموذج السوڤييتى، كريس هارمان (تذييل). 21: انهيار النموذج السوڤييتى، كريس هارمان (تلخيص). أدب: 22: طبيب الأمراض العقلية The Psychiatrist، 1882، ماشادو ده أسِّيس Machado de Assis، دار الياس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى بعنوان: السراية الخضراء، القاهرة، 1991، (رواية قصيرة). 23: دون كازمورو Dom Casmurro، 1900، ماشادو ده أسيس Machado de Assis، الطبعة الأولى: دار الياس للطباعة والنشر، القاهرة، 1991، الطبعة الثانية، آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2012 (رواية). 24: حكاية سكندرية وقصص أخرى، ﻟ ماشادو ده أسيس، المجلس الأعلى للترجمة، القاهرة، 2009. 25: أساطير البحر Légendes de la mer، برنار كلاڤيل Bernard Clavel ، 2006، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2007 (أساطير للناشئة). 26: أساطير البحيرات والأنهار Légendes des lacs et rivières، برنار كلاڤيل Bernard Clavel، 2006، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2008 (أساطير للناشئة). 27: أساطير الجبال والغابات Légendes des Montagnes et Forêts، برنار كلاڤيل Bernard Clavel، 2006، برنار كلاڤيل، Bernard Clavel، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2007 (أساطير للناشئة). 28: مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا، خورخه لويس بورخيس Jorge Luis Borges، الطبعة الأولى، دار شرقيات، القاهرة، 2000؛ الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب(مكتبة الأسرة)، القاهرة، 2008 (قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية). 29: عوالم بورخيس الخيالية، آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، نخبة، القاهرة، 1999 (مقالات مختارة). 30: رحلة فى عالم بورخيس، تقديمى لملفّ مجلة القاهرة العدد 137 أپريل 1994 (ملحق بالمقالين السابقين عن بورخيس). الجزء الثالث 31: كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ فى كتاب "دوستويڤسكى.. إعادة قراءة"، تأليف: يورى كارياكين، كمبيونشر، بيروت، 1991. رابعا: عرض مترجم لكتاب من ترجمتى 32: الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالى- ترجمة الأدب الآيرلندى المبكر إلى الإنجليزية Translation in a Postcolonial Context - Early Irish Literature in English Translation، 1999، ماريا تيموسكو Maria Tymoczko، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2009 (عرض: پول سان-پيير Paul St-Pierre). ملاحق الملحق الأول مقالات للدكتورة آمال فريد عن مجموعة قصص قصيرة لكلٍّ من ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى 33: ادوار الخراط: ساعات الكبرياء 34: إبراهيم أصلان - بحيرة المساء 35: جمال الغيطانى: أوراق شاب عاش منذ ألف عام الملحق الثانى التاريخ الذى أحمله فوق ظهرى: سيد عويس 36: سيرة ذاتية كدراسة حالة؛ عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا. 37: ثورة 1919 كما رآها طفل مصرى؛ عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا. الملحق الثالث فصل من كتاب "عالم جديد" تأليف: فيديريكو مايور و چيروم بانديه. 38: أىّ مستقبل ينتظر الكِتاب والقراءة؟ الملحق الرابع كلمة الغلاف لبعض ترجماتى 39: كلمة الغلاف لمجموعة من كتبى المترجمة بيبليوجرافيا 1 الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:"الحيلولة دون الديموقراطية"Noam Chomsky: Deterring Democracy (Verso.1991) عن المجلة البريطانية: International Socialism, N 53 (Winter 1991)]، (عرض: جاريث چنكنز Gareth Jenkins) لقد انتهت الحرب الباردة، أو هكذا يقال لنا. فهل نحن داخلون الآن، عهدا جديدا من العلاقات الدولية تتلاشى فيه توترات الماضى؟ الخط الرسمى، الذى تروّجه الطبقة الحاكمة الأمريكية، هو أننا غدونا، مع انهيار الستالينية وتغيُّر توجُّه القيادة السوڤيتية، على أعتاب نظام عالمى جديد. وردّ تشومسكى الرصين على هذا السؤال - إذا تركنا اللغة الخاطبية جانبا - هو أن العالم لا يتجه الآن إلى أن يكون مختلفا جدا عن العالم الذى اعتدنا عليه. وهذا بسبب الاتجاهات العالمية الطويلة الأمد وليس بسبب تبدلات حديثة جدا فى العلاقات السياسية بين القوتين العظمييْن. ويشرح تشومسكى وجهة نظره فى مقدمته حيث يُنعم النظر فى النظام العالمى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد بدأ توازن ما بعد 1945 فى علاقات القوة الأمريكية-السوڤيتية فى الانهيار فى أواخر السبعينات حيث أبدت قوة موسكو (التى كانت دائما دون قوة واشنطن) دلائل ملحوظة على التدهور الاقتصادى والعسكرى، من جهة، وبدأ صعود أوروبا (أى ألمانيا) واليابان يشكّل - كاحتمال على الأقل - تهديدا أكبر من "الاتحاد السوڤييتى المتهاوى" على السيطرة الأمريكية. ومهما كانت هذه التطورات جلية واضحة فقد تركت مشكلة أيدلوچية بالغة الأهمية: ...كانت هناك حاجة إلى تصور مختلف كأساس منطقى للسياسات التى كان يجرى تحقيقها آنذاك للمحافظة على السيطرة العالمية الأمريكية ولتوفير عون مالى مطلوب للتكنولوچيا العالية: صورة اتحاد سوڤييتى مخيف يتقدم من قوة إلى قوة ويشكّل تحديا مريعا للحضارة الغربية. ولم تكن هذه الأوهام قابلة للتصديق فى ذلك الحين، ثم صارت بلا أساس على الإطلاق خلال العقد التالى(1). وبمعنى من المعانى، انتهت الحرب الباردة عندما كفّ الاتحاد السوڤييتى تقريبا عن مواصلة الصراع. غير أن وجهة نظر تشومسكى هى أن صورة اتحاد سوڤييتى عدوانى كانت دائما أسطورة موضوعة بهدف دعم المصالح الأمريكية فى الداخل والخارج. وهذه المصالح باقية، حتى إذا كانت الصورة التقليدية عن "تخريب شيوعى" لن تظل صالحة لإكراه الجماهير على قبول المغامرات الخارجية والتدخل الداخلى. والحقيقة أن الغراء الأيدلوچى الذى أوجد تماسكا بين البنتاجون، ومصالح شركات الأعمال، و"الرأى العام"، أخذ الآن يتحلل فى عالم أقل استقرار عما كان من قبل، إلى حد كبير بسبب النظام الاقتصادى الثلاثى الأقطاب والذى يتقاطع مع النظام العسكرى الأحادى القطب. تظل الولايات المتحدة القوة الوحيدة التى تملك الإرادة والقدرة على ممارسة القوة على نطاق عالمى - حتى بحرية أكثر من ذى قبل، مع تلاشى الردع السوڤييتى. على أن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بتفوق القوة الاقتصادية الذى أتاح لها الاحتفاظ بوضع عسكرى عدوانى ذى نزعة تدخلية منذ الحرب العالمية الثانية. وبطبيعة الحال فإن القوة العسكرية التى لا يدعمها أساس اقتصادى يضارعها لها حدودها كأداة للقهر والسيطرة. على أنها قد تلهب حقا النزعة المغامرة، ميلا إلى زعامة العالم باستخدام القوة التى بحوزتها، ربما بنتائج كارثية(2). وهكذا يشير عالم ما بعد الحرب الباردة إلى صراع أكثر من أى وقت مضى، كما أثبت غزو بناما وكذلك رد الفعل على الغزو العراقى للكويت. ذلك أن الولايات المتحدة لم يعد يقيدها خوف من رد الفعل السوڤييتى كما أن تكلفة مثل هذه التدخلات العسكرية تطرح مشكلة مَنْ غيرها سيدفع عنها الحساب. بالإضافة إلى ذلك، على حين تتصرف الولايات المتحدة بوصفها "شرطى العالم للإيجار" (على حد تعبير جريدة يومية أمريكية محافظة هامة)، ربما فضل منافسوها الاقتصاديون تحقيق مكاسب فى مناطق انهار فيها النفوذ السوڤييتى مساهمين بذلك فى التدهور الاقتصادى المتواصل لأمريكا. وإذا كانت هناك أزمة فى شرعية المصالح العالمية الأمريكية فهناك أيضا مشكلات محلية متصاعدة، مع عجز فى العمل الماهر، ونظام تعليمى آخذ فى التدهور، وانهيار فى البنية التحتية. والنتيجة المتوقعة هى أن تكلفة العمل الماهر سترتفع وأن شركات عملاقة عبر قومية سوف تنقل البحث، وتطوير وتصميم المنتج، والتسويق، والعمليات الأخرى التى من هذا القبيل إلى مكان آخر. وفيما يتعلق بالفئة الدنيا ("تحت الطبقية") من قوة العمل the underclass، ستظلّ الفرص متاحة لهم باعتبارهم "هسِّيِّين" [أى كمرتزقة للامبراطورية الأمريكية](3) (الهسِّيُّون: نسبة إلى ولاية هسّه الألمانية وكان هذا الوصف يُطلق على المرتزقة الألمان فى القوات البريطانية خلال الثورة الأمريكية - المترجم). لا يوسّع تشومسكى هذه الرؤية الكارثية. والواقع أن الفصول التالية تثبت أمرين: الأول هو أن تدخل الولايات المتحدة فى الخارج (وأغلب أمثلته مأخوذة من أمريكا الوسطى والجنوبية)(4) لا علاقة له على الإطلاق بالمحافظة على "الديمقراطية" ضد "العدوان الشيوعى" أو "الديكتاتورية"؛ وبالأحرى فقد كان هدفه تعزيز المصالح النخبوية للمجمع العسكري-الصناعى وحماية الأساليب الدموية التى تنتهجها الأنظمة التابعة لها بالوسائل اللازمة أيّا كانت. ويتمثل الأمر الثانى فى إيضاح الطريقة التى تم بها إعداد ونشر أيدلوچية احتواء الشيوعية فى سبيل تبرير التدخل الأمريكى وكيف أمكن الحصول على الموافقة على هذه الأيديولوچية. وما يعنى تشومسكى هنا هو ما يسمية "مفهوم السيطرة الفكرية فى المجتمعات الديمقراطية"(5). كان تشومسكى أكثر نجاحا بصورة ملحوظة فى الأمر الأول مما فى الأمر الثانى. والفصول التى تتناول الأيديولوچية المعادية للشيوعية، وفظاعة رئاسة ريجان، والوحشية التى لا ترحم لتدخل الولايات المتحدة فى أمريكا الوسطى، والسجلّ المروّع للدول الصديقة للولايات المتحدة، وانقياد الكلاب المدللة الذى تتميز به وسائل الإعلام إزاء مصالح الطبقة الحاكمة، هى فصول ممتازة. كما أن مدى ما يتميز به من تدقيق مرجعى ومنطقى، وتهكمه الرصين، ووحشيته السويفتية [نسبة إلى جونايان سويفت، الكاتب الآيرلندى الساخر، 1667-1745، مؤلف رحلات جاليڤر 1726- المترجم] - هذه الأشياء جميعا تمدّنا بتحليل بالغ التدقيق لأكاذيب الطبقة الحاكمة الأمريكية. وأعمق أجزاء الكتاب تأثيرا هى تلك الأقسام التى تتناول التاريخ المظلم للتورط الأمريكى فى أمريكا الوسطى. وهو يبحث تخريب نظام الساندينيستا فى نيكاراجوا، ابتداءًا بسقوط ساموزا فى 1979 وانتهاءًا بانتخاب تشامورّو فى 1990، وغزو بناما فى أواخر 1989 لطرد الجنرال نورييجا. وهو يضع الأمرين فى سياق الدعم الأوسع المقدم، علنا وسرّا على السواء، إلى القوى اليمينية المتطرفة فى أنظمة مجاورة مثل سان سلڤادور، وهوندوراس، وجواتيمالا، فضلا عن الكونترا أنفسهم. ويفحص أحد أروع الأقسام فى الكتاب بكل عناية تلك الحرب الدائرة ضد الكوكايين فى أمريكا الجنوبية، وخاصة فى كولومبيا. ويُثبت تشومسكى كيف أن الاهتمام الأمريكى فيما يتعلق بالتهديد للديمقراطية يستهدف المناضلين النقابيين وبقية المحتجِّين السياسيين وليس المصالح الراسخة وارتباطاتها ببارونات المخدرات. وهو يقدم أيضا تحليلا رائعا للمكان الذى يوجد فيه تهديد المخدرات الحقيقى - فى صناعة التبغ الأمريكية. ذلك أن النيكوتين فتاك أكثر بكثير من الكوكايين، غير أن أرباح الاستثمارات ضخمة إلى حد أن هذه الصناعة، التى تؤازرها الدولة، تقتحم وتقيم أسواقا فى بلدان مثل تايلاند أو تايوان، فى سياق تكرار عصرى لحروب الأفيون الشائنة التى شنتها الامبريالية البريطانية ضد الصين فى أوائل القرن التاسع عشر. وهدف تشومسكى هنا هو أن يرى كيف تضفر الطبقة الحاكمة الأمريكية الخيوط المتباينة للاستراتيچية العالمية الأمريكية - سواء أكانت لتبرير التدخل فى العالم الثالث لتأمين الأسواق والموارد، أم لفرض الأوامر السياسية على البلدان الصناعية (مثل ألمانيا، واليابان فيما بعد الحرب) لتتلاءم مع الاحتياجات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية. وهو يقابل ما قاله أيديولوچيّو المؤسسة، "اليمينيون" و"اليساريون"، الحمائم والصقور، على السواء، بحقائق الحياة فى العالم الثالث مروّعا بوجه خاص، بسوء التغذية والفقر المتوطن والمتعاظم، وقتل الخصوم السياسيين (من القساوسة إلى المناضلين النقابيين) الشائع والذى لا يكاد يأتى ذكره فى الصحافة الأمريكية (وردّ الفعل مختلف تماما عندما يتم ارتكاب "انتهاك" فى نيكاراجوا مثلا). غير أن الواقع فى البلدان المتقدمة كان بدوره شريرا - بالتخريب الذى قامت به وكالة المخابرات المركزية فى إيطاليا (فضيحة پ 2) وفى أستراليا (طرد "جوف ِوتلام" من الحكم) وبالتدخل الفظ فى شئون المنظمات العمالية (مثل انقسامات ما بعد الحرب فى النقابات). هذا ما تكمن فيه قوة كتاب تشومسكى. غير أنه لا يمكن أن يقال نفس الشيء عن محاولته للجدال حول الوظيفة الداخلية للأيديولوچية المعادية للشيوعية. هنا نجد تشومسكى ضعيفا. ولا شك فى أن كافة الطبقات الحاكمة فى الديمقراطيات البرچوازية تدعى الحق فى السلطة على أساس القبول. ويُبيّن تشومسكى كيف استخدمت الطبقة الحاكمة الأمريكية فكرة "احتواء الشيوعية"، "حماية الحرية"، لترويج سياساتها بين مواطنيها. وما هو أقل وضوحا هو لماذا "يقبل" المحكومون ما يقوله حكامهم (أو إنْ كانوا يقبلون حقا فإلى أى مدى). وبافتراض التزام تشومسكى بالنضال الديمقراطى، هناك إجابة لا يسعه استخدامها وهى أن المحكومين يقبلون لأنهم أغبياء. وقد كتب تشومسكى بعض الصفحات البليغة التى خصصها لإيضاح كيف أن مثل هذا الازدراء للجماهير كان يشكل أساس تعاريف الطبقة الحاكمة "للديمقراطية" منذ زمن الثورة الإنجليزية فصاعدا. إن "الدهماء الأوغاد" أجهل أو أشد جموحا من أن يديروا شئونهم بأنفسهم. ولابد من إرشاد الجماهير وإقناعها لقبول شكل من أشكال "المشاركة" التى تستبعد أية مشاركة حقيقية من جانبها، بحيث يمكن تصريف شئون الأعمال والنُّخب الحاكمة فى سلام. وهناك إجابة بديلة هى أن المحكومين يتم استدراجهم إلى القبول عن طريق مجرّد الضغط الذى تمارسه السيطرة الرسمية على وسائل الإعلام، عن طريق الدرجة التى يمكن بها توجيه الرأى العام. فالقبول يجرى الحصول عليه عن طريق السيطرة الفكرية. وهذا بالغ الأهمية بوجه خاص فى المجتمعات "الحرة" (مثل الولايات المتحدة) بالمقارنة مع مجتمعات العالم الثالث، حيث القوة وليس "الإقناع" هى الفيصل. وبطبيعة الحال فإن توجيه الأفكار قائم بطريقة مرهفة للغاية، غير أن تشومسكى يكون مهددا فى كثير من الأحيان بالوقوع فى نظرية المؤامرة (وهذا مفهوم، نظرا لعدد المؤمرات). هكذا يتحدث عن "تعاظم مشكلات السيطرة الاجتماعية طالما كانت الدولة محدودة القدرة على الإكراه". والناس العاديون "لابد من تلقينهم مذهبيا أو إلهائهم، وهذه مهمة تحتاج إلى جهود متواصلة"(6). والآن وقد تم استنفاد الخطر السوڤييتى، فلا مناص لحكام الولايات المتحدة من أن يبحثوا حولهم عن بُعْبع جديد - خطر المخدرات - لكى يبرروا التدخل عبر البحار. ويغدو تشومسكى أورويليًّا [نسبة إلى چورچ أورويل 1903-1950 الروائى البريطانى الشهير ومؤلف رواية 1984 ورواية مزرعة الحيوانات - المترجم] فى الواقع فى تصويره لمجتمع الآخ الكبير: تغدو أجزاء كبيرة من اللغة محكوما عليها ببساطة بأن تكون خالية من المعنى. وهى ككل مفهومة تماما: فى مجتمع حرّ، على الجميع أن يسيروا بخطوة الإوزة عند تلقِّى الأمر، أو أن يظلوا صامتين(7). وسواء أكان مقصودا أم لا، يتمثل تأثير مثل هذه المقاطع فى أنها تجعل الطبقة الحاكمة الأمريكية تبدو وكأنها كلية القدرة. ويقلل هذا من شأن إشارات تشومسكى ذاته إلى التدهور الاقتصادى للولايات المتحدة. وهكذا فرغم أنه، على مستوىً، لا يألو جهدا فى سبيل توضيح أن نهاية الحرب الباردة لا تعنى أن الولايات المتحدة يمكنها أن تفرض ببساطة سلاما أمريكيا على العالم (فهذا ما يحول دونه عدم الاستقرار الذى يحدثه عدم تلاؤم عالم اقتصادى ثلاثى الأقطاب مع عالم عسكرى أحادى القطب) إلا أن الحدود الموضوعية السياسية للولايات المتحدة سيئة التحديد على مستوىً آخر. والحقيقة أن تناوله النظرى بكامله للسلطة يعانى من نقاط ضعف جدية. ويشبه تحليله من نواح عديدة تحليل مفكرى عصر التنوير فى القرن الثامن عشر. ومما له دلالته أن نقطة انطلاقه فى الفصل الأخير، "العنف والرأى العام"، هى ملاحظة ديڤيد هيوم القائلة بأن كل حكم يقوم على " الرأى العام". وكان مفكرو عصر التنوير يشددون، كسمة تميزهم، على السياسة، وليس على الاقتصاد، باعتبارها هى التى تحسم أمور السلطة. ويترتب على هذا أنك إذا سيطرت على الرأى العام فإنك تكون قد سيطرت بالتالى على المجتمع. ولهذا كانت الأيديولوچية المجال الأساسى للصراع - لاستخدامها إما فى خدمة الاستبداد أو فى خدمة التنوير. أما ما كان يفعله البشر فعلا، عن طريق إنتاج وإعادة إنتاج الشروط المادية لوجودهم (أىْ، عن طريق نشاطهم الاقتصادى)، فكان أقلّ أهمية. وقد اقتضى الأمر أن يقوم ماركس بقلب العلاقة بين الوجود الاجتماعى والأفكار، جزئيا لتقويض فكرة أن الأيديولوچية كلية القدرة. والحقيقة أن التناقضات فى الواقع ذاته، وليس التناقضات فى عالم الأفكار، هى الأكثر أهمية عندما نكون إزاء فهم حدود سلطة الطبقة الحاكمة. ذلك أن التناقضات المحفورة فى صميم بنية أسلوب الإنتاج الرأسمالى ذاته، أى ميله إلى الأزمة التى تقيد بشدة سيطرة البرجوازية على نظامها الخاص (والتعبير الذى لا يُنسى لماركس فى البيان الشيوعى إنما يدور حول الساحر الذى يُطْلق قُوًى لا يمكنه السيطرة عليها). والثانى مستوى التناقض بين ما يقبله الناس عادة كنتيجة لكونهم منتجات للنظام والاتجاه الذى يدفعهم إليه نشاط حياتهم الاقتصادية (بوصفهم منتجين للنظام). وهذا التناقض هو الرئيسى بالنسبة للطريقة التى تصل بها الطبقة العاملة إلى تحدِّي-وهزيمة-البرچوازية، وهو الذى يجعل الأيديولوچية، مهما كانت قوية، عاملا ثانويا. هذا البُعْد بكامله غائب عن تناول تشومسكى للسيطرة الفكرية. ولا تظهر فى أى موضع من مواضع كتابه أية صورة واضحة للعلاقة بين السلطة (أى سلطة الدولة)، والاقتصاد، والصراع الطبقى. وعند تشومسكى، يبدو أن سلطة النخبة السياسية تكبحها، وجزئيا فقط بالتالى، مقاومة ضحاياها. وبقدر ما يشتمل الكتاب على استراتيچية للمقاومة فإنها استراتيچية تقوم على النزعة القومية الراديكالية فى العالم الثالث. ويبدو أنه ليس لديه أى إدراك للقيود التى تضعها تناقضات النظام الاقتصادى ذاته على السلطة السياسية ولا أى إدراك للدور الذى تلعبه الطبقة العاملة دوليًّا لاستغلال هذه التناقضات. يدلّ على هذا بكل وضوح "صمته" فى كتابه فيما يتعلق بماركس. ويرتبط هذا برفضه المرير، باسم باكونين وفوضوية حرية الإرادة، لكامل التقاليد المرتبطة بلينين والبلاشفة. ومبكرا جدا، فى فصله الافتتاحى، يقول لنا ما يلى عن الهدف الداخلى للحرب الباردة بقدر ما يتعلق الأمر بالاتحاد السوڤييتى: "... ساعدت الحرب الباردة فى تعزيز سلطة النخبة العسكرية-البيروقراطية التى نشأ حكمها عن الانقلاب البلشفى فى أكتوبر 1917(8). وفى الفصل الأخير يجرى تضخيم هذا التجاهل للفارق بين اللينينية والستالينية الأمر الذى يعكس الممارسة الأيديولوچية للطبقة الحاكمة الأمريكية. وهكذا فإن "صناعة القبول"، وهى محورية فى المفاهيم النخبوية عن الديمقراطية الموجهة، تُشْبه المفهوم اللينينى عن الحزب الطليعى "الذى يقود الجماهير نحو حياة أفضل ليس بمستطاع هذه الجماهير أن تتصورها أو تبنيها من تلقاء نفسها"(9). واللينينية هيراركية شأنها فى ذلك شأن كافة الممارسات الأخرى للطبقة الحاكمة فى معارضتها "للاتجاهات الديمقراطية الراديكالية فى صفوف الناس العاديين": بعد الاستيلاء على سلطة الدولة فى 1917 بوقت قصير، تحرك لينين وتروتسكى لتفكيك هيئات الرقابة الشعبية، بما فى ذلك مجالس المصانع والسوڤيتيات، وشَرَعَا بذلك فى صّد الاتجاهات الاشتراكية وقهرها(10). ويترتب على هذا أن انهيار الستالينية هو بالتالى انهيار للينينية. وليس هذا انتصار للاشتراكية، على ما يؤكد تشومسكى، لكنه يُزيل حقا العائق أمام تحقيق... الأفكار الاشتراكية المؤيدة لحرية الإرادة للحركات الشعبية التى تم سحقها فى روسيا فى 1917، وفى ألمانيا بعد ذلك بوقت قصير، وفى أسبانيا فى 1936، وفى كل مكان آخر، حيث كانت الطليعة اللينينية تتقدم الصفوف فى كثير من الأحيان فى ترويض الدهماء الأوغاد بأمانيهم الاشتراكية المؤيدة لحرية الإرادة والديمقراطية الراديكالية(11). واللافت للنظر للغاية فى كافة هذه التعليقات هو مدى قبوله، بغض النظر عن الإشارات إلى باكونين، للأساطير اليمينية حول البلشفية. والجانب الأكبر من كتاب تشومسكى فضح لا يألو جهدا للأساطير اليمينية حول "العدوان الشيوعى"، و"تهديد الديمقراطية"، وما إلى ذلك، والتى يروجها بدأب أكاديميون وصحافيون برجوازيون. أما لماذا لا يجرى ضبط قرون استشعاره بصورة مماثلة مع ما يلفقه نفس هؤلاء الأكاديميين والصحافيين حول استمرار اللينينية فى الستالينية فإنه يبقى لغزا. وعلى كل حال، تتمثل إحدى الأساطير الرئيسية لنهاية الحرب الباردة فى أننا نشهد مع انهيار الستالينية موت الاشتراكية. وربما زعم تشومسكى عن حق أنه يرفض تلك الأسطورة لأنه يؤكد ضرورة ميلاد جديد للأفكار الاشتراكية المؤيدة لحرية الإرادة. غير أن الحقيقة تظل أنه يقبل حجة من الحجج الرئيسية التى يستخدمها الأيديولوچيون فى دفاعهم عن "الديمقراطية" التى يفضحها هو بكل هذا الدأب: أى، الحجة القائلة بأن الاستبداد الستالينى هو النتيجة المحتومة للممارسة البلشفية. والتناقض الصارخ فى نوع التفكير بين تشومسكى الذى يرفض وتشومسكى الذى يقبل الأساطير اليمينية واضح جلى. ففكرة أن لينين وتروتسكى "استوليا على السلطة" تمثل نصف حقيقة تشوّه الواقع. ذلك أن كل عمل تاريخى جاد حول الثورة الروسية يوضح باستفاضة أنها لم تكن انقلابا عسكريا قام به البلاشفة وجرى بصورة مستقلة عن أمانى الجماهير (كما يلمّح تشومسكى)، بل كانت تمثل العمل النهائى والذى لا غنى عنه للثورة من تحت، والمعتمد بالكامل على البلاشفة الذين كانوا قد صاروا الأغلبية داخل الشكل الأوفر ديقراطية الذى عرفه العالم إلى ذلك الحين للمشاركة الجماهيرية: السوڤييتات. ثانيا، فكرة أن لينين وتروتسكى تحركا بمجرد الاستيلاء على السلطة لتفكيك هيئات الرقابة الشعبية (وكأنهما عقدا العزم على سحق الديمقراطية العمالية) فكرة مضللة تماما. إنها تتجاهل أى اعتبار لسياق الثورة (تخلّف روسيا، الغزو من جانب القوى الامبريالية، الحرب الأهلية)، ذلك السياق الذى فرض كل أنواع القيود التى لا مفرّ منها على الديمقراطية السوڤييتية - والتى كانت أكثر ديمقراطية بكثير بقدر ما يتعلق الأمر بالجماهير من أى شيء فى الغرب(12). أما لماذا لا يُبدى تشومسكى أى فهم لهذا فهو لغز حقيقى، نظرا لأن الكثير من دفاعه عن نيكاراجوا ضد الاتهامات بانعدام الديمقراطية وبالسلوك الديكتاتورى إنما يقوم على اعتبارات خاصة بالسياق الذى كان الساندينيستا مجبرين على العمل فيه. لقد وُوجهوا بالتخريب الامبريالى الواسع النطاق، ومهما كانت التشويهات، كانوا أكثر ديمقراطية بكثير من جيرانهم الذين يفترض أنهم يشكلون "العالم الحر"(13). وأخيرا، هناك فيما يتعلق بأنصاف الحقائق والتشويهات تأكيد تشومسكى، المستشهد به أعلاه، والخاص بأنه فى روسيا، وألمانيا، وفيما بعد فى أسبانيا، جرى وضع حد لطموح الدهماء الأوغاد إلى الحرية، على يد الطليعة اللينينية فى كثير من الأحيان. لقد تناولنا روسيا للتو. وتمثل ألمانيا صورة مختلفة تماما، صورة لن يخمنها أى شخص يجهل التاريخ. ولا يقول تشومسكى، رغم أنه لابدّ يعلم، ان طموحات الجماهير فى الثورة الألمانية 1918- 1919 تم وضع حد لها عن طريق العمل العسكرى للفرايكوربس المدعوم تماما من جانب الاشتراكية الديمقراطية اليمينية. وقد عانت "الطليعة اللينينية" جنبا إلى جنب مع الجماهير، حيث اغتيل أبرز ممثليْن له، ليبكنيشت ولوكسمبورج. وفيما يتعلق بالثورة الأسبانية، لعب الحزب الشيوعى نفس الدور الذى لعبته الاشتراكية الديمقراطية اليمينية فى ألمانيا فى 1919، دور الدفاع عن الملكية البرچوازية والدولة الجمهورية البرچوازية. ولم يكن يمثل بأى معنى "طليعة لينينية". أما أولئك الذين كانوا على يسار هذا الحزب (ليس الزعماء الفوضويون، الذين كانوا قد انضموا إلى الحكومة) والذين لعلهم لعبوا دور الطليعة اللينينية، فقد تم وضع حدّ لهم بالإضافة إلى طموحات الجماهير(14). وبكلمات أخرى، فى الأمثلة التى يقدمها تشومسكى يُثبت السجلّ التاريخى أنه حيثما كانت هناك طليعة لينينية حقيقية انتصرت طموحات الجماهير (وإن بصفة مؤقتة وبتشوهات تتنامى بسرعة). وحيثما، كما كان الحال فى كل مناسبة أخرى، كانت الطليعة منعدمة لسبب أو آخر هُزمت طموحات الجماهير. وقد يقال لماذا النقاش بشيء من الإسهاب حول هذا، على حين أن الكتاب بأساسه الجوهرى مخصّص لفضح واقع الامبريالية الأمريكية وليس لمثالب الاتحاد السوڤييتي؟ والسبب وثيق الصلة بالاستجابة غير المُرْضية التى يمنحها تشومسكى للمهمة التى وضعها نصب عينيه، مهمة إزالة العوائق من طريق الديمقراطية. والشيء المفتقد هو تفكير فى الأداة: أية قوة وأية عملية يمكنها أن تُلغى السيطرة الفكرية؟ وإنما هنا يشكِّل صمتُه عن ماركس وإنكاره للينينية مشكلة. والحقيقة أن هدف نقد ماركس للرأسمالية ولينين للرأسمالية فى مرحلتها الإمبريالية لم يكن لمجرد انتقاد هذا المظهر أو ذاك من مظاهر النظام. فلا أحد يحتاج إلى أن يكون ماركسيا أو لينينيا ليفضح نفاق الطبقة الحاكمة، أو ازدراءهم للجماهير، أو استغلالهم الذى لا يرحم فى الداخل والخارج، أو فسادهم، أو تلاعبهم بالنظام السياسى. كان هدف نقد كلًّ من ماركس ولينين للنظام هو ربط كل ذلك بفهمٍ لكيف خلق النظام سقوطه - ليس كمسار آلى، جبرى، بل من حيث عجزه عن تفادى الأزمة وميله إلى خلق أوضاع يمكن فيها للطبقة العاملة، بافتراض أنها منظمة، أن تطيح بالاستغلال والاضطهاد، عَبْر الثورة. ولم يكن ماركس ولينين يحاولان إثبات أن الطبقة العاملة كانت الطبقة الوحيدة التى يضطهدها النظام. وقد أدت الامبريالية فى القرن العشرين إلى كل أنواع التمردات القومية التى جرفت الفلاحين إلى الحركة، بالإضافة إلى الشرائح الحضرية البرچوازية الصغيرة. والنقطة الأساسية عند ماركس ولينين هى أن موقع الطبقة العاملة داخل الرأسمالية، باعتبارها رئيسية فى تكوين الربح ومطبوعة بالطابع الجماعى فى طريقة عملها، يجعلها تختلف تماما عن الطبقات المضطهدة الأخرى من حيث إمكانية قيامها بإطاحة ثورية بالنظام. وهى إذ تقوم بهذا إنما تضع حدا فى وقت واحد للاستغلال الواقع عليها ولذلك الواقع على بقية الطبقات المضطهدة، التى تفتقر أيضا، لأن موقعها ليس فى قلب النظام كما هو الحال مع الطبقة العاملة، إلى إمكانية الطبقة العاملة فى القيام بالإطاحة بالنظام مرة وإلى الأبد. ونحن نتحدث، بطبيعة الحال، عن الإمكانية. أما ما يحول دون تحوُّل الإمكانية إلى واقع فعلى فهو، بين أشياء أخرى، الدور الذى تلعبه الأيديولوچية السائدة ("السيطرة الفكرية")، التى لا يمكن التغلب عليها إلا عبر النضال، هذا النضال الذى يلعب فيه التنظيم السياسى (الحزب "الطليعى") دورا لا غنى عنه. هذا الاعتبار هو المفقود كليةً فى تفسير تشومسكى "للرأى العام" و"القبول" المنتزع من الجماهير. وهذا العنصر، بالتالى، هو الذى يفسر ميل تشومسكى إلى المغالاة فى تقدير القوة السياسية للطبقة الحاكمة الأمريكية وإلى اللجوء إلى نظرية المؤامرة. ورغم آماله فى تجديدٍ للديمقراطية الحقيقية وإيمانه بأنه "رغم كافة المحاولات، يواصل الغوغاء النضال فى سبيل حقوقهم الإنسانية الأساسية"(15). فإن اللهجة دفاعية وحتى متشائمة، وليست واثقة. وبطبيعة الحال ففى كتاب يدرس سلطة الطبقة الحاكمة ومدى قدرتها على إعاقة الديمقراطية، سيكون كثيرا أن نطالب بقائمة من أعمال المقاومة الناجحة. وكانت الولايات المتحدة ناجحة بوجه عام فى الاحتواء فى أمريكا الوسطى والجنوبية. لكنْ مع ذلك، لا يفكر تشومسكى مليا حقا فى السبب الذى منع الولايات المتحدة ببساطة من غزو نيكاراجوا لفرض إرادتها كما كانت قد فعلت قبل ذلك بعقديْن من الزمان فى بلدان أخرى فى تلك المنطقة، مثل جواتيمالا أو سان دومنجو. فهل كانت المجادلات بين الحمائم والصقور، اليمين واليسار، فى أوساط الطبقة الحاكمة، حول مزايا وعيوب التدخل المباشر بالمقارنة مع التدخل غير المباشر، مجادلات أيديولوچية خالصة؟ وهل رَدَع "الرأى العام" الطبقة الحاكمة وليس غير، أم كانت تساورها شكوك حول قدرتها على تخليص نفسها تماما بدون ذلك النوع من الغليان الذى هزّ الولايات المتحدة وأضعف الاقتصاد نتيجة للتدخل فى ڤيتنام؟ وبكلمات أخرى، رغم أن أواخر الثمانينات شهدت تعزيزا للقدرة العسكرية والنفوذ السياسى للولايات المتحدة، نتيجة التدهور الجلى جدا للنفوذ السوڤييتى، فعلينا أن نفهم أن التدهور المتواصل لاقتصاد الولايات المتحدة يضع قيودا حقيقية على نفوذها السياسى. والحقيقة أن قوتها لا يمكن إلا أن تتدهور فى نهاية المطاف نتيجة لذلك. ولا يفعل تشومسكى أكثر من التلميح إلى هذا المظهر الهام لسياسات ما بعد الحرب الباردة - ولا يفعل ذلك فى الواقع إلا فى مقدمة الكتاب. وعندما ينعم تشومسكى النظر فى سنوات ريجان وفى السياسات الاقتصادية للثمانينات، يبدو أنه ينخدع بالنظرة غير الملائمة التى ترى أن ريجان كان مجرد دمية خلقتْها صناعة العلاقات العامة. كما أن مناقشته حول السياسات العسكرية الكينزية المتبعة فى أوائل وحتى منتصف الثمانينات تميل إلى أن تظلّ منغرزة فى السياق السياسى الخالص. ذلك أنه لا يتابع هذه المناقشة إلى النهاية وصولا إلى فهم لحقيقة كيف أن هذه السياسات كانت أيضا محاولة لحلّ مشكلات اقتصادية ترجع إلى الكساد فى أوائل الثمانينات، الأمر الذى أضاف بالتالى تعقيدا جديدا إلى نفس نقاط الضعف التى كان المقصود من هذه السياسات علاجها. وبالتالى، يكون كل ما يراه تشومسكى هو "سوء إدارة" ريجان (وهذا صحيح تماما)، وكأن ذلك كان عيب مجرد انعدام الكفاءة السياسية وليس ثمرة اتجاه انكماشى لردود فعل ممكنة يحتّمها الاقتصاد الآخذ فى التدهور(16). ويرتبط بمغالاته فى تقدير النفوذ السياسى للطبقة الحاكمة تقليله من شأن القدرة الكامنة للطبقة العاملة على المقاومة. ومن ناحية، ينبع هذا من تركيزه، بقدر ما يتحدث عن المقاومة، على النزعة القومية الراديكالية فى العالم الثالث. ومن ناحية أخرى، يمكن أن نلمح هذا فى تشخيصه للمجتمع الأمريكى والذى استشهدنا به فى بداية هذه المراجعة: الصورة التى يشير إليها تمثل نوعا من تصفية الصناعة deindustrialization ستؤدى إلى تقلص الطبقة العاملة الماهرة وتوسّع نطاق الفئة الدنيا ("تحت الطبقية") من قوة العمل the "underclass". ولا يُؤْثر تشومسكى التوسُّع فيما يعتبر بمثابة صورة مجملة لشكل أشياء قادمة. غير أن التلميحات لا تشير إلى استنتاجات تنطوى على الكثير من الأمل - كما يوحى الاستشهاد التالى، بخصوص تأثير المخدّرات: يتلازم رواج الكوكايين مع عمليات اجتماعية واقتصادية، تشمل ركودا لا نظير له تاريخيا فى الأجور الحقيقية من 1973، وهجوما مؤثرا ضد العمل لتعويض أرباح الشركات فى فترة تتميز بتدهور السيطرة العالمية للولايات المتحدة، وتحوُّلا فى العمالة إما إلى العمل العالى المهارة أو إلى وظائف قطاع الخدمات - وكثير من هذه الأعمال لا مجال فيها للترقية بالإضافة إلى أنها منخفضة الأجور -، كما تشمل خطوات أخرى صوب مجتمع مزدوج يشتمل على فئة دنيا ("تحت طبقية") واسعة ومتعاظمة تغوص فى وهدة اليأس والقنوط(17). سيكون من الخطأ أن نستنتج من هذا أن تشومسكى يندفع صوب موضة الشطب على الصراع التى جرفت الكثير جدا من المثقفين الذين أربكهم انهيار الستالينية وانتهاء الحرب الباردة. ذلك أن تشومسكى وضع نفسه بكل وضوح فى صف ضحايا العالم، سواء أكانوا المضطهدين فى أمريكا الوسطى والجنوبية أم الفلسطينيين فى الشرق الأوسط. والحقيقة أن ألمعيّته لا تُضارع فى فضح أكاذيب، ومراوغات، ونفاق، الفكر المزدوج للطبقة الحاكمة، والتى يجرى استخدامها لتبرير هذا الاضطهاد البغيض، وقد كسب عن حق كراهية مَنْ أسماهم ماركس بالملاكمين الفكريين المحترفين لدى مضطهدى العالم. ومن نواح عدة يسير تشومسكى على تقاليد الليبرالية الراديكالية وريادتها لحرية القول وللحقوق الديمقراطية. وتلك تقاليد شريفة غير أنها غير كافية. كما أن ريادته لمذهب حرية الإرادة الباكونينى لا تمضى إلى أبعد من تلك التقاليد، مهما بدا أنها تفعل الكثير. وعلى كل حال، كان أساس فلسفة باكونين هو المفهوم الكامل البرچوازية للنزعة الفردية الراديكالية. والحقيقة أن رفض تشومسكى للتعاليم الماركسية، وإنْ كان لأسباب ذات نزعة إرداية فردية راديكالية، لا يسمح له بتجاوز هذه الحدود. وبالتالى فرغم أن من الواضح إلى صفّ مَنْ يقف تشومسكى إلا أنه ليس من الواضح أن لديه استرايچية تهدف إلى الانتصار على القوى التى يكرهها ونكرهها على السواء. إشارات 1: N Chomsky (London 1991), pp 1-2. 2: Ibid, pp 2-3. 3: Ibid, pp 5-6. 4: كان تأليف كتاب تشومسكى قبل أن تغدو المجابهة بين التحالف الأمريكى والعراق "ساخنة". ويُبيّن تشومسكى أن الإدارة الأمريكية كانت تبحث حولها عن تبرير للتدخل من نفس النوع الذى سبق غزو بنما: كان صدّام عاقد العزم تماما على غزو العالم، كان غزو الكويت مختلفا تماما عن الغزو الإسرائيلى للبنان، إلخ. والموضوع الذى يلم به تشومسكى أيضا، لكن ليس بأىّ قدر كبير من التفصيل حيث أنه كان موضوع كتب سابقة، هو الطريقة التى يمثل بها اهتمام الحرب الباردة بالوصول إلى نفط الشرق الأوسط مهما كانت التكاليف سمة مستمرة للتفكير السياسى الأمريكى.لخارج (وأغلب أمثلته مأخوذة من أمريكا الوسطى والجنوبية)أمريكي 5: Op cit, p6. 6: Ibid, p109. 7: Ibid, p317.مة تماما: في مجتمع حرّ، على الجميع أن يسيروا بخطوة الإوزة عند تلقِّي الأمر، أو أن يظلوا صامتيندخل عبر البحار. رة (وهذا م 8: Ibid, p20. 9: Ibid, p368. 10: Ibid, p361. 11: Ibid, p371. 12: يوضح ڤيكتور سيرچ، ذلك الأشد نزوعا إلى الفوضوية بين كافة البلاشفة، باستفاضة - فى مؤلَّفه: العام الأول للثورة ومؤلفه: مذكرات ثورىّ - أن المطالب الخاصة بالمزيد من الديمقراطية أو بثورة ثالثة (وهى المطالب التى رفعها دعاة حرية الإرادة الفردية فى ذلك الزمان) كان من شأنها أن تؤدى، إذا ما تحققت، ليس إلى قدر أكبر من السلطة للجماهير بل إلى الثورة المضادة، أىْ انتصار البيض والرجعية المتعطشة إلى الدماء. 13: لا يعنى تأكيد هذا، بطبيعة الحال، الوقوع فى الخطأ الذى يقع فيه كثير من اليساريين بالقول بأن نيكاراجوا فى عهد الساندنيستا كانت نوعا من الدولة "الاشتراكية" التى تُحْدث قطيعة مع الرأسمالية: Mike Gonzalez, Nicaragua, What Went Wrong (London,1990). 14: فى ذهنى هنا "پوم" POUM (الحزب العمالى للتوحيد الماركسى)، الذين انتقدهم تروتسكى بقسوة بالغة على كونهم لم يفهموا كيف أنه كان بمستطاعهم أن يقودوا الجماهير إلى الثورة فى أسبانيا، على أساس سلطة العمال والفلاحين ورفض الدخول فى الحكومة الجمهورية "اليسارية"، مثلما فعل البلاشفة فى روسيا، على أساس السوڤيتيات ومعارضة الحكومة المؤقتة. : N Chomsky, opcit, p398.15 16: انظرْ Chapter Two, "The Home Front", op cit, particularly pp 73-75 and pp 81-87. ولا يمكن لانتقاداتى أن تنتقص من حقيقة أن هذا الفصل [الفصل الثانى من كتاب تشومسكى والخاص بالجبهة الداخلية الأمريكية – المترجم] فضح ألمعىّ لأعوام ريجان. : Op cit, pp127-128.17 2 الحروب الوشيكة الحروب الوشيكة The Next War [الحرب الوشيكة]، 1997، تأليف: كاسپر واينبرجر Caspar Weinberger و پيتر شڤايتسر Peter Schweizer، (عرض: إينياسيو رامونيه Ignacio Ramonet) السادس من أبريل 1998. تذكَّرُوا هذا التاريخ جيدا. إنه تاريخ بداية الحرب النووية الوشيكة. وهو تاريخ بدء حلقة جديدة من الصراعات العالمية التى تتورط فيها مرة أخرى كافة القوى الكبرى فيغوص الكوكب كله فى رعب نهاية العالم. هذه، على الأقل، فرضية السيد كاسبر واينبرجر الذى كان، على مدى سبعة أعوام، وزير الدفاع الأمريكى خلال فترتى رئاسة السيد رونالد ريجان (1980-1988). ففى كتاب أثار ضجة فى الولايات المتحدة، عنوانه The Next War (الحرب الوشيكة)(1)، يصف السيد واينبرجر بالتفصيل الحروب الخمس المقبلة. ففى 6 أبريل 1998، بعد أن يكون السيد كيم چونج إيل، الزعيم الكورى الشمالى، قد أقنع الچنرال الصينى هوشيه، رئيس اللجنة العسكرية المركزية فى بكين، بمساندته فى مشروعه، تشنّ كوريا الشمالية والصين هجوما مشتركا على كوريا الجنوبية وتايوان. وتتسلل القوات الكورية الشمالية، عبر أنفاق تحت الأرض محفورة تحت المنطقة المنزوعة السلاح، وتشنّ هجوما صاعقا. وفى غضون ثمان وأربعين ساعة، تحتل سيول وتدفع فلول الجيش الكورى الجنوبى وحلفاءه الأمريكيين إلى جنوب شبه الجزيرة حول مدينة تيجو. وتقصف پيونج يانج هذه القوات التى تدافع عن تيجو بقنبلة نووية ذات قوة ضعيفة. وعندئذ تدخل اليابان الحرب ضد كوريا الشمالية. غير أن التوتر يزداد حدة عندما تنتهز بكين فرصة هذا القتال الذى ينخرط فيه خصماها الرئيسيان فى المنطقة - اليابان والولايات المتحدة - فتشنّ هجوما مفاجئا على تايوان، وتقصف تايبيه قصفا مكثفا، وتحتل جزيرتى أموى وكيموى، وأرخبيل بنجو وتستولى على جزر سبارتلى وحقول بترولها وغازها المحتملة. وتردّ الولايات المتحدة بقصف وحشى وممتد لكوريا الشمالية. وتتراجع القوات الكورية الشمالية تحت عنف العقاب فتبدأ فى الانسحاب. وعندئذ يأمر كيم چونج إيل بقصف ذرى جديد ضد القوات الأمريكية بينما تبعث الصين بنجدة قوامها مليون من جنود المشاة. وتقرر واشنطن الردّ بقصف مكثف بالصورايخ النووية... وفى 6 أبريل 1999، تستغل القوات المسلحة الإيرانية عصيانا شيعيا فى البحرين فتغزو هذه الإمارة الغنية؛ وفى نفس اليوم، وفى قلب صحراء فارس، تفجر طهران بنجاح قنبلتها الذرية الأولى. وفى غضون أشهر، نتيجة لهجمات انتحارية تقوم بها مجموعات كوماندوز إرهابية متعصبة، توجهها طهران عن بعد، يتم إضعاف القوات المسلحة السعودية بصورة جذرية فيما يتم تدمير خطوط أنابيب بترولها وغازها ومصافى تكريرها الضخمة. وتغدو قطر، وعمان، والإمارات العربية المتحدة، التى روعتها القوة النووية الإيرانية، توابع سياسية تدور فى فلك إيران. وفى 14 يونيو 1999 تقوم القوات المشتركة للولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والمملكة العربية السعودية، بهجوم مفاجئ على مراكز التجارب النووية فى إيران. غير أن قاعدة صواريخ تفلت من الدمار، فينتقم الإيرانيون بإطلاق صاروخ من طراز ذو الفقار مزود برأس نووى قوته 75 كيلو طن على الاتحاد الأوروبى فيدكّ مدينة مونزا، فى إيطاليا. ولا تنجح القوات المتحالفة فى اكتشاف الغرفة الإيرانية المحصنة تحت الأرض، المدفونة فى أعماق الصحراء والتى تتأهب، وفقا للإشارات التى التقطتها المراقبة الالكترونية المتحالفة، لإطلاق صاروخ جديد من طراز ذو الفقار هدفه برلين... فى 2 يونيو 1999، يغتال أحد الطلبة رئيس جمهورية المكسيك. وتسفر الانتخابات الجديدة عن وصول رجل يسارى تدعمه الزاباتيستا إلى السلطة. ويؤمم الرئيس النشاط المصرفى وشركات التأمين، ويحظر الاستثمارات الأجنبية، ويلغى اتفاقية أمريكا الشمالية للتبادل الحر (نافتا)، ويخفض قيمة البيزو، إلخ. وعندئذ تتفشى البطالة بسرعة، وكذلك كل أنواع القحط، فيما تتفاقم الجريمة والاضطرابات الاجتماعية. وتغدو الهجرة إلى الولايات المتحدة ضخمة، رغم نشر 60000 جندى أمريكى على طول الحدود. وفى غضون بضعة أشهر، يلتمس مليونان من المكسيكيين اللجوء على الأراضى الأمريكية مما يجعل الموقف الاجتماعى والعرقى فى الولايات المتحدة متفجرا. وتعتبر واشنطن أن هذا لا يمكن أن يستمر. وفى 14 أبريل 2003 يصدر الرئيس الأمريكى أوامره بقصف المكسيك، وفرض السيطرة على ميناء بيراكروث، وتوجيه وحدات من "مشاة البحرية" تزحف، انطلاقا من تيخوانا، نحو العاصمة. وتقاوم القوات المكسيكية عند ثاكاتيكاس، على بعد 800 كيلومتر شمال غربى العاصمة، وبالتحالف مع مهربى المخدرات، تشنّ أعمال حرب عصابات. غير أن قوات الصدام الأمريكية تنجح، بمساعدة "المتطوعين" المكسيكيين، فى تحطيم هذه المقاومة. وفى 15 مارس 2006، تقوم مجموعة من زهرة فرق الكوماندوز الروسية، فى بياليستوك، بتصفية حكومة بولندا ومجلس قيادتها. وفى الحال تشنّ روسيا هجوما على بولندا وتحتل، فى طريقها، روسيا البيضاء وأوكرانيا. غير أن الهدف المنشود هو ألمانيا، التى تستسلم فى 27 مايو 2006، بعد أن دمرت خمس قنابل نووية روسية قوات حلف الأطلنطى التى تم إرسالها للدفاع عن بريمن، ودرسدن، وبرلين. وتغدو الولايات المتحدة عاجزة عن القيام بهجوم مضاد، إذ أن الروس كانوا قد طوروا سرَّا خلال السنوات السابقة برنامج دفاع ضد الصواريخ النووية. وهؤلاء الأخيرون قادرون على تدمير 95٪ من الصواريخ التى توجهها الولايات المتحدة ضدهم. وبعد استسلام ألمانيا، تقبل فرنسا احتلال الروس لأراضيها. وتعلن إيطاليا، والنرويج، والدنمارك، وإسپانيا، الحياد. وتقاوم المملكة المتحدة. وتحاول واشنطن أن تكسب الوقت فتبدأ، على وجه السرعة، برنامجا جديدا من "حرب النجوم". وفى 8 نوڤمبر 2008، يشرع البنتاجون فى إطلاق أقمار-مرايا عديدة قادرة على أن تعيد توجيه أشعة الليزر المعادية وتدمر الصواريخ الروسية عند إطلاقها. وبعد ذلك ببضعة أسابيع، يهاجم الروس، واقعين فى مصيدة استفزاز. فيدمر الروس أنفسهم بأنفسهم... فى هذا العمل من أعمال قصص الخيال السياسى، يتمثل الهدف الذى يسعى إليه السيد كاسبر واينبرجر فى اتهام إدارة كلينتون بخفض الميزانيات العسكرية للولايات المتحدة للغاية، وبالتخلى عن البرنامج المعروف بحرب النجوم، وبإلغاء المهام السرية لوكالة المخابرات المركزية (سى آى إيه)، وبتقديم تنازلات مفرطة لبكين وبيونج يانج، وبالتسامح المفرط إزاء طهران و"دول منبوذة" أخرى (ليبيا، العراق، كوبا)؛ وباختصار، بإهمال "الواجب المقدس للأمن القومى". والواقع أن ما يثبته هذا الكتاب وسيناريوهاته هو أن المؤلف ظل رجلا من رجال الحرب الباردة، وبصورة أعمق رجلا من رجال اليمين العتيق للغاية. فالأعداء، فى نظره، هم دائما: إما "الشيوعيون" (كوريا الشمالية، الصين، روسيا)، وإما "غير الغربيين" (الإيرانيون، المكسيكيون، اليابانيون). ومثل كثيرين من السياسيين الآخرين، لا يستطيع السيد كاسبر واينبرجر أن يرى، وناهيك بأن يفهم، التحول الراهن للعالم(2). وبغضّ النظر عن واقع بالغ الدلالة: الغياب المنهجى للأمم المتحدة. ووفقا له، يتمثل صانعو الأزمات دائما، وعلى وجه الحصر، فى الدول؛ التى لا تتحرك إلا سعيا وراء مطامع إقليمية أو من أجل الاستيلاء على مناجم المواد الأولية للطاقة؛ والتى لا تقوم بعمل إلا بواسطة القوات العسكرية بقوة أسلحة دمارها التقليدية أو النووية (حيث صار استخدام هذه الأخيرة أمرا عاديا...) إنه تحليل نموذجى ورؤية نموذجية للجغرافيا السياسية للقرن التاسع عشر. وليس هناك أى إدراك استراتيچى، عند السيد واينبرجر، بالفاعلين الاقتصاديين الجدد - الشركات عبر القومية، المجموعات الضخمة، وسائل الإعلام(3)، المجموعات المالية العملاقة -، ولا بالأخطار الإيكولوچية (أخطار التصحر؛ السيطرة على المخزونات من المياه العذبة وبصورة خاصة فى الشرق الأوسط؛ تأثير الدفيئة؛ ارتفاع حرارة الكوكب القادر على جعل بلدان بأسرها مثل بنجلاديش وجزر المالديڤ تختفى من الوجود نتيجة لارتفاع منسوب مياه المحيطات ...)، ولا بالأخطار الجديدة (الجريمة المنظمة، المافيات، الأمراض الجديدة المستعصية). وأخيرا، الإشارة إلى أسلحة الحرب الالكترونية وكأنها ألعاب للتسلية. وغير أن هذه الأسلحة سوف تصير دون شك الوسائل التى سوف تسمح، غدا، للصانعين الجدد للجغرافيا السياسية الحديثة (الجماعات الخاصة، المافيات، الميليشيات الإرهابية، الشبكات الإعلامية، المنظمات غير الحكومية الضخمة) بأن تنافس، وحتى أن تهدد، الدول التقليدية. وقد اعترف البنتاجون مؤخرا بأن أجهزة الكمپيوتر به تعرضت لمائة ألف محاولة للتدمير فى 1996. ويقدر مكتب المباحث الفيدرالية (إف بى آى) أن سبعة بلدان أجنبية على الأقل تقوم بتكوين مجموعات قرصنة معلوماتية ضد الولايات المتحدة بهدف عسكرى أو تجاري(4). ومن الآن، يمكن لمجموعة كاماندوز ممتازة أن تشنّ هجوما مفاجئا ضد دولة متقدمة فتدمر، فى آن معا، المراكز الالكترونية التى تدير السنترالات النووية، وتوزيع الكهرباء، وشبكات السكك الحديدية، والنظام المصرفى، والبورصة، ونظام المستشفيات، ومحطات التليفزيون، ومراكز التوجيه الجوى، ومراكز قيادة إشارات المرور فى المدن الكبرى، إلخ. كما أنها تستطيع أن تصيب فجأة بالصمم والخرس شبكات أقمار الاتصالات، ومراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى الخاصة بالجيوش... وستكون الفوضى، على كل مستويات المجتمع، فوضى لا توصف. أما الشبكة الوحيدة المتاحة (لأنها غير قابلة للتدمير)، وهى الانترنت، فسرعان ما سوف تغدو مُشْبَعة. ومن الكل الالكترونى سيتم الانتقال فى الحال إلى كل الفوضى. وبوسع ممارسى الإرهاب الالكترونى استغلال اختلال نظام الدولة للقيام بتلاعبات نُظُم "ميديا" من نمط جديد تسمح بها من الآن التقنيات الأكثر تقدما ولمحاولة الاستيلاء على الثروة الأعلى قيمة، هدف كل حروب الأمس والغد فى التحليل الأخير: السيطرة على أرواح المواطنين. إشارات 1: كاسبر واينبرجر وپيترشڤايتسر The Next War [الحرب الوشيكة] (مقدمة ليدى مارجريت تاتشر)، Regnery Publishing , New yourk , 1997 2: للاطلاع على رؤية شاملة لهذا التحول، انظرْ؛ Géopolitique du chaos, Galilée,paris,1997 [الجغرافيا السياسية للفوضى] 3: بهذا الصدد، يعكس چيمس بوند الجديدDemain ne meurt jamais (1997) [الغد لا يموت أبدا]، بقلم Roger Spottiswoode، جوّ هذا الزمن إذْ يصوّر كيف يحلم أحد أباطرة الميديا بأن يسيطر على العالم بفضل شبكاته من الصحف ومجموعات محطاته التليفزيونية العالمية ويتحالف مع مهرّبى الأسلحة ليشنّ صراعا عالميا. 4: Le Monde,12 décembre,1997. عرض لكتاب: Caspar Weinberger and Peter Schweizer, The Next War, Regnery Publishing, New york, 1997. والعرض منشور كافتتاحية (لم يسبق نشرهُا) فى: Maniére de voir 37. LE MONDE diplomatique. عدد يناير-فبراير 1998. 3 زيارة جديدة إلى "مزرعة الحيوانات" (مجلة انترناشونال سوشاليزم، حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا، خريف 1989) زيارة جديدة إلى مزرعة الحيوانات، عن رواية "مزرعة الحيوانات"، Animal Farm، چورچ أورويلJeorges Orwell ، 1945 (مقال: چون مولينو John Molyneux) تقديم تطرد حيوانات إحدى المزارع صاحبها وتستولى عليها وتديرها بنفسها. تنجح التجربة تماما، رغم الواقع غير السعيد المتمثل فى أنه لابد من أن يحل شخص ما محل صاحب المزرعة المخلوع. وتنتقل القيادة آليا تقريبا إلى الخنازير، التى تتمتع بمستوى ذكاء أعلى من بقية الحيوانات. ولسوء الحظ لا يرقى مستوى خلق الحيوانات إلى مستوى ذكائها، ومن هذا الواقع ينبع التطور الرئيسى للقصة. ويأتى الفصل الأخير بتغير مثير يتضح، بمجرد وقوعه، أنه كان حتميا منذ البداية. هذا ما تكرر نشره على الغلاف الداخلى لطبعات بنجوين الإنجليزية للراوية الشهيرة "مزرعة الحيوانات" للكاتب البريطانى الشهير چورچ أورويل (واسمه الحقيقى اريك بليز) 1903-1950. وأنا لا أنقله لتذكير القارئ بالفكرة العامة لتلك القصة الرمزية، ذلك أن لها ثلاث ترجمات على الأقل إلى العربية فى مصر: · أسطورة الحيوانات الثائرة، ترجمة عباس حافظ، دار المعارف بمصر، 1951. · مزرعة الحيوانات، عرض وتقديم عبد الحميد الكاتب، مؤسسة أخبار اليوم، 1978. · عالم تسكنه الحيوانات، ترجمة د. شامل أباظة، دار المعارف، 1979. كما يبدو أن هناك ترجمات عربية أخرى فى بيروت والعراق (انظر تذييل عبد الحميد الكاتب للرواية) وربما فى غيرهما. وإنما أنقله لتأكيد أن ما يذهب إليه المقال المترجم هنا من أن القصة تقوم على فكرة أن ذكاء الخنازير هو الذى جعلها أهلا للقيادة وعلى فكرة أن فشل الثورة كان حتميا ومن أن القصة تدور حول روسيا السوڤييتية (وهذا ما تكرر أيضا فى الغلاف الخارجى الأخير للطبعة الإنجليزية المذكورة) لا جديد فيه بمعنى أن هذه الأمور ليست مزاعم يزعمها كاتب المقال لتعزيز هجومه على المضمون السياسى للرواية بل هى الأفكار التى تفهم من الرواية والتى صارت جزءًا من الثقافة العامة ومن الإدراك العام سوءا فيما يتعلق بالفهم "الطبيعى" للرواية أو فيما يتعلق بالفهم السائد الذى أسهمت فيه هذه الرواية ذاتها (بالإضافة إلى شقيقتها رواية سنة 1984) لطبيعة الاتحاد السوڤييتى السابق وحقيقته ومساره والسر الحقيقى وراء هذا المسار، مسار تدهور ثورة أكتوبر واستعادة الرأسمالية. وعندما نشر المؤلف الماركسى البريطانى چون مولينو John Molyneux هذا المقال فى مجلة انترناشونال سوشاليزم التى يصدرها حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا، فى خريف 1989، كانت العاصفة الوشيكة، والتى سرعان ما هبّتْ فى خريف وشتاء 1989 فى أوروبا الشرقية، غير بعيدة عن توقعاته وتوقعات الكثيرين فى كل مكان (انطلاقا من بولندا التضامن وروسيا البيريسترويكا). والآن وقد أسقطت العاصفة تلك الواجهات البراقة التى طالما أخفت جثة ثورة أكتوبر التى ماتت فى رأى چون مولينو ذاته منذ أواخر العشرينات فى روسيا وجثث ثورات أخرى تدهورت بدورها بسرعة أو ولدت ميتة فى أماكن أخرى نتيجة لتبنيها لنفس النموذج السوڤييتى، سيكون من المفيد أن نطلع على نقاش جاد حول قصة رمزية جرى استخدامها، ضد إرادة مؤلفها، كسلاح جبار فى الحرب العالمية الباردة، وأن نشارك فى حوار ليس فقط حول رواية أو رواية سياسية بل كذلك وفى المحل الأول حول عالم أضحى من الواجب الملح استشراف مصيره. ولاشك فى أن هذا المصير يرتبط بمسألة ما إذا كان سقوط "جمهورية الحيوانات" حسب عنوان الترجمة الفرنسية سيفسح المجال (بعيدا عن جمهوريات أصحاب المزارع) أمام قيام "جمهورية" البشر؛ وبعبارة أخرى بمسألة ما إذا كان محكوما على "جمهوريات" الفقراء بأن تكون جمهوريات حيوانات غبية جاهلة غير مؤهلة للقيادة التى تغتصبها الخنازير الذكية لأنها ذكية لكنْ ذات أخلاق "خنازيرية" فلا ينتهى الدوران لكنْ داخل نفس الدائرة الشريرة من الثورة والردة إلى ما لا نهاية. المترجم زيارة جديدة إلى "مزرعة الحيوانات هذا المقال مناقشة للمضامين السياسية لرواية مزرعة الحيوانات لچورچ أورويل. ولا يمكننى أن أنصح بصفة عامة بهذه الطريقة بوصفها الطريقة الماركسية لتناول عمل أدبى. فكما يذكرنا تروتسكى، ينبغى تقييم العمل الفنى أوّلا وفقا لقوانين الفن فلا ينبغى أن نتناول رواية وكأنها مجرد صياغة درامية لبحث سياسى. غير أن مزرعة الحيوانات استثناء على هذه القاعدة العامة. وبعيدا عن أن تكون رواية عادية، يمكن القول أنها حكاية خرافية سياسية صريحة - قصة رمزية واضحة عن الثورة الروسية وصعود الستالينية - تعَدّ فيها الشخصيات رموزا شفافة سواء للأفراد التاريخيين (أولد ماچور/كارل ماركس، سنوبول/القسيس، سكويلر/الداعية الحزبى، الكلاب/الشرطة السرية) فهى ليست شخصيات "حقيقية" أو "كاملة". والحبكة، فى خطوطها العريضة الرئيسية على الأقل، ليست نتاج الخيال الإبداعى، بل هى نتاج المجرى الفعلى للتاريخ الروسى. وقد كتب أوريل نفسه عن مزرعة الحيوانات قائلا أنها كانت أوّل عمل "حاولتُ فيه، بوعى كامل بما كنتُ أفعل، أن أصهر الغاية السياسية والغاية الفنية فى كلٍّ واحد"(1)، على أنه ربما كان أكثر دقة أن نقول أن ما هو فنى يخدم ما هو سياسى. لا نقصد بهذا أىّ تلميح إلى أن مزرعة الحيوانات تفتقر إلى الأهلية الفنية. على العكس تماما، فهى من نواح عديدة رائعة صغرى. ذلك أن أسلوب نثر أورويل البسيط بصورة خادعة لكنْ المصقول بصورة رائعة موفق إلى حدّ أقرب إلى الكمال وطيّع على نحو بالغ الروعة لمعالجة الصعوبة الفنية الرئيسية التى ينطوى عليها مشروع مزرعة الحيوانات، وهى صعوبة جَعْل شخصياته قابلة للتصديق كحيوانات وكبشر، أو بالأحرى كحيوانات بسمات بشرية. وكان هذا مشروعا من شأنه أن يفشل بكل سهولة إما بالوقوع فى العاطفية الفجة لرسوم ديزنى المتحركة أو بإحداث تأثير يكاد أن يكون مجرد هراء. والحقيقة أنها لا تقع فى هذا أو ذاك. فنحن فى مزرعة الحيوانات لا نضحك إلا عندما يريد لنا أورويل أن نفعل، وعندما يحرّض نابليون الكلاب على الخنازير المنشقة وبقية الحيوانات فإننا لا نسخر، إننا نحس بكل رعب محاكمات موسكو. ويتمثل حلّ أورويل للمشكلة فى أن يخبرنا بما فيه الكفاية عن شخصياته وعن صفاتها البدنية المميزة لضمان ألا ننسى أبدا أنها حيوانات، لكنْ ليس إلى حدّ أن نتخيلها بوضوح يجعل كلامها وإدارتها للمزرعة يبدوان غير معقولين. إنه نوع من السير الوصفى على حبل مشدود ولا يسقط أورويل أبدا عن السلك. أيضا، تماما كما وجد أورويل فى رواية سنة 1984 سلسلة من الصور عبّرتْ عن تجربة الشمولية (الأخ الكبير، الغرفة 101، الجريمة الفكرية، إلخ) وانتقلت بالتالى إلى الثقافة العامة، هناك فى رواية مزرعة الحيوانات لحظات ذات قوة هائلة مثل التعديل النهائى للوصايا السبع ونصه: "كافة الحيوانات متساوية لكن بعض الحيوانات متساوية أكثر من غيرها"، والمشهد الختامى عندما: "نقلت المخلوقات فى الخارج نظرها من الخنزير إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الخنزير، ومن الخنزير إلى الإنسان مرة أخرى، غير أنه كان من المستحيل عندئذ معرفة هذا من ذاك"(2). وتنطبع هاتان اللحظتان على الذاكرة بحيث لا يمكن محوهما إذ تغلفان بتهكم رائع خيانة الآمال الثورية والازدواج الساخر ليس فقط للستالينية، بل للحكام والمستغلين من كافة الأنماط(3). مع ذلك تبقى حقيقة أن الأهمية السياسية لمزرعة الحيوانات تفوق بكثير - وبمعنى ما لا تتناسب إطلاقا مع أهميتها الفنية. وفى سياق تاريخ الرواية يقف أورويل فى الواقع كشخصية محدودة من الدرجة الثانية: إنه صاحب أسلوب نثرى جيد لكنه محدود فى المجال الانفعالى وفى قدرته على إبداع شخصيات حية ذات ثلاثة أبعاد. ويتمثل أحد أسباب النجاح الفنى لمزرعة الحيوانات فى أنها لا تحتاج إلى هذه الصفات. على أنه من الناحية السياسية، ربما كانت مزرعة الحيوانات قطعة الدعابة الأدبية الأكثر شعبية ونفوذا التى تم إنتاجها فى اللغة الإنجليزية، وربما فى أية لغة، فى هذا القرن. ومجرد حجم نجاح هذا الكتاب مذهل. وحسب طبعة 1987 التى أعتمد عليها الآن، طبعت هذه الرواية عددا مذهلا من المرات، 57 مرة، منها ثلاث مرات فى سنة واحدة، وهى، كما يعلم الجميع، الرواية المفضلة لدى المدرّسين والممتحنين، حيث تظهر فى الواقع فى كل مقررات GCSE, CSE, O. والمنافس الوحيد لمزرعة الحيوانات فى هذا الصدد رواية سنة 1984 ويبدو من المرجح تماما أن الناس علموا ما يعرفون عن الثورة الروسية من هنا أكثر بكثير مما من أىّ مصدر آخر. ولا جدال فى أن نسبة الناس الذين قرأوا مزرعة الحيوانات إلى أولئك الذين قرأوا تروتسكى، أو دويتشر، أوكار، أوكليف، أو أىّ تقييم جاد آخر لابد أن تكون نسبة فلكية. من ناحية أخرى، إذا كان حجم نجاح الكتاب مدهشا فإن السبب وراء ذلك ليس ملغزا. وهو يتمثل، بطبيعة الحال، فى واقع أنه يجرى التفكير بصفة عامة فى مزرعة الحيوانات على أنها عرض بسيط درامى ومؤثر للغاية للحجج الرئيسية ضد الاشتراكية والثورة، أىْ تلك القائلة أن الاشتراكية لا يمكن أن تنجح وأن كافة الثورات تنتهى إلى الاستبداد. هذا إذن مبرر مناقشة مزرعة الحيوانات ومبرر أن تتعلق المناقشة فى المقام الأول بالسياسة. ذلك أن الأفكار السياسية لمزرعة الحيوانات صارت جزءًا من ثقافتنا ومن وعينا. وهى تلعب دورا، دورا كبيرا، فى المناظرة الدائرة التى ينهمك فيها كافة الاشتراكيين. وهذا هو السبب فى أن هذه الأفكار تقتضى التحليل والمواجهة. ولا مناص من أن يبدأ التحليل بمشكلة. وتتمثل المشكلة فى أن مزرعة الحيوانات كتاب "يمينى" بقلم كاتب "يسارى". ومؤهلات أورويل اليسارية (اليسارية، وليس الماركسية) كبيرة: إنها مؤلف هجوم قوى على الامبريالية (أيام بورما Burmese Days)، واستقصاءٍ متعاطف لحياة الفقراء والأكثر فقرا (المسحوقون فى باريس ولندن Down and Out in Paris and London)، واتهام لأوضاع العاطلين عن العمل والطبقة العاملة أثناء الكساد الكبير (الطريق إلى ويجان پير The Road to Wigan Pier) وفى المقام الأول، تحية لكاتالونيا Homage to Catalonia)، الاحتفاء اللاستالينى الرائع بالثورة الأسبانية. كما أنه الشخص الذى توجه بالفعل إلى أسبانيا وقاتل مع ميليشا الحزب العمالى للتوحيد الماركسى POUM. كيف إذن وصل "رجل اليسار" هذا بكراهيته المخلصة بجلاء للاستغلال والاضطهاد إلى حدّ أن يؤلف كتابا كان مفيدا إلى هذا الحد لليمين؟ هناك ثلاثة حلول ممكنة لهذه المشكلة: أوّلا، أن أورويل فى الفترة التى كتب فيها مزرعة الحيوانات فى 1943-1944 كان لم يعد يساريا؛ أنه بين 1937 و1943 تحولت وجهات نظر أورويل بصورة ملحوظة نحو اليمين - وباختصار، أنه كان قد باع نفسه وصار محاربا عن وعى وسابقا للأوان فى الحرب الباردة. ثانيا، يُزعم أن مزرعة الحيوانات ليست كتابا يمينيا؛ والواقع أنها نقد يسارى للستالينية استخدمته وشوهته الطبقة الحاكمة والنظام التعليمى. ثالثا، يقال أن مزرعة الحيوانات كتاب يمينى رغم نوايا أورويل وأنه يمكن تفسير هذا الانفصال بين النية والنص بتناقضات فى آراء المؤلف السياسية هى أيضا ماثلة وملحوظة فى النص. والحل الأول حجة بيوجرافية ويمكن رفضها على أسس بيوجرافية. وصحيح أنه بين "تحية لكاتالونيا" ومزرعة الحيوانات كان هناك تحول ذو شأن صوب اليمين. كان أورويل قد عاد من أسبانيا اشتراكيا متحمسا وملتزما - وحتى ثوريا - وكان يعتزم حتى وقت متأخر مثل فبراير 1939 أن يعارض الحرب القادمة على أسس أممية. بل إنه فكر فى تشكيل منظمة سرية للقيام "بالأنشطة السرية ضد الحرب"(4). غير أن اقتران معاهدة هتلر-ستالين باندلاع الحرب حوّله إلى وطنى أو، بدقة أكثر، كشف وطنيته الكامنة(5)، وكان هذا يعنى حتما نقلة من الثورة إلى الإصلاح. على أن هذه النقلة إلى اليمين لم تذهب بعيدا إلى حدّ حَمْل أورويل إلى معسكر الرجعية. ومن الناحية الذاتية، ظل أورويل اشتراكيا، ونصيرًا لحزب العمال، ويساريا. وفى 1943، السنة التى بدأ فيها كتابة مزرعة الحيوانات، شرع فى كتابة عمود أسبوعى لتريبيون استمرّ أربع سنوات. كما ينبغى أن نتذكر أن الظروف السياسية فى فترة 1943-1944 تستبعد احتمال أن تكون مزرعة الحيوانات قد كتبت لأسباب انتهازية. ذلك أن بريطانيا وروسيا كانتا حليفتين وكانت روسيا فى ذروة شعبيتها. ولهذا فإن كتابا انتقاديا بذلك القدر من الوضوح للنظام السوڤييتى إنما كان يسبح ضد التيار إلى أبعد حد - وهذه حقيقة تؤكدها الصعوبة التى واجهها أورويل فى الحصول على ناشر. ولهذا فإن ما يبدو جليا هو أن المقصود بمزرعة الحيوانات كان شنّ هجوم على الستالينية من موقع ضمن نطاق اليسار (وهذا يختلف عن شنّ هجوم على الستالينية من اليمين)(6). وأكد أورويل نفسه فى 1946 ما يلى: كلّ سطر فى عمل جاد كتبته منذ 1936 كتب، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ضد الشمولية وفى سبيل الاشتراكية ذات الطابع الديمقراطى كما أفهمها(7). وما دمنا مدركين للظلال السياسية الدقيقة لمفهوم "الاشتراكية ذات الطابع الديمقراطى" (وهذه التسمية سيدّعيها روى هاترسلى لنفسه) يبدو أنه لن يكون هناك أىّ مبرر للشك فى هذا كبيان أمين عن النية. وأغلب الظن أن الطريقة التى استخدمت بها مزرعة الحيوانات كانت ستثير غضب أورويل، تماما كما أحس فى 1949 بأنه مضطر إلى إصدار بيان فى أمريكا ينكر فيه أن رواية سنة 1984 كانت هجوما على الاشتراكية أو حزب العمال البريطانى(8). على أن النية لا تتطابق بالضرورة، لا فى السياسة ولا فى الأدب، مع النتيجة أو الإنجاز. وبالتالى فإن رفض الحل الأول، المتمثل فى القول بأن أورويل كان رجعيا عن وعى، لا يعنى قبول الحل الثانى، المتمثل فى القول بأن مزرعة الحيوانات كتاب يسارى شوّه النظام السائد حقيقته. والواقع أن فكرة أنه يمكن إنقاذ مزرعة الحيوانات وإنتاج أورويل ككل من اليمين وتأكيد انتماء هذا الإنتاج بمعنى ما للتراث الاشتراكى فكرة شائعة فى صفوف اليسار. وأعتقد أن لهذه الفكرة جاذبية خاصة لدى أولئك الاشتراكيين الذين كان كتاب تحية لكاتالونيا بالنسبة لهم قراءة أسهمت فى تشكيل فكرهم والذين يميلون بالتالى إلى قراءة بقية إنتاج أورويل فى ضوء ذلك الكتاب، ناظرين إلى مزرعة الحيوانات على أنها وصف تروتسكى بمعنى واسع لصعود الستالينية. لسوء الحظ ينبغى رفض هذا التفسير بدوره أوّلا لأن هذه القراءة ليست، من واقع تجربتى كمدرّس، القراءة "الطبيعية" لهذا الكتاب، أىْ أنها لا تمثل التفسير الذى يتوصل إليه القارئ الوسطى عند القراءة الأولى. على العكس تماما، تعتبر الأغلبية الواسعة من القراء الطلبة الذين التقيت بهم لمزرعة الحيوانات هذه الرواية نقدا للاشتراكية والثورة. ثانيا، كما سأحاول أن أبيّن فى مجرى دفاعى عن الحل الثالث، ليس هذا بتفسير يمكن إثباته على أساس التحليل التفصيلى للنص. ويفترض الحل الثالث وجود تناقض بين النية والنص ضمن نطاق النص، وينبع من تناقض فى الآراء السياسية لأورويل. ويتمثل جذر هذا التناقض فى واقع أن أورويل يمزج بين إدانة أخلاقية للرأسمالية ورفض للماركسية وتشاؤم عميق إزاء الطبقة العاملة بوصفها القوة المحققة للاشتراكية. وحيثما تعلق الأمر بمسألة الميل السياسى الشخصى لأورويل فإن العنصر الأخلاقى فى هذا المزيج يحتفظ به من الناحية الذاتية ضمن دائرة اليسار، غير أنه عندما يجرى تقديم هذا المزيج على أنه تحليل تاريخى (وإنْ فى صورة رمزية) فإن التأثير الموضوعى يغدو يمينيا غالبا - فهو يعزز فى نهاية المطاف وجهة النظر القائلة بأن الاشتراكية مستحيلة. وأنا أقول "غالبا" و"فى نهاية المطاف" لأن هناك بلا جدال عناصر يسارية فى مزرعة الحيوانات. ومن الأهمية بمكان أن نتعرف على هذه العناصر ونحددها، جزئيا لأن تبنى اليمين للكتاب أدى إلى إهمال هذه العناصر فى كثير من الأحيان وجزئيا لكى نفهم كيف ولماذا يجرى طمسها فى التأثير الكلىّ. والعنصر اليسارى الأكثر أهمية هو الشجب الذى يفيض حماسا لأولد ماچور فى الفصل الافتتاحى للاستغلال والاضطهاد الوحشيّيْن للحيوانات فى ظل حكم الإنسان. والمقصود بهذا أن يكون مماثلا لنقد ماركس للرأسمالية ولاستغلال البرچوازية للطبقة العاملة. وتتمثل النقطة الأساسية فى أن أورويل يوافق بكل وضوح على هذا النقد ويدعو القارئ إلى التطابق معه(9). "حياة الحيوان بؤس وعبودية: تلك هى الحقيقة الخالصة... لماذا إذن نستمر فى هذا الوضع البائس؟ لأن كل نتاج عملنا تقريبا يسرقه منا البشر"، هذا ما يقوله أولد ماچور، ويوافق أورويل بوضوح. ويجرى تصوير عصيان الحيوانات، أىْ الثورة العمالية، والدفاع عن ثورتها فى معركة حظيرة البقر، على أنهما مبرّران تماما وتطلعاتها إلى الازدهار والسلام والأخوّة والمساواة على أنها نبيلة ومرغوبة. ويتمثل اتهام أورويل للنظام الذى أسسه نابليون والخنازير فى أنه لا يمكن تمييزه من حيث طغيانه واضطهاديته عن حكم الإنسان بوجه عام ومستر چونز بوجه خاص. وفى كل موضع فى الكتاب لا يظهر أىّ إنسان (أىْ برچوازى) إلا كمستغلّ. وتشتمل مزرعة الحيوانات أيضا على قليل من السخرية البارعة حول دور الدين فى شخصية موسى، الغراب المدجّن، وهو "جاسوس ونمام" لكنْ أيضا متحدث بارع يحدّث الحيوانات عن "جبل سكر النبات" الذى يُعتقد أن كافة الحيوانات ستذهب إليه عندما تموت. ويُطرد موسى فى سياق العصيان غير أنه يُسمح له بالعودة من جانب الخنازير التى تستخدمه لنفس الأغراض التى كان يستخدمه مستر چونز من أجلها، وترتدّ حيوانات كثيرة إلى إيمانها بقصصه عن جبل سكر النبات. "كانت حياتها، فيما فكرت، حياة جوع وكدح؛ أليس صوابا وعدلا أن يوجد عالم أفضل فى مكان ما آخر؟"(10). ومن الجلى أن أورويل يستفيد هنا من طبعة مبسطة من التحليل الماركسى للدين. يتمثل ملمح آخر، نقدى وهدّام، من ملامح مزرعة الحيوانات فى الطريقة التى تتناول بها تبرير الخنازير لامتيازاتها. ويأتى أول خرق لمبدأ مساواة الحيوانات عندما تطالب الخنازير لنفسها، بعد العصيان مباشرة، باللبن والتفاح: أرسل سكويلر ليقدم الإيضاحات الضرورية لبقية الحيوانات "أيها الرفاق"، صاح، "أنتم لا تتصورون، فيما آمل، أننا نحن الخنازير نفعل هذا بدافع الأنانية والامتياز؟ فكثيرون منا يكرهون اللبن والتفاح فى الواقع، وأنا نفسى أكرههما. إن هدفنا الوحيد من أخذ هذين الشيئين هو المحافظة على صحتنا. اللبن والتفاح (وهذا أثبته العلم، أيها الرفاق) يحتويان على مواد ضرورية تماما لعافية الخنزير. فنحن الخنازير عاملون ذهنيون. ويتوقف علينا كامل إدارة وتنظيم هذه المزرعة. فنحن نعتنى ليلا ونهارا برفاهيتكم. وإنما من أجلكم أنتم نشرب ذلك اللبن ونأكل ذلك التفاح(11). هنا يقدم أورويل حجة سكويلر كمجرد نفاق مصلحىّ بارع، لكنه إذ يفعل هذا يكشف ليس فقط التبرير الستالينى لفتح محلات خاصة لأعضاء الحزب وما إلى ذلك، بل كذلك أيضا إحدى الحجج الرئيسية التى تستخدمها برچوازيتنا نحن لتبرير امتيازاتها. وإذا كان غير صحيح أن "العاملين الذهنيين" يحقّ لهم أخلاقيا أكثر مما يحقّ للعاملين اليدويين فكيف يمكن إذن تبرير أن يكسب المحامون أكثر من الزبالين أو المديرون أكثر من عمال المناجم؟ ولهذا فمن المعقول أن نوضح للمعجبين البرچوازيين بمزرعة الحيوانات أنها تصور نظامهم على أنه استغلال لا يرحم، وطبقتهم على أنهم طغاة قاسون وغير أكفاء، ودينهم على أنه خداع، وأيديولوچيتهم على أنها احتيال. غير أننا سنخدع أنفسنا إذا نحن لم ندرك أيضا أن تأثيرات هذا النقد الاجتماعى الحاد حقا يفوقها ويبطلها واقع أن الكتاب يشكك فى الاشتراكية وفى الواقع فى أية محاولة تستهدف التحويل الجذرى لهذه الأحوال التعيسة. والواقع أن تحليل كيف على وجه التحديد تفعل مزرعة الحيوانات هذا هو الذى يكشف بعمق محتواها الرجعى. هناك فى المقام الأول واقع أن القصة الرمزية تعمل على مستوييْن. فمن ناحية يمثل عدد من الشخصيات والأحداث فى القصة أشخاصا فعليين وأحداثا فعلية من التاريخ الروسى، وعلى سبيل المثال يمثل سنوبول تروتسكى، وتمثل مناظرة ويندميل (طاحونة الهواء) مناظرة التصنيع فى العشرينات، وصفقة نابليون مع فريدريك هى معاهدة هتلر-ستالين وهكذا. ومن ناحية أخرى فإن بعض الشخصيات والأحداث تعدّ رمزية بمعنى أوسع. وهكذا يمثل مستر چونز البرچوازية، أو ربما الطبقة الحاكمة بوجه عام، أكثر من القيصر فى حد ذاته؛ ويمثل الحصان بوكسر "العامل العادى المعقول الحال" بوجه عام ;أكثاأأانتمنتمنتمjhjhjhjhjhللاالاعغعفغعقرررر أكثر مما يمثل بوجه خاص الطبقة العاملة الروسية؛ وتمثل الفرس كلوڤر والفرس موللى والنعجة أنماطا اجتماعية محددة ( أو ما يتصوره أورويل أنماطا اجتماعية محددة) وليست بحال روسية على وجه الخصوص. وعلى هذا النحو تعدّ مزرعة الحيوانات فى آن معا قصة رمزية للثورة الروسية وللثورة بوجه عام. وهى توحى، وهذا الإيحاء مصبوب فى صميم بنية الكتاب، بأن مصير الثورة الروسية هو المصير الحتمى لكافة الثورات فى الماضى والمستقبل. وهذه الفكرة يجرى تعزيزها إلى مدى أبعد عن طريق تحديد مكان القصة بصورة محددة تماما بإنجلترا، الأمر الذى يحمل مباشرة رسالة مؤداها أن أية ثورة فى إنجلترا محكوم عليها بأن تنتهى بنفس الطريقة. كما تعدّ بالغة الدلالة فى توصيل نفس الفكرة تلك النقاط التى تبتعد عندها قصة مزرعة الحيوانات بصورة ملحوظة عن التاريخ الفعلى. وقد يبدو هذا خطا غير معقول للجدال من حيث أن حكايات حيوانات من 120 صفحة لا يمكنها بكل وضوح أن تنسخ بأى قدر كبير من الدقة كلّ تعقيد الثورة الروسية وتدهورها. غير أن أحد أبرز ملامح مزرعة الحيوانات وأحد إنجازاتها التى لا تنكر يتمثل على وجه التحديد فى مدى الدقة التى توفق بها فى اقتفاء أثر الأحداث الحقيقية وفى مدى كثر ما تحشد منها: ليس فقط الثورة، ونفى تروتسكى والافتراء عليه، والتطهيرات، بل أيضا المناظرة حول الاشتراكية فى بلد واحد(12)، والمقاومة الفلاحية للتجميع الزراعى (عصيان الدجاج)، واستراتيچية الجبهة المتحدة (تغيير الحمام للشعار من "الموت للبشرية" إلى "الموت لفريدريك") وكثير من التفاصيل الأخرى الثانوية نسبيا. وهناك بطبيعة الحال الكثير من التبسيط غير أن الأمر لا يتجاوز ذلك غالبا - التبسيط وليس التشويه. وإنما فى هذا السياق يغدو تبديلان جوهريان، أو تزييفان إن جاز القول، للسجلّ من الأهمية بمكان. ويتعلق التزييف الأكثر صراحة منهما بشخصية نابليون. ومن الجلى أن نابليون يمثل ستالين، تماما كما يمثل أولد ماچور ماركس وسنوبول تروتسكى. فمن إذن يمثل لينين؟ وحيث أن أورويل يصور العصيان على أنه بقيادة خنزيريْن، نابليون وسنوبول، فإن المرء يجد نفسه مرغما على استنتاج أن نابليون يمثل لينين أيضا. وبهذا فإن شخصىْ لينين وستالين يندمجان فى مزرعة الحيوانات فى شخصية واحدة. وهذا أمر له مغزاه الأيديولوچى الهائل. والواقع أن الأرثوذكسيتيْن السائدتيْن فى الغرب والشرق كانتا تلحان دائما، كل منهما لأسبابها الخاصة، على الاستمرارية بين اللينينية والستالينية: الأولى لتشويه الماركسة والثورة بوصفها المقدمة الحتمية للاستبداد، والأخيرة لتدعى لنفسها ميراث ذلك الثورى العظيم. وسواء عن قصد أو دون قصد فإن إورويل، عن طريق دمج لينين وستالين، يوافق بصورة لا يمكن تفاديها على النظرة الغربية السائدة. هناك عدد من التفاسير للينينية تقود إلى أطروحة الستالينية. كان لينين فى أحدها ومنذ البداية شخصية شمولية عاقدة العزم على السلطة الشخصية المطلقة؛ وفى آخر يغدو المفهوم اللينينى عن الحزب المصدر الأصلى للشرّ الشمولى؛ وفى ثالث يغدو مشروع الثورة ذاته الخطيئة الأصلية ويغدو لينين وستالين مجرد مرحلتين مختلفتين من مراحل المنطق المحتوم للثورة. غير أن الدلالات والاستنتاجات رجعية بعمق فى كافة الأحوال. ولو أن مزرعة الحيوانات اشتملت على شخصية مستقلة للينين ما كان لهذا أن يحلّ المسألة (ليس أكثر بحال مما فعل فى الحياة الفعلية) على أنه كان يمكن أن يسمح على الأقل ببحث الاستمرارية داخل نطاق النص. والواقع أن اندماج لينين وستالين فى نابليون يحول دون هذه الإمكانية ويُقوّى إلى حد بعيد الانطباع الخاص بتدهور سلس ولا يمكن تفاديه نحو الديكتاتورية. ويتعلق التشويه التاريخى الخطير الثانى بالسنوات التالية مباشرة للثورة وبوجه خاص بالحرب الأهلية فى الفترة من 1918 إلى 1921. فى الواقع كانت هذه فترة من المعاناة الهائلة والمفزعة فى حياة الشعب الروسى. لقد عانى الاقتصاد انهيار كليًّا تقريبا، هبط الإنتاج الصناعى إلى جزء ضئيل جدا من مستواه السابق للثورة، وتفسخ نظام النقل، واجتاحت المجاعة والأمراض المدن، وهبطت بشدة أعداد سكان بتروجراد وموسكو، قلب الثورة. وكان البيض على قيد شعرة من سحق الدولة العمالية الفتية ومن أجل هزيمتهم كان على النظام أن يخضع كل شيء فى الواقع لاحتياجات الجيش، بما فى ذلك التضحية بجانب كبير من القسم الأكثر وعيا سياسيا من الطبقة العاملة. وتوترت العلاقات بين المدينة والريف إلى نقطة الانهيار وإلى أبعد من ذلك بسبب الحاجة إلى مصادرة الغلال. وكان النظام البلشفى مرغما، أكرر مرغما، كمسألة حياة أو موت، على اللجوء إلى تدابير قاسية واستبدادية(13). ولهذا كانت هذه الفترة هى التى أرسيتْ فيها الأسس المادية للبيروقراطية الستالينية. ولم يجر فقط إرساء السوابق الاستبدادية (الاحتكار السياسى البلشفى، حظر التكتلات، وما إلى ذلك)، وهو ما سيستخدمه ستالين بعد ذلك لأغراضه الخاصة، بل إن الذات الفعالة والقوة المحركة للثورة - البروليتاريا الصناعية - تحطمت. و"مقتلعة من وضعها الطبقى الخاص"، كما عبر لينين فى ذلك الحين، بالحرب والانهيار الاقتصادى، كفتْ الطبقة العاملة عن الوجود كجماعة يمكنها أن تحكم أو توجّه أولئك الذين حكموا باسمها. وكان هذا ما استهلّ تحوُّل مسئولى الدولة والحزب إلى بيروقراطية ذات امتيازات تعمل على تحقيق مصالحها الخاصة. وإنما على هذه الخلفية واستجابة لهذا الموقف تطور الصراع بين ستالين وتروتسكى فى العشرينات، حيث كان كل زعيم وكل انقسام يعكس ويمثل قوى اجتماعية متباينة. كان ستالين رأس حربة لاندفاع البيروقراطية لتخليص نفسها من أىّ اعتماد على الطبقة العاملة وتوطيد نفسها كطبقة حاكمة لحسابها الخاص. وكان تروتسكى يقود المقاومة المستميتة لذلك القسم من الطبقة العاملة والحزب البلشفى والذى ظل مخلصا للأهداف الأصلية للثورة. وكان الانتصار من نصيب ستالين ليس بسبب تفوقه الشخصى بل لأن القوة الاجتماعية التى كان يؤيدبب تفوقه الشخصى بل لأن العاملة والحزب البلشفى والذى ظل مخلصا للأهداف الأصلية للثورة. الخاص. ى اجتها كانت فى تلك الفترة من الزمن أقوى وأكثر تلاحما من الطبقة العاملة. غير أن هذه الفترة الحرجة يجرى تصويرها فى مزرعة الحيوانات فى ضوء مختلف تماما. فالمصاعب الكارثية للسنوات الباكرة ومشاقها تختفى بلا أثر. كم كدحتْ الحيوانات وعرقتْ لحصد قشّ العلف! غير أن جهودها كوفئت، ذلك أن الحصاد كان نجاحا أكبر حتى مما كانت تأمل... علاوة على ذلك، كان ذلك أضخم حصاد شهدته المزرعة على الإطلاق... وطوال ذلك الصيف كان عمل المزرعة منتظما كالساعة. وكانت الحيوانات سعيدة كما لم تتصور قط أنه يمكنها أن تكون سعيدة... فمع التخلص من البشر الطفيليين العاطلين عن العمل، كان هناك المزيد لكل حيوان ليأكل. وكان هناك أيضا المزيد من وقت الفراغ(14). كذلك يتلاشى دمار الحرب الأهلية. وتعدّ معركة حظيرة البقر، التى تتطابق مع الحرب الأهلية، انتصارا سهلا جدا للحيوانات ولا تستغرق سوى خمس دقائق. والإصابات الوحيدة التى مُنى بها كلا الجانبين لا تزيد عن صبى إسطبل أصيب بارتجاج فى المخ ونعجة واحدة قتيل. ولا يتعطل عمل المزرعة على الإطلاق. ومغزى هذا التشويه هو تجريد صعود حكم الخنازير/الستالينية من أىّ جذر أو سبب مادى. فهو يهبط بالصراع بين نابليون/ستالين وسنوبول/تروتسكى إلى مستوى محض تنافس شخصى بين فردين لهما مزاجان متضاربان. وحتى المسألة الرئيسية المتعلقة بالثورة فى بلد واحد، والتى مُنحتْ أهمية أقل من مناظرة ويندميل/التصنيع، تم تناولها على أنها قلب للمنطق لا غير، أىْ حجة أنه لا فرق بين الأمرين بلا أى تأثير ذى شأن على مصير المزرعة/الثورة. كالعادة، كان سنوبول ونابليون على خلاف. فوفقا لنابليون، كان ما ينبغى أن تفعله الحيوانات هو الحصول على أسلحة نارية وتدريب نفسها على استعمالها. ووفقا لسنوبول، كان على الحيوانات إرسال المزيد والمزيد من الحمام للتحريض على العصيان فى صفوف الحيوانات فى المزارع الأخرى. كان أحدهما يحاول إثبات أنه إذا عجزت الحيوانات عن الدفاع عن نفسها فسيكون محكوما عليها بالهزيمة، وكان الآخر يحاول أن يثبت أنه إذا وقعت عصيانات فى كل مكان فلن تكون الحيوانات بحاجة إلى الدفاع عن نفسها(15). ويقود إغفال الشروط المادية لتدهور الثورة إلى ما يُعَدّ السمة الأشدّ رجعية لمزرعة الحيوانات، أىْ التفسير القاطع الذى تقدمه لفشل العصيان فى تحقيق أهدافه. وهذا التفسير صيغ بصفة كاملة فى إطار التعارض بين الغايات الثورية "الطوباوية" المتمثلة فى المساواة والحرية والديمقراطية، وبين الخصائص الفطرية الثابتة لدى مختلف الحيوانات. وهكذا فإن جشع الخنازير وتلهُّفهم على السلطة يبدآن من ذات اللحظة التى يُطاح فيها بچونز وينطبقان على كافة الخنازير بلا استثناء. ويلحّ أورويل إلحاحا خاصا على الإشارة إلى أنه فيما يتعلق بالاستيلاء على اللبن والتفاح، "كانت كافة الخنازير متفقة تماما... حتى سنوبول"(16) كما أن تلك المقاومة الموجهة لصعود نابليون، أوّلا من جانب سنوبول ثم من جانب خنازير التسمين الأربعة الصغيرة، التى تحتج على إلغاء اجتماعات يوم الأحد، ليست موجهة على الإطلاق إلى حكم الخنازير أو امتياز الخنازير فى حدّ ذاته. ولا يجرى تقديم أية أسباب لهذا الفساد الإجماعى للخنازير. ويجرى تقديم هذا الفساد على أنه أوتوماتيكى بكل بساطة - على أنه التعبير الحتمى عن الطبيعة الخنزيرية. وأساس سيادة الخنازير هو، بطبيعة الحال، ذكاؤها المتفوق(17). ويجرى تقديم هذا، شأنه شأن جشعها، على أنه موهوب وفطرى. "وقع العمل المتصل بتعليم وتنظيم الحيوانات الأخرى، بطبيعة الحال، على عاتق الخنازير التى كان معترفا بها بوجه عام على أنها أذكى الحيوانات"(18). كما أن الدور القيادى لنابليون وسنوبول "طبيعى" فى منشئه. "وتفوّق بين الخنازير خنزيران بريان ذكران فتيّان اسمهما سنوبول ونابليون... وكانت كافة الخنازير الذكور الأخرى فى المزرعة خنازير تسمين"(19). وماذا عن إناث الخنازير؟ حسنا، إنها "بطبيعة الحال" لا تستحق الذكر! ولا يفوّت أورويل أىّ مناسبة لتعزيز نفس هذه الرسالة. وفى أول اقتراع حول ما إذا كانت الفئران رفاقا "لم يكن هناك سوى أربعة أصوات معارضة، الكلاب الثلاثة والقطة"(20). وتتصرف الأغنام من البداية إلى النهاية "كأغنام" ليس إلا، ومُوللى "الفرس البيضاء الجميلة الحمقاء" التى توجه "أغبى الأسئلة"(21)، لا تكون إلا مخلصة "لطبيعتها" عندما تخرج على الإنسان فى سبيل السكر والأشرطة(22). والحقيقة أنه لا حيوان فى مزرعة الحيوانات يتعرض لأىّ تطور أو يكون قادرا على الإفلات من سجن وقدَر الطابع الموروث. وهذه نظرة محافظة بعمق وتبرز دلالاتها اليمينية إلى الصدارة إلى أقصى حد عندما نطرح سؤال، ما الذى يمكن نابليون من اغتصاب السلطة، وكيف يفلت من العقاب؟ وإجابة مزرعة الحيوانات، إجابة أورويل، هى بصفة أساسية أن ذلك يتمثل فى غباء الحيوانات الأخرى. ويجرى التشديد على هذا الغباء فى كل موضع فى الكتاب. وفى الأيام الأولى "البطولية" للعصيان يجرى اتخاذ كافة القرارات من جانب المجلس أو "الاجتماع" العام (الموازى تقريبا للسوڤييتات) غير أن الديمقراطية مصابة بالاختلال بصورة قاتلة بسبب افتقار الحيوانات إلى الذكاء. "كانت الخنازير هى التى تقدم القرارات دائما. وفهمت الحيوانات الأخرى كيف تقترع، لكنها لم تستطع قط أن تفكر فى أية قرارات من تلقاء ذاتها"(23). وإنما لنفس السبب يثبت إخفاق محاولة سنوبول لإدخال وتربية المخلوقات الدنيا فى لجان الحيوانات كما يثبت إخفاق فصول القراءة والكتابة الخاصة بها(24)، وهذا واقع حاسم بالنسبة للتلاعب والخداع المتكررين من جانب الحيوانات فيما يتعلق بالوصايا السبع. على أنه إذا كانت كافة الحيوانات فى الواقع (ما عدا الخنازير) غبية فإن غباء بوكسر حصان الجرّ، الذى يرمز إلى العامل العادى الوسطى المعقول الحال، هو الذى يجرى التشديد عليه إلى أقصى حد وهو الأكثر أهمية. وبوكسر أساسى لأن بوكسر، مثل الطبقة العاملة، يملك القدرة على التعامل مع نابليون وكلابه. ويبدو بلا أدنى شك أن أورويل أدرك قوة الطبقة العاملة، فهو يصور هذه الأخيرة تصويرا دراماتيكيا للغاية. وفى المشهد الذى يوازى محاكمات موسكو يحرّض نابليون الكلاب على مطاردة الخنازير الأربعة التى انشقتْ من قبل. وذاقت الكلاب الدم وتندفع ثلاثة منها نحو بوكسر. رآها بوكسر قادمة واستخدم حافره الضخم بكل قوة، واصطاد كلبا وهو لايزال معلقا فى الهواء، وثبّته على الأرض. وصرخ الكلب طالبا الرحمة وهرب الكلبان الآخران وذيل كل منهما بين رجليْه. ونظر بوكسر إلى نابليون ليعرف ما إذا كان سيسحق الكلب أم سيدعه يذهب(25). وبوكسر يملك القوة لكنه لا يستخدمها أبدا. وفى كل مرحلة يخدعه نابليون وسكويلر. ويجرى خداعه لأنه غبى. وتتمثل استجابته لكل نموذج جديد من الفساد، لكل اضطهاد جديد، لكل كذبة جديدة، فى التردد المحزن والمذعن لشعاراته، "نابليون على حق دائما" و"سأعمل بمزيد من الجد". وبوكسر ليس غبيا فقط نتيجة للظروف، إنه غبى غباء خلقيًّا ولا رجعة فيه. وعندما يظهر بوكسر لأول مرة فإن قوته وغباءه يجرى ذكرهما فى الحال: كان بوكسر دابة ضخمة... وكان قويا قوة حصانين عاديين مجتمعيْن... حضور غبى إلى حدّ ما، والواقع أنه لم يكن على ذكاء من الدرجة الأولى(26). ويقاوم غباؤه كافة محاولات التعليم. ورغم الجهود الضخمة فهو عاجز عن أن يتعلم الألفباء أبعد من حرف "D". ويالها من صورة مرعبة ومشوِّهة للطبقة العاملة. وبطبيعة الحال فإن التطور الفكرى للطبقة العاملة تضرّبه الشروط الاجتماعية - الفقر،والتربية المنحدرة إلى الحضيض، والعمل المغترب. وبطبيعة الحال فإن أغلب العمال تسيطر عليهم فى الأوقات العادية، إلى هذا الحد أو ذاك، أفكار الطبقة الحاكمة. على أن هذه السمات لا هى فطرية ولا هى عصية على التغيير. وفى لحظات الذروة فى النضال الطبقى يُبدى العمال "العاديون" مبادرة وإبداعية خارقتين للعادة وحتى فى أعماق الرجعية، عندما تكون الثقة بالمقاومة قد تحطمت بكل وضوح، فإنهم لا يكونون أبدا أغبياء ومغولى المرة وإبداعية خارقتين للعادة وحتى فى أعماق الرجعية، عندما تكون الثقة بالخ وفاترى الهمة مثما يوحى أورويل هنا. ونحن الآن فى موقف يتيح لنا أن نلخص بإيجاز الرسالة السياسية التى تنبثق من التفسير المجازى لأورويل لتدهور الثورة. وهى كالتالى: فى حين أن النظام القديم استغلالى وقاس دون شك فإن محاولة خلق نظام جديد من المساواة والحرية محكوم عليها بالإخفاق لأنه مناقض لملامح بعينها لا تتبدل من ملامح الطبيعة البشرية. وانقسام المجتمع إلى حكام ومحكومين، مستغلين ومستغَلين أمر حتمى لأنه يرتكز على التفاوتات "الطبيعية"، وقبل كل شيء تفاوتات الذكاء. وتخفق الثورات المساواتية وستظلّ تخفق لأنه (أ) سيكون هناك دائما أولئك (النخبة، المثقفون، الزعماء، المتفوقون) الذين سيسعون إلى استغلال الثورة لأغراضهم الخاصة؛ و(ب) سينجحون فى هذا لأن جمهور الناس العاديين، وعلى وجه الخصوص الطبقة العاملة الصناعية، عاجزون فكريا عن تنظيم الإنتاج وإدارة المجتمع بصورة ديمقراطية - ليس بوسع الطبقة العاملة أن تحرر نفسها. لا عجب إذن فى أن يعمد اليمين إلى إعلاء شأن مزرعة الحيوانات بكل قوة، ذلك أنها تقرّ موضوعتين من الموضوعات الأكثر جوهرية فى أيديولوچيتها: موضوعة أن الطبقات ذات الامتيازات تدين بموقعها للتفوق الشخصى لأفرادها وموضوعة أنه لا نظام أفضل ممكن لأن الجماهير متدنية. والحقيقة أن البرچوازية مستعدة تماما للتسليم بأن الحياة فى ظل حكمها شاقة وقاسية وظالمة - ومن مصلحتها من بعض النواحى الاعتراف بهذا والتسليم به - فقط شريطة التسليم كذلك بأنه لا بديل هناك. وواقع أن أورويل لا يستسيغ هذا الاستنتاج، وأنه يجده بغيضا أخلاقيا، وأنه يهتم بإخلاص بأمر الطبقات الدنيا، وأنه لم تجر صياغته بصراحة بل ينبع "تلقائيا" وبطريقة لا مفر منها من القصة لا يؤدى إلا إلى جعله أكثر وزنا بكثير. فما الذى يفسر إذن هذا التناقض العميق فى نظرة أورويل إلى العالم؟ إنه فى رأيى نتاج عامليْن يتبادلان التأثير. العامل الأول هو خلفيته الطبقية. ذلك أن أورويل، أو إريك بلير، وُلد فى الطبقة الوسطى الإدارية لبريطانيا الامبراطورية وتعلم فى المدرسة الإعدادية، ولينجتون وإيثون. ويتذكر أورويل: "فى نظرى فى طفولتى الباكرة وفى نظر كل أطفال العائلات التى كعائلتى كان يبدون دون البشر تقريبا"(27). وقد انتهى أورويل إلى قطيعة مع هذه الخلفية الاجتماعية بطبيعة الحال، وترك عمله مع الشرطة الهندية، ورفض الكثير من قيم طبقته، وصار نصيرا لقضية "الإنسان العادى". غير أنها لم تكن قطيعة كاملة. ذلك أن أورويل لم يصبح مناضلا من مناضلى حركة الطبقة العاملة وفيها، كما أنه لم يتبنّ نظرة الحركة العمالية إلى العالم، أىْ الماركسية(28). وقد تبنى بدلا من ذلك دور اللا منتمى عن وعى الذى، رغم استقصائه لأوضاع العمال والفقراء (وتعاطفه معهم)، يحتفظ باستقلاله الفردى وتجرُّده. ولم يفقد قط على مرّ الزمن تشككه إزاء القدرات السياسية للطبقة العاملة. وقد جرى التعبير عن هذا الموقف بأقصى الوضوح، شأنه شأن الكثير من مواقفه السيكولوچية، فى كتابه الطريق إلى ويجان پير: أول شيء لابد أن يصدم أىّ مراقب من الخارج هو أن الاشتراكية فى شكلها المتطور نظرية محصورة تماما داخل الطبقات الوسطى... والعامل، طالما بقى عاملا حقيقيا، قلما يكون أو لا يكون أبدا اشتراكيا بالمعنى الكامل، المتماسك منطقيا... وفى حدود خبرتى، لا عامل حقيقى يدرك الدلالات الأوسع للاشتراكية... وفيما يتعلق بالجانب الفلسفى للماركسية... لم ألتق قط بعامل لديه أىّ اهتمام به... ولم ألتق بعد بعامل مناجم، بعامل صلب، بعامل نسيج قطن، بعامل حوض سفن، بعامل فواعلى، أو ما إلى ذلك، عميق أيديولوچيا(29). وهذا النقد اللاذع يُساق كهجوم على الاشتراكيين من مثقفى الطبقة الوسطى، غير أن مغزاه الضمنى واضح جلى. فالاشتراكية فى شكلها المتطور ظاهرة تنتمى إلى الطبقة الوسطى لأن العمال لا يقدرون على إدراك الأفكار السياسية العامة. وهذا الإنكار يذهلنا بالأحرى حيث أن أورويل لم يكن قادرا على كتابة الطريق إلى ويجان پير إلا بفضل مساعدة العمال السياسيين المنظمين. وتتخلل نفس الموضوعة تصوير أفراد البروليتاريا فى رواية سنة 1984 على أنهم "مثل النمل الذى يمكنه أن يرى الأجسام الصغيرة لكن ليس الضخمة" وعلى أنهم "أشخاص لم يتعلموا قط أن يفكروا". وحتى فى الاستثناء العظيم، تحية لكاتالونيا، فإن الكثير من قوة الوصف الذائع الصيت لأورويل "لمدينة كانت الطبقة العاملة تتولى السلطة فيها" يأتى من ذهوله لأن أبناء الطبقة العاملة أمكنهم أن يحققوا مثل هذا الشيء(30). العامل الثانى والأهم موضوعيا بجلاء هو الزمن الردئ الذى عاش فيه أورويل: "منتصف الليل فى القرن" عند ڤيكتور سيرچ - صعود هتلر وستالين، محاكمات موسكو، الغدر بالثورة الأسبانية وانتصار فرانكو، الحرب العالمية الثانية. ومفهوم تماما أن يغرق أورويل، تحت وطأة هذه الهزائم والأهوال المفزعة، فى التشاؤم واليأس والكلبية المميزة. كما أنه لا غرابة فى أن تنعش وتؤكد تلك الأحداث الكثير من مخاوفه وتحاملاته العميقة بشأن الطبقة العاملة. والعكس بالعكس، فمن البديهى أنه لو هُزمت الستالينية والفاشية وانتصرت الاشتراكية الأممية لما كتبت مزرعة الحيوانات ولا سنة 1984. غير أن فهم الشرط الاجتماعى لرسالة لا يعنى إقرارها أو حتى جعلها مستساغة أكثر ولا جدال فى أنه لا يغيّر واقع أنها رسالة ينبغى على الاشتراكيين أن يحاربوها. وأنا أتوقع أن يُقابل هذا التقييم السلبى بجانبه الأكبر لمزرعة الحيوانات باعتراض بعض الأوساط بأنه يقلل من شأن شجاعة معاداة أورويل للستالينية. وليست عندى أدنى رغبة فى إنكار تلك الشجاعة غير أن اهتمامى ينصبّ على تقييم كتاب، وليس شخص، وينبغى أن نتذكر أن الشجاعة يمكن أن تخدم شتى أنواع القضايا، ومنها قضايا رجعية تماما. كما أننا لا يمكن أن ننسى أنه من وجهة نظر الاشتراكية الثورية تعَدّ معاداة الستالينية جوهرية لكنها ليست كافية بحال من الأحوال. والحقيقة أن معاداة الستالينية التى تقوم ليس على تحليل مادى لتدهور الثورة الروسية والتزام بتحرير الطبقة العاملة لنفسها بنفسها، بل على مجرد الرفض الأخلاقى للأساليب والممارسات الشمولية، يمكن أن تقود إلى الليبرالية، وفوبيا ستالين، والمعاداة اليمينة للشيوعية. ويكشف أىّ فحص لمسار أورويل بعد مزرعة الحيوانات عن عناصر من هذه السمات بما فى ذلك ميل إلى النظر إلى الشيوعية، حتى هنا فى الغرب، على أنها العدو الرئيسى. وهذا اتجاه يبلغ ذروته فى رواية سنة 1984، غير أن جذوره ملحوظة بالفعل بجلاء فى مزرعة الحيوانات. خريف 1989 إشارات 1: G Orwell, Collected Essays, Journalism and Letters (CEJL) (London, 1968), Vol 1, p7. 2: G Orwell, Animal Farm (London 1987), p120. 3: يحق ريموند وليامز Roymond Williams، فيما أعتقد، إذ يشير إلى أولى هاتين اللحظتين باعتبار أن "هذا أحد التعبيرات الباقية عن الفجوة بين الادعاء والواقع الفعلى، بين إعلان الإيمان والممارسة، فيما يتعلق بمجال واسع للغاية"، وإلى اللحظة الثانية باعتبار أنه "نظرًا لأنهما نفس الشيء لأنهما يفعلان نفس الشيء ولا عليك من الألقاب والشكليات: إنها لحظة وعى تحقق، اكتشاف محرِّر كإمكانية" R Williams, Orwell, Glasgo, 1971, p74. 4: CEJL, Vol 1, p377-8. 5: CEJL, Vol 1, p539, and R Williams, op cit, pp63-64. 6: فى مقدمة الطبعة الأوكرانية كتب أورويل: "... طوال العشر سنوات الماضية كنت على اقتناع بأن تحطيم الأسطورة السوڤييتية جوهرى إذا نحن أردنا إحياءً للحركة الاشتراكية". CEJL, Vol 3, p405. 7: CEJL, Vol 1, p5. 8: CEJL, Vol 4, p502. 9: ينبغى أن نلاحظ أن ما يوافق عليه أورويل هو الشجب (الأخلاقى) للرأسمالية من جانب ماركس وليس نظرية التاريخ عند ماركس. ولم يكن أورويل فى أية مرحلة على الإطلاق ماركسيا من الناحية النظرية ولم تكن لديه سوى معرفة أولية للغاية بالماركسية. 10: Animal Farm, p100. 11: Ibid, p32. 12: Ibid, p46. 13: من المؤكد أن الحقائق الأساسية عن هذه الفترة المفزعة معروفة لأغلب قراء مجلة انترناشونال سوشاليزم. وعلى أية حال فأفضل سرد لها بين سرود كثيرة هو: T Cliff, Lenin, Vol 3, The Revolution Besieged (London, 1978). 14: Animal Farm, pp25-26. 15: Ibid, p46. 16: Ibid, p32. 17: لاحظ التناقض بين هذا وبين حادث اللبن والتفاح الذى سبق أن ألقينا عليه الضوء بتركيز. ومن الناحية الأخلاقية يرفض أورويل أن يكون الذكاء المتفوق مبررا للامتيازات، غير أنه من الناحية السيوسيولوچية يصوره على أنه أساس الانقسامات الطبقية. 18: Animal Farm, p15. 19: Ibid. 20: Ibid, p11. 21: Ibid, 16. 22: شخصية مُوللى بوجه خاص قالب نمطى فظ للأنثى، وهذا مميز لموقف أورويل من النساء. 23: Animal Farm, p28. 24: يوجد هنا تناقض آخر مثير يمكن أن يوضح من جديد التعارض بين نوايا أورويل وعمله، بين أهدافه الواعية وبين افتراضاته اللاواعية وشبه الواعية. فهو يخبرنا فى صفحة 29 أن "فصول القراءة والكتابة حققت مع ذلك نجاحا كبيرا. وبحلول الخريف كان كل حيوان متعلما إلى درجة ما". غير أنه فى صفحة 30 يدخل فى التفاصيل ويتضح أنه، بصرف النظر عن الخنازير، لا يتعلم القراءة سوى الكلاب، والعنزة مورييل، والحمار بنچامين. أما الأغلبية الواسعة من الحيوانات فلا تمضى إلى أبعد من حرف "A". 25: Animal Farm, p72. 26: Ibid, p6. 27: G Orwell, The Road to Wigan Pier, (Harmonsworth, 1987), p110. 28: قد يبدو أن انخراط أورويل فى صفوف الحزب العمالى للتوحيد الماركسى يناقض هذا، غير أن قصده الأصلى من الذهاب إلى أسبانيا كان "جمع مواد لمقالات صحفية، الخ." (CEJL, Vol 1, p316) وكانت عضويته فى الحزب العمالى للتوحيد الماركسى عرضية تقريبا، ولم تكن قائمة على الالتزام السياسى. (See R Williams, op cit, pp54-55). 29: The Road to Wigan Pier, pp152-5. 30: أدين لتشارلى هور بهذه الملاحظة. 4 عوالم عديدة مفقودة عن رواية "پيدرو پارامو" Pedro Páramo، خوان رولفو Juan rulfo، 1953 (عن مجلة: سوشاليست ريڤيو، أبريل 1994) (مقال: مايك جونثالث Mike Gonzalez) [سبقت رواية خوان رولفو "پيدرو پارامو" الصادرة فى 1955 رواية نجيب محفوظ "الطريق" الصادرة فى 1964 بقرابة عشر سنوات. وهناك تشابُهٌ عجيب محيِّر فى الحبكة بين الروايتين، فكلٌّ من البطلين يبحث عن أبيه بإرشادات من أمه ويكتشف فى النهاية أن أباه أبٌ لعدد هائل من البشر. ورغم شهرة كلٍّ من "پيدرو پارامو" – أىْ "الأب پارامو" – (بطل رواية خوان رولفو) و"سيد سيد الرحيمى" (بطل رواية نجيب محفوظ: "الطريق")، لم أقرأ محاولة لاستكشاف تأثير محتمل لرواية رولفو فى رواية نجيب محفوظ – خليل كلفت] يعود خوان پريثيادو إلى قرية أمه امتثالا لرغبتها وهى تحتضر. وعندما يهبط داخلا البلدة الصغيرة كومالا فإنه لا يجد هناك البقعة البهيجة الخضراء الماثلة فى ذكريات أمه بل يجد بلدة ميتة مليئة بأصوات تحررت من أجسادها. وتستحيل كومالا إلى نوع من المطهر تحيا فيه مجموعة من الأرواح المعذبة بإحساس أبدى بالذنب يمنع كل راحة أو نوم. والأمر الذى يشتركون فيه جميعا هو أن الرجل الذى كان يسيطر على البلدة - پدرو پارامو - أفسدهم واستخدمهم. وليس كل ما هناك أنه هو وابنه استخدما كل شخص فى القرية لأغراضهما الخاصة - إنه أيضا "حكم على كومالا بالموت" بعد موت ابنه ميجويل. ومكان الرواية هو المكسيك؛ أما زمنها فهو الأربعينات أو الخمسينات - وليس واضحا تماما على الإطلاق متى. والكاتب، خوان رولفو، لم يكتب سوى هذه الرواية وكتابا سابقا هو مجموعة قصص قصيرة. غير أن پدرو پارامو رواية رائعة، وهى كافية تماما لتبرير شهرة رولفو. وداخل الرواية هناك عوالم عديدة مفقودة - تذكّرتْ أم خوان مكانا ينتمى إلى اليوتوبيا، أما الإنسانة التى يحبها پدرو پارامو، وهى سوزان سان خوان، فتلوذ منه بحلم بأركاديا (بفردوس) لا يمكنه دخولها. وفى 1910 مرت المكسيك بثورة تمثلت غايتها فى القضاء على الطبقة التى كان پارامو ينتمى إليها. وكان هدفها الأساسى هو إعادة توزيع الأرض على صغار الزراع وانتزاعها من كبار ملاك الأرض. على أن الثورة لم تظهر هنا إلا لفترة وجيزة. ذلك أن پارامو تخلص من القادة الثوريين عن طريق شرائهم وسرعان ما رحلوا. وهكذا فإن كومالا تتخلى عنها الثورة ويُلقى بها إلى خارج مجرى التاريخ. بعد ذلك بأربعين سنة (فى 1955)، لم يفت رولفو، عندما كتب روايته، أن يلمّح إلى خيانة وانحراف وعود الثورة - وإلى الأرواح الفقيرة الميتة فى كومالا كضحايا لذلك المسار. والرواية ليست سردا تقليديا. إنها، بالأحرى، جوقة أصوات يائسة ينشأ منها إحساس بتجربة مشتركة، رغم أن كل متحدث تستحوذ عليه عزلته. إنها أغنية لوعة شعرية مثيرة للمشاعر، ورمز قوى للموت الحى الذى هو النتيجة المنطقية للانعزال عن المسار الموَّار للتاريخ. 5 صوت ڤالزر عن قصص مختارة Selected Stories، روبرت ڤالزر Robert Walser، 1983، مقدمة بقلم: سوزان سونتاج Susan Sontag (مجلة القاهرة 15 أغسطس 1986) روبرت ڤالزر كاتب من كُتّاب اللغة الألمانية المهمّين فى هذا القرن، وهو كاتب بارز بفضل رواياته الأربع التى نجت من الضياع (وروايتى المفضلة هى الثالثة، التى كُتبت عام 1908، يعقوب فون جونتن) وكذلك بفضل كتاباته النثريّة القصيرة، التى لا تعوق الحبكة موسيقية كتابتها أو تدفقها الحرّ إلا بدرجة أقلّ. وقد اختار (وترجم أغلب) هذه المجموعة من الكتابات النثرية القصيرة ﻟ ڤالزر: كريستوفر ميدلتون الرائع، الذى عمل على مدى سنوات طويلة على جعل ڤالزر معروفا لدى قراء اللغة الإنجليزية، وهى مأخوذة من الإنتاج المكتوب بين 1907 و1929. والواقع أن أىّ شخص يسعى إلى تقديم ڤالزر إلى جمهور لا يزال عليه أن يكتشفه يجد فى متناوله ترسانة كاملة من المقارنات المجيدة. فهو پول كلى آخر فى مجال النثر - مرهف مثله، بارع مثله، ملحّ مثله. وهو هجين من ستيڤى سميث و بيكيت: بيكت مرح وعذب. ومثلما يقوم حاضر الأدب - بصورة لا يمكن تفاديها - بإعادة خلق ماضيه، فنحن لا نملك إلا أن ننظر إلى ڤالزر على أنه الحلقة المفقودة بين كلايست و كافكا، الذى كان بالغ الإعجاب ﺑ ڤالزر. (وفى ذلك الحين كان كافكا هو الذى يمكن النظر إليه من خلال منظور ڤالزر. وقد اعتبر روبرت موزيل، وهو مُعْجَب آخر ﺑ ڤالزر من بين معاصريه، .. اعتبر كافكا - عندما قرأه للمرة الأولى - «حالة خاصة من نموذج ڤالزر». وأنا أحصل من كتابات ڤالزر النثرية القصيرة أحادية الصوت على دفعة من المتعة تضارع تلك التى أحصل عليها من محاورات ليوپاردى ومسرحياته القصيرة؛ شكل الكتابة النثرية القصيرة المزهوّة لذلك الكاتب العظيم. على أن تنوّع الجوَّ العقلى فى قصص واسكتشات ڤالزر، ورشاقتها وأطوالها غير المتوقعة، تذكِّرنى بالأشكال الحرّة التى تقوم على صيغة المتكلم والتى يزخر بها الأدب الياپانى الكلاسيكى: كتاب الوسادة، اليوميات الشعرية، «مقالات فى الكسل». غير أن أىّ عاشق حقيقى ﻟ ڤالزر سوف يوّد أن يتجاهل شبكة المقارنات التى يمكننا أن نلقيها على إنتاجه. و ڤالزر - فى كتاباته النثرية الطويلة - كما فى كتاباته النثرية القصيرة - رسّام صورة مُنَمْنَمَة، يعلن مطالب غير البطولى، المحدود، المتواضع، الصغير؛ وكأنما كان ذلك استجابة لشعوره الحادّ باللّامتناهى. وتصور حياة ڤالزر أوضح تصوير قلق نوع من المزاج المكتئب: كان لديه افتنان المكتئب بالركود الدموى، وبالطريقة التى ينتفخ بها الزمان وينقضى، وقد قضى جانبا كبيرا من حياته يحوّل الزمان - وقد استبدّ به الهاجس - إلى مكان: جَوْلاته - ويداعب إنتاجه الرؤية المروّعة عن اللانهائيّة لدى المكتئب: إنه كلّه صوت - وهو يفكرّ بصوت مرتفع، ويتحادث، وينتقل من موضوع، إلى موضوع ويواصل الحديث عن موضوع بعينه. وتُستعاد ما هو هام بوصفه ضربا من ضروب ما هو غير هام، وتُستعاد الحكمة بوصفها نوعا من الثرثرة الجريئة، الخجول. ويتمثل الجوهر الأخلاقى لفن ڤالزر فى رفض السلطة والسيطرة، أن شخص عادىّ - أى، لا أحد - هذا ما يعلنه الأشخاص النموذجيّون لدى ڤالزر. وفى «أيام الأزهار» (1911)، يصور ڤالزر تصويرًا نابضًا بالحياة نوع «الأشخاص غريبى الأطوار، الذين تنقصهم الشخصيّة» والذين لا يرغبون فى أن يفعلوا شيئا. و«الأنا» الذى يتواتر فى نثر ڤالزر هو نقيض «أنا» المغرور المزهوّ بنفسه. إنه «أنا» شخص مّا «غارق فى الإذعان». ونحن نفهم طبيعة النفور الذى كان ڤالزر يشعر به إزاء النجاح - المدى الهائل للفشل الذى كانته حياته. وفى «كيناشت» (1917)، يصف ڤالزر «شخصا لا يطيق صبرًا على أىّ شيء». وهذا الذى لا يفعل شيئا كان - بطبيعة الحال - كاتبًا يدعو إلى الفخر ومبدعًا بصورة مذهلة، حجب عن الأنظار إنتاجه الذى كتب أغلبه بأسلوبه التضخيمى المذهل، دون انقطاع. وما يقوله ڤالزر عن اللَّافعل وإنكار أى جهد والكسب دون جهد يشكّل برنامجًا، برنامجًا لا رومانسيًا، لنشاط الفنان. وفى «جولة قصيرة» (1914) يلاحظ ڤالزر: «لسنا بحاجة إلى أن نرى شيئا فيما هو عادىّ. فنحن نرى الكثير جدا من ذلك فى الواقع». وكثيرا ما يكتب ڤالزر، من وجهة نظر شخص جريح، عن الخيال الرومانسى الحالم. وفى قصة «كلايست فى تون» (1913) وهى فى آن معًا: صورة ذاتية وجولة موثوقة فى الصورة العقلية لعبقرية رومانسية محكوم عليها بالانتحار، يصوّر ڤالزر الهوّة التى عاش على حافتها. والفقرة الأخيرة، بتضميناتها الموجعة للغاية، تقرّ بقدر من الانهيار العقلى يضارع فى طابعه الرفيع أى شيء أعرفه فى الأدب. غير أن أغلب قصصه واسكتشاته تعيد الوعى من الحافة. ويمكن ﻟ ڤالزر أن يطمئننا على «نصيبه اللطيف والدمث من الهزل» فى قصّة «عصبي» (1916)، متحدّثًا بضمير المتكلمّ. «النكد، النكد، ينبغى أن يصيب المرء، وينبغى أن تكون لدى المرء شجاعة أن يعيش معه. تلك ألطف طريقة للحياة. ولا ينبغى أن يخاف أحد من نصيبه الضئيل من الحظ العاثر». وتنظر أطول هذه القصص وهى «التجوّل» (1917) - بحيوية غنائية ومزاج متحرّر - إلى التجوّل و«مباهج الحرّية» على أنهما الشيء الواحد نفسه، ولا يحلّ الظلام إلا فى النهاية. ويفترض فن ڤالزر الاحباط والفزع، من أجل (فى أغلب الأحوال) قبولهما - التهكم عليهما، تخفيفهما. وهذه القصص أحاديث منفردة، مرحة بقدر ما هى كئيبة، بشأن العلاقة بالجاذبيّة، بكلا المعنين، المادّى والشخصى، لتلك الكلمة: الكتابة ضدّ الجاذبيّة، تمجيدًا للحركة والتحرّر، وانعدام الوزن؛ الصور القلميّة للوعى الذى يطوف بالعالم، وهو ينعم «بنصيبه الضئيل من الحياة»، التى تشعّ يأسًا. وفى قصص ڤالزر يجد المرء نفسه دائمًا (كما هو الحال فى كثير جدًا من أعمال الفن الحديث) داخل رأس، غير أن هذا الكون - وهذا اليأس - ليس سوى كون أنا وَحْدىّ. إنه مشحون بالحنان: الوعى بإنسانية الحياة، وبالزمالة فى الحزن. «فى أى نوع من الناس أفكرّ الآن؟» هكذا يتساءل صوت ڤالزر فى «نوع من الحديث» (1925). «فى نفسى، فيك، فى كل سيطرة تافهة مسرحية، فى الحريات التى هى لا شيء، فى اللَّاحريات التى لا تؤخذ مأخذ الجدية، فى هؤلاء المدمَّرين الذين لا يفوّتون البتّة فرصة لاطلاق نكتة، فى الناس الذين هم مُحْبّطُون؟». وعلامة الاستفهام هذه التى فى نهاية إجابة هى كياسة نموذجيّة عند ڤالزر. ومآثر ڤالزر هى مآثر الفن الأكثر نضجا والأكثر حضارة. إنه حقا كاتب رائع وحزين. قال ڤالزر عن فنه: أنا نوع من الروائى الحرفىّ. ولا شك فى أننى لستُ كاتب حكايات قصيرة. وعندما أكون متعاطفا، أى عندما أحمل مشاعر طيّبة، فإننى أخيط أو أرصف أو ألحم أو أسوِّى بالفارة أو أقرع أو أطرق أو أثبّت بالمسمار: سطورًا يفهم الناس محتواها فى الحال. وإنْ شئت أمكنك أن تصفنى بالكاتب الذى يذهب إلى عمله ومعه مخرطة. وكتابتى عبارة عن لصق ورق حائط. سيغامر قليل من الأشخاص العطوفين بأن يعُدّونى شاعرًا، الأمر الذى يدعونى التسامح وآداب السلوك إلى التسليم به. وقطعى النثرية لا تزيد ولا تنقص - فى نظرى - عن كونها أجزاء من قصة واقعيّة طويلة بلا حبكة والاسكتشات التى أنتجها من حين لآخر هى فصول قصيرة بعض الشى أو طويلة بعض الشيء من رواية. والرواية التى أكتبها بلا انقطاع هى دائمًا نفس الرواية. ويمكن وصفها بأنها كتاب عن نفسى تمّ تقطيعه إلى شرائح أو تمزيقه إلى أجزاء بأشكال شتىّ. روبرت ڤالزر 6 قصص مختارة Selected Stories من روبرت ڤالزر تذييل: كريستوفر ميدلتون Christopher Middleton كتب روبرت ڤالزر Robert Walser (1878-1956) قرابة سبع، وربما تسع روايات خلال أعوامه الثلاثين ككاتب. ونُشرت ثلاث منها خلال العقد الأول من هذا القرن (1906، 1908، 1909) وجذبت عددًا من العقول الرائعة، ولا سيّما مورجنشتيرين Morgenstern و كافكا Kafka، غير أنها نادرًا مّا كانت تروق لجمهور عريض. وقد نجت رواية واحدة أخرى وحسب من الضياع أو الدمار، وهى (اللصّ) Der Räuber (1925)، التى لم تظهر حتى 1976. غير أن النثر القصير هو الميدان الذى تفوّق فيه ڤالزر. وله بعض الحق فى زعمه أنه إنما يكتب، فى صورة دوّامات مستقلة من النثر القصير، "قصة واقعية طويلة بدون حبكة"، غير أن عبقريته البهلوانية والسويسرية بجلاء كانت تصل إلى أفضل أحوالها فى القصص الصغيرة المنمنمة ذات النبض السريع - تلك الاسكتشات والأحاديث المنفردة والارتجالات والأرابيسكات والنزوات capriccios التى تشكل مجموعاتِه العشر (1904-1925) والمجلدات الأربعة من الإنتاج غير المجمَّع والمتاح حاليًا فى المؤلفات الكاملة Gesamtwerk. كان ڤالزر - إلى حد كبير - شخصًا ثقف نفسه بنفسه، وكان فقيرًا دائمًا، وكان يكرس نفسه لحياته المنعزلة العابثة؛ تماما مثلما كرّس ريلكه Rilke نفسه "لعمله" البغيض. وبين مختلف أنماط النثر القصير فى التراث الألمانىّ، والتى تعود بجذورها إلى حكايات المغامرات الفروسية Gesta Romanorum اللاتينية القروسطية (نسبة إلى القرون الوسطى)، هناك بعض الأنواع التى - مثل البالاد ballad والأغنية الشعبية - تفلِتُ من هذه التمييزات التى كانت تتجه تاريخيًّا إلى أن تخصّص بعض الأنواع الأدبية الأخرى لقرّاء الطبقات العليا أو المتوسطة (على سبيل المثال، الرواية). ولا غرابة فى أن ڤالزر، بنمط حياته الپروليتارىّ وخياله الذى كان خيال أمير، وجد فى النثر القصير ضالته الحقيقية. وفيما يتعلق بالتراث، يفكر المرء فى الحكايات التى تفعِم احتفالات أبراهام آسانكتا كلارا Abraham a Sancta Clara فى القرن السابع عشر؛ والخلاصات الفلسفية من ليشتينبرج Lichtenberg إلى نيتشه Nietzche و ڤتجنشتاين Wittgenstein؛ وحكايات وتقارير يوهان پيتر هيبل Johann Peter Hebe فى أوائل القرن التاسع عشر؛ و"الجروتسكات" التعبيرية ﻟ سالومو فريدليندر Salomo Friedländer (التى سبقتها فانتازيات يوسف پوپر لينكيوس Josef Popper Lynkeus)؛ كما يفكرّ بما لا يقلّ عن ذلك بحال من الأحوال فى أساتذة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فى صحافة التسلية Feuilleton، والانطباعات المنمنمة، والشائعات، والتسليات، والحكايات، والأمثال، وغالبًا مع خيط غنائىّ أخذ يظهر منذ عشرينات القرن التاسع عشر - على غرار النماذج الفرنسية - تحت مواد الأخبار الرئيسية على الصفحة الأولى للصحف كان كل ذلك هو الدُّبال (= المادة العضوية فى التربة) الذى نشأ عنه آخر الأمر النثر القصير ﻟ ڤالزر؛ ونشأت عن ذات الدُّبال، أيضا، إغدراصيلة Yggdrasil(1) الأمثال عند كافكا كان ڤالزر يحتال على العيش بالعمل كمحرّر صحافة تسلية Feuilletonist، وكان يكتب أيضا فى الدوريات، فى برلين (1905-1913)، وفى بيل Biel (1913-1920)، وفى بيرن (1921-1932). ولكن نثره يتخطى، فى تميّزه وحساسيته، الإسكتش أو الانطباع المعتاد فى ذلك الزمن. وما حاولت أن أقوم به فى هذه المجموعة المختارة هو أن أقدّم بعض السطور الرئيسية، أو الإشعاعات، من قوة إبداعه فى النمنمة، من سحره فى الجروتسك، وكذلك من انعكاسه الساخر، أىْ تذبذباته المفعمة بالحياة بين مستويات الحديث - المعتم والشفاف، الجادّ والساخر. ومن المعتقد أنه واحد من أقدم وأبرز الفنانين فى النثر الألمانى فى الهزء بشكل إيجابى من فهمه أن صدق الكتابة يمكن أن يقوّض أو ينفى الشهادة، بينما يتظاهر بأنه يؤيده. والواقع أنه قبل العشرينات من هذا القرن كان الموضوع لا شيء فى نظر ڤالزر، كما هو الحال مع قيثارة تكعيبية أو تفاحة ماجريت Magritte(2) ("هذه ليست تفاحة" "ceci n est pas une pomme"). والفترة الوحيدة التى تنقص هذه المجموعة هى أقدم فترة، 1898-1904 تقريبًا. وربما كان ينبغى إدراج بعض "موضوعات فريتس كوشر" Fritz Kochers Aufsätze ، وكذلك مسرحية منمنة مبكرّة، أو "مسرحية قصيرة" – dramolet وكان ڤالتر بنيامين Walter Benjamin يعتقد أن [أوپرا] شنيڤيتسشن (سنو وايت) Schneewitzchen عميقة ونموذجية. وسوف يجد القارئ فى "هلبلينج" و"البرلينية الصغيرة" - على أقل تقدير - طبعات مُضَخَّمَة من "فريتس كوشر" Fritz Kocher، التلميذ العفريت الذى يفكر بصوت مرتفع والذى يصبح، بعد وقت قصير، المفوّض kommis، أو الكاتب، بوصفه ضحية الظلم والاضطهاد، والذى أسِرَت شخصيته كما صوّرها ڤالزر خيال كافكا. لم يتوقف ڤالزر عن الكتابة عندما دخل بمحض رغبته - مستشفى ڤالداو العقلى فى بيرن فى 1929. فقط عندما تم نقله - قسرًا - إلى هيريزاو فى أبينتسيل، فى 1933، استسلم ڤالزر، أو يمكن القول أنه تحوّل عندئذ من كونه شخصًا غريبًا لا يمكن التنبؤ بأحواله إلى كونه مجنونًا رسميًّا. وكان آخر كتاب "عاقل" يُطبع له هو "الوردة" Dei Rose، فى 1925؛ غير أنه كان يكتب طوال العشرينات بغزارة، وأحيانا بصورة مسعورة، ودائمًا بحيوية بالغة، فى عزلته الغريبة. ونحن ندين ﻟ جوشن جريڤن Jochen Greven ببقاء نمنمات نثرية عديدة من تلك الفترة، تظهر الآن، بالإضافة إلى القطع التى كانت قد نُشرت فى الصحف والمجلات، فى المجلدات الأربعة المنشورة بعد وفالة ڤالزر، وهى: Festzug، و هذيان Phantasieren، و أوليمپيا Olympia، و الأوروپى Der Europāer. وقد اخترت من هذه الكتب نصوصًا عديدة؛ وتواريخها مأخوذة من ذات المصدر. وإلى حدّ مّا فإن روبرت ڤالزر - إذا استخدمنا عبارة أرتو Artoud - "قتله المجتمع". ولا شك فى أنه كان أحد الفنانين الأوروپيين العظام فى اللغة، منذ كريستوفر سمارت Christopher Smart، الذين جازفوا بكل شيء بدلا من المساومة، وربما كان مثل هولدرين Hölderin أو نيرڤال Nerval، مع بعض التأثيرات العصبية-الكيميائية لألم شيطانى. (ولكن ڤالزر كان، فى جنونه، عاقلا بصورة تدعو إلى الدهشة. وذات مرة قال ڤالزر ﻟ كارل سيليش Carl Seelig - الذى أصبح وصيّه القانونى فى أواخر الثلاثينات - عندما سُئل عما إذا كان يكتب شيئا: "لست هنا لأكتب، بل لأكون مجنونًا"). وعلى وجه الإجمال، يقرأ المرء ڤالزر لاختلافه السعيد عن زملائه فى أىّ عصر أو أىّ وضع - لغرابته المطلقة والصافية. إنه يؤلف لغة هى لغته هو الخاصة بصورة استثنائية، حتى عندما تتفق الكلمات فى تراكيبها مع الألمانية السويسرية أو ألمانية جنوب ألمانيا. وقد بذل المترجمون قصارى جهدهم. وإذا تحدثت عن نفسى فإننى لم أسمح لنفس إلا بحرّيات قليلة ولم أسمح لنفسى بهذه الحريات القليلة إلا لكى أبْرز الحركة الباعثة على الدوار لرقص ڤالزر فى اللغة الإنجليزية بجلاء أكثر مما كان سيصبح الحال بدون السماح لنفسى بذلك (وربما أيضا بصورة أكثر طرافة مما قد يستسيغ بعض القراء الوقورين). وتشتمل هذه المجموعة على مجموعة تجوّل وقصص أخرى (1957)، مع بعض التعديلات. ونحن نعبر عن عرفاننا ﻟ چون كالدر چون كالدر John Calder لسماحه لنا بإعادة نشر أربعة نصوص من تلك المجموعة. ونعبر عن عرفاننا أيضا للمجلات الصغيرة التى نشر فيها توم ڤالن Tom Whalen - بعد أن اكتشف ڤالزر فى غابات أركنساس وفهمه - ترجماته بالاشتراك مع آخرين، وهى مجلات: باراتيريا Barataria، شودر ريڤيو Chowder Review، لولاندز ريڤيو Lowlands Review، پاريز ريڤيو the Paris Review، ريت Writ؛ ونعبر عن عرفاننا لمجلة ديلوس Delos التى ظهرت فيها ترجمة هارييت واطس Harriett Watts لأول مرة (1968)؛ ونعبر عن عرفاننا أيضا لمجلة تكساس كوارترلى Texas Quarterly التى ظهرت فيها "قصة هلبلينج" و"سادة وعمال" (1964). ولعل رواية ڤالزر الثالثة: يعقوب فون جونتن Jacob von Gunten (University of Texas Press, (1969)... لعلها تروق القراء الذين استمتعوا بهذه المجموعة المختارة من قصصه. وللحصول على تفسير جديد رائع وبارع التصوير ﻟ روبرت ڤالزر، بوصفه شخصًا يضارع فى العزف ببنانه إريك ساتى Erik Satie(3)، نحيل القارئ إلى بحث جاى داڤينپورت Guy Davenport "حقل من الجليد فى مُنحدَر فى روزينبرج"، فى كتابه: "درّاجة داڤنشى" Da Vinci s Bicycle. كريستوفر ميدلتون إشارات 1: الإغدراصيلة: شجرة دردار تزعم الأساطير الاسكنديناڤية أن جذورها وأغصانها تصل ما بين الأرض والجنة والجحيم - المترجم. 2: رينيه ماجريت: رسام بلچيكى (1898-1967) ينتمى إلى السيريالية - المترجم. 3: إريك ساتى: ألفريد إريك لزلى-ساتى (ويدعى إريك ساتى) مؤلف موسيقىّ فرنسىّ (1866-1925)- مؤلف سقراط (أوراتوريو، 1910)، وحفلة عرض (باليه، 1917) - المترجم. 7 مارسيل پروست بقلم: لونا تشارسكى (مقال) عند نهاية القرن التاسع عشر، أصبح مفهوم "الرواية الفرنسية" محدّدًا تمامًا بصورة رائعة. فربما عالجت الرواية الفرنسية، بطبيعة الحال، موضوعات متباينة وربما تباينت فى الجودة، لكنها، مع ذلك، أصبحت سلعة محدّدة أدقّ ما يكون التحديد. ومهما كان مستوى جودتها، فقد اكتسبت قيمة مستقرّة فى سوق الأدب. وبلغت أصغر الطبعات ألف نسخة، وأضخمها - الملايين. كلّ هذه الروايات ألَّفَتْها سلسلة بأسرها من المواهب، البالغة الأصالة أحيانًا، ونشرتها وباعتها سلسلة بأسرها من التجّار، الفاشلين بصورة ملحوظة تمامًا أحيانا. غير أن الحصيلة الصافية، فى الأغلبية الساحقة من الحالات، كانت نفس المجلد الصغير ذى اللون الأصفر القشّىّ والذى يبلغ حوالى ثلاثمائة صفحة جيّدة الطباعة ويكلف 3.5 من فرنكات ما قبل الحرب - أىْ ما يسمّى بطراز شارپانتييه. وكان الناشرون ينظرون إلى المجلدات الأقلّ أو الأكثر سُمْكا بنفور واضح. وكانوا ينظرون إلى المجلديْن كإهانة شخصيّة. أمّا الأعمال المختارة والكاملة فكان يجرى تقسيمها، بطبيعة الحال، إلى سلسلة من المجلدات من هذا الحجم ذاته. ***** وعندما بدأ رومان رولان Romain Rolland، وهو ثورىّ بكل معنى الكلمة، فى نشر رواياته فى شكل كراسات، من جهة، ومن جهة أخرى فى إطالة عمله چان كريستوف Jean Christophe ليصل إلى اثنى عشر مجلدًا أو أكثر، نظر إلى هذا على أنه حيلة غريبة، ودليل على ضعف المؤلف فى مجال التأليف، وإشارة أكيدة إلى أن عمله لن يحقق نجاحًا. ولا يمكن القول أن هذا الإحياء للرواية الطويلة (البحث عن الزمن الضائع) A la recherché du temps perdu قد حقق نجاحًا فوريًّا. غير أنه لا يمكن إنكار أن هذه الرواية - الجادّة فى محتواها بصورة لا تصدّق إلى حدّ بعيد، والطويلة للغاية (" ليست فرنسيّة على الإطلاق"، هكذا صرخ النقاد؛ "من المؤكد أنه لا يمكن النظر إليها بجدّية على أنها أدب؟") - قد حققت شعبيّة كافية لأن تثبت للناس قاطبة وبصورة واضحة تمامًا أنها أرست سابقة أدبية خطيرة. وقد أشار الناقد الشهير پول سُوداى Paul Souday - معلقًا على سلسة طويلة من الروايات بقلم كاتب مجهول حتى الآن، مارسيل پروست Marcel Proust - إلى أن پروست كان يقتفى، فى ذلك، أثر رومان رولان. ونحن نأمل ألا يكون السيد سُوداى مُخطئًا غير أنه فشل تمامًا، عند ظهور إنتاج رومان رولان لأوّل مرة، فى إدراك كلّ أهميته الأدبيّة والثقافيّة الهائلة. ومن ناحية أخرى، لا بد من الإقرار بأنه كان لديه، حتى بعد أن قرأ المجلد الأوّل وحسب، هاجس بأهمية مشروع پروست الضخم. والواقع أن النقد الأدبى الفرنسى لم يكن لديه بعد أىّ شيء من قبيل إدراك أهميّة ذكريات پروست الهائلة، أو فهم أن "إطنابها" ذاته كان سمتها الجوهرية وشرط فتنتها. ولكن النقد الأدبى الفرنسى طرح فى الواقع، من خلال السيّد سُوداى، السؤال التالى: ألا يمكن أن يكون هذا نوعًا جديدًا من الأدب؟ ثم أليس هذا الخطأ المفزع، هذا "الإطناب"، شيئًا له سمة المزيّة، فى هذه الحالة المحدّدة؟ ثم ألا يمكن أن يكون پروست نوعًا جديدًا من الكاتب من طراز رومان رولان؟ ثمّ ألا يكتب هذان الاثنان من أجل قارئ من طراز جديد؟ إن مجرّد واقع أنّ هذا النوع من الأسئلة كان يطرح أصْلا إنما يُحْسَبُ ﻟ سُوداى، حتى إنْ كان كل ذلك لا يزال مُبْهمًا تمامًا فى واقع الأمر. ***** من المستحيل أن نفهم الطابع الاجتماعى الأدبى ﻟ پروست دون أن نناقش نواحى بعينها فى شخصيّته. كان پروست فردًا - وَلنقلْ فردًا سلبيًّا - من أفراد أسرة برچوازية يهودية بالغة الثراء، ووثيقة الارتباط بأسرة روتشيلد. ولما كان قد أصبح مريضًا عاجزًا بصورة مزمنة فى عمر مبكر فقد كان مُجبرًا على أن يعيش حياة غريبة، ليليّة بكاملها تقريبًا. وكان طوال حياته يجارى معارفه الاجتماعية والأدبيّة لكنْ، بالطبع، بطريقته الخاصة الغريبة. وقد احتلت الشواغل الأدبيّة والثقافيّة مكانة عظيمة فى حياة الرجل المريض، لكنْ ليس إلى مدى أعظم من شواغل التفاخر والتظاهر التى تميّز الطبقة الراقية. ورغم أنّ پروست ظلّ دائمًا رجلا صاحب حساسية مَرَضيّة لا تصدق ونشاط مشلول تقريبًا، فقد كان القسم الأوّل من حياته هو الأكثر حيويّة مع ذلك إلى حدّ بعيد - قبل كل شيء بفضل استرجاعه القوىّ بصورة مذهلة "لكافة انطباعات أقدم أيّامه"، ولكلّ درجة على سُلم المشاعر والفكر. وعندما اقترب من الأربعين، أحسّ پروست أن الانطباعات الجديدة أخذت حيويّتُها تتضاءل بصورة متزايدة. وأصبح الحاضر باهتًا أمام ذكرياته. وكانت هذه الذكريات تتميّز بحيويّة استثنائيّة: لقد بدا وكأنه، بعد موجة الحياة الوافرة الجديدة التى خرجت إلى الشاطئ يعلوها الزبد، ذات مرة، منذ عهد بعيد، من بحر الحظ اللانهائىّ، تلت موجة أخرى، موجة خياليّة هذه المرّة، تكرار دقيق للموجة الأولى من الانطباعات، غير أنها هذه المرّة، مألوفة فى الواقع للحواسّ، ويجرى تحليلها حتى آخر ظلّ بكل معنى الكلمة، كما أنها تعاش ثانية بصورة كاملة وشاملة. وهذه الموجة المذهلة من الذكريات التى تلعب، بطبيعة الحال، دورًا كبيرًا فى كل كتابة إبداعيّة، تصبح فى كتب پروست مُهَيْمنَة ومأسويّة. إنه لا يحبّ وحسب أزمنته الضائعة، بل يعرف أنها ليست "ضائعة" على الإطلاق بالنسبة له، وأنه يمكنه أن يبسطها متى شاء مرة تلو أخرى مثل سجاجيد كبيرة، مثل شيلان، وأنه يمكنه مرّة تلو أخرى أن يلمس بأصابعه هذه العذابات والمباهج، هذه التحليقات والسقطات. ويجلس، مثل الفارس الجشع، وسط خزائن كنوز ذكرياته، وتستحوذ على كامل كيانه بهجة شبيهة جدا فى نوعها بتلك التى جربها بطل بوشكين. والواقع أنّ بيت كنوز ذكرياته هو آثاره الأدبيّة. إنه - هنا - مقتدر بكل معنى الكلمة. فهذا عالم يمكنه أن يضع له حدًّا، أن يعدّله، أن يقوم بتشريحه، بحيث يصل إلى أعماق كل تفصيل من تفاصيله، أن يكبِّره إلى أقصى حدّ، أن يضعه تحت مجهر، أن يعيد صوغه كما يروق له. إنه - هنا - إله، لا يحدّه سوى واقع ثراء هذا التيار الساحر من الذكرى. هذا التنقيح الهائل للنصف الأول من حياته يَضْحَى النصف الثانى. و پروست الكاتب لم يعد يحيا، بل يكتب. أما موسيقى وضياء الموجة الحقيقية للحياة فلا يعود لهما أهمية بالنسبة ﻟ پروست فى أعوامه الأخيرة. والشيء الهامّ هو هذا التفكير المذهل فى الماضى والذى يتواصل فى كلّ ميوله الكثيرة والذى يجدّد بصورة متواصلة هذا الماضى والذى يبدو أنه يعمّق دلالاته. كيف أمكن لملحمة كهذه أن تكون أىّ شيء إلا أن تكون مشتتة تنتقل من موضوع إلى موضوع؟ يبدو كأن پروست قد قال فجأة لمعاصريه: "سأستلقى - بطريقة فنية، مستريحًا، بحرّيّة، مرتديًا رداء بيتيًّا مظرّزًا واسعًا، على أريكة مخمليّة واسعة - وأتذكرّ حياتى من خلال الدورات المتعاقبة بهدوء لعقار مسكنّ معتدل؛ لن أشرب حياتى جرعة واحدة كما يعبّ إنسان كوبًا من الماء، سوف أستمتع بها بالاهتمام المركز الذى يمنحه المرء لنكهة مُركَّبة لخمر غنيّة بشكل فريد." كان ذلك طابع پروست الكاتب من وجهة نظر الشكل. كان ذلك هو العامل المحدّد الأساسى وراء ملحمته الغنائيّة الشهيرة. ***** وبصورة تدريجيّة، أصبح الصفاء الذى لا يُضارع فى موهبة پروست واضحًا جليًّا. وحلّ تبجيل مفعم بالاحترام، ومفعم بنشوة حُنوّ غامر، إنْ جاز القول، محلّ الارتباك الأصلىّ لدى النقاد. فلنلْق إذن نظرة أدقّ على رسالة پروست الأدبيّة، والفلسفيّة، والاجتماعيّة، والأخلاقيّة؛ ماذا يُعَلم وإلى أين يُؤدّى. سيهز الپروستيّون المقتنعون أكتافهم، بالطبع، عندما يسمعون مثل هذه الأسئلة" "إنه لا يعلِّم شيئًا، ولا يؤدّى إلى أىّ مكان، ولا يحظى أىّ شيء من هذا القبيل بأدنى أهمية بالنسبة له. حقا، يا لهؤلاء الماركسيين!" وعلى هذا نجيب: "إنه يؤدّى ويعلِّم على حدّ سواء، وحتى عن عمد إلى حدّ ما. حقا، يا لهؤلاء الشكليّين الماكرين!" ***** ما كنا نحاول لتوّنا أن نعبِّر عنه فى كلمات - ما يشكل سحر، وقوّة، وجوهر، ومبدأ المدرسة الپروستيّة - هو ثقافة الذكرى. وقد أكد أعظم ممثلى مختلف الآداب موهبة، أكثر من مرّة، الصلة الوثيقة إلى أقصى حدّ بين الفن والذكرى (هوفمان Hoffmann و كلايست Kleist مهمّان بصورة خاصة فى هذا الصدد)، ووجدوا دعمًا بين الباحثين. وهنا يمكننا أن نميّز بين سمتين اثنتين. الأولى هى الدافع الملحّ لدى الفنان إلى قهر الزمن والسيطرة على اللحظة: "تمهّلى قليلا، فكم أنت جميلة!" أو، إنْ تحدّثنا بشكل أوضح: "أنتِ ذات أهميّة، أنت جديرة بحياة خارج نهر هرقليط حيث لا شيء يظلّ مماثلا لنفسه أكثر من لحظة، أنتِ جديرة بأن تصطادك من هذا النهر اليدُ الإلهيّة للفن وبأن توضعى وحدك فى عالم مختلف - عالم القيم الجماليّة الثابتة". والسمة الثانية هى الرغبة فى إعادة صياغة الواقع بمساعدة الفنّ، أو، كما يقول التعبير الشائع، فى خلق عالم جديد. هبة الذوق الممتاز، واختيار تلك الأحداث التى تجدر بالخلود من مجرى التيار العام، وامتلاك القدرة على تحويل الخاصّ والزائل إلى العام والأبدىّ - ذلك جوهر الفنّ (وهذا تعريف قريب من ذلك الذى قدّمه هيجل). فالفن لا يعنى فحسب تخليد الموضوع الذى يتم العثور عليه فى الواقع ثم تطويعه لأسلوب بعينه فيما بعد؛ فهو أيضا عمل من أعمال الخلق. ولا يتسع المجال هنا لبحث العلاقات المتبادلة المعقدة بين الواقعيّة الفنيّة والخيال الفنى. بل نقول ببساطة إن الخيال الفنى، فى رأينا، مُسْتمدّ من خبرة الفنان بالواقع، وإنه حقا العامل الرئيسى فى إعادة الصياغة التى يجب إخضاع الواقع له إنْ كان له أن يحقق البقاء فى نظر المؤلف. هناك، بطبيعة الحال، أكثر من نوع واحد من الفنان. وفى الرسائل المتبادلة بين جوته Goethe و شيللر Schiller اتضح مدى أهمية التمييز بين أولئك الذين يسيرون من الواقع إلى التعميم، وأولئك الذين يبدأون بالتعميمات ويحاولون أن ينفخوا فيها الحياة الحقيقيّة. وبطبيعة الحال، يلعب الخيال، والأسْلبًة، وأحيانًا مجرّد الابتكار، دورًا كبيرًا فى إنتاج پروست. غير أنه، إجمالا، واقعىّ. وكما سبق أن قلنا، يتمثل سحر وذات جوهر عمله الإبداعىّ فى الذكرى. ومثل كلّ عنصر آخر من عناصر التكوين النفسىّ للإنسان، تعدّ الذكرى فِعْلا مفعمًا بالحياة ومراوغا. وحتى فى مجال البحث، وبصفة خاصّة فى التاريخ، يضعنا ذلك وجها لوجه أمام عدد كبير من أهمّ المشكلات. ونترك هذه الأخيرة لحظة، لنأخذ شيئا موضوعيًّا إلى حدّ ما كنقطة انطلاق: شهادة شاهد عيان، تاريخ حياة جرى جمعه من الذاكرة من أجل شهادة أمام محكمة. يعرف الجميع أن شهادة شاهد عيان، أو تاريخ حياة، أو أىّ نوع آخر من الوثيقة، أشياء مظللة وتميل إلى أن تكون ذاتيّة. وفيما يتعلق بأىّ عمل من أعمال التاريخ يطمح إلى "إثبات الحقيقة النهائيّة"، تعدّ الذكريات الموثوقة أساسًا جوهريًّا؛ على سبيل المثال، لا تكون ذكريات تاريخيّة بعينها ذات قيمة من وجهة النظر هذه إلا إنْ كتبها شاهد عدْل بينما تكون الأحداث لا تزال حيّة فى ذاكرته وفى هذا المجال، يتطلب البحث العلمىّ إجراء مقارنة مع روايات شهود عيان آخرين، ويعذبنا، من حين لآخر، الافتراض الشكىّ بصورة شيطانية والقائل إنه، حتى مع مقارنة الشهادة وحتى على أساس المادة الوثائقيّة، يظلّ من المستحيل أن نعيد بناء ما حدث فى الواقع، فلا يمكننا أن نقدّم إلا تصويرًا تقريبيًّا عنه. أمّا الذكريات الأدبيّة فهى مختلفة تمامًا. ويمكنها ألا تبالى بالرواسب التعليمية للجنس الأدبى المرتبط بالذكرى وأن تندمج مع تلك الفئة الواسعة من الكتابة والتى حدّدها جوته بكل توفيق على أنها الأدب والحقيقة Dichtung und Wahrheit. وكان عنوان هذا الكتاب، الذى هو أعظم كتاب للذكريات المنظمة تمتلكه الإنسانيّة بفضل جوته، موضوع بعض الجدل. قد جرى تأكيد أن كلمة الأدب Dichtung فى العنوان تعنى كل ذلك القسم من الكتاب الذى كان المؤلف يكتب فيه عن إنتاجه، بينما كانت كلمة الحقيقة Wahrheit تغطِّى ذلك القسم المخصّص للوصف المباشر للأحداث. غير أنّ الأمر ليس كذلك إطلاقًا. إن جوته لا ينكر أن حياته الإبداعية قد أعطيَت فى مذكراته تفسيرًا خاصًّا أو أنه ليس دقيقًا دَوْمًا فى تناوله للوقائع لأنه، فى أغلب الأحيان، كان المنطق الداخلى والمعنى الكامن وراء ذكرياته أكثر أهمية بالنسبة له من محاولة إعادة بناء الحقيقة الدقيقة عَبْر الشظايا الضبابية من الذاكرة. تلك هى الطريقة التى جاء بها إلى الوجود ذلك العمل العظيم الذى كان يمكنه أن يحمل عنوان "البحث عن الزمن الضائع" A la recherché du temps perdu. ولا حاجة بنا إلى القول إن الذكريات الأدبيّة المطوّلة ﻟ مارسيل پروست والتى نشرت فى الواقع تحت ذلك العنوان لا يمكن أن تقارن مع الصّرْح الكلاسيكى ﻟ جوته، سواء من حيث المحتوى أم من حيث المنهج والتقنية. و پروست انطباعىّ، و پروست يعشق "أناه الحىّ" الذى ليس فى حدّ ذاته صحيحًا أو محكم البناء بصورة خاصّة، بل هو، على العكس من ذلك، مُراوغ، متقلِّب، وأحيانًا مُكتئب بصورة مَرَضيّة. وهذا هو السبب، فيما يتعلق ﺑ پروست، فى أنّ البنية الكاملة، التامّة، لا معنًى لها إلا بقدر ما تحمل الاتساق إلى سلسلة من اللحظات المنعزلة، أو، أحيانًا، إلى أنساق كاملة من اللحظات، لكنّها بلا هدف فى حدّ ذاتها. لقد مات پروست. وكان قد أتمّ إنجاز ذكرياته لكنها لم تطبع كلها حتى الآن. ولسنا إلى الآن فى وضع يسمح لنا بأن نلقى نظرة شاملة على كامل البنية التى كنا نتحدّث عنها منذ قليل. غير أنه يمكننا فى الواقع أن نتنبّأ بكل ثقة بأن ذكريات پروست سوف تدهش الناس بالثراء النابض لمحتواها أكثر مما ستفعل بأىّ استنتاج عام يمكنها أن تقود إليه. ولا يعنى هذا أن ذكريات پروست لا شكل لها، أو أنها ليست سوى كومة ضخمة وامضة من أشياء رائعة الجمال. لا! فأوّلا، حاول هذا الفنان الرائع أن يعطى العمل بأسره وحدة أسلوب محدّدة، وأن يجعلنا نشعر أن العمل الضخم بأسره هو مع ذلك تصوير "لشخصيّات حيّة". ثانيًا، أدخل پروست نظامًا محدّدًا فى تقسيم الكلّ إلى أجزاء كبيرة - وإنْ لم يكن موفقا تمامًا فى ذلك من وجهة النظر الفنيّة. غير أن هذه النقطة هى آخر ما قصدنا أن يستحوذ على اهتمامنا هنا. ***** عند پروست، فى حياته كما فى فلسفته، كان أهم شيء هو الشخصيّة الإنسانيّة، وفى المقام الأوّل، شخصيّته هو. الحياة، أوّلا وفى المقام الأول، هى حياتى. وبنفس الطريقة تمامًا، تصبح الحياة الاجتماعيّة الموضوعيّة، أيّة حياة موضوعيّة، حياة العالم قاطبة - نوعًا من مَزْج "حَيَوَاتى". وبوصفه تلميذ برجسون Bergson، وهذا ولاء لم يُنعم التفكير فيه قط على نحو حاسم داخل عقله (پروست، رغم أنه كان يمتلك موهبة فلسفيّة هائلة، ليس فيلسوفًا)، ينظر الكاتب إلى الحياة على أنها بساط رائع نسجَ من الحيوات الذاتيّة التى تتحدُ لتشكل كلا أبديًّا، ومتناغمًا مأخوذًا ككلّ. وفى نظره، يتسم الوجود بسمة لايبنتسيّة (نسبة إلى لايبنتس Leibnitz) إلى حدّ مّا. وبالطبع، كانت صلة پروست ﺑ لايبنتس عن طريق ديكارت و پاسكال، غير أن هذا لا يصنع سوى فرق ضئيل أو لا فرق على الإطلاق. إن ما نجده أمامنا هو ذاتيّة القرن السابع عشر ذات السمة الواقعيّة، الرائعة، بالغة العقلانيّة وبالغة الحسّيّة، والتى نجد طبعة منقحة منها عند فرنسيِّى عصر تال - وبصفة خاصة عند هنرى برجسون. ومنذ البداية الأولى، يباشر مارسيل پروست بحثه عن الأزمنة الضائعة ليس لكى يعيد خلق عصر (ذلك هدف ثانوىّ بالنسبة له) بل لكى يعيش حياته مرة أخرى على مستوى يتميّز بعمق ونكهة خاصّيْن، وفى الوقت ذاته، ليأخذ القارئ معه، إن جاز القول؛ ولهذا فإذا كان لنا أن ندرك كامل معنى هذا العمل الأدبىّ، تصبح مسألة الحامل الأساسىّ للعمليّة بُرمّتها، مسألة الشخصية، مسألة "شخصيّتى" على وجه الخصوص، ذات أهمية من الدرجة الأولى. لنلاحظ هنا والآن أن پروست رغم أنه، بوصفه عقلانيًّا، كان بعيدًا عن أن يكون غريبًا عن مشكلات المعرفة، لم يجعل مثل تلك المشكلات موضوع إنتاجه فهى تظلّ، بوجه عام، فى خلفيّة الصورة. أمّا مقدّمة الصورة فهى مُخصّصة للمتعة التى يخلقها العمل الإبداعىّ للفن، ولمتعة هذه التجربة الثانية الجديدة المنقحة فنيًّا للحياة، ولمتعة العمل الأدبىّ ذاته والذى عُهد إليه، بدوره، بأن يقوم بإحياء الماضى بكل نضرته وكماله، بحيث يجرى فهمه من الناحية الجماليّة - إنها علمية تذوّق وتجربة من جانب العقل والحواسّ. هذا هو السبب فى أن الجانب المفضل لدى پروست فى كتبه المدهشة هو نوع من التصوير السينمائىّ لذكرياته. وهنا، لا أحد يضارع پروست. فالواقع أنه يستسلم، راقدًا فى الفراش، والقلم فى يده، لنوع من عملية التصوير السينمائى الخلاقة التى تستدعى على قدم المساواة وبكل قوّة، العين، والأذن، والعقل، والعواطف. وهو يمثل دوره شخصيًّا، وهذا الفيلم، حياتى، جرى إنتاجه بسخاء وعمق وحبّ لم يسمع بمثلها. وفى حين يُوجَّه إليه مثل هذا اللوم حتى من جانب النقاد المطبوعين على حبّ الخير، فإن الإيقاع الهادئ، وغنَى التفاصيل، وأحيانًا الطول الغريب على الغاليّين فى الجملة، التى تمتد لتشمل كل شيء يحتاج إلى أن يرويه لنا، إلخ.. - كل هذا يتدفق بشكل طبيعى من هذا الجانب من عمله، المنتمى إلى التصوير السينمائىّ. والواقع أن پروست قد أفسد اللغة الفرنسيّة قليلا. ولا يعطى أشياعُهُ أهمية كبيرة للإيجاز، والتألقّ، والمنطق. غير أن موضوعه ككاتب كان مختلفًا، وهكذا كان أسلوبه بالتالى. وأسلوب پروست - بتناغمه الغامض، الغَروَىّ، المعسول، وحلاوته العطرة الرائعة - هو الأداة الوحيدة الملائمة لإغراء عشرات الآلاف من القرّاء بالانضمام إليك بحماس فى أن تعيش مرة أخرى حياتك التى لا تنطوى على أهميّة خاصّة، واجدين فيها أهمية مّا فريدة، مستسلمين لهذه المتعة الطويلة المتواصلة ببهجة لا تُخْفِى وجهها. (1934) 8 پروست مؤرّخًا اجتماعيًّا بقلم: أندريه موروا (مقال) "بلزاك صوَّر عالما؛ پروست يصوِّر العالم". فى هذا، باختصار شديد، يكمن جوهر التهمة الموجهة ضده. ويقول المعارض ﻟ پروست: "فى روايته، نجد وصفا دقيقا لبعض قاعات استقبال عالم الأريستقراطية والشرائح العليا من الطبقة الوسطى كما تُرى فى تلك المناسبات النادرة حيث يجتمع معا أصحاب المقامات الرفيعة والمراتب السامية، كما نجد دراسة لنوع من العواطف التى تزدهر فى جوٍّ من الفراغ المتخم: الحب وقد جرى الهبوط به إلى مرتبة مرض، غيرة، تعاظم. ونحن لا نجد فيها، ولن نجد فيها، التصوير الحقيقى لمجتمع. والحقيقة أن عالم الفراغ يختفى الآن بسرعة، ومع موت آهليه ستتلاشى عواطفهم المصطنعة، وأمانيهم الهزيلة. رجال الأعمال، العمال، الفلاحون، الجنود، العلماء، رجال الدولة المحافظون، الثوار - تلك هى الأنماط التى يتألف منها مجتمعنا الآن. بلزاك تنبأ بهذا التغير: پروست غافل عنه". ويشير پيير أبراهام إلى أنه إذا كان سان سيمون قد اهتم، مثل پروست، بعالم محدود النطاق، عالم البلاط، فهو يعرضه على الأقل فى حركة، وكذلك فى وقت كان فيه ذلك العالم مسرح الأحداث الكبرى. ورجال البلاط عند سان سيمون رجال لهم درب حياة، رجال بدأوا رحلة كسب النفوذ، ومن بين صفوفهم يجرى تجنيد الوزراء والقادة العسكريين. أما أبطال پروست فإنهم يبدِّدون حياتهم فى الجرى وراء جولة اجتماعية "خالية من الأهمية بقدر ما هى عقيمة". "وهنا وهناك قد نجد محاميا، طبيبا، دپلوماسيا، لكننا لا نراهم أبدا وهم يمارسون مهنهم. ولا يجرى أبدا إطلاعنا من الداخل على مكتب محام أو حجرة وزير. وما يجرى تقديمه إلينا هو المجتمع كما يُرى من حجرة تمريض تعزل جدرانها المبطنة بالفلين أصوات الحياة. إننا إزاء أرض معارض تُرى من خلال عينىْ لوسيان ليڤى- كير"(1). وصحيح أن العمل، فيما عدا عمل الفنان، غائب عن عالم پروست. غير أننا نعرف، من الطريقة التى تظلّ روايته تسيطر بها على مشاعرنا، وبحكم جاذبيتها العالمية، أنه لا بد أن هناك إجابة ما على مرافعات الادّعاء الألمعية هذه. ينبغى أن ندرك، أوّلا، أنه ليس بمستطاع روائى، مهما كانت القماشة أمامه واسعة، أن يصوّر كل شيء. فالرجل ليس أكثر من رجل، والحياة قصيرة. ولا يمكن لرواية أن تشتمل إلا على عدد محدود من الشخصيات. حتى بلزاك يقصر عن وصف المجتمع بأسره كما كان قائما فى زمانه. وعلى صفحات رواياته يطلع علينا بالصدفة صانع حرفىّ، أو فلاح منعزل، أو نحو ذلك، غير أن الأدوار التى يلعبونها ثانوية. وربما عرف بلزاك الكثير عن كواليس السياسة، غير أنه لم يبُح بما عرف. أما حياة الجندى فإن چول رومان يروى لنا، فى ڤردان، عن هذا الموضوع أكثر مائة مرة مما فعل بلزاك فى زمانه. والحقيقة أننى، دون أية رغبة فى الانتقاص من قامة بلزاك، ألفت الأنظار إلى هذه الفراغات فى قماشته، وإنما ذلك لكى أبيّن كم يكون من المستحيل حتى لكاتب عبقرى أن يقدم لنا أىّ مجتمع بكامله. على أنه ليس صحيحا أن نقول إنه، عند پروست، لا يُقَدَّم إلينا سوى رجال ونساء من العالم وخدمهم. واسمحوا لى بإجراء تعداد تقريبى لعالمه. وتلعب الأريستقراطية دورا فيه، وسيكون من الخطأ أن نلوم پروست على ذلك. والحقيقة أن عائلاتنا القديمة لا تزال تشغل مكانا فى حياة الأمة. وربما كان أوج جمهورية الدوقات قد انتهى فى 16 مايو، لكنها ما تزال قادرة على الحركة. وقد شاركت فى مغامرة بولانچيه، وكانت متورطة فى قضية دريفوس. وحتى فى الوقت الحالى لها نصيبها فى مختلف الخدمات العامة. وقدّمت طليعيِّين حتى فى الحزب الشيوعى. وقد فهم پروست الأهمية التاريخية لهذه الطبقة الهامة. وليس دقيقا أن يقال إن كتابه يصف انحطاط النبلاء وانتصار البرچوازية. وعندما تتزاوج مدام ڤيردوران أو چيلبيرت سوان مع آل جيرمانت فإن آل جيرمانت هم الذين يستوعبون هذين العنصريْن الأجنبييْن. ولم يكن پروست غافلا أبدا عن نقائص آل جيرمانت. ورغم ابتهاجه بتهذيب عالم الأريستقراطية وسحره السطحى وهما سِمَتان كان هو ذاته يمتلكهما، كلتيهما، كما ظلت حساسيته الحادة إلى حدّ مؤلم بحاجة ماسّة إليهما، رأى پروست بما يكفى من وضوح ما ارتكزت عليه العادات الرفيعة التهذيب لعالم الطبقات العليا، وكان ذلك يتمثل دون شك، من الناحية الجوهرية، فى الكبرياء، واللامبالاة، وإحساس عفوى بالتفوق. وأدرك، أيضا، السرّ فى أن النبلاء ظلوا يعقدون مثل تلك الأهمية الخيالية على تفاصيل حق احتلال مركز الصدارة. وحيث إن آداب السلوك هى ركيزتهم الوحيدة فإنهم لا يملكون إلا أن يحترموها. ويعتبر آل جيرمانت واجبًا "أهم من العفة أو الرحمة أن نخاطب أميرة پارم بضمير الغائب". وحدّد پروست بوضوح، داخل نطاق الأوساط الأريستقراطية، الطبقات المتراكبة من الاستخفاف: أصحاب السمو الملكى، والعائلات الكبرى (آل جيرمانت)، والفروع الذاوية من نفس الشجرة (جالاردون)، ونبلاء المقاطعات (كامبريمير)، والهامش المتبدل من ذوى الألقاب المشكوك فيها (فورشڤيل)(2). وعلى هذا الهامش تعيش الطبقة الوسطى الپاريسية، وهى سريعة التأثر بالجاذبية التى يتسم بها النبلاء. ومن هنا شارات النبالة التى زادها لمعانا الذهبُ الجديد للتزاوجات؛ ومن هنا تحوُّل مدام ڤيردوران إلى دوقة دورا، وفى وقت لاحق إلى أميرة جيرمانت. غير أن "البرچوازية الصلبة"، خاصة خارج پاريس، لا رغبة لديها فى تحقيق تغيرُّ طبقى. ويصيبها بصدمة مشهد سوان، ابن سمسار البورصة، وهو "يتصرف كما يحلو له" فى ضاحية سان چيرمان ويتعشى فى قصر الإليزيه. ذلك أنها تؤمن بالرأى القائل بأن ابن سمسار البورصة ينبغى أن يعاشر سماسرة البورصة. "إن فقدان المرء لمنزلته الاجتماعية لا يعنى أيضا أن يعاشر أولئك الأدنى منه منزلة، بل يعنى أيضا أن يشقّ طريقه إلى داخل طبقة عليا لا ينتمى إليها: والقاعدة مطلقة"(3). ولا يخطر أبدا ببال هذه الطبقة الوسطى أن بوسعها "تحسين نفسها"، لأنها ترفض أن تتعرف على أىّ شيء أحسن منها. وتعلن أوساط طبقة كومبراى الوسطى، حتى إنْ كانت لا تمارس، مبادئ أخلاقية صارمة. وهناك "قانون" كومبراى محدّد تماما ينحنى أمامه الجميع - فرنسواز، وأسرة الراوى، والدكتور پيرسيبيد. ويجرى تمثيل "الناس" بصورة غير وافية. والصورة الوحيدة بالحجم الطبيعى فى هذا النوع هى تلك الخاصة ﺑ فرانسواز، وهى امرأة ريفية نقلت إلى پاريس الأسلوب المحلى المميز لعالمها، أىْ طبعة محدثة من التقاليد المرتبطة "بأهل" سان- أندريه ديه شامپ. لكن تلك الصور الفرنسية المنقوشة فى رواق الكنيسة القائمة ليس بعيدا عن كومبراى لها سمة أبدية. "كم كانت فرنسية إلى حد نموذجى تلك الكنيسة! ففوق بابها كانت صًور القديسين، والملوك الفرسان بزنابق فى أيديهم، ومشاهد الزفاف، والجنازات، منحوتة ربما مثلما كانت فى عقل فرنسواز. كما أن النحات كان قد سجّل حكايات من أرسطو و ڤيرچيل، تماما كما كان يمكن ﻟ فرنسواز فى مطبخها أن تشرع فى الحديث عن القديس لويس وكأنها كانت تعرفه هى نفسها، عادة لكى تنتقص، فى تناقض صارخ معه، من قدر أجدادى، الذين كانت تعتبرهم أقلّ <استقامة...>"(4). وفى رواق سان-أندريه ديه شامپ يتعرف مارسيل ﺑ تيودور، صبى المتجر عند كامو. ويثير الطابع التاريخى "للناس" اهتمام پروست ليس أقل مما يفعل الطابع التاريخى للنبلاء. وتنظر فرنسواز إلى الحداد نظرة "أنشودة رولان". و ألبيرتين سيمونيه تجسيد للبنت الفلاحة الفرنسية الصغيرة المنحوتة فى الحجر فى سان-أندريه ديه شامپ. ويثبت سان-لو، أثناء الحرب، أنه رجل فرنسى ينتمى إلى سان-أندريه ديه شامپ... وحتى مارسيل نفسه. وهكذا فغير صحيح ما يقال من أن پروست كان لا مباليًا إزاء الحياة العامة والوطنية لعصره. وهو يأخذ على عاتقه أن يصوّر تأثيرات انقلابيْن مفاجئيْن مثل قضية دريفوس والحرب على المجتمع الفرنسى. وبعيدا عن أن يكون بلا وجهات نظر فى السياسة، ظلّ پروست يطور فكرة هامة وهى أمُّ كل سلام اجتماعى هى الفكرة القائلة بأن المجتمع مرن بصفة جوهرية؛ وأن قِيَمه نسبية وفى حالة تغيُّر متواصل؛ وأن الحياة العاطفية للشعوب ليست أقل جنونا من تلك الخاصة بالأفراد. غير أن البشر يرفضون، وقد أعمتْهم أهواؤهم، أن يدركوا أن العواطف عابرة ولا طائل تحتها. "ربما كنا نعلم أن الثورات تنتهى دائما إلى حكومات استبدادية، وأن الأحزاب تنحلّ، وأن النزاعات تتقادم، وأن خصوم اليوم سيصبحون، بحكم ضرورات قاهرة، حلفاء الغد. لكن هذا لا يمنعنا من أن نلعب حتى النهاية بضراوة أو حماس الأدوار التى ألقت بنا من أجلها مصادفة الولادة أو تأثيرات الصداقة". ولأنه كان إنسانا ليس إلا، شارك پروست فى الماضى الجمعى. وكان موقفه من الحرب موقف رجل فرنسى، ومن قضية دريفوس موقف رجل متحزب. غير أن ذكاءه كبح مشاعره بصورة كافية لإنقاذه على الأقل من هستيريا الكراهية ومثل هذا الموقف له طابع سياسى، وهو محدّد للغاية. أمّا المعارض ﻟ پروست الذى يحتج قائلا: "كل هذا لا يُثبت إلا ما كنتُ أقوله: إنه يعلق على كافة هذه التغيرات السياسية، لكنْ فقط ضمن حدود عالم صغير جدا"، فيمكننا أن نردّ عليه بلا صعوبة. إن پروست ليس مهتما بهذا "الوسط" الاجتماعى أو ذاك بقدر ما هو تواق إلى اكتشاف وصياغة القوانين العامة التى توجّه الطبيعة البشرية. ذلك أن هناك، لدى كافة البشر، تطابقًا جوهريا، بحيث يمدّنا تحليل دقيق للغاية لأىّ واحد منهم بأثمن توثيق يمكننا الحصول عليه عن الكل. ومن عمود فقرى واحد، من صورة تخطيطية واحدة، يمكن أن نتعلم التشريح. ولا نحتاج إلا إلى دراسة مزاج واحد، قلب واحد، لنتعلم كل ما ينبغى أن نعرف عن الحب، عن الغرور، عن ذُرَى الإنسان وأعماقه. فالتجربة تعلمنا أن الغيرة كما عرفها سوان، أو تعاظم آل ڤيردوران، أو تعاظم ليجراندان، أن عاطفة الراوى المعذبة نحو أمه، يمكن أن نجدها، بأشكال متماثلة على الأقل إن لم تكن متطابقة، فى كافة الأوقات ولدى كل شعب. وملاحظات پروست الخاصة بالتعاظم قيلت فى العالم الذى اتفق أنْ كان عالم پروست، عالم آل جيرمانت وآل ڤيردوران، أما قوانين التعاظم فهى واحدة تقريبا لدى كافة الطبقات وفى كافة البلدان. وبمجرد أن تتكوّن أية جماعة بشرية يكون هناك أولئك الذين ينتمون إليها وأولئك الذين لا يفعلون. ويتوق المنبوذون إلى أن يكونوا مقبولين؛ ويحمى المقبولون امتيازاتهم وينظرون بازدراء إلى المنبوذين. ويصدق هذا على عالم الأريستقراطية الذى يتمثل "مفتاحه السرى" ("افتح يا سمسم") فى الميلاد أو الإنجاز، لكنه لا يقلّ صدقًا على جمعية أمريكية حيث تمثل عضوية رابطة بذاتها طموح المتعاظم، أو على نقابة عمالية حيث تتخذ القرارات الحيوية حلقة داخلية صغيرة من الخبراء سيودّ الأعضاء الآخرون كثيرا أن ينتموا إليها. ولا تهمّ كثيرا مسألة مع أية جماعة اجتماعية أجرى پروست أبحاثه. أما الاستنتاجات التى توصّل إليها، بافتراض المعاملات والمؤشرات الصحيحة، فإنها تكتسب شرعية عامة. وقد أثبت فيرنانديز أن العلاقة القائمة، عند پروست، بين فرد رفيع المواهب وأية جماعة بذاتها تمتثل دائما لنفس القوانين، مهما كانت تلك الجماعة. وهكذا فإن "العصابة الصغيرة" تقلل من شأن الراوى تماما كما أن عالم الطبقات العليا "ليس مدلهًا بحبّ" مسيو دى شارلو، لأن كافة الجماعات تفرغ من الفرد المتفوق. ومن الخطأ أن نعتقد أن الكتاب لا يكون عظيما إلا لأن الأحداث التى يصفها هامة. "إن كاتبا من الدرجة الثانية سيظلّ، مهما عاش فى فترة مآثر ملحمية، كاتبا من الدرجة الثانية". وهناك، فى نظر المراقب العلمى، اختلاف فى الحجم، لكن ليس فى الأهمية. ودراسة نوع من الظواهر تلقى الضوء على نوع آخر. "لكل وضع اجتماعى أهميته المثيرة، وربما كان مُرْضيا بنفس القدر لفنان أن يصور أسلوب حياة ملكة وأن يصوّر العادات اليومية لخيّاطة". وأثناء الحرب، اكتشف مارسيل أن مشاجراته مع فرنسواز أو مع ألبيرتين أكسبته، عن طريق تدريبه على الارتياب فى أنهما تحتفظان بأفكارهما لنفسهما، زيادة فى قدرته على أن يتنبأ بمكائد وليام الثانى أو فرديناند ملك بلغاريا. أما حياة أمة من الأمم فهى "تكرّر ليس إلا، وعلى نطاق أوسع، حيوات خلاياها المكوِّنة: وذلك الذى يعجز عن فهم لغز الفرد، وردود أفعاله، والقوانين التى تحدّد اتجاهاته، لن يكون بوسعه أبدا أن يأمل فى أن يقول شيئا يستحق الإصغاء إليه بشأن نضالات الشعوب..." وهكذا حدث ما يلى: أن پروست، الذى لم يتباه أبدا بالكتابة عن مشكلات اجتماعية، يقدم أكثر كثيرا وأفضل كثيرا من كثير من المفكرين الوقورين المنشغلين بتوافه الأمور والذين لا يتعاطون سوى تجريدات. "انتهيت إلى نتيجة مؤداها أننى لم أكن بحاجة إلى أن أشغل نفسى بكافة النظريات الأدبية المختلفة التى ظلت، لفترة قصيرة، تلحّ علىّ - خاصة تلك التى جرت صياغتها أيام قضية دريفوس بالهدف المعلن المتمثل فى <انتزاع الفنان من برجه العاجى>، فى إقناعه بأن يتخلى عن أمور تافهة من قبيل دراسة ردود الفعل العاطفية، وبأن يشغل نفسه، بدلا من ذلك، بالحركات الكبرى للعمال المنظمين، أو، أنْ لم يشعر بأنه مؤهل للتعامل مع البشرية كجموع، بأن يصوّر على الأقل ليس الحمقى المترفين" (قال بلوخ: "أعترف بأن كل هذا التصوير لأشخاص عديمى الجدوى لا يؤثر فىّ") "بل أريستقراطيِّين مثقفين أو أبطالا. إن الفن الحقيقى يمكن أن يتجاهل مانيفستوات من هذا النوع: ذلك أن الفن الحقيقى إنما تجرى ممارسته سرًّا..." وفى هذا الكتاب العظيم، يمكن للقارئ التواق إلى معرفة المجتمع الفرنسى أن يجد صورة لذلك المجتمع كما كان قائما بين سنتىْ 1880 و1919 عندما كان لا يزال يعيش فى ماض أعطاه معنًى وجمالا. أما أولئك الذين يبحثون عن إعلان عن القوانين العامة التى تحكم النشاط البشرى فلا يمكن أن يفوتهم أن يجدوه فى كتابات أعمق أخلاقىّ ظهر فى فرنسا منذ القرن السابع عشر. أما أولئك الذين يريدون، كما يفعل أغلب قراء الروايات، أن يجدوا عند مؤلفهم حساسية مرهفة متعاطفة فإنه يمكنهم أن يقتسموا معها قلقهم وألمهم، فسوف يجدون عند پروست ما يبحثون عنه، وهم ممتنون للحظ الذى أتاح لهم الاتصال بواحد من أولئك "الشفعاء" العظام الذين هو الفنانون الحقيقيون. ولا شك فى أن الواقع الذى يصوره پروست - وهو واقع خاص به هو ذاته - فريد وخصوصى. غير أنه إذا كان صحيحا أن الشرور التى يصارعها البشر لا تكون أبدا نفس الشيء بالنسبة لهم جميعا، وأن ما هو حسن للواحد منهم لا يكون أبدًا حسنًا على نحو مماثل بالنسبة للآخرين، فليس أقلّ صحة أننا جميعا نشترك فى طبيعة نفس البشرية، وأنه لا يمكن لأحدنا أن يظل لا مباليا إزاء الشهادة التى يسوقها رجل صادق العزم "يرتحل بعين قوية الملاحظة على طريق يؤدى إلى اكتشاف نفسه، مصطدما بكل عقبة، متعثرا فوق كل حفرة، ضالا طريقه عند كل مفترق طرق"(5). وبصورة لا تقل عن "ڤيلهيلم مايستر" [رواية ﻟ جوته - المترجم]، وبصورة أكمل من روايات ستندال، تعتبر [رواية] "البحث عن الزمن الضائع" عملا تجريبيا بكل وضوح، رغم أنها فى الوقت ذاته، شأنها فى ذلك شأن "مقالات" مونتانىْ أو "اعترافات" روسو، تُبلور رأيا عن المأزق البشرى، وتقدّم لتأملنا ميتافيزيقا لعلم الجمال. والحقيقة أن الإنجليز، والأمريكيِّين، والألمان، الذين رأوا من الملائم أن يضعوا قصة السيرة الذاتية البالغة الضخامة هذه فى مكانة أعلى من أعمال أناتول فرانس، و پول بورچيه، و موريس باريس، وكافة الكتاب الفرنسيين فى عصرهم، لم يكونوا مخطئين. إشارات 1: Pierre Abraham, Proust, Recherches sur la création intellectuelle, Paris (Reider), 1930. 2: Henri Bonnet, Le Progrès spirituel dans l æuvre de Marcel Proust: Le monde, L amour et L amitié, Paris (vrin), 1946. 3: Henri Bonnet, op. cit. 4: Swan s Way, I. 5: Pierre Abraham, op. cit. 9 حول الأسلوب فى السينما عن فيلم "الأمل"، إخراج: أندريه مالرو، وهو مقتبس من روايته "الأمل" بقلم: أندريه بازان فى كتابه Le Cinéma Français de Libération à la Nouvelle Vague (1945-1958) [السينما الفرنسيّة من التحرير إلى الموجة الجديدة (1945-1958)] و المقال منشور فى الأصل فى (Poésie 45, no 26/27, août-septembre 1945) (تقديم نُشِر فى: مجلة القاهرة، 15 أكتوبر 1986) تدور الدراسة التالية حول تجربة أدبيّة-سينمائية فريدة: قيام الأديب الفرنسى المعاصر أندريه مالرو André Malraux بإخراج روايته الشهيرة "الأمل" L Espoir فى السينما. و أندريه مالرو (1901-1976) روائى عظيم (رواياته: الغزاة، الطريق الملكى، قدر الإنسان، عصر الاحتقار، الأمل، أشجار الجوز فى آلتنبورج)؛ ومؤلف أعمال جماليّة (أربعة كتب عن الفنون التشكيليّة بعنوان مشترك هو "أصوات الصمت"، بين أعمال أخرى)؛ وهو أيضا كاتب اللامذكرات الشهيرة، وكان وزيرًا للشؤون الثقافيّة فى فرنسا من 1959 إلى 1969. ولا تقتصر علاقة مالرو بالسينما على هذه التجربة، فهو مؤلف كتاب "سيكولوچيا السينما" الذى يصف مؤلف هذه الدراسة - بفضله - مالرو بأنه "الكاتب المعاصر الذى كان أفضل من تحدّث عن السينما" وهو لا يرى ذلك من قبيل المصادفة لأن مالرو فى نظره "كانت توجد صلات عميقة بين أسلوبه وبين لغة الشاشة". أمّا أندريه بازان André Bazīn (1918-1958) فيوصف بأنه أشهر ناقد سينمائى فرنسى فى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، وقد مات فى ريعان شبابه، فى الأربعين من عمره، ويُعَدُّ بازان الأب الروحى "للموجة الجديدة" التى انتشرت وازدهرت بعد وفاته مباشرة فى فرنسا، وقد أسّس مع زميله دونيول فالكروز مجلة الثقافة السينمائيّة الشهيرة "كراسات السينما" Cahiers du Cinéma. (تقديم أحمد بدرخان لكتاب: ما هى السينما؟ تأليف: أندريه بازان، ترجمة: الدكتور ريمون فرنسيس، مكتبة الأنجلو المصرية 1969، الجزء الأول). وﻟ أندريه بازان مؤلفات عديدة منها: چان رينوار، أورسون ويلز، تشارلى تشاپلن، سينما القسوة، سينما الاحتلال والمقاومة، ما هى السينما؟ (وقد نُقل الجزءان الأول والثانى من هذا الأخير إلى اللغة العربية - الطبعة المذكورة أعلاه - ويتألف كتاب: ما هى السينما؟ من أربعة أجزاء: الأول عن نشأة السينما ولغتها والثانى عن السينما وعلاقتها بالفنون الأخرى، والثالث عن علاقات السينما بالمجتمع والرابع عن الواقعيّة الجديدة). أمّا الكتاب الذى نقلنا عنه هذه الدراسة فهو كتاب: السينما الفرنسيّة من التحرير إلى الموجة الجديدة Le Cinéma Français de Libération à la Nouvelle Vague (1945-1958)، ويدور حول نشاط المخرجين الفرنسيّين البارزين فى هذه الحقبة، وهو من منشورات "كراسات السينما" (مطبوعات l Étoile)، عام 1983. ونقف قليلا عند تجربة فيلم "الأمل". فى كتابه "أندريه مالرو: شاعر الغربة والنضال" - دار المعارف بمصر (1971) يتحدّث مؤلفه فؤاد كامل (وهو أيضا مترجم روايتيه "قدر الإنسان" و"الأمل" إلى لغتنا) عن رواية "الأمل" التى صدرت فى عام 1937 فيقول: "ويروى فيها الأحداث التى تعاقبت فى الشهور التسعة الأولى من الصراع الإسپانى (الحرب الأهليّة الإسپانيّة). وقد احتفل بعيد ميلاده الثامن والثلاثين بإخراج هذه الرواية فيلمًا اشترك معه فى تصويره فى برشلونة المصوّر الفرنسى لوى پاچ Louis Page. بيْد أنّ الحكومة الفرنسيّة فرضت حظرًا على عرض هذا الفيلم، فأعاد دنيس ماريون إخراجه مرة أخرى عام 1938" (ص 27/28). والواقع أن فيلم "الأمل" ظلّ الفيلم الوحيد الذى أخرجه أندريه مالرو طوال حياته، على عكس ما تمنىّ عليه أندريه بازان من مبادرة إلى تصوير رائعته الروائيّة الأخرى: "قدر الإنسان"، لكنْ بصورة تتفق تمامًا مع إحساسه العميق بأن هذا الفيلم يظلّ فيلمًا عبقريًّا يتيمًا من أفلام الهواية. وفى مقدمته المعنونة "أسلوب أندريه بازان" لكتاب "السينما الفرنسية من التحرير إلى الموجة الجديدة"، يشير چان ناربونى Jean Narboni إلى أن بازان هو مبتكر مفهوم "سينما غير خالصة" فى مقاله الشهير "نحو سينما غير خالصة" الذى حمل أيضا عنوانا فرعيا هو "الدفاع عن الاقتباس". ويؤكد ناربونى أن بازان لا يكتفى بتسجيل أمر واقع جديد فى مجال السينما الفرنسية فى فترة ما بعد الحرب (كثرة "الاقتباسات" السينماتوجرافية) بل يربط هذا الواقع بالحركة التطورية للسينما بمجملها. وإذا نظرنا إلى فيلم "الأمل" من منظور مفهوم بازان فلن يكون سوى "سينما غير خالصة"، سوى "اقتباس". غير أن هذا ليس كل ما فى الأمر فمؤلف الرواية هو أيضا مخرج الفيلم. وهكذا تتجاوز تجربة "الأمل" حدود الاقتباس، ويقول بازان: "يعبر مالرو عن نفسه أكمل تعبير فى فيلمه وفى كتابه، دون أسبقيَّة لأحدهما على الآخر. وليست المسألة بالنسبة له مسألة اقتباس بل هى مسألة إبداعيْن يرتبطان به على قدم المساواة. كما أن أوجه الشبه التى شدَّدْنا عليها تمثل بالأحرى تناظُرا بالنسبة إلى محورٍ للإبداع يتشعب أسلوب مالرو عنده بطريقة مماثلة إلى شكلين مختلفين للتعبير". فالفيلم، إذن، ليس اقتباسا بل هو "أصيل أصالة رواية أو لوحة" كما يقول بازان أيضا. على أن بازان يتساءل فى مقاله المعنون "نحو سينما خالصة" عن التأثير العكسى للسينما على أدب كُتّاب مثل دوس باسوس، أو كالدويل، أو هيمنجواى، أو مالرو، ويعلِّق قائلا: "إن طرافة فيلم مثل "الأمل" الذى كتبه مالرو، هى أنه يُظْهِر لنا كيف تصبح السينما إنْ هى استوحت موضوعاتها من القصص "التى أثَّرت فيها السينما" (ما هى السينما؟ الجزء الثانى، الترجمة العربية ص ص 11-12)! وتدور الدراسة بكاملها حول الأسلوب فى السينما. ومن خلال المقارنة بين أسلوب مالرو فى الأدب وأسلوبه فى السينما تناقش الدراسة دور الحذف فى السينما (وفى الرواية المعاصرة) ثم تنتقل إلى دور المقارنة (والمقابلة) وتقف أخيرا عند أهمية الرواية التى كانت تشهد تصفيتها على أيدى السينما التجارية (الأمريكية والعالمية). والواقع أن الهواية قدَّمت للشاشة البيضاء أعمالا عبقرية لم تكن (الهواية) تظهر فيها "من خلال فقر الوسائل التقنية أو نقص الخبرة، بل من خلال صلة بعينها بين العمل الفنى ومؤلفه". وكان فيلم "الأمل" – فى رأى بازان من أروع إنجازات الهواية – فهو كما يشعر بازان فيلم عبقرى من أفلام الهواية "مع أنه قد تم تصويره فى الإستوديو، بممثلين ومدير تصوير محترف". ويشهد أندريه بازان لتجربة "الأمل" بالنجاح الباهر على مستوى الفن (وكان الفيلم نصف ساقط من الناحية التجارية) ويقول: "رغم بعض التحفظات، يظل فيلم "الأمل" عملا فنيا ذا أصالة هائلة تُضارع أصالة الكتاب". أما رأى أندريه مالرو فى دراسة بازان فهو أنها تمثل "أبرع وأرهف دراسة خُصِّصتُ لهذا الفيلم". المترجم حول الأسلوب فى السينما عن فيلم "الأمل"، بقلم: أندريه بازان شدَّد كثير من النقد المكتوب عنه حتى الآن، وبكل حق، على صلة القرابة بين الكِتاب والفيلم وتناول جوهر العمل ذاته، قيمته الأصلية والتجديد الذى منحه طابعُ المعاصرة إيّاه، وهى أحكام قلَّما كان بوسعى، وقد أتيتُ متأخرا قليلا، إلا أن أكررها. غير أن "الأمل" عمل ذو قيمة كافية للصمود أمام الفحص التفصيلى. ولهذا فإننى سوف أنظر كأمر مفروغ منه إلى الترحيب شبه الإجماعى الذى أحاط بظهوره فى ماكس ليندر Max-Linder وسوف أكتفى بإبداء بعض الملاحظات الأسلوبية التى لا بد، فيما أعتقد، أن تصل بنا إلى نتائج مهمة. وليس من قبيل المصادفة أن يكون مالرو هو الكاتب المعاصر الذى كان أفضل مَنْ تحدَّث عن السينما. ذلك أنه كانت توجد صلات عميقة بين أسلوبه وبين لغة الشاشة. وأعتقد أنه كان أول مَنْ لفت الأنظار إلى دور الحذف ellipse فى السينما والمكانة المتعاظمة لهذا الشكل فى الرواية المعاصرة (ولا سيَّما فى رواياته). غير أن هذه الصلة تكشف فى التجربة عن خلط لم يخطر قط على بال أحد من قبل بصورة قبْلية a priori. وربما كان الحذف فى فيلم مالرو لا يتضمَّن تأثيرا ومحتوى جماليا أقلّ مما فى الكتاب غير أنه لا يؤثِّر فى الصورة تأثيرا عميقا دون تأويلها تأويلا تعسُّفيا. وأعتقد أن هذه المقاومة غير المتوقعة من جانب التعبير السينمائى لنَقْل فنٍّ يقوم على الحذف (= حَذْفِىّ) elliptique قد تنير لنا السبيل فيما يتعلق بناحية مهمة من نواحى الأسلوب الأدبى والسينمائى. وقد حلَّل كلود-إدموند مانْيِى Claude-Edmonde Magny تحليلا عميقا هنا أيضا مغزى الحذف فى الأدب المعاصر: تحطيم إمكانية وجود معنى، إدخال العدم بين الأشياء واللحظات. ولا شك فى أن ميتافيزيقا الحذف ليست نفس الشيء عند مالرو، وعند كامو Camus وعند فوكنر Faulkner على سبيل المثال. غير أنه يبقى أن جميع الروائيِّين المعاصرين يرغبون فى أن يُدْخِلوا فى السرد، بواسطة الحذف، نوعا من الانقطاع الزمانى والمكانى فى آن معا من شأنه أن يمنع عقلنا من أن يُنظِّم الواقع بصورة أوتوماتيكية وفقا لمنطق معين للظواهر، يمنعه من أن يعطيه معنى. وأكثر من جميع الآخرين، يصدر علم جمال مالرو عن اختيار متقطع للَّحظات. وينقطع تسلسل الرواية عن قصد. ولا تدلّ الحلقات المحطمة من السلسلة إلا على مرور حدث لا ينجح القارئ، حتى اليقِظ، فى إعادة بنائه بصورة كاملة، أبدا. غير أنه كثيرا ما يبدو أن السينما لا تعانى الانقطاع. فرغم بنائها المقسَّم إلى "لقطات" plans يميل الوصف السينمائى ميلا متعاظما إلى أن يُجَنِّبنا الانقطاعات. والواقع أن تعبير "التقطيع" découpage (ديكوپاچ) المستعمل فى لغة المهنة للدلالة على تتابُع اللقطات المنصوص عليها قبل الإخراج تعبير لامنطقى. ويستخدم الأمريكيون بدقَّة أكثر كثيرا تعبير "الاستمرار" continuité. زدْ على ذلك أننا نلقى الحاجة إلى التلاحق السلس وبلا انقطاع للقطة وراء أخرى فى فكرة "الوصل" raccord. غير أن الحذف الأدبى يُدْخِل فى الواقع فجوة يملؤها القارئ عقليا لكنها مؤلمة فى عقل المُشاهد. وأرى لذلك سببيْن واضحين على الأقل: وَضْعُنا السلبى إزاء الصورة، نفورنا الطبيعى من الجهد العقلى أمام الشاشة، ومن التتابع الرتيب للصُّوَر. ذلك أن الصورة هى التى ينبغى أن تحرِّك خيالنا، وليس الوساطة غير المباشرة للذكاء. فهذا الأخير، مهما يكن استعداد أو شجاعة المُشاهد، يجد نفسه مع ذلك مُعاقا من الناحية العملية بالاتجاه الواحد للمشهد. حيث تجرى مراجعة جملة صعبة فتضيع بصورة نهائية سلسلة متتالية من اللقطات تقوم بصورة مفرطة على الحذف السينمائى ويبدو حقا أن الحذف السينمائى ينبغى، كىْ لا يستدعى إلا خيالنا، أن يظل مجسَّدا مكانيا أكثر منه زمانيا. ويمكن التعبير فى السينما عن اغتيال إنسان بواسطة يدٍ ترتخى قبضتها على سماعة تليفون. وتظل هذه الإيماءة-الإشارة ذات صلة مباشرة وعصرية بالحدث الذى توحى به، فهى لا تقطع عنه الاستمرارية. والواقع أن الفجوات الحقيقية فى النص السينمائى نادرا ما تكون محسوسة بوصفها حذوفا. يهبط رجل من عربة ويجتاز عتبة بابه. وتُرينا اللقطة التالية هذا الرجل داخلا حجرته. والواقع أن صعود السلَّم، واجتياز البهو، إلخ..، تكون فى نظر المُشاهد المعاصر عبئا ثقيلا لا طائل تحته. وإذا كان منطق الدراما يقتضيه فإن المخرج يمكنه، مع ذلك، أن يستخدم بصورة قصدية هذا الوصف الموضوعى كحشو مثير للعواطف (إذا عرفنا مثلا أن الرجل سوف يجد زوجته قتيلة فى مسكنه). وعندما يسأل الطيَّار المشوه، فى الفيلم، مانيان Magnin عما إذا كانت لديه مرآة، نرى الكاپتن يفتح حقيبته كأنما ليبحث عنها، ويُخرج منها برشاقة مرآة صغيرة مستديرة، ونراه يعيدها إلى الحقيبة من جديد ويجيب قائلا: "لا". وندرك تماما، فى هذا المثل، النشاط الضرورى للذكاء الذى ينبغى أن يُعيد بناء الدوافع الأخلاقية، والذى لا يترجمه شيء بصورة مجسَّدة. حقا إن الحذف هنا، مهما كان عقليا، يظل مع ذلك مفهوما بسهولة، غير أنه فى حالات أخرى يجرى اجتياز حدّ الانتباه. ويعزو نقاد الفيلم وحتى منفِّذوه غموضه إلى ظروف خارجية: لقطات عديدة لم يكن بالمستطاع تصويرها. ولا شك فى أن المسألة ليست مسألة أن تعرف ما إذا كان الفيلم يصبح أكثر وضوحا إذا أمكنه أن يلتزم بالسيناريو بكل دقة. وأعتقد أحيانا أن الفجوات، حتى العرضية منها، تلعب آخر الأمر، وعلى وجه التحديد، نفس الدور الذى تلعبه الحذوف المحسوبة. والواقع أن كل فيلم آخر فى هذه الشروط كان سينتهى إلى السقوط، أما هنا فقد أسهمت هذه الشروط، على العكس من ذلك، فى وحدة الأسلوب، واقتربت بالفيلم من الكتاب، الذى لا يوجد فيه، فى الواقع، أدنى غموض. ولأنها تستدعى الذكاء أكثر مما تستدعى الخيال فإن حذوف مالرو مفهومة بصورة بالغة التفاوت من جهة أخرى. وقد شاهدتُ عدة مرات عرض الفيلم أمام جمهور مثقف نسبيا، وكان يصدمنى دائما واقع أن مَشاهد بعينها تبدو واضحة وغامضة، دون أسباب ظاهرة. وعلى سبيل المثال، كان مقتل صاحب الحانة الفاشى على يد الفلاح مفهوما من جانب البعض وظل ملغزا بالنسبة للآخرين. ولا شك فى أن أولئك الذين كانوا لا يفهمون كانوا أغبى من الآخرين، بل ربما كان ذلك لأن سرعة انتباههم السيكولوچية المحددة لإدراكهم، لم تسمح لهم بتدخّل حىّ بما فيه الكفاية من جانب ذكائهم. وقد جرى توجيه كثير من النقد إلى المَشاهد "الإيضاحية" التى تصاحب الفيلم فى الوقت الحاضر، بزعم أنها تفسِّر الحدث دون جدوى ولا توضِّح شيئا على الإطلاق. غير أن هذا النص كان قد قام بصياغته دينى ماريون Denis Marion على أساس الأبحاث التى أمكنه أن يقوم بها بعد أن كان قد عرض الفيلم عدَّة مرات على مُشاهدين يُوصفون بأنهم "مثقفون". وكان من المحتم ألَّا تُرضى هذه الشروح أحدا، ذلك أن "غموض" اللقطات فى هذه الشروط يكون ذاتيا للغاية ومرتبطا بسيكولوچيا كل شخص على حدة. ولم يكن بوسع أىّ مذكّرة إيضاحية أن تُزيل هذا الغموض. هذا هو السبب فى أن فيلم مالرو يظل أدبيا للغاية، ليس بسبب ثراء أو أسلوب حواره، بل ليس بسبب السيناريو أو سيكولوچيا الشخصيات، بل بشكل متناقض لأنه كان يلزمه أن يمتلك مزيدا من فن التصوير السينمائى: استعمال حذف بصرى يحتفظ معه فى الواقع بالبنية العقلية للحذف الأدبى. زدْ على ذلك أن هذا التأكيد ليس بالضرورة عذرا. ولا جدال فى أن هذا الخرق لقوانين السينما له مُقابل إيجابى فالحصر المفروض على ذهننا، ونوع السادية أو القوة اللتين ينطوى عليهما هذا النضال ضدّ الخيال، وحتى الغموض الماثل فى فقرات متعددة، تُضفى على هذا العمل هالة، باهرة أحيانا. غير أن تلك مباهج ربما كانت عقلية، مشروعة بلا شك، لكنها ليست داخل الخط المستقيم للفن السينمائى المفهوم على أنه شعبى "بالضرورة". أما التجّار الذين كانوا يرفضون الفيلم فكان يمكنهم أن يجدوا عذرا فى ذلك لو أنهم لم يجهلوا فى الوقت ذاته عنصر نجاح فى ذلك، غير أنهم لم يعودوا حتى يلحظونه: السموّ والأصالة. لكننى وعدتُ بألّا أتحدث إلا عن الأسلوب! والواقع أن الحذف لا يكفى لتعريف مالرو وأسلوبه. وينبغى أن نضيف إلى ذلك، على الأقل المقارنة. ويمكن لإحصاء سريع عن مفرداته النحوية أن يُبَيِّن الاستعمال المتواتر للرابطة "comme" (مثل، ك..) أو مجرد المقابلة، التى لا تمثل سوى حذف هذه الرابطة. ولغة مالرو لغة مجازية بصفة خاصة. وأوصافه مقارنات دائمة تقريبا. وإليك عبارتين من فقرة قصيرة مأخوذة من مشهد مهاجمة المدافع من جانب عربة پويج Puig. "من خلفه وبين عويل لاهث للأبواق والكلاكسات، وصلت سيارتا كاديلاك بالخط المتعرج المعفر لأفلام العصابات... بقايا سوداء وسط بُقع من الدم، ذبابة مسحوقة على الجدار". "كان رجال الميليشيا ينسحبون وهم يرشحون عَرَقا، فى جو غرفة المراجل، جذوعهم العارية المرصَّعة ببقع من الضوء مثل الفهود المرقَّطة ببُقع سوداء". على أن تحليل مغزى المقارنة عند مالرو من شأنه أن يقودنا إلى أن ندرس فى نفس الوقت ما يمكننا أن ندعوه بتعبير مبهم للغاية "بالمقابلة". فالمقارنة نفسها ليست سوى مقابلة بين الواقعى والخيالى ترتكز على التشابه. لكنْ بالنسبة للعقل، ألا ينطوى التضاد ذاته على تشابه ذاتىّ؟ يستخدم مالرو الصور، الواقعية والخيالية، كديكور يُقْصَدُ به أن يُضفى على الحدث أو الموضوع الموصوف من وجهة نظره الجمالية أو الميتافيزيقية. وعندما يقول لنا إن رجال الميليشيا – فى الهجوم المفتوح على إحدى الساحات – سقطوا "مثل" صَيْد، أو يشير إلى رجال الميليشيا هؤلاء... وهم يطلقون أمامهم سربا من الحمام، والبشر والطيور يغطون الأرض، مُصابين بنفس رصاص الرشاشات فإن المقابلة، بالتشابه الخيالى أو المنتمى إلى الواقع، تتمتع فى نظر الكاتب بنفس المغزى العميق. ويكتب مالرو فى مؤلَّفه "سيكولوچيا السينما" Psychologie du cinéma: "يمكن تحليل إخراج روائى عظيم، سواء كان موضوعه عرض الأحداث، أو التصوير، أو تحليل الشخصيات، بل حتى تساؤلات عن معنى الحياة، وسواء كانت موهبته تميل إلى شيء من التوالد، مثل موهبة پروست Proust، أو إلى شيء من التبلور، مثل موهبة همنجواى Hemigway، فهو مدفوع إلى أن يصف – أىْ إلى أن يلخِّص وإلى أن يُخْرِج – أىْ إلى أن يردّ إلى الحاضر. وأنا أدعو الإخراج الذى يقوم به أحد الروائيِّين الاختيار الغريزى أو المتعمد للَّحظات التى يرتبط بها وللوسائل التى يستخدمها ليعطيها أهمية خاصة". والواقع أن الردّ إلى الحاضر وإعطاء معنى لا يمكنهما، لدى الفنان، إلا أن يكونا نفس الشيء الواحد حيث ُإن الحاضر ليس مبرَّرا إلا على أساس المعنى الذى يمنحه إياه. غير أن هذا المعنى، عند مالرو، الكاتب، يوضع تحت الضوء بطريقتين رئيسيتين: إحداهما منطقية، الأحاديث والحوارات التى تنهمك فيها الشخصيات، والأخرى التى سأدعوها جمالية، المعنى الذى يتولد بصورة ضمنية من المقارنات والمقابلات. وسواء كانت هذه الأخيرة خيالية أو واقعية، تظل قيمتها نفس الشيء فهو يكتب مثلا "وخلف جارثيا Garcia وعلى الذراع الممدود لأحد الوعّاظ، كانت لفافات المدفع الرشاش تجف كما تجف البياضات. علَّق سترته الجلدية على السبابة الممدودة" (L Espoir, p. 95 "الأمل"). والواقع أن المقارنة الخيالية والمتناقضة فى الجملة الأولى تلعب فى "الإخراج نفس الدور الذى تلعبه المقابلة المتناقضة كذلك لكنْ الواقعية فى الجملة الثانية". ماذا يمكن أن يكون العرض البصرى على الشاشة لهذا الإخراج الأدبى؟ هناك ملاحظة أولى تفرض نفسها: لا تعرف السينما إلا ما هو واقعى مادامت الصور تصير فيها واقعية بصورة موضوعية. والوسائل التى تستخدمها للتعبير عما هو خيالى مختزلة للغاية وذات قيمة جمالية مشكوك فيها: فالمزج التركيبى surimpression أو الحركة البطيئة le ralenti أو المخزون السالب la pellicule négative أو الخِدَع البصرية trucages optiques ليست مقبولة إلا فى أحوال نادرة للغاية، ولا يمكن طرح مسألة استخدامها فى عمل من هذا النوع. أما الرواية فهى على العكس من ذلك ولا تعالج إلا ما هو خيالى مادامت الأحداث الحقيقية أو المتخيلة تُنقل إلينا بواسطة كلمات. وينجم عن ذلك أن المقارنة بالمعنى الشكلى والكلاسيكى سمة أدبية بصفة خاصة وأن الرابطة "مثل" comme قلَّما يكون لها ما يناظرها فى علم نحو الفن السينمائى la syntaxe cinématographique (1). وتزعم دعوى قديمة من دعاوى مَنْ يزدرون السينما أنها تَدَع خيالنا سلبيا، مادامت مُجْبَرة على أن تقول كل شيء. ولن يجد القارئ هنا، إذا كانت لا تزال هناك حاجة إلى ذلك، دحضا إضافيا لهذه الدعوى. وفى غياب القدرة على تشكيل الصورة التى توحى فى حد ذاتها بالموضوع الذى تصوِّره بدقة متناهية، يضطر الفنان إلى أن يترك للمُشاهد أمر العناية بالاهتداء إلى هذه القدرة. لكنْ ما هى الضمانة التى يملكها بأن المُشاهد سوف يهتدى إليها حتى بأن يتنبه إلى البحث عنها بكل بساطة؟ هنا أيضا تُوَجِّه التقنية ونتائجها السيكولوچية ما هو جمالى. فالمُشاهد لا يملك الوقت فى السينما للتوقُّف للتفكير مليًّا. كما أن الصورة لا يمكنها أن تستدعى الذكاء الإرادى. وهى لا ينبغى أن تثير سوى العضلات الراكدة للوعى. ويكون السينمائى قد حقق هدفه عندما يثير التصوير الفوتوجرافى فينا بصورة تلقائية التداعيات المأمولة. وأنا أقول التداعيات لأن الصورة فى أغلب الأحيان لا تزال أكثر ارتباطا بالواقع من أن تكون متَّهمة بأىّ تعدد مجازى فى المعانى. ومع ذلك فنحن لا نختار فى أكثر الأحيان بين الصور الممكنة، فهى لا تصل حتى إلى إدراكنا غير أنه يجرى الإحساس بصورة مبهمة بواقعيتها، وهذه الأخيرة هى التى تمنح الصورة كثافتها الجمالية. وبالقصة، تكون السينما فنًّا للحذف، غير أنه بقدر ما هى نقل مجسَّد للواقع، تكون السينما فنًّا للمجاز الحقيقى. غير أنه إذا كانت المقارنة الأدبية محظورة على الشاشة فإن مقابلة واقعيْن حقيقييْن، يستمدان أهميتهما من وضعهما متجاوريْن، تُعَدَ على العكس من ذلك شكلا مفضَّلا فى السينما. وشأنه فى ذلك شأن الكِتاب، بفيض الفيلم بهذه التداعيات الحسية. الصمت الذى يقطعه نداء حشرات زيز الحصاد فى أعقاب صخب الطيران، ورحيل الطيور المهاجرة قبل هجوم الطائرات المعادية، ولاسيما هذه النملة النادرة المثال والتى لا تُنْسَى وهى تدب فوق جهاز تصويب المدفع الرشاش. بل يمكن أن نقول إن الوسائل السينمائية تخدم مالرو هنا أفضل من الأدب، بدليل الاختيار المتعمد لمقابلاته. وكثيرا ما يجرى عند الرجوع من الإنسان إلى الطبيعة، إلى النباتات، إلى الحيوانات، وكثيرا جدا ما يكون هذا الرجوع چيولوچيًّا أو فلكيا. ولا شك مطلقا بالتالى فى أن الإيحاء الأدبى يظل متخلفا عن العرض الحسى. إنها موضوعات يظل فيها الخيال بحكم الضرورة تقريبا أدنى مرتبة من الإدراك الحسى (الأفلام التسجيلية الخاصة بالحرب برهنت لنا ذلك بوفرة). ومنها الطِّباق (كونتربوا) le contrepoint اللاإنسانى (بوسعنا أن نقول الكونى) والذى يمزج به مالرو دائما الحدث الإنسانى؛ لقد وجد فى السينما ذروة تعبيره وقوة تأثيره الفنية. على أنه تبقى هنا وهناك مقارنات ضمنية ربما كانت تتعلق بالتعبير الأدبى أكثر مما تتعلق بالتجسيد. وهى لا تُلحق ضررا بفيلم ولن أنظر إليها إلا بوصفها أمثلة يمكن للمرء أن يلمس فيها حقا ازدواج مالرو الكاتب والمخرج السينمائى. فعندما يُجرح أحد حملة مدافع الطيران الرشاشة يطلب منه رفيقه أن يصنع لنفسه رباطا ويقذف له بعلبة التضميد، "مثل قطعة من الحجر" كما يقول الكتاب. غير أنه، فى الفيلم، استحوذت هذه المقارنة بوضوح على مالرو. فعلبة الأدوية مسطحة، ويقذف بها الممثل بشكل أفقى. ومن المستحيل على المُشاهد الذى قرأ الكتاب قراءة متأنية ألَّا يُكمل قائلا فى سره "مثل قطعة من الحجر". ومن المحتمل أن مخرجا سينمائيا آخر يتصدى لتنفيذ هذه السلسلة من اللقطات، لم يكن ليحتفظ من المشهد إلا بقيمته الدرامية ولم يكن ليقيِّد نفسه باحترام صورة لا ينبغى أن تصطدم بالمُشاهد غير المنتبه. ويمكن أن نلقى أحيانا فى تمثيل الممثلين مقاصد تتبع حرفيا توجيهات الكِتاب، غير أنها تظل ألطف من أن تخرق الشاشة. لا ينبغى، مع ذلك، أن نعتقد أن هذا الفيلم يستحق اللوم على كونه "أدبيا" بالمعنى المعتاد والازدرائى بوجه عام للكلمة. فالارتباط والتلازم الوثيق بين العملين الفنييْن ينضمان فى أكثر الأحيان إلى مآثر الفيلم. والحقيقة أن تأثير الأدب على السينما ليس بالشيء الجدير بالاستنكار إلا عندما يكون على حساب التعبير السينمائى. وهكذا فعندما يحلّ الحوار محل التعبير المجسد، يفضل المخرج الكلام على إيحاء الشخصيات من خلال الحدث والاستغلال المعبِّر للديكور وللأشياء. زدْ على ذلك أن بعض الروائيِّين ليس لديهم ما يكسبون من الاقتباس السينمائى لأعمالهم، بالقدر الذى لا تنفصل قيمتها عن الكلام. ذلك أن سيكولوچيا الشخصيات التى تُبدعها تلك الأعمال، ومأساتها، والعالم الذى تعيش فيه، تحددها وسائل التحليل التى تتيحها الكتابة للفنان. وهذا جلىّ واضح فيما يتعلق برواية تحليل واستبطان التقاليد الفرنسية. ومن جهة أخرى، غالبا ما يُساء فهم القيمة السينمائية لهذه الرواية أو تلك: كان لا بد من نصف دزينة من الأفلام لإدراك أن مؤلفا مثل چورچ سيمنون George Simenon لم يكن من السهل اقتباسه بقدر ما كان يعتقد من قبل. وهناك موضوعات بعينها أدبية فى حد ذاتها وسوف تجعلنا الأفلام التى يمكن اقتباسها منها نأسف دائما على الأصل. وليس هذا حال فيلم مالرو. فرغم تقيُّدٍ بالكِتاب لا يمكن أن يُنسب حتى لمقتبسى روايات إينرى بوردو Henri Bordeaux، يظل فيلم "الأمل"، رغم بعض التحفظات، عملا فنيا ذا أصالة هائلة تضارع أصالة الكِتاب. ولا شك فى أن هذا يعود إلى ذات فن مالرو، إلى إخراجه لكاتب يميل – بعيدا عن المونولوجات الطويلة، المحذوفة من الشاشة بطبيعة الحال – إلى رصد مشبوب العاطفة للناس والأشياء، وإلى نوع من الموضوعية المتحيِّزة والدرامية، ويلائمه التعبير البصرى، غير أننى أرى السبب الأكثر عُمقا وراء ذلك فى الصلة التى يحافظ عليها الفنان هنا مع أثره الأدبى. ويعبِّر مالرو عن نفسه أكمل تعبير فى فيلمه وفى كِتابه، دون أدنى أسبقية لأحدهما على الآخر. وليست المسألة له مسألة اقتباس بل مسألة إبداعيْن يرتبطان به على قدم المساواة، كما أن أوجه الشبه التى شددنا عليها تمثل بالأحرى تناظُرا بالنسبة إلى محور للإبداع يتشعب أسلوب مالرو عنده بطريقة مماثلة إلى شكلين مختلفين للتعبير. ولا شك فى أن خبرة ومزاج الكاتب مالرو وهما ماثلان أصلا فى الشخصيات، قابلان للجدال من وجهة النظر السينمائية، وبحذوفه، وببعض الرموز، بل حتى بأخطائه ذاتها، يعطى هذا الفيلم انطباعا بأنه إبداع مباشر، أصيل أصالة رواية أو لوحة. والمقصود بكل معنى الكلمة عمل فنى وأسلوب. والأسلوب سمة أكثر ندرة فى السينما منه منه فى الفنون الأخرى لأنه التعبير الأكثر صميميّة (بعد الخطاطة la graphologie) عن شخصية المبدع؛ ويتوسط تعقيد التقنيات والمساعَدات المتعددة اللازمة أيضا بين المخرج والعمل الفنى. والدليل على ذلك هو النزاع الذى لا ينتهى من جانب مؤلف الفيلم. وقد يكون لعمل فنى جماعى "نوع من" الأسلوب غير أن من المستحيل تقريبا أن ينجح المخرج الرئيسى فى أن يفرض نفسه بصورة كافية على الفريق حتى يتوصل العمل الفنى إلى أسلوب "واحد" شخصى كما هو الحال فى الفنون الفردية. وليس بالأمر النادر أن يكون فيلم الهاوى هو الذى يصل، ومن المفارقات أن ذلك بفضل فقر وسائله، إلى حرية فى التعبير لا تسمح بها الماكينة الثقيلة للفيلم التجارى، وكان هذا أيضا حال الفيلم الصامت، الأقل خضوعا للتقنية وحيث كان المونتاچ (وهو لحظة فردية تماما من لحظات الإبداع) يلعب دورا أكبر. غير أنه كان يبقى فى كثير من الأفلام الصامتة شيء من الهواية. وسوف نرى ذلك بوضوح فى عمل ڤيجو Vigo(2) ولنا أن نتساءل عما إذا كانت أزمة النمو الحاسم للمخرج الحديث، تلك التى تقرر صحته المقبلة، لا تكمن فى التخلص من فيلم الهاوى عبر الفيلم التجارى. جريميُّون Grémillon، من فيلم Tour au Large إلى فيلم Remorques؛ كارنيه Carné، من فيلم Eldorado du Dimanche إلى فيلم Jour se lève؛ رونيه كلير René Clair، من فيلم Entreacte وفيلم La Tour إلى فيلم 14 Jouillet؛ ڤيجو، من فيلم A propos de Nice إلى فيلم L Atalante. ولا يظهر هذا التحول الحاسم، والشاق فى أغلب الأحيان، بتسلسل زمنى كما يُعتقد؛ فهو يتجدد مع كل فيلم أما المخرج الذى ستُحسب له (لا عليه) عدة أفلام تجارية فسوف يتضح فى الحال أن يلاحقه عمل الهاوى فى شبابه. ويمكن على سبيل المثال أن نتساءل عما إذا كان السقوط التجارى لأفلام ممتازة مثل "جريمة السيد لانج" Le Crime de M. Lange أو قاعدة اللعبة La Règle du jeu لن يجد فى ذلك تفسيرا. على أن الهواية لا تظهر هنا من خلال فقر الوسائل التقنية أو نقص الخبرة، بل من خلال صلة بعينها بين العمل الفنى ومؤلفه. وفى حين أنه فى العمل التجارى لا ينبغى للمخرج أن يفكر إلا فى الجمهور، يبقى، فى أفضل أفلام رينوار Renoir، قدر هائل من الابتهاج بالاستخدام الداخلى، ومن مشاركة رفاق يصنعون فيلما بأكمله فى سبيل متعتهم. كما أن فيلم "قاعدة اللعبة" لم ينجح فى الخروج من النوادى التى لا تحبسه فيها الرقابة وحدها. ويسير التطور الحالى للسينما الأمريكية التى تميل إلى استبعاد الأسلوب الفردى لحساب دراسة للأساليب ذات طابع محايد بصورة متعاظمة فى نفس الاتجاه: استبعاد كل أثر للهواية. وتتمثل المشكلة التى يمكن أن تطرح نفسها فيما يتعلق ﺑ مالرو فى مشكلة معرفة إلى أىّ حد يظل فيلم الأمل فيلما عبقريا من أفلام الهواية، مع أنه قد تم تصويره فى الإستوديو بممثلين ومدير تصوير محترف. وإلى أىّ حد لا يرتبط الشك فى نجاحه التجارى بذلك. وهل سيُخْرِج مالرو أفلاما أخرى؟ وماذا سيعطى عندما يصبح خاضعا لكافة ضرورات مادة سينمائية سيطر عليها وقهرها حتى الآن، بحدس خارق لأغلب قوانينها العميقة، ماذا يمكن، بكلمات أخرى، أن يعطى مالرو لهوليوود، حيث لا يزال يشتغل فوكنر و هيمنجواى وآخرون بالسينما. ولا نود أن تمضى بنا التجربة بعيدا جدا، غير أننا نتطلع بفضول مشبوب إلى أن يصور مالرو فى پاريس، بكل وسائل التكنيك، بدون أعطال الكهرباء، وبدون قصف، [روايته] "قَدَر الإنسان". إشارتان 1: قد يحتاج هذا التأكيد إلى بعض التمييزات الدقيقة. فليس من المستحيل تماما أن تُنْقَل المقارنة إلى السينما. فهى تكثر على سبيل المثال فى أفلام أبيل جانس Abel Gance. وفى فيلم "الغضب" Fury يتبع فريتس لانج Fritz Lang لقطة امرأة ثرثارة بلقطة دواجن فى الحظيرة، والمزج le fondu enchaîné الذى يربط بين اللقطتين هو المعادل الدقيق للرابطة؛ غير أنه لا يبدو أن الصورة الحقيقية تتلاءم بسهولة مع هذا الاستعمال. وتُسلِّم أذهاننا عفويا بموضوعية الصورة البصرية. والانتقال إلى ما هو خيالىّ مطموس، مُثقلا بالحضور المادى للموضوع. ولا تمضى المقارنة أبدا دون مغالاة، وفى أكثر الأحيان يسلبها بطءٌ فظٌّ كلّ قيمة جمالية. 2: بعد أن ظل ممنوعا منذ 1933، حصل فيلم Zéro de Conduite على ترخيصه من الرقابة فى 1945 ولم يتم عرضه فى الپانتيون Panthéon مع "الأمل"، فى نوڤمبر. وفى ذلك الوقت على الأرجح اكتشف بازان عمل ڤيجو (ملاحظة فرانسوا تروفُّو François Truffaut فى (Le Cinéma de l Occupation et de la Résistance). رسالة من أندريه مالرو فى 8 مارس، سيدى، تلقيت الدراسة التى خصصتموها لفيلمى فى لحظة جميلة من لحظات التوهان وكنت أودّ أن أجيبك بطريقة جادة، لا أن أشكرك وحسب، وهذا ما جعلنى لا أجيبك مطلقا – إلى يومنا هذا. ما تقوله عن الحذف ليس بارعا وحسب، بل صحيح. والأجزاء غير المصوَّرة (نصف الفيلم) ليست هناك عبثا. وفيما عدا الحذف الكبير من الوسط (بين مفجِّرى الديناميت والطيارين)، فإننى لم أكفّ عن تعديل السيناريو والحوار، وفقا للكارثة التى تقترب. وقد تم تصوير مَشاهدنا الأخيرة ومدافع فرانكو على الجانب الآخر من التل، غير أنها كانت المَشاهد الأخيرة التى لا غنًى عنها. وتنقصه سلاسل اللقطات؛ وإذا تحدثنا بدقة، لا توجد فجوات فى سلاسل اللقطات. وتنبع النتيجة التى تحدثتم عنها من الأسلوب، وقد أدركتم هذا بوضوح بالغ. وفيما يتعلق بردّ فعل الجمهور (كان الفيلم، من الناحية التجارية، نصف ساقط)، فمن الصعب أن تحدده بدقة، ببساطة لأننى رفضتُ الدوبلاچ، ولأنه أمر نادر نسبيا أن يكسب فيلم مترجَم جمهورا واسعا جدا – وفى هذه الحالة، يبدو الأمر غامضا فى أغلب الأحيان، غير أن المشاهدين أمام عمل أحد المحترفين، ناجز بوضوح من ناحية أخرى، قلَّما يجرؤون على إعلان سخطهم. وأنت تتحدث عن جمهور "مختار"، وكان رد فعل [الجمهور] الآخر مماثلا. كما أن ما تقوله عن استخدامى للصورة ("لإضفاء وجهة نظر ميتافيزيقية على الحدث") قد استرعى اهتمامى أيضا. وهناك، فى هذا المجال، شيء بين السينما والرواية: المسرح. ويُلْحِق شكسپير، بدوره، المجال فوق الشعرى (ولنقلْ الميتافيزيقى على سبيل التبسيط) بوجهة نظر. لقد أدركتَ بوضوح بالغ، وأنت الوحيد، فيما أعتقد، بين النقاد على الأقل، أن القدرة الإيجابية لقطرة الماء، بعد رحيل مفجِّرى الديناميت، تنبع من التماثل المبهم بين القنينة وساعة رملية. لكنْ انتبهْ إلى أن الشعر يعتمد، بدوره على هذه المعطيات، وتلعب مقابلاته بين الأصوات "اللامعقولة" الدور الذى تلعبه هنا المقابلة بين الأشكال. أما الصلة (وأنا أتابع مقالك) بين المقارنة فى الكتاب والمقارنة فى الفيلم ("مثل قطعة من الحجر") فهى لا تأتى من تأثير الكتاب، بل من الهاجس، وقوة الذكرى، فى كلا الحالتين. ثم من نوع من الخضوع لهذه الذكرى، برغبة فى تصوير (وكتابة) الأشياء الصحيحة فى مجال الحرب، مادام المقصود هو الأشياء التى شهدتُها. لقد هبط الفيلم التسجيلى الحربى بقيمة كل ذلك تماما. لكنْ فكِّرْ فى أن هذا الفيلم كان يعرض لأول مرة طائرة من داخلها، ولأول مرة الساحات العديدة للقتال الدائر. "لا يتقدم المخرج على خط مستقيم، بل حلزونى، ويعود هذا إلى أسلوب الهاوى لأيام ’شبابه‘". صحيح تماما، غير أنه ليس هناك سوى المخرج.... وأنا أترك موضوع مقالك، والذى يمكن أن يمضى بنا إلى أبعد مما ينبغى والذى سنتحدث عنه إذا التقينا ذات يوم. وأرجو ألَّا ترى فى هذه المناقشة(؟) السريعة، أو هذه القطعة من الحوار، سوى الرغبة فى أن أشكرك على أبرع وأرهف دراسة خُصِّصَتْ لهذا الفيلم، وكُنْ على ثقة من مودّتى. أندريه مالرو ***** على أننى أودّ أن أضيف ما يلى: ما أقرّ لك به هو أنك أول مَنْ بيَّن أن ما يهمنى فى السينما هو وسيلة الربط، فنيا، بين الإنسان والعالم (بقدر ما هو كوْن) بوسيلة أخرى غير الكلام. فهذه الصلة ماثلة، فى المسرح الشكسپيرى، بواسطة الغنائية lyrisme، وفى الرواية بواسطة وصف عنصر خارجى على الشخصية (ذكريات تولستوى Tolstoï، بعد معركة آوسترليتس Austerlitz، فوق الأمير أندريه الجريح). ويمكن دائما نقل الكاميرا صوب السُّحُب، وقد ابتذل الروس هذا الشيء؛ غير أن هناك وسائل أكثر براعة وحدَّة. وإذا قُدِّر لى أن أُخْرِج فيلما آخر، فلا بد أن تكون الصور الأساسية فيه من نوع النملة التى تجرى فوق جهاز تصويب المدفع الرشاش – تلك النملة التى رفعتَ أنت شأنها. (رسالة منشورة بإذن كريم من السيدة فلورنس مالرو Madame Florence Malraux). 10 أغانٍ شعبية جُمعت فى صعيد مصر من 1900 إلى 1914م خلال أعمال تفتيش مصلحة الآثار مقدمة جاستون ماسپيرو لكتابه Chansons populaires recueillies dans la Haute-Egypte de 1900 à 1914 pendant les inspections du Service des antiquités (الصادر بعنوان: الأغانى الشعبية فى صعيد مصر، إعداد د. أحمد مرسى و محمود الهندى، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000) يغنِّى الشعب كثيرا فى مصر، فى المنزل وفى الحفلات الخاصة كما فى الحقول، وعلى النهر، وخلال احتفالات الحياة الجارية. وكنتُ قد حاولتُ أن أقوم بجمع قليل من الأغانى التى سمعتُها منذ إقامتى الأولى بمصر، من 1881 إلى 1886، ولم أنجح فى ذلك: ليس هناك شيء أصعب على أجنبى من أن يفهم على الفور الألفاظ التى يُطلقها الفلاح الذى يسحب الشادوف (الشادوف: أداة لرى الأرض، وهى كلمة مصرية قديمة. ويقولون: شدف؛ سقى بها)، أو مَنْ يُدير الساقية (الساقية: القناة تسقى الأرض والزرع. وهى دولاب يُدار فيرفع الماء إلى الحقل. والجمع: سواقٍ/السواقى)، أو الألفاظ التى ينغِّمها الموسيقيون المحترفون والموسيقيات المحترفات بتعاقب سريع بغُنَّة عنيفة وصرخات. ومنذ رحلة التفتيش الأولى التى قمتُ بها بعدعودتى، فى يناير 1900م، عدتُ إلى فكرتى القديمة، ورغبتُ فى أن أستفيد من خدمات السكرتير المصرى الذى كنت قد اصطحبتُه معى، غير أننى واجهت مصاعب لم أكن أتوقعها. وكان صاحبى يفهم جيدا ما كان يسمع، ويوافق حتى على أن يردده على مسامعى جزئيا: وقد امتنع عن أن يدونه وعن أن يكتبه، أو كان يقوم بتحريفه إذا كتبه بأمر صريح. وكان يدَّعِى كأسباب وراء إحجامه المتكرر عن أن يسلمنى النص الدقيق، سوقية اللغة، قصوره النحوى، بذاءة بعض الأفكار، عدم صحة الأوزان والإيقاعات. تخليتُ عن استخدامه بعد محاولتين أو ثلاث محاولات، ومن جهة أخرى، كان من المستحيل بالنسبة لى، حيث كنت أقيم أياما قلائل بالكاد فى كل ناحية، أن أُقنِع الفلاحين أنفسهم أو الفنانين المحترفين بأن يُملوا علىَّ، أو بمجرد أن يرددوا على مسامعى الألفاظ التى يكونون قد أنشدوها للتو، بعضهم عن حماقة وبعضهم عن خجل مصطنع، لأنهم كانوا يعتقدون أننى أردتُ أن أسخر منهم ، وبعضهم الآخر خشية أن أسعى إلى الاستغناء عن مساعدتهم، وأن أكف بمجرد حصولى على مجموعتهم من الأغانى؛ عن الدفع لهم. أما مفتشو الصحة؛ الذين شرحتُ لهم رغبتى، فإنهم لم يعودوا ميَّالين قبل كل شيء إلى تلبيتها، ومرت أربعة أعوام دون أن أنجح فى الحصول على نتائج جدية. على أنه فى 1903م، كان هناك سكرتير جديد، هو السيد نصرى نصر، من أصل سورى، وكان قد تلقَّى تعليما أوروپيا لدى اليسوعيِّين، فكان أفضل استعدادا من سلفه فى فهم فائدة دراساتى، ورغب حقا فى أن يضع نفسه تحت تصرفى ليساعدنى فى مواصلتها. وكانت العادة تتمثل فى استخدام نوتى (مراكبى)، على دهبيّات (مراكب) جيدة التجهيز، يُحْسِن – دون أن يكون مطربا محترفا – تنغيم الكلام، ويجيد إنشاد مجموعة واسعة من القِطَع بما يكفى لتسلية النوتية وتشجيعهم، خلال الساعات الطويلة من التجديف الذى ينبغى أن يقوموا به كل يوم. وقد رجوتُ السيد نصرى أن يدوِّن أولا كل تلك القطع التى ألقاها المنشد من 1903 إلى 1904م، وهو شخص يُدْعَى محمد سناوى، وقد عانى، هو نفسه، فى الفترات الأولى، من شكوك أدبية ونحوية: كان يهمل – عن طيب خاطر – المقاطع ذات الأخطاء البالغة، أو يصحح أخطاء التعبير والنظْم، غير أنه عندما شرحتُ له مقاصدى المحددة قام بالتزام ورضى بمراعاتها بدقة. وفى كل سنة منذ ذلك الحين، وفى هذه السنة أيضا، التقط بدقة كل ما غنّاه مغنُّونا العديدون، ونقله إلى الحروف العربية، ثم إلى التدوين الصوتى، بحيث تجرى المحافظة على النطق المحلى. وهكذا أمدَّنى بالنص الدقيق لحوالى مائتىْ أغنية أبهجت – ليس فقط نوتيتنا – بل كل الناس الذين كانوا يتواجدون على الشاطئ فى اللحظة التى كنا نمرّ فيها: ويمثل هذا، بقدر ما يمكننى أن أحكم، حوالى ثلثىْ الأغانى الرائجة بالفعل بين نوتية النيل. وبينما كان هذا الجزء من بحثى يتواصل فوق الماء، قدَّم لى اثنان من مفتشينا المحليِّين مساعدتهما أيضا. والأول زمنيًّا، وهو الذى أدين له بالكثير، هو محمد أفندى رشدى، الذى ينتمى إلى أسرة خدمت إدارة الآثار منذ أكثر من نصف قرن: الواقع أن جده محمد أفندى مرزوق، الضابط القديم فى سلاح المدفعية الذى كان قد قاتل فى حرب القرم، كان قد قدَّمه سعيد باشا فى 1858م إلى مارييت باشا كمراقب لإدفو، وما يزال عمه محمود أفندى محمد، ابن محمد مرزوق، يدير الإقليم فى الوقت الحالى. وانكبّ محمد أفندى رشدى على العمل بحماس، وخلال عامين من الزمن قام بجمع كمية من الأناشيد (الأغانى) الشائعة عند المسلمين، ليس فقط فى سهل طيبة، بل فى النواحى الرئيسية بالصعيد، من الجبلين إلى البلينا. وفيما كان يبذل قصارى جهده فى ذلك، قام مفتشنا فى المنيا وأسيوط، توفيق أفندى بولس، بذلك بالنسبة لمدينة أسيوط. وأضاف لأنه قبطى، بعض القطع المسيحية (القبطية) إلى مجموعة المسلمين: ولم يشمل حصاده سوى حوالى عشرين قطعة، لم تكن مستنفِدة فى نظرى، وهيهات أن تفعل، لكل ما يحقّ لنا أن نتوقع من هذه المناطق، الأكثر سكانا والأكثر ثراءً فى صعيد مصر، وباللجوء إليه من وقت لآخر ببعض استدعاءات الذاكرة، وبالالتماس بالتدريج لتعاون مفتشينا الآخرين، سوف ينجح، فيما آمل، مَنْ يخلفوننى فى إتمام العمل الذى بدأتُه وفى إنقاذ جزء من هذا الأدب الشعبى المهمل تماما إلى يومنا هذا، ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى الوقت لمحاولة ذلك: إن مصر تتحول بسرعة، والكثير من العادات التى كانت ما تزال قائمة خلال إقامتى الأولى إما أنها اختفت وإما أنها تتجه إلى الاختفاء مع الأغانى التى كانت تصاحبها، وأضيف أن فرنسيًّا، هو مدير أنشطة مصلحتنا (مصلحة الآثار)، مسيو باريز، كان له الفضل فى أن يجعلهم يكتبون من أجلى مؤخرا اللوازم (جمع لازمة) التى كان يتدرب بها عماله على العمل من خلال الحفر والتنقيب أو ترميم المعابد. والحقيقة أنها ليست مطلقا ضمن الأقل طرافة فى مجموعتى. وقد ألف شعراء من الحضر الكثير من تلك الأغانى التى أشرنا إليها، ولم تكن شعبية فى الأصل، غير أنها صارت كذلك بفضل المغنِّين المحترفين: هذا هو الحال بالنسبة لأغلب تلك التى جمعها من أجلى السيد نصرى، وكذلك تلك التى أطلعنا عليها شيفر فى مجموعته الرائعة. أما تلك الأخرى الخاصة بالمآتم، والأعراس، والحج، والألعاب، والسخرة فى الحقول، أو فى الورش، فقد خرجت كلها تقريبا من الناس أنفسهم، ويتبين المرء فيها، على العكس من السابقة، فظاظة التعبير والإيقاع، وهذه هى التى سأبدأ بها، مقدِّما لكلٍّ منها النص العربى. مقدمات الأغانى القسم الأول الفصل الأول أغانى الزواج والختان الحقيقة أن الجمع بين أغانى الختان وأغانى الزواج أمر طبيعى أكثر مما يبدو للوهلة الأولى: فما يزال الناس، إلى يومنا هذا فى أنحاء مصر، وبصورة خاصة عند الفقراء ولدى طبقة المتوسطة، ينتهزون فرصة الزواج لدى الجيران أو داخل الأسرة لختان الصبيان. والألحان والأقوال ملك للمغنِّين المحترفين والمغنيات المحترفات الذين يتم استئجارهم واستئجارهن لإضفاء البهجة على الاحتفال. وتنتمى المغنيات إلى الطائفة المحترفة: (الغوازى). الفصل الثانى أغانى الموت والمآتم وهى تُغنَّى خلال مختلف المراسم (الإجراءات) التى يخضع لها المتوفى، وخلال الطقوس التى تصاحب أو تعقب الدفن، ويغنِّيها جزئيا الأشخاص الذين يخصُّهم المأتم، وجزئيا مغنُّون محترفون ومغنيات محترفات. أغانى المآتم فى دندرة أول هذين النَّوْحَيْن تنشده النائحات، القبطيات، والثانى تنشده النائحات المسلمات، والكلمات المدوَّنة على هامش النوع الأول تشكِّل نوعا من القرار الذى يردده الحاضرون معا. والكاتب الذى دوَّن هذين النشيدين (الأغنيتين) لم يعطنى – فى الوقت نفسه – تدوينها الصوتى بالحروف الأوروپية. وكان سيغدو من السهل علىَّ أن أقوم بهذا التدوين الصوتى، لأن النطق المحلى واحد بوضوح فى دندرة والأقصر: لكننى فضَّلتُ ألَّا أفعل هذا حتى لا أُلام فيما بعد على أننى خالفتُ القاعدة التى ألزمت بها نفسى، وهى أن أقدِّم مخطوطة معاونينا المصريِّين كما هى. الفصل الثالث أغانى الهواء الطلق سوف يميز المرء بسهولة فى المجموعة الصغيرة التالية نوعين من الأغانى: تقدِّم الأغانى الأولى ثيمة واحدة، ثيمة الحب، ثيمة الدين، ثيمة السخرية، وهى ثيمة تتنامى بطريقة متواصلة تقريبا؛ أما الأغانى الأخرى فهى ليست سوى ركام من الجمل الموقَّعة، المستعارة بدقة تقريبا من أغانٍ رائجة فى البلاد، وهى موضوعةٌ متجاورةً دون صلة تربط بينها سوى الصلة التى تنشأ من تقفية الكلمات. والأغانى التى من هذا النوع الثانى لا تتخذ مطلقا صورة ثابتة. ويتكرر بصورة مستمرة تقريبا جانب من العناصر التى تدخل فى كل أغنية منها، لكنْ بترتيب يتغير من فرد إلى آخر، ويحدث فى كثير من الأحيان أن يرتجل العامل، شاعرا بمزاج من الإلهام، مقطعا شعريا من بيتين (دوبيت) عن واقعة صغيرة أو عن إحساس لحظىّ: إذا أعجب المقطع الشعرى المرتجَل رفاقه فإنه يردده ويوسِّعه إلى مقطع غنائى أو مقطعين غنائيين، ويضاف عنصر جديد إلى العناصر الشائعة. وهكذا فإن العمال: مَنْ يسحبون الشواديف، مَنْ يديرون السواقى، الفلاحون، الجمّالة، الحمّارة، وكل مَنْ يعملون فى الهواء الطلق، لديهم مجموعتهم المؤلفة على هذا النحو والتى تنتقل عن طريق روتين من الفم إلى الفم، فتثرى أحيانا وتضعف أحيانا. وهاهى القطع التى أملكها منها. أغانى العمال فى دندرة أنتجت أعمال مصلحتنا (مصلحة الآثار)، التى اقتضت الكثير من التنقلات، ونقل الوثائق، كمية ضخمة جدا من الأدوار (الأغانى) التى تموت بسرعة بجانبها الأكبر. وهذا هو الحال بالنسبة لتلك الخاصة بالصبية الذين يحملون القُفَف: وهى تتمثل فى اثنتين أو ثلاث من العبارات الثابتة تقريبا مثل: بشتنا أبو جيبين، وبشتنا تحت الشمسية (بشتنا = الباشا)، هاتان العبارتان اللتان ينشدونهما بصورة منتظمة منذ أربع وثلاثين سنة، كلما حضرت الساحات، والدور الأول منهما دعوة رقيقة لمنحهم بقشيشا، فى حين يمثل الثانى مجرد تدوين لعادة من عادات الريف. أما الكبار: الحمّالون، أو الحفارون، أو البناءون، فإنهم لا يكتفون بمثل هذا الجهد القليل جدا، إذْ تقيم كل جماعة منهم حلقة ذكْر، يضم رئيسها دوما إلى امتيازاته كموجِّه روحى فى الشعائر الدينية امتيازه كمنشد معتمد فى الأعمال المهنية. فهو يقوم بتوقيع كل حركات العمل عن طريق هتافات دينية أو عن طريق أناشيد وأغانٍ دنيوية يرددها الحاضرون بعده، بيتا بيتا، جملة جملة، ويفتح صوته المنفرد الحركات ويُنهيها دوما، غير أنه يتحاور بين الحركتين مع صوت رجاله. وهذه الأغانى مسجلة فى دندرة، بدون تدوين أوروپى برعاية مسيو باريز، غير أننى سمعتُ أغلبها فى الأقصر ودندرة. القسم الثانى أغانٍ جُمعت فى دندرة للشادوف والساقية يستعمل الفلاح آلتين بصورة خاصة لرىّ الأرض: الشادوف والساقية. ويتألف الشادوف من دعامتين رأسيتين بارتفاع يتراوح بين متر وعشرين سنتيمترا ومتر وثلاثين سنتيمترا، مغروزتين على مسافة متر واحد بينهما، وهما تحملان فى الجانب العلوى منهما عارضة خشبية، يتدلى فى وسطها بمثابة رافعة، قطعة خشبية أخرى يصل طولها إلى حوالى ثلاثة أمتار تقريبا. وهناك سفط (وعاء) مجدول من خوص النخيل، أو سطل معدنى، أو – دائما تقريبا – صفيحة بنزين قديمة، يتدلى من الطرف العلوى للرافعة، بواسطة حبال من ألياف النخيل، وبساق صلبة من خشب السنط أو الجميز، بطول يصل إلى ثلاثة أمتار وخمسين سنتيمترا؛ وفى الطرف المقابل، حجر أو فى أغلب الأحيان كرة ضخمة سميكة من الطين تُستخدم كثقالة. وتسمى الآلة كاملة: الشادوف؛ وساق السَّحْب: العود أو السطل (الدلو). ويضغط العامل بثقله على العود الذى يشمل اسمه الآلة كلها، ويُستخدم تفضيلا له على اسم الشادوف، على الأقل فى المناطق التى أعرفها فى صعيد مصر: هكذا يهبط الدلو إلى الماء فيملؤه، وترفعه الثقالة، وينصبّ ما يحتويه من ماء فى جدول ينقله إلى مسافة. ويحتاج كل شادوف إلى رجلين ليعمل بصورة منتظمة خلال يوم بأكمله، من شروق الشمس إلى غروبها، وهما يتناوبان كل ساعتين، وفى حين يدير أحدهما الآلة (الشادوف)، يوجِّه الآخر تيار الماء إلى الجداول، ويقدِّر لكل قطعة أرض يرويها الكمية المطلوبة لها من الماء. ويتم دفع أجرهما إما نقدا باليومية، وإما عينا، بتلقِّى كمية محددة من محصول الزراعة عند الحصاد، وإما – وهذا بالغ الندرة – نقدا وعينا فى آنٍ معا. وعملهما شاق، فهما يقفان على ممشى صغير من الأرض أو على لوح صغير، يغنِّيان ويستلمان وينهضان بانتظام بجهد عند هبوط الدلو، وبدون جهد تقريبا عند صعوده من جديد، غير أنهما يعملان عاريين إلا من إزار أحيانا، معرَّضين بلا حماية للريح والشمس، وهما يتلقيان على جسديهما جانبا كبيرا من الماء الذى ينبغى أن يسقط فى الجدول: إنهما يخرجان من كل فترة من فترتى عملهما مرتعدين رغم حركتهما الدائمة. والحقيقة أن أغانيهما تفيدهما فى تسلية نفسيهما بقدر ما تفيدهما فى توقيع حركاتهما، غير أننا ندرك أنهما يبثانها الشكوى من بؤس مصيرهما. أما الساقية، فقلما ترهق من يديرها: وهى تتألف أولًا من عجلة أفقية مرصعة بأسنان خشبية، يرتكز محورها الرأسى فوق الأرض على قِطَع خشب موضوعةٍ متجاورةً تشكِّل نوعا من جذع عمودى غليظ. وهو يُدار برافعة أفقية – يحركها حيوان، من المفضل أن يكون ثورا، أو زوجا من الثيران أو الجاموس، وحمار أو جمل فى أحوال نادرة – تدور الرافعة الأفقية حول المحور فتؤدى إلى دوران العجلة الأفقية. وتنشبك هذه الأخيرة مع عجلة أخرى، رأسية هذه المرة، يمر محورها تحت مستوى الأرض ويحمل فى طرفه الحر عجلة أخيرة أضخم، يلف حولها سلم من الحبال (جمع حبل) تشتبك بدرجاته أوعية من الطين المحروق، موزعة على مسافات تصل الواحدة منها إلى خمسين سنتيمترا: فى كل دورة تغوص الأوعية فى الماء الذى ترفعه وتصبُّه فى حوض صغير جانبى يتدفق منه إلى الحقول. وتتم مناوبة الثيران والجاموس طوال ثلاث ساعات فيصيبها التعب، أما مَنْ يديرها، وهو شاب أو طفل، فإنه قلما يتعب. ويجلس فى الطرف الدوّار من الرافعة، يُلهب بهائمه بخيزرانة أو سوط، وهو يغنِّى ليسلِّيها ويسلِّى نفسه: وأغانيه حزينة حزن أغانى الفلاحين الذين يسحبون الشادوف. وأغلب أغانى الشادوف والساقية فى شكل قطعة متنوعة الثيمات، ولكل بيتين (دوبيت) معناه الكامل الذى يجعله مستقلا عما يسبقه أو يعقبه من دوبيتات. ويحدث أحيانا مع ذلك أن يتم اقتباس ثلاثة أو أربعة منها بصورة متصلة من أغنية معروفة، وأن تشكِّل كلًّا مندمجا. أغانٍ جُمعت فى الأقصر للشادوف والساقية أغان للشادوف الأغنيتان الأولى والثانية يتم غناؤهما فى الصباح، والأغانى الباقية فى كل ساعة من ساعات اليوم، وأغلبها فى شكل قطعة متنوعة الثيمات. أغانى الجمَّالة جُمعت فى دندرة الأولى أغنية فلاحية، يتألف قرارها من كلمات يقوم بها الجمّال بدفع، وقيادة، وحثّ، وإيقاف حيوانه (الجمل)؛ والثانية أغنية بدوية، ولا تشتملان مطلقا على قرار، وكل منهما فى شكل قطعة متنوعة الثيمات. الفصل الرابع ص 213 أغانٍ حول أعمال الحقول جُمعت فى أسيوط النورج آلة لدراس الغلال. وهو يتألف من قاعدة مستطيلة الشكل من الخشب تمر بداخلها ثلاثة محاور مجهَّزة بعجلات عدسية الشكل من الحديد: وللمحور الأمامى والمحور الخلفى أربعٌ من هذه العجلات الصغيرة، وليس للمحور الأوسط سوى ثلاثٍ منها. ويُقْرَن ثوران بالجزء الأمامى، ويسند هيكل مثبَّت على الجانبين الطوليين للقاعدة، مقعدا للقائد الذى يسهم وزنه فى قوة هرس الآلة: وهذه الأخيرة، بمرورها على السنابل، تخرج الغلال فى الواقع وتهرس حتى القشرة التى يتم تخزينها، باسم التبن، وتُقدَّم طعاما للماشية. أغانى الحمَّارة باستثناء السُّواح الذين ليسوا عبئا عابرا، على الحمير المصرية أن تحمل كمية من الحمولات الثقيلة، والمزعجة جدا، البرسيم، والفول، والأعلاف المتنوعة، وقصب السكر، وبصورة خاصة السِّباخ فى فترة تسميد الأرض. وهذه الأغانى الثلاث جُمعت فى الأقصر. والأولى والثانية تتعلقان بنقل السِّباخ، وتتعلق الباقية بأعمال حقلية أخرى. أغانى الحياة الجارية ص 239 جمعتُ تحت هذه العناوين المشتركة أغانى ترتبط بمختلف أحداث الحياة الجارية: وقائع الحب العابر، مشاجرات منزلية، دعوات إلى ولائم، التجنيد العسكرى، الحج، وببعض أعمال مرتبطة بظروف، مثل الأغنية الثامنة، والأغنية السابعة التى تم تأليفها من أجل عيد شعبى، كما قيل لى، فى أسيوط، فى 1902م، عند افتتاح الخزان [خزان أو قناطر أسيوط]. والأغانى الأخرى ترجع إلى تاريخ أقدم وتشكِّل جزءًا من المجموعة التقليدية للمنشدين الشعبيِّين. 11 ڤالتر بنيامين Walter Benjamin، هاوارد كايجل howard keigel وآخرون، 2000، ترجمة: وفاء عبد القادر مصطفى، المشروع القومى للترجمة، القاهرة، 2005 (مقدمة) تحاول كُتُب سلسلة "أقدم لك" إلقاء نظرة پانورامية على حياة وإنتاج مفكر أو فيلسوف أو عالم أو حركة أو علم ... إلخ، من خلال لقطات معمقة وإنْ موجزة مع صور تضفى عليها الحياة بمحطات وتفاصيل فى تلك المسيرة الفكرية أو العلمية، وترصِّعها فى أكثر الأحيان عبارات أو أفكار أو أقوال موجزة هى أصوات تلك الحياة، الأصوات التى تنقل إلينا الحوار مع الآخرين ومع النفس. وبأسلوب وطريقة هذه السلسلة، يقدم هذا الكتاب ڤالتر بنيامين Walter Benjamin الذى يُنظر إليه – منذ نشر كتاباته الأخيرة بعد وفاته، ومنذ ترجمة تلك الكتابات التى تنتمى إلى فترة إنتاجه الأكثر نضجا إلى الإنجليزية على أنه الناقد الماركسى الأقوى تأثيرًا فى العالم الناطق بالألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. والواقع أن الاهتمام الذى يلقاه إنتاج بنيامين فى الدوائر الاكاديمية والفنية ينصب بالكامل تقريبا على ما أنتجه كماركسى (وإنْ كان ماركسيا صاحب مزاج خاص للغاية). وفى هذا السياق صار بنيامين فى المحل الأول ناقدا – ناقدا للأدب، وناقدا للثقافة، مقدما الإطار العام للأسئلة الرئسية لما يُعرف الآن باسم الدراسات الثقافية، وإنْ كان لم يقدم نظرية شاملة للثقافة، وكذلك ناقدا للحياة اليومية. على أن تعدد جوانب اهتمامات وأبحاث ومشاريع بنيامين لا يقف عند هذا الحد. ذلك أنه لن يمنحنا سر خصوصية وإشكالية ماركسيته إذا تجاهلنا محطات مسيرته من تصوف يهودى وقبلانية، وعلاقات نقدية متشابكة مع الفلسفة والتاريخ واليوتوپيا، مع الفينومينولوچيا والكانطية الأصلية والجديدة، مع القبلية والتعالى والترنسندنتالية، مع التفوق على هيجل فى الهيجلية مع البلشڤية والستالينية ومدرسة فرانكفورت، مع البنيوية، مع التوسط والتشيؤ والاغتراب وفتيشية السلع، مع اللاهوت السياسى، مع الصهيونية التى انجذب إليها لفترة فى شبابه، مع الفاشية و هتلر و موسولينى، مع التكنولوچيا، مع اللغة ... إلخ.، كما أنه كناقد أدبى وفنى سيصول فى مجالات الأدب والفن والتصوير الفوتوغرافى والسينما والعمارة والحداثة والهالة،... والحقيقة أن بنود قائمة اهتمامات ڤالتر بنيامين فى النقد والماركسية أطول من أن تحصى. على أن هذا الكتاب حافل بتجاربه واهتماماته منذ ولادته فى 15 يوليو 1892 فى برلين، حتى انتحاره فى 26 سپتمبر 1940، فى المنفى، فى المدينة الإسپانية الحدودية، پورت بو، من الجستاپو. وبين هذين التاريخين يجد القارئ الكثير عن طفولته البرلينية، وتلمذته، ودراسته الجامعية وصداقاته المتنوعة، وتأثيراتها، وعلاقاته بأيديولوچيات تلك الفترة، وأبحاثه فى الفن والعمارة وغيرهما، كما أنه سوف يُلِمُّ بأفكار عدد من أهم مؤلفاته: الأنساب المختارة ﻟ جوته، أصل مسرحية الحداد الألمانية، العمل الفنى فى عصر الاستنساخ الآلى، طفولة برلينية، مشروع بواكى پاريس، أطروحات حول فلسفة التاريخ. ومن العبث أن نحاول التعليق على (وناهيك بتقييم) كتابات وتجارب ومواقف ڤالتر بنيامين فى مثل هذا التقديم الموجز. على أن هذا لن يتعارض مع إبداء قليل من الملاحظات الموجزة كان بنيامين يرتبط بعمل ما مع معهد البحث الاجتماعى بفرانكفورت، وكان يحتفظ بمسافة نقدية إزاء الاتجاه السائد فى نشاط المعهد، تحت تأثير صديقه الحميم برتولت برشت. ويؤكد فيل سليتر Phil Slater مؤلف كتاب مدرسة فرانكفورت: نشأتها ومغزاها - وجهة نظر ماركسية" (المشروع القومى للترجمة: 154) أن العلاقة بين بنيامين ومدرسة فرانكفورت لا يمكن تحديدها بصفة نهائية حتى زمن تأليف كتابه (1977) بسبب السرية التى تحيط بملفات المعهد، غير أنه يضيف أن مناقشة أعمال بنيامين تلقى ضوءا قويا، نقديا فى جانب كبير منه، على أعمال مدرسة فرانكفورت فى الفترة التى يجرى بحثها (أىْ عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته). على أن بنيامين هاجر مع صعود هتلر والنازيين إلى السلطة فى ألمانيا فى 1933 إلى فرنسا، وصار عضوا فى معهد البحث الاجتماعى الذى كان يضم هوركهايمر و أدورنو و ماركيوز و كيرشهايمر و پولوك و لوڤينتال و نويمان و فيتڤوجل وآخرين. وقام بمحاولة للحاق بالمعهد عندما هاجر المعهد من پاريس إلى نيويورك، غير أنه انتحر ولم تتم المحاولة. وفى مقابل نخبوية وأقنمة وإلغاز أدورنو فى نظريته الجمالية، كان بنيامين ينطلق، إلى حد كبير بتأثير برشت، من إدراك التأثير السياسى لأعمال الفن، ومن الإقرار بعلاقاتها بالنضال فى سبيل المجتمع اللاطبقى، ومن نظريته الإيجابية لاستخدام الجهاز البرچوازى للإنتاج والنشر وتشديده على أهمية المفهوم البرشتى عن "التحويل الوظيفى" لوسائل الإعلام الحديثة وتخريبها لمصلحة التوصيل الپروليتارى. على أن التهليل الواسع النطاق الذى تلقاه بنيامين فى بلده وفى الخارج لم يكن مصحوبا - باستثناءات قليلة - بتقييم نقدى على قدر كبير من الحدة، كما يؤكد محررو كتاب Aesthetics & Politics ( علم الجمال والسياسة) الذى يضم كتابات حول العلاقات المتوترة دوما بين علم الجمال والسياسة بأقلام بلوخ، لوكاش، برشت، بنيامين، أدورنو (Verso, 1977). ويرى هؤلاء المحررون أن أفضل نقد لتطور بنيامين فى مرحلته الأخيرة يبقى نقد صديقه وزميله أدورنو الذى يصغره بأحد عشر عاما: نقد لمشروع البواكى (المكتوب فى 1935) بعنوان: پاريس - عاصمة القرن التاسع عشر، ولبحثه: العمل الفنى فى عصر الاستنساخ الآلى (المكتوب فى 1934-1935 والمنشور فى 1936)، ولدراسته الأصلية عن بودلير، (المكتوب فى (1938 بعنوان پاريس الإمپراطورية الثانية عند بودلير، المنشور فى رائعة كتاباته: شارل بودلير - شاعر غنائى فى عصر الرأسمالية العليا. وقد اكتشف بنيامين الماركسية فى عشرينيات القرن العشرين، وسافر اإلى روسيا (1926-1927)، وصار قريبا إلى الحزب الشيوعى الألمانى، غير أن مركز اهتمامه الجوهرى كان يتمثل دائما فى الأدب. وفى مراسلات 1935-1939 بين أدورنو و بنيامين نجد العلاقة الثلاثية المعقدة بين برشت و بنيامين و أدورنو؛ حيث الصلة ﺒ برشت تدفع بنيامين نحو ماركسية أكثر مباشرة بعيدا عن النخبوية فيما يدفع الاتصال ﺒ بنيامين أدورنو نحو مادية أكثر ثورية. وتركز مناقشة أدورنو لمسودة مقال بنيامين "پاريس - عاصمة القرن التاسع عشر" نقدها على ما يعتقد أدورنو أنه ذاتية سيكولوچية ورومانسية لاتاريخية فى نص بنيامين. وببصيرة نافذة رائعة يوضح أدورنو أن استعمال بنيامين لمقولة ماركس عن "فتيشية السلع" يضفى عليها طابعا ذاتيا بصورة لا مبرر لها عن طريق تحويلها من بنية موضعية للقيمة التبادلية إلى خداع للوعى الفردى. وعلاوة على هذا، فإن وصفها الخاطئ بأنها "حلم" ذاتى كان مصحوبا بوعى "جمعى" تصحيحى مضلل باعتباره مستودع "الأساطير" القديمة. وكما علق أدورنو فإن هذه الإضافة ضاعفت أكثر مما صححت الخطأ الأصلى ﻟ بنيامين؛ حيث أن فكرة وعى جمعىّ كمستودع للأساطير كان على وجه الدقة المفهوم الأيديولوچى الذى حاول به كارل يونج Carl Jung الذى لا جدال فى ميوله الرجعية- تجريد المفاهيم العلمية ﻟ فرويد والشطب عليها. وشدد أدورنو على الحقيقة الجلية المتمثلة فى أن الإنتاج السلعى بما هو كذلك سبق عصر بودلير بقرون عديدة، وأنه كان من الضرورى التمييز بعناية ضمن تطور الرأسمالية بين مرحلة المانيفاكتورات ومرحلة الصناعة المصنعية بالمعنى الصحيح. وأشار إلى أنه فى الإمپراطورية الثانية يمكن ربط دور البواكى الپاريسسة باعتبارها بازارات الغرائب المجلوبة بمغامرات النظام البوناپرتى وراء البحار، فى حين أنه لايمكن القول إن الطبقة العاملة كانت قد كفت إلى الأبد عن أن تكون سلبية سياسيا بعد ثلاثنينيات القرن التاسع عشر. وفى نقده لبحث بنيامين: العمل الفنى فى عصر الاستنساخ الآلى (المنشور فى مجلة البحث الاجتماعى فى 1936)، وجه أدورنو ردا لاذعا ضد هجوم بنيامين على "الهالة " الجمالية باعتبارها من بقايا الثقافة البرچوازية واحتفائه بالوظيفة التقدمية للاستنساخ التقنى فى الفن، وردّ أدورنو بدفاع عن الفن الطليعى وهجوم مضاد على الثقة الزائدة بالفن الشعبى التجارى. ومع أن انتقادات أدورنو لا تزال تحتفظ بصحتها إلى اليوم فإن تحليلاته لظواهر ثقافية وفنية أخرى حافلة بدورها بأخطاء ومبالغات وتناقضات. ويرى محررو كتاب علم الجمال والسياسة أن القضايا التى أثارها ويثيرها حوار أدورنو-بنيامين لا يزال من المطلوب تجاوزها بصورة حقيقية عن طريق تقدُّم عام للنظرية الماركسية. ويعلق فردريك چيمسون Fredric Jameson على "العمل الفنى فى عصر الاستنساخ الآلى" قائلا إن تصور برشت عن "الواقعية" لا يكتمل بدون المنظور المتمثل فى أن يكون الفنان قادرا على استعمال التكنولوچيا الحديثة الأكثر تعقيدا فى مخاطبة الجمهور الشعبى الأوسع. ويستدرك قائلا إنه إذا كانت النازية ذاتها تتوافق مع مرحلة مبكرة كانت لا تزال بدائية من حيث نشأة وسائل الإعلام، فقد كانت كذلك أيضا إستراتيچية بنيامين الثقافية للهجوم عليها، وبالأخص تصوره عن فن يكون ثوريا على وجه التحديد بقدر ما يكون "متقدما" تقنيا (وتكنولوچيًّا). ويؤكد جيسمون أننا لم نعد قادرين اليوم على أن نشاطر بنيامين تفاوله الذى بدونه يغدو مشروع حداثة سياسية بصورة خاصة غير قابلة للتمييز من كل الأنواع الأخرى؛ حيث إن أشياء أخرى، صارت متميزة بوعيها بجمهور غائب. وكان النص المهم الأخير الذى كتبه بنيامين هو: أطروحات حول فلسفة التاريخ، وقد اكتمل قبل وفاته فى سپتمبر 1940 بأشهر قليلة، وكان له تأثير على التطور الفكرى اللاحق لمدرسة فرانكفورت بوجه عام، و أدورنو بوجه خاص. ونحن نعلم أن التطور اللاحق للنظرية النقدية للمجتمع (مدرسة فرانكفورت) يواجهنا بإشكالية ينطوى عليها الإقرار بجيلين ينتميان إلى نفس النظرية أو الإقرار بنظريتين نقديتين للمجتمع : أصلية وجديدة. والجيل الأول هو جيل فترة الثلاثينيات، أىْ جيل الفلاسفة والمفكرين الكبار: هوركهايمر، و أدورنو، و ماركيز، و فروم، والجيل الثانى هو جيل النصف الثانى من القرن العشرين، وهو الجيل الذى ينتمى إليه يرجن هابرماس (المولود فى 1929) أما النظريتان فإنهما نظرية الثلاثينيات ونظرية النصف الثانى من القرن العشرين، وتشكلان معا "النظرية النقدية للمجتمع"، غير أنهما نظرية أصلية ونظرية جديدة: كما أوضح ماكس هوركهايمر بنفسه فى "النظرية النقدية أمس واليوم" ((1970. على أن المؤسسين الكبار، المخضرمين، أىْ فلاسفة الجيل الأول، الذى شهدوا العهديْن وأنتجوا فيهما، يقدمون لنا مفتاحا لحل جانب على الأقل من هذه الإشكالية. فهناك انشقاق واضح منذ الأربعنيات. هناك ماركيوز الذى يمكن اعتباره، بوجه عام، امتدادًا للنظرية الأصلية فى أوضاع تاريخية مختلفة وقضايا فكرية جديدة، ولا يمكن اعتباره منتميا إلى النظرية الجديدة التى تجعل من هوركهايمر و أدورنو ومن بعدهما هابرس جيلين ينتميان إليها حيث يمثلون قطيعة مع النظرية الأصلية فى إطار قطيعة مع الماركسية والثورة. ولم يكن ڤالتر بنيامين مخضرما فقد جعله انتحاره فى 1940 منتميا إلى الجيل الأول وحده فكرا وزمنا، غير أن نقاط الضعف ونقاط القوة فى ماركسية الجيل الأول كانت ماثلة أيضا لدى بنيامين بدوره وإنْ بطريقة متميزة تتوافق مع اهتماماته ومزاجه. ولأن نظرية الجيل الثانى تتوافق مع ازدهار نقاط الضعف وتراجع نقاط القوة فى ماركسية النظرية الأصلية، فإن تأثير بنيامين على تطور النظرية النقدية الجديدة، وعلى أدورنو على وجه الخصوص، يغدو مفهوما. فرغم أن ڤالتر بنيامين لم تمتد حياته ليشهد النصف الثانى من القرن العشرين بحقائقه التاريخية وقضاياه الفكرية الجديدة، فإن تناقضات فكره كانت قادرة على الإسهام فى تبلور نظرية نقدية جديدة تخلت عن الماركسية والممارسة الثورية فى مواجهة استمرار هربرت ماركيوز بالنظرية النقدية الأصلية فى أوضاع تاريخية مختلفة وقضايا فكرية جديدة. على أن الإنجاز النظرى والنقدى (التطبيقى) ﻟ ڤاتر بنيامين يظل ماثلا بكل عظمته. ومع كل نقاط ضعفه الأكيدة والمحتملة، فإن هذا التراث يظل نقطة انطلاق لاغنى عنها نحو بناء نظرية جمالية ماركسية متماسكة، كما يظل مستودعا لاستيعاب نقدى لأعمال أدبية وفنية تجلت كنوزها وأسرارها وجمالياتها عندما اكتشفها ومنحنا إياها هذا الفيلسوف الجمالى الفذ والناقد الأدبى الفريد. 12 إشكالية مدرسة فرانكفورت(1) (بين النظريتين النقديتين: الأصلية والجديدة) (مقال لى ملحق بمقدمتى لكتاب ڤالتر بنيامين) ينطوى انتماء يرجن هابرماس ürgen Habermas إلى النظرية النقدية للمجتمع عند مدرسة فرانكفورت على إشكالية. وهى أيضا الإشكالية التى ينطوى عليها الإقرار بجيلين ينتميان إلى نفس النظرية أو الإقرار بنظريتين نقديتين للمجتمع: أصلية وجديدة. ولأن المجال هنا لا يتسع لمناقشة مستفيضة فسوف أترك الحديث لأصحاب الشأن من فلاسفة المدرسة ولتعليقات مفكرين آخرين مكتفيا بمجرد تقديم السياق الذى يركز على الإشكالية المذكورة. والمقصود بالجيلين: الجيل الأول، جيل فترة الثلاثينات، أىْ جيل الفلاسفة والمفكرين الكبار: ماكس هوركهايمر Max Horkheimer (1895-1973)، و هربرت ماركيوز Herbert Marcuse (1898-1979)، و تيودور أدورنو Theodor w. Adorno (1903-1969)، و إيريك فروم Erich Fromm (1900- )؛ والجيل الثانى، جيل النصف الثانى من القرن العشرين، وهو الجيل الذى ينتمى إليه يرجن هابرماس (المولود فى 1929). أما النظريتان فهما نظرية الثلاثينات ونظرية النصف الثانى من القرن العشرين، وتشكلان معا - أو يقال لنا إنهما تشكلان معا - "النظرية النقدية للمجتمع"، غير أنهما نظرية أصلية ونظرية جديدة، كما أوضح ماكس هوركهايمر بنفسه فى مقاله "النظرية النقدية أمس واليوم" (1970). ويمكن الحديث بطبيعة الحال عن أجيال تنتمى إلى نظرية واحدة إذا كانت هذه النظرية توحِّد بنواة صلبة كل هذه الأجيال، رغم ما قد تسمح به خصوبتها من الانفتاح على فروع وقضايا واهتمامات وآفاق جديدة، وربما كان هذا يصدق على الماركسية التى صارت الآن ماركسيات. فهل يمكن القول إن النظرية الجديدة احتفظت بنواة صلبة توحِّدها مع النظرية النقدية الأصلية بحيث تكون استمرارا بها وليس قطيعة معها، وبحيث يكون بوسعنا بالتالى أن نتحدث عن نظرية واحدة وعن انتماء هابرماس إلى جيلها الثانى؟ على أن المؤسسين الكبار، المخضرمين، أىْ فلاسفة الجيل الأول، الذين شهدوا العهدين وأنتجوا فيهما، يقدمون لنا مفتاحا لحلّ جانب على الأقل من هذه الإشكالية. ذلك أن هناك انشقاقا واضحا منذ الأربعينات. هناك ماركيوز الذى يمكن اعتباره، بوجه عام، امتدادا للنظرية الأصلية فى أوضاع تاريخية مختلفة وقضايا فكرية جديدة، ولا يمكن اعتباره منتميا إلى النظرية النقدية الجديدة التى تجعل من هوركهايمر و أدورنو ومن بعدهما هابرماس جيلين ينتميان إليها حيث يمثلون قطيعة مع النظرية الأصلية فى إطار قطيعة مع الماركسية والثورة. فما الذى يجعل من هاتين النظريتين الأصلية والجديدة نظرية نقدية "واحدة" للمجتمع؟ أىْ فيم يتمثل "الطابع النقدى" المشترك بينهما رغم القطيعة؟ وإذا كانت النظرية الأصلية تنطلق من ماركس ونظريته الثورية فيما تنطلق النظرية الجديدة من تخطئة ماركس والتخلى عن الممارسة الثورية وعن هدفها أىْ تحقيق المجتمع اللاطبقى، فهل تظل نظرية هوركهايمر الثانى وريثة لنظرية هوركهايمر الأول لمجرد استمرار بعض أشخاص الفلاسفة المعنيين فى العهدين؟ أم لأن مجموعات من القضايا الأصلية يجرى استئناف نقاشها وإنْ بطريقة جديدة؟ أم لأن سمات جوهرية فى النظرية الأصلية ظلت مستمرة فى الجديدة؟ أم لأن النظريتين كلتيهما "تنقدان" المجتمع السائد والعلم السائد مهما كان الفرق الجوهرى ماثلا بين طبيعة كلٍّ من هذين النقدين، بين نقد يقوم على الإسهام الأكثر ماركسية لمدرسة فرانكفورت فى الثلاثينات ونقد يقوم على التخلى عن ماركس فى العهد الجديد؟ وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الأسئلة يمكن توجيهها على أسس منهجية عامة وليس بالضرورة دفاعا عن نظرية ماركسية ثورية جرى التخلى عنها. وكانت ماركسية النظرية النقدية للمجتمع فى فترتها الأكثر ماركسية تنطوى على نقاط ضعف إلى جانب نقاط القوة، غير أن الماركسية كانت على كل حال هى المرجعية الأساسية فى التكوين الفكرى لمدرسة فرانكفورت. ويوجز فيل سليتر Phil Slater فكرة كتابه عن مدرسة فرانكفورت(2) قائلا: "قدّمت مدرسة فرانكفورت فى الثلاثينات وبداية الأربعينات إسهاما جديا فى مجال شرح وربط أجزاء المادية التاريخية غير أنها، فى نفس الوقت، عجزت عن تحقيق الصلة مع الممارسة التى هى أمر محورى بالنسبة للبرنامج الماركسى". ويؤكد فيل سليتر أن تناوُل ألبرشت ڤيلمر Albrecht Wellmer فى كتابه "النظرية النقدية للمجتمع" لمشكلة العلاقة بين هذه النظرية والنقد الماركسى للاقتصاد السياسى يشوِّه ماركس، وتفسير مدرسة فرانكفورت ﻟ ماركس، وبالتالى مدرسة فرانكفورت ذاتها. ذلك أن ڤيلمر يزعم أن طبعة ماركس من المادية التاريخية تتجلى فيها انحرافات ميتافيزيقية ووضعية مستترة وأن مفكرى مدرسة فرانكفورت كانوا مدركين لهذا فى الثلاثينات وأن إنتاجهم فى تلك الفترة كانت محاولة لتصحيح المادية التاريخية التى شوَّهها ماركس، وهبط بها إلى مستوى دراسات ذات طابع ميكانيكى للاقتصاد. ويؤكد سليتر أن هوركهايمر ما كان ليُقرّ، فى الثلاثينات، هذه الصورة الڤيلمرية عن ماركس. وقد أكد هوركهايمر بصراحة، فى 1932، أنه: "بينما ... ينشأ اتساق هذا الجدل فى حالة هيجل عن منطق الروح المطلق، عن هذه الميتافيزيقا، يرفض التناوُل الماركسى، على العكس من ذلك، فكرة أية بصيرة فوق-تاريخية منطقيا تمدنا بمفتاح لفهم التاريخ. على العكس تنشأ النظرية الصحيحة عن دراسة البشر الواقعيين، الذين يعيشون فى ظل شروط تاريخية محددة، ويحافظون على وجودهم بأدوات محددة. والقوانين التى يمكن اكتشافها فى التاريخ ليست تراكيب قبْلية à priori، ليست تسجيلا للوقائع من جانب مراقب يُفترض أنه مستقل، بل يتم التوصل إليها بوصفها انعكاسا للبنية الدينامية للتاريخ، من جانب فكر هو ذاته منهمك فى الممارسة التاريخية". ويؤكد سليتر أن "إحدى الخدمات الباقية التى أسدتها مدرسة فرانكفورت للماركسية تتمثل فى أنهم أزالوا هذا التشوُّش الذى يحيط ,’بقوانين‘ ماركس"، ويقتبس من ماركيوز (العقل والثورة 1941)(3) قوله: "سيكون تشويها لكامل مغزى الماركسية أن نستنتج من الضرورة الحتمية التى تحكم تطور الرأسمالية ضرورة مماثلة فيما يتعلق بالتحول إلى الاشتراكية ..... والواقع أن الثورة تتوقف على مجموعة كاملة من الشروط الموضوعية: فهى تتطلب مستوى معينا تم بلوغه من الثقافة المادية والعقلية، وطبقة عاملة واعية بذاتها ومنظمة على نطاق أممى، ونضالا طبقيا حادًّا، غير أن هذه الشروط لا تصبح شروطا ثورية إلا إذا استغلَّها ووجهها نشاط واعٍ يستهدف الغاية الاشتراكية". وفيما يتعلق بصلة أفكار ڤيلمر ﺑ هابرماس يؤكد فيل سليتر الارتباط التام بينهما فيقول: "يقف وراء مناقشة ڤيلمر برمتها يرجن هابرماس (المولود فى 1929) وهو شخصية بارزة فى مدرسة فرانكفورت فى فترة ما بعد الحرب" ويضيف: "وابتعاد هابرماس عن مدرسة فرانكفورت فى الثلاثينات جلىّ بما لا مزيد عليه فى تأكيده الخاص بأن أية نظرية نقدية للمجتمع لا يمكن تأسيسها اليوم على نقد الاقتصاد السياسى" ... أيضا: "و هابرماس معلِّق مهم على مدرسة فرانكفورت القديمة، ولكنْ حيث أن ڤيلمر ينسِّق ويحدِّد بدقة كل الانتقادات ذات الصلة بالموضوع، فإن هذه الدراسة يمكن أن تكتفى بتحليل جادّ لحجج ڤيلمر، وكلها خاطئة. وينطوى هذا فى الوقت نفسه على نقد ﻟ ترنت شروير Trent Schroyer حيث يجرى إهمال سنوات تشكل مدرسة فرانكفورت (وأكثرها ماركسية) بتناولها على نحو سريع للغاية ويجرى التعامل معها وكأنها مجرد استهلال ’لذروة‘ مدرسة فرانكفورت فى شخص هابرماس". والآن ما هى بإيجاز سمات النظرية النقدية للمجتمع فى الثلاثينات؟ فى سبيل توضيح المقصود بالنظرية النقدية والفرق بينها وبين النظرية التقليدية، يتساءل هوركهايمر(4) فى مقاله "النظرية النقدية أمس واليوم" (1970): "ما هى النظرية التقليدية؟ ما هى النظرية بمعنى العلم؟" ... ويجيب فى إطار تعريف مبسَّط جدا كما يقول: "العلم هو تنظيم الوقائع التى ندركها بحيث يسمح لنا فى نهاية المطاف بأن نتوقع فى كل مرة فى موضع دقيق من المكان والزمان ما ينبغى أن يكون متوقعا على وجه الدقة. ويصدق هذا حتى على العلوم الإنسانية" ... "والدقة بهذا المعنى هى غاية العلم" ... "وهنا تظهر الموضوعة الأولى للنظرية النقدية" انطلاقا من أن "العلم ذاته لا يدرك لماذا ينظم الوقائع فى اتجاه بعينه على وجه التحديد ولا لماذا يركز على أشياء بعينها وليس على أشياء أخرى. إن ما يفتقر إليه العلم هو إمعان التفكير فى ذاته، ومعرفة الدوافع الاجتماعية التى تدفعه فى اتجاه بعينه، على سبيل المثال فى اتجاه تكريس جهوده للقمر وليس لرفاه البشر. والعلم، لكى يكون حقيقيا، ينبغى أن يسلك سلوكا نقديا إزاء نفسه وكذلك إزاء المجتمع الذى ينتجه". وفى هذا المقال نفسه تأكيدات بالغة الأهمية عن الأفكار والأمانىّ القديمة للنظرية النقدية الأصلية: "حينما ظهرت النظرية النقدية فى العشرينات، فإنها كانت تنطلق من الفكرة المتصلة بمجتمع أفضل. وكانت تسلك سلوكا نقديا إزاء المجتمع وكذلك إزاء العلم"، ويؤكد أن تلك النظرية كانت "نقدية جدا، وبصورة خاصة إزاء المجتمع السائد" ... "وكان لدينا الأمل فى أنه سيأتى وقت يتم فيه تنظيم هذا المجتمع وفقا لرفاه الكل" ... "فى تلك الفترة، كنا نضع آمالنا فى الثورة". ويتصدى المفكران الفرنسيان لوك فيرى Luc Ferry و آلان رينو Alain Renau فى مدخلهما إلى الترجمة الفرنسية لمجموعة رئيسية من مقالات ماكس هوركهايمر فى الثلاثينات بعنوان ‘النظرية النقدية’(5) لتعريف النظرية النقدية "أمس" من خلال ثلاثة أهداف أو ثلاث مهام رئيسية: 1: حَمْل الوعى إلى كل نظرية بالمصلحة الاجتماعية التى تنفخ فيها الحياة وتحدِّدها 2: التحرر عن طريق عقلنة الواقع 3: تفكيك صيرورة العقل من أجل تمييز شتى صوره. ذلك أن قيمة النظرية "لم يعد من الممكن تحديدها من جانب واحد بدقة شروحها، بل تُقاس حقيقتها كذلك بوعيها بلعبة المصالح المتصارعة فى المجتمع؛ وهذا الوعى ... يأتى للانضمام إلى الدقة لتوليد الحقيقة" ... أىْ أن قيمة النظرية تتمثل فى "صلاتها بالوضع العملى ولا سيما بالمشكلات التى تشرع القوى الاجتماعية التقدمية فى حسمها". فليس من المدهش إذن أن النظرية النقدية لا تهدف "فقط إلى توسيع المعرفة بما هى كذلك، بل تهدف إلى تحرير الإنسان من الاستعباد" والمهمة المحددة بجلاء هى: "التحرر عن طريق العقلنة وبالتالى تصبح الثورة، بوصفها شرط إمكانية إحداث عقلنة لأسلوب الإنتاج، مرحلة من مراحل تحقيق هذه المهمة". فمن أين يأتى استنتاج ضرورة العقلنة والتنظيم الاجتماعى وفقا لمقتضيات العقل؟ كانت إجابة هوركهايمر القديمة (1934) هى أن "الغالبية الواسعة من البشر لهم مصلحة مشتركة فى التنظيم العقلانى للمجتمع". ويفسر المفكران الفرنسيان بالاعتماد على مقالات هوركهايمر القديمة: "لماذا؟ لأنه فى الوقت الحاضر تقوم اللعبة المتناقضة اللاعقلانية للمصالح المتضاربة بعرقلة السيطرة المادية على الطبيعة"، كما أن "مصلحة العدالة (التقسيم العادل للمنتجات، التوزيع العادل للوصول إلى متع الحياة) هى التى ستخدمها العدالة"، كذلك "فإن تحقيق مجتمع يتسق مع مقتضيات العقل هو الوسيلة الوحيدة لإقامة مجتمع من الناس الأحرار، لإنقاذ مشروع الحرية من طابع اليوتوپيا" ... "وهكذا يجرى تعديل مفهوم الفرد: فهو لم يعد الأنا المنعزل الذى يقف فى مواجهة حياة اجتماعية غريبة عليه، بل يصبح فى قلب تنظيم اقتصادى حلّ فيه ‘العمل التضامنى’ محلّ ‘المنافسة السلبية’، وفيه يتوافق حقا الخاص مع الجماعى، وإنما بذلك تبدأ سيادة الحرية". ويؤكد فيل سليتر أن إنتاج ماركيوز "منذ الستينات يسجل تقدما من جانب النظرية النقدية للمجتمع على المعهد فى فترة المجلة وعلى زملاء ماركيوز السابقين". ويتحدث بالمقابل عن تدهور هذه النظرية عند هوركهايمر على العكس من ماركيوز الذى يشدد على أن "سنوات هوركهايمر الأخيرة لم تكن خيانة للإنتاج المبكر للمعهد فحسب، بل كانت، كذلك، خيانة لنفس القيم التى ادّعى هوركهايمر داخل نطاق إطار نظرى اُبتُدع حديثا أنه لا يزال يؤيدها". فكيف ينظر هوركهايمر الثانى نفسه إلى هذه الخيانة كما يراها ماركيوز؟ يؤكد هوركهايمر فى مقال عام 1970 أنه "فى النظرية النقدية لتلك الفترة، كما فى النظرية النقدية اليوم كان لدينا الإحساس بأنه لا يمكن تحديد هذا المجتمع العادل بصورة مسبقة. وكان يمكن إدراك ما كان شرًّا فى مجتمع تلك الفترة، غير أنه لم يكن يمكن إدراك ما عسى أن يكون الخير؛ كان يمكن فقط العمل من أجل أن يختفى الشر فى نهاية المطاف". وينتقل مباشرة إلى السبب فى الانتقال من النظرية النقدية الأصلية إلى الجديدة قائلا: "وينبغى الآن أن أصف لكم كيف وصلنا من النظرية النقدية الأصلية إلى النظرية النقدية الراهنة. كان السبب وراء ذلك هو التحقق من أن ماركس كان مخطئا حول نقاط عديدة". كيف؟ يقول هوركهايمر: "لقد أكد ماركس أن الثورة ستكون نتيجة الأزمات الاقتصادية المتزايدة الحدة، أزمات مرتبطة بإفقار متزايد للطبقة العاملة فى كافة البلدان الرأسمالية"، ويعترض هوركهايمر: "أخذنا ندرك أن هذه النظرية باطلة، لأن وضع الطبقة العاملة أفضل بصورة ملموسة مما كان فى زمن ماركس"، وثانيا لأن "من الجلى أن الأزمات الاقتصادية الصعبة صارت نادرة. ويمكن أن يكون قد تم إيقافها بجانبها الأكبر بفضل تدابير سياسية واقتصادية"، وثالثا لأن "من المحتمل أن ما كان يتوقعه ماركس من المجتمع العادل فى نهاية المطاف لامبرر له". لماذا؟ "لأن الحرية والعدالة .... مرتبطتان تماما بقدر ما هما متعارضتان. فكلما كانت العدالة أكثر كانت الحرية أقلّ .... وكلما كانت الحرية أكثر .... ستكون هناك عدالة أقلّ". ويؤكد: "إننا نرى اليوم مستقبل المجتمع بطريقة مختلفة تماما عن تلك التى كنا بدأنا نراه بها فى ذلك الزمن. لقد توصلنا إلى اقتناع بأن المجتمع سيتطور إلى عالم مُدار بالكامل" ... "لقد كانت هذه هى الطريقة التى انتهت بها نظريتنا الجديدة إلى عدم النضال بعد الآن فى سبيل الثورة" .... "ستقود الثورة فى بلدان الغرب أيضا إلى شكل جديد للإرهاب، إلى وضع جديد مرعب". ولا يبقى سوى صون استقلال الفرد وكذلك صون العقلية اللاهوتية: "المعتقدات ينبغى أن تبقى، ليس كعقائد، بل فقط كتعبير عن حنين. لأننا ينبغى أن يربطنا جميعا حنين أن لا يكون هذا الذى يحدث فى العالم، الرعب والظلم، الكلمة الأخيرة فيه، بل أن توجد كلمة أخرى، وهذا هو ما نؤكده لأنفسنا فيما نسميه بالدِّين". وفى تناولهما للنظرية النقدية "اليوم"، يؤكد المفكران الفرنسيان فيرى و رينو أن العقلنة صار يجرى فهمها على أنها "ميل ملازم لتطور البشرية"، كما أنها لم تعد تحريرية بل صارت استعبادية. وبالتخلى عن الثورة والتحويل الثورى للواقع وعن "الآمال البعيدة المجردة" لا يبقى سوى الانغلاق داخل الأوضاع السائدة والحفاظ ضمن نطاقها على ما لا يزال إيجابيا: على استقلال الفرد وعلى بُعْدٍ دينىّ للوعى من خلال "فصل الدين عن العقائدية" ... "وبإدخال الشك فيه، من أجل إنقاذه، يجرى الحفاظ على العقلية اللاهوتية"، والأهم كما يرى هذان المفكران "التخلى الكلى عن المهام الثورية المكونة للماركسية الأصلية للنظرية النقدية". لسنا إذن إزاء تطور بل نحن إزاء قطيعة بين النظريتين الأصلية والجديدة. وإذا كان هوركهايمر هو المفكر المخضرم للنظريتين، فإن هابرماس يبدأ مع القطيعة، مع النظرية الجديدة. ولتطابق مواقفه فى كثير من الأحيان فيما يتعلق بالأحداث الجارية مع أفكار الإدارة الأمريكية وحلف الأطلنطى، يدين كثيرون هابرماس ويعتبرون مواقفه السياسية نابعة مباشرة من تصوراته النظرية أىْ من النظرية النقدية الجديدة. فقد أيَّد هابرماس حرب الخليج فى 1991 وفسَّر موقفه بأن احتلال الكويت كان انتهاكا للقانون الدولى وبأن صدام هدد إسرائيل بالحرب الكيميائية، كما أيَّد تدخل حلف الأطلنطى ضد صربيا فى 1999 لأن "المجتمع الدولى يجب أن يكون قادرا على القيام حتى بعمل عسكرى، بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى"، ويصل أولريش ريپّيرت Ulrich Rippert فى مقال له (5 يونيو 1999) إلى حد القول إن النظرية النقدية تعمل كنظرية حرب انطلاقا من موقف هابرماس من حرب البلقان ويضم هابرماس إلى قائمة أولئك الذين كانوا يحتجون ضد حرب ڤييتنام قبل أن يرتدُّوا ومنهم يوشكا فيشر Joschka Fischer الراديكالى الفرانكفورتى السابق ووزير خارجية ألمانيا إلى وقت قريب. وقد رأى هابرماس أن حرب البلقان التى تهدف إلى فرض السلام بإقرار من المجتمع الدولى (حتى بدون تفويض الأمم المتحدة) تمثل "خطوة على الطريق من القانون الدولى الكلاسيكى للأمم إلى القانون العالمى (الكوزموپوليتانى) لمجتمع مدنى عالمى"، ويسخر ريپّيرت من هابرماس قائلا إنه يريد أن يجعلنا نعتقد أن "إرهاب الناتو سوف ينتج مجتمعا مدنيا عالميا ديمقراطيا"، وينتهى إلى أن هذه المواقف السياسية ﻟ هابرماس تنبع بصورة مباشرة من تصوراته النظرية. على أننى لا أميل إلى مثل هذا الربط المباشر، وعلى سبيل المثال كيف نفسر ضمن هذا الإطار عدم رضى هابرماس عن الحرب على العراق فى مقال له فى 17 أبريل 2003 (فرانكفورت ألجمانيه تسايتونج) وإنْ كان شرطه الوحيد فى 16 ديسمبر 2002 لحرب ضد العراق هو "تفويض الأمم المتحدة" مع دعوته الحارة إلى استنفاد كل الوسائل الأخرى قبل اللجوء إلى الحرب؟ على أنه لا شك فى أن هابرماس مفكر كبير يحتاج إلى جهود ضخمة لاستيعاب فكره بضخامة حجمه وعمقه وتعقيده. ويطالب المفكران الفرنسيان فيرى و رينو بأنْ "يجرى الإقرار بأنه من الخصوبة بمكان من الناحية الفلسفية القيام بإعادة فتح ملف المدرسة لنرى كيف تناول أدورنو، ثم هابرماس (بعد موت هوركهايمر)، المشكلات التى خلَّفها هوركهايمر" ويريان "أن المسائل التى طرحها هوركهايمر الأحدث ... ترفع الماركسية حقا إلى مستوى مشكلاتها الحقيقية"، أىْ إذا استطاعت الماركسية استيعاب وحلّ تلك المشكلات بصورة حقيقية. على أن الإشكالية الخاصة بعلاقة النظرية النقدية فى طبعتها الجديدة بنظرية الثلاثينات توجب هنا تركيزا على نوع النقد الذى نجده عند هابرماس وقد يكفى مثال أو مثالان لتوضيح ذلك. عند تطبيقه لنظرية الفعل التواصلى فى دراسة رئيسية عن القانون 1990 Facts and Norms (الوقائع والقواعد المعيارية) على مشكلة كيف يكتسب القانون الشرعية، يرفض هابرماس اللجوء إلى التماسك الشكلى للنسق القانونى لصالح إرساء أسس القانون فى صميم العقلانية التواصلية أىْ أن يستمدّ القانون قوته وشرعيته من السماح لكل المصالح بأن تعبر عن نفسها فى أساسه وتأويله. إنه إذن نقد ينطلق من العمل على "تصالح" ... "كل المصالح" وليس نقدا على أساس مصلحة ترتبط بقوى اجتماعية تقدمية أو ثورية غايتها المجتمع العادل حقا على أنقاض المجتمع السائد الذى لا يمكن أن يكون مجتمع كل المصالح بل هو مجتمع البؤس والظلم والرعب لمصلحة طبقات سائدة بعينها. والحقيقة أن مناهج وتصنيفات وأنساق هابرماس لا يمكن أن تتحول إلى نظرية نقدية بالمعنى المقصود لمجرد وضع الاسم الرنان للنقد عليها مع الربط المباشر لهذا النقد مع كل المصالح. مثال آخر: يميز هابرماس ثلاثة مجالات معرفية أصلية عامة تُولِّد فيها المصلحة البشرية المعرفة، وتحدد هذه المجالات المقولات المتصلة بما نفسره كمعرفة وتحدد أيضا أسلوب اكتشاف المعرفة وما إذا كانت حقيقية، كما تحدد المصالح المعرفية، وهى قائمة فى مختلف مظاهر الوجود الاجتماعى 1: معرفة العمل work: طريقة سيطرة الإنسان على بيئته، وهذا العمل هو الفعل الأداتى. وتقوم المعرفة هنا على الاستقصاء التجريبى (الإمپيريقى) وتحكمه قواعد تقنية. ويتميز هذا المجال بالعلوم التجريبية-التحليلية التى تستخدم النظريات الاستدلالية؛ مثلا: الفيزياء والكيمياء والبيولوچيا يصنفها هابرماس باعتبارها تنتمى إلى نطاق العمل 2: المعرفة العملية practical أو المتعلقة بالممارسة. ويخص هذا المجال التواصل الاجتماعى الإنسانى أو "الفعل التواصلى" communicative action وتنتمى إليه فروع المعرفة التاريخية والتأويلية، ويصنف هابرماس العلم الاجتماعى الوصفى والتاريخ وعلم الجمال والقانون إلخ.. على أنها تنتمى إلى هذا المجال العملى 3: المعرفة التحررية: التحرر من القوى الليبيدية والمؤسسية والبيئية التى تقيد خياراتنا وسيطرتنا العقلانية على حياتنا. وهى قوى خارج نطاق السيطرة البشرية (التشيؤ). والوعى الذاتى النقدى محرِّر بمعنى أنه على الأقل يدرك المرء الأسباب الحقيقية لمشكلاته. وهنا يتم اكتساب المعرفة من خلال تحرير الذات عبر التأمل الذى يفضى إلى وعى متحول، والأمثلة وفقا لهابرماس: العلوم النقدية التى تشمل النظرية النسوية والتحليل النفسى ونقد الأيديولوچية. فهل ترك الخارج الاجتماعى التاريخى الذى ينفخ الحياة فى كل نظرية المكان لهذا الوعى الذاتى النقدى المحرِّر عبر التأمل؟ وهل تنتهى نظرية نقد النسق إلى بناء الأنساق وإقفال النسق مع إضافة عنصر هامشى يتمثل فى النقد المحرِّر للذات عبر التأمل أو الدِّين أو اللاهوت أو الحنين؟! إشارات 1: هذا المقال مكتوب أصلا بمناسبة ندوة عن يرجن هابرماس منذ فترة. 2: فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت: نشأتها ومغزاها - وجهة نظر ماركسية، ترجمة خليل كلفت، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 2000، الطبعة الثانية 2004. 3: انظر الترجمة العربية: ماكس هوركهايمر: العقل والثورة - هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1979. 4: Max Horkheimer: Théorie Critique, Payot, Paris, 1978. 5: المصدر نفسه. 13 مصر وبلاد النوبة Egypt in Nubia، تأليف: والتر إمرى Walter Emery، 1965، ترجمة: تحفة حندوسة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2005 (مقدمة) بلاد النوبة، كما نعرفها اليوم، منطقة تمتد جنوب مصر وشمال السودان؛ بين الشلال الأول جنوبى أسوان والشلال السادس شمالى الخرطوم، وهناك أيضا جبال النوبة فى كردفان. والنوبيون، كما نعرفهم اليوم، أعنى الناطقين باللغة النوبية (أو بالأحرى باللغتين النوبيتين الموجودتين فى وادى النيل)، يعيشون على أرض هذه البلاد، فى منطقتين متمايزتين؛ النوبة السفلى أو المصرية، والنوبة العليا أو السودانية. على أن هذا التطابق بين منطقة جغرافية تحمل اسم النوبة منذ وقت طويل وسكان يحملون اسم النوبيين وينطقون باللغة أو اللغات النوبية الحالية، لم يكن موجودا منذ فجر التاريخ بل إنه لم يتحقق إلا منذ القرون الأولى بعد ميلاد المسيح. وقبل ذلك كانت المنطقة تسمى النوبة أو "تا-سيتى" Ta-Seti: "كوش" للنوبة السودانية الحالية، و"واوات" للنوبة المصرية الحالية. وكان السكان نوبيين نسبة إلى اسم المنطقة الجغرافية غير أنهم لم يكونوا ناطقين بلغة تمثل اللغة أو اللغات النوبية الحالية امتدادا لها، بل كانوا يشكلون مجموعات سكانية متباينة إثنيًّا وقوميًّا ولغويًّا مايزال رسم خريطة لتعاقبها الإثنى أو القومى أو اللغوى أمرا بعيد المنال. وتتمثل المجموعة الإثنية ethnic group أو الإثنوس ethnos فى جماعة من البشر تكونت تاريخيا تجمعها وحدة اللغة والثقافة والأرض وتميز نفسها باسم إثنى ethnonym خاص بها. وعلى هذا يمكن القول إن النوبيين الحاليين يشكلون مجموعة إثنية أو قومية تشمل بصورة خاصة النوبيين النيليين بخلاف النوبيين الجبليين الذين لا تجمعهم بالنوبيين فى الوادى وحدة الأرض كما يختلفون عنهم من نواحٍ ثقافية ولغوية ولهجية متعددة. وإذا كانت بلاد النوبة قد شهدت، وفقا لعلماء الآثار، تعاقب أربع مجموعات بشرية منذ الأسرة الأولى فى العصر التاريخى المبكر حتى نهاية الأسرة العشرين والدولة الحديثة فى مصر القديمة، واستمرت إحداها، الأخيرة، حتى القرون الميلادية الأولى، فإن النوبيين الحاليين ليسوا امتدادا إثنيا أو قوميا أو لغويا لتلك المجموعات البشرية التى لا يمكن إلا افتراض اختلاف وتباين حضاراتها وثقافاتها ولغاتها فيما بينها من جهة وبينها وبين المجموعة الإثنية النوبية الحالية من جهة أخرى، ولا سبيل إلى الآن، وربما إلى الأبد، لاكتشاف التسلسل الزمنى للغاتها على وجه الخصوص. وفى مقابل هذا التاريخ الغامض للطابع الإثنى ethnicity للمجموعات السكانية التى تعاقبت على منطقة النوبة، نجد الاتصال التاريخى الطويل الأمد بالنسبة للجماعة الإثنية المصرية التى استمرت آلاف السنين. ذلك أن اللغة المصرية القديمة استمرت آلاف السنين، على الأقل منذ أن قام ما يسمى بجنس الأسرات بغزو مصر (3400 ق. م)، حية منطوقة لكل سكان مصر، مكتوبة بالهيوغليفية أو بالهيراطيقية أو بالديموطيقية أو بالقبطية ذات الأصل اليونانى مع التعديلات المصرية، ولم تترك مكانها للغة أخرى (اللغة العربية) إلا بعد الفتح العربى، وبصورة تدريجية للغاية استغرقت قرونا طويلة، من خلال عملية غسيل دم لغوى شامل، ولكنْ فى إطار نفس المجموعة الإثنية المصرية الواحدة المستمرة طوال هذا التاريخ الممتد، مهما كانت بوتقة لانصهار وامتزاج شعوب وثقافات أخرى معها، مع قدوم فاتحين جدد من الجنوب النوبى (الكوشى)، أو الشمال الأوروپى (الإغريقى أو الرومانى)، أو الشرق الهكسوسى أو الأشورى أو الفارسى أو العربى أو التركى، أو حتى الغرب الليبى. وبطبيعة الحال فإن فكرة استمرار جماعة إثنية أو قومية واحدة منذ فجر التاريخ إلى الآن، رغم إحلال اللغة العربية محل اللغة المصرية القديمة فى مرحلتها القبطية، ورغم إضافة الانتماء الجديد إلى الثقافة العربية، تثير إشكالية حقيقية. وربما وجدت هذه الإشكالية حلا فى حقيقة أن هذه التطورات والتبدلات لم تحدث من خلال إبادة أو تهجير شعب وإحلال شعب آخر محله بل حدثت فى إطار استمرارية نفس الجماعة الإثنية التى اكتسبت لغة جديدة وثقافة جديدة مما أدى إلى تراكب طبقات الانتماءات الثقافية والقومية داخل الجماعة البشرية الأصلية الواحدة، حيث لا يستبعد التكوين الأصلى الانتماءات الجديدة (العربية) التى لا تستبعد بدورها خصائص وخصوصيات إثنية طويلة الأمد. ولعل ما سبق أن يكون مفيدا فى محاولة استيعاب عنوان هذا الكتاب، فى علاقته بموضوعه، بعيدا عن أىّ التباس ممكن. والحقيقة أن عنوان الكتاب فى أصله الإنجليزى، وهو Egypt in Nubia أىْ "مصر فى النوبة (أو فى بلاد النوبة)"، يختلف بعض الشيء عن عنوانه فى الطبعة العربية "مصر وبلاد النوبة". وقد نفهم من العنوان الأصلى للكتاب (مادام المؤلف عالم مصريات) أنه يتناول آثار الحضارة المصرية فى منطقة النوبة فى العصور القديمة، غير أن الكتاب يتناول إلى جانب ذلك حضارات نوبية مستقلة: حضارات كوش فى ممالك كرما (كرمة)karmah أو Kerma، وناپاتا Napata، ومروى Meroë، وحضارة المجموعة x (س) النوبية المجهولة، وحضارة نوبية مستقلة بالمعنى المتطابق إثنيا ولغويا مع النوبة الحالية وذلك فى النوبة القبطية، بل تعود بنا الدراسات الأحدث إلى الوراء، إلى حضارة قديمة فى منطقة النوبة فى فجر التاريخ (وما قبل التاريخ) ربما كانت نقطة انطلاق الحضارة فى وادى النيل فى زمن سابق حتى على أقدم عهود حضارة المجموعة الإثنية المصرية. على أن عنوان الطبعة العربية لا يقدم حلا يزيل هذا الالتباس. ذلك أنه يوحى بأن موضوع الكتاب يتناول مصر كما يتناول النوبة، على حين أنه لا يتناول الحضارة المصرية فى الواقع إلا من حيث آثارها وتاريخها فى منطقة النوبة، السفلى والعليا، فى مختلف عهود التاريخ المصرى القديم. ومهما يكن من شيء فإننا إزاء حضارة واحدة متفاعلة الأجزاء امتدت على ضفاف النيل بين الشلال السادس شمالى الخرطوم والبحر الأبيض المتوسط شمالا، طوال عدة آلاف من السنين، وهى حضارة واحدة مهما تعددت مراكزها وقواها المركزية الطاردة، ومهما تعددت الهجرات الكبرى لسكانها شمالا وجنوبا، ومهما تعددت الفتوحات والتوسعات الإمپراطورية فى الاتجاهين، ومهما تعددت إسهامات المجموعات الإثنية التى سيطرت الواحدة منها على الأخرى أو خضعت الواحدة منها للأخرى، فى هذا العصر التاريخى أو ذاك، مع التسليم بأن المجموعة الإثنية المصرية الواحدة كانت هى الصانعة الكبرى لحضارة أو حضارات وادى النيل فى أغلب مراحلها. ويكفى دليلا على هذا التفاعل الحضارى الكبير احتمال أن حضارة "قسطل" النوبية (المجموعة A ألِف) قد تكون نقطة انطلاق حضارات وادى النيل، وكذلك واقع أن حضارات كوش كانت فى كثير من مراحلها من صنع مجموعات نوبية متمصرة ثقافة ودينا وأحيانا لغة وكتابة. وبقدر ما يتعلق الأمر بالحضارة أو الحضارات النوبية فإن المقصود بها يتمثل فى الحضارات التى تعاقبت على إقليم أو أرض أو بلاد النوبة، والتى أقامها المصريون مباشرة، أو أقامتها مجموعات سكانية ربما كانت لا تختلف إثنيا عن الجماعة الإثنية المصرية، أو بناها سكان يمكن أن نسميهم نوبيين باعتبارهم سكان النوبة رغم أنهم كانوا يتمثلون فى مجموعات إثنية أو قومية متباينة إثنيا تعاقبت على تلك الأرض، ولم تكن الحضارة بمعنى أن النوبيين الحاليين يشكلون امتدادها القومى إلا فى النوبة القبطية وما تلاها. ويقع الكتاب فى ثلاثة أقسام، أو بالأحرى أبواب وفقا للطبعة العربية. الباب الأول مقدمة (فصلان)، والثانى حول التنقيبات الأثرية فى منطقة النوبة (أربعة فصول)، والثالث بعنوان موجز تارخ النوبة (عشرة فصول). والحقيقة أنه لا مناص من أن يستحوذ على قارئ الكتاب ذلك الإحساس غير العادى الذى كان يسيطر على المؤلف نفسه وهو يكتب عن النوبة باعتبارها موشكة على الغرق، أو حتى "الموت" كما يقول، متحسرا على حياتها الجميلة التى كانت توشك على الاختفاء، متعاطفا مع أهلها، مدفوعا بقوة هائلة إلى الغوص فى أعماق الأسرار التاريخية والحضارية التى أخذت تتكشف مع تواصل التنقيبات الأثرية، فى محاولة مستميتة للتحقق من تاريخ موجز دقيق يقدمه لهذه المنطقة، رغم النواقص والثغرات والألغاز بحكم حدود المعطيات الأثرية المتوفرة. ويبدأ الكتاب فى مقدمته بعرض صورة عامة عن النوبة التى يقول إنها "كانت من أهم مناطق الصراع الرئيسية فى العالم القديم حيث كان الصراع مستمرا بين الأجناس المختلفة، البيضاء منها والسوداء، للوصول إلى السيادة فى شمال أفريقيا" بحثا عن الذهب والعاج والأبنوس والأخشاب والنحاس والحديد والديوريت والزمرد ومختلف منتجات كوش وهو الاسم القديم لشمال السودان، وبين سكان كوش، العدوّ الجنوبى لمصر القديمة، الذين "نزحوا نحو الشمال إلى الأراضى الأكثر خصوبة من وادى النيل حتى شاطئ البحر المتوسط". كما تعرض المقدمة لحياة النوبيين الحاليين وعاداتهم ولغتهم، غير أنه يؤكد أن "الصلة التى تربط سكان النوبة الحاليين بسكان العصر القديم أمر مشكوك فيه"، وأنه "يبدو أنه وُجدت على الأقل فترة واحدة كانت النوبة السفلى فيها غير مسكونة"، على أنه يعود فيشير إلى أن "بعض العادات والفنون والحرف" النوبية الحالية "تؤيد الفكرة القائلة بأن النوبيين الحاليين ينحدرون إلى حد كبير من نسل هؤلاء الذين عاشوا فى هذه المنطقة من وادى النيل فى عصر فراعنة الدولة الوسطى". ويقدم المؤلف، حول حياة وعادات وحرف النوبيين الحاليين، معلومات وملاحظات واستنتاجات سريعة بالإضافة إلى أنها متسرعة، لا يبرر الموضوع الحقيقى للكتاب التعليق عليها. وفى الفصل الثانى من المقدمة يتناول المؤلف مشروع بناء السد العالى الذى اتخذت التنقيبات الأثرية فى المنطقة النوبية، المصرية والسودانية، ذلك الحجم الضخم الهائل بسبب تهديده بإغراق الآثار التى كان من الضرورى إنقاذها والكشف عن المزيد منها قبل الطوفان. ويشير المؤلف إلى مفارقة حقيقية تتمثل فى أننا ندين لبناء خزان أسوان 1899-1902، وتعليته الأولى 1907-1912، وتعليته الثانية 1929-1934، وأخيرا بناء السد العالى الذى توَّج هذه الإنشاءات التى دمرت آثار النوبة وحياتها، بمعرفتنا ومعلوماتنا عن آثار وتاريخ النوبة. فلولا التهديد المتعاقب بالدمار الذى تعرضت له منطقة النوبة بسبب مشروعات الرى هذه لما حدثت تلك التنقيبات والمسوح الأثرية على ذلك النطاق الواسع فى سباق مع الزمن "الآن أو أبدا"، كما يقول. ويتعاقب البابان الثانى (التنقيبات) والثالث (موجز تاريخ النوبة) ليرويا نفس القصة الواحدة ولكن بطريقتين مختلفتين. ففى فصول الباب الثانى يروى المؤلف قصة التنقيبات التى قامت بها بعثات أثرية حكومية وغير حكومية مختلفة، قبل كل من التعلية الأولى لخزان أسوان (المسح الأثرى الأول) والتعلية الثانية (المسح الأثرى الثانى)، بمختلف مواسمهما، فى مختلف مناطق النوبة المصرية والسودانية، ثم التنقيب العالمى الواسع النطاق استجابة لنداء اليونسكو قبل بناء السد العالى فى أوائل الستينات. وفى سرد هذه القصة فى هذا الباب لا وجود لتسلسل زمنى لتاريخ النوبة بل تتتابع الكشوف الأثرية مع تقدم أعمال المسح، حيث يلقى هذا الكشف أو ذاك الضوء على فترة أقدم أو أحدث من تاريخ المنطقة. ولا يقوم المؤلف بتقديم معلومات إدارية وتنظيمية عن البعثات وخطط عملها بطريقة تقريرية جافة بل يقف عند هذا الكشف الأثرى أو ذاك لتوضيح طبيعته والحضارة التى ينتمى إليها والضوء الذى يلقيه على التاريخ وكذلك اللغز الذى قد ينطوى عليه، فتتكشف هذه المعلومات والأسرار والألغاز بترتيب التوصل إليها والذى لا يتطابق بطبيعة الحال مع تعاقب مراحل تاريخ المنطقة. وإنما فى الفصل المعنون "موجز تاريخ النوبة" سنجد القصة ذاتها مسرودة بالتسلسل الزمنى لمختلف مراحل هذا التاريخ، بالاعتماد على الكشوف الأثرية وبالعودة المتواصلة إليها بالإضافة إلى مختلف مصادر التاريخ المكتوب. ولا شك فى أن القارئ سيجد إلى جانب المعرفة التاريخية والحضارية متعة غير متوقعة إلا فى رواية شائقة، خاصة فى باب التنقيبات الأثرية. ذلك أن هاجس "الآن أو أبدا" الذى تمت به تلك التنقيبات على أيدى مختلف بعثات وفرق المسوح الأثرية ينتقل، من خلال السرد الحى، من المؤلف إلى القارئ، حيث يعيش مع الكتاب دراما حقيقية. ذلك أن الخيار الذى كان مطروحا أمام مصر كان قاسيا حقا: بناء السد العالى (وقبله بناء خزان أسوان وتعليته مرتين) بحكم الضرورة الاقتصادية القصوى وبالتالى التضحية بكل ما لا يمكن إنقاذه من الآثار والتاريخ والماضى، أم العكس؟ أىْ التضحية بالحاضر؟ وكما يقول المؤلف فإن "الحاضر لا يمكن أن يُضَحَّى به من أجل الماضى". وكان لا مناص من الاختيار: بناء السد العالى مع إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ونحن نعرف ما تم إنقاذه، ونعرف جانبا مما تم دماره، ولكننا لا نعرف بالطبع كل ما تم دماره، فهناك آثار وأسرار ضاعت إلى الأبد، كما ضاعت حياة خاصة حميمة عاشها الإنسان النوبى فى تلك المنطقة كموطن تاريخى، ولكنْ ربما ليس إلى الأبد، فربما حقق المستقبل نبوءة المؤلف الذى يقول"إن كثيرا من هؤلاء النوبيين سيرجعون إلى هذه الأراضى". أما المادة التى يقدمها موجز تاريخ النوبة، وهو موضوع الفصول العشرة التى يتألف منها الباب الثالث، فإنه يمكن تصنيفها إلى: أولا، وقبل كل شيء، الآثار المصرية منذ فجر التاريخ وطوال التاريخ المصرى القديم فى النوبة السفلى (واوات) والنوبة العليا (كوش)، وما تدل عليه هذه الآثار وكذلك مصادر التاريخ الأخرى بشأن الفتوحات والحروب المصرية (وكذلك الأشورية والفارسية والبطلمية والرومانية) فى النوبة. ولا شك فى أن هناك فارقا حقيقيا بين منطقتين نوبيتين متمايزتين، فالنوبة السفلى ليست مركز حضارة مصر، كما أنها ليست مركز حضارة كوش، كما أنها فى أكثر الأحيان ليست مركزا لحضارة مستقلة، بل كانت ساحة صراع بين الحضارتين المصرية والكوشية، وهو صراع يمتد فى أكثر الأحيان جنوبا إلى أعماق كوش من كرما إلى نپاتا إلى مروى، كما يمتد فى بعض الأحيان شمالا إلى الحدود الجنوبية لمصر وحتى إلى أعمق أعماقها فى طيبة ومنف وحتى البحر المتوسط. ثانيا، حضارة كوش فى ممالك كرما ونپاتا ومروى، التى امتدت منذ بداية الدولة الوسطى فى مصر حتى القرن الرابع الميلادى. ثالثا، حضارة المجموعة (س) النوبية المجهولة، أىْ حضارة بلانة (وقسطل)، فى القرون الميلادية الرابع والخامس والسادس. رابعا، حضارة نوبية مستقلة يعتبر النوبيون الحاليون جميعا فى النوبة الحالية (المصرية والسودانية معا) امتدادا مباشرا لمجموعتها الإثنية اللغوية، والمقصود بذلك حضارة ممالك النوبة القبطية الثلاث من القرن السادس الميلادى إلى القرن الرابع عشر الميلادى، وهى المجموعة المستمرة بعد ذلك إلى الآن. على أننا سنشير فى النهاية إلى حضارة قسطل (المجموعة A "ألِف") التى ربما كانت أقدم حضارات وادى النيل كما سبقت الإشارة. ويقدم الكتاب هذا التاريخ من خلال استعراض مراحله على أساس المجموعات السكانية النوبية التى عاصرت مراحل تاريخ مصر القديمة، وهى – كما يقرر علماء الآثار – أربع مجموعات ويمكن تلخيصها من قائمة وردت فى الكتاب كم يلى: المجموعة النوبية الأولى: وقد عاصرت فى مصر العصر التاريخى المبكر – الأسرات 1-3 (3200-2680 ق.م). المجموعة النوبية الثانية: وقد عاصرت فى مصر الدولة القديمة – الأسرات 4-6 (2680-2258 ق.م) وعصر الانتقال الأول – الأسرات 7-10 (2258-2052 ق.م). المجموعة النوبية الثالثة: وقد عاصرت فى مصر الدولة الوسطى- الأسرتان 11 و 12 (2052-1786 ق.م) وعصر الانتقال الثانى – الأسرات 13-17 (1786-1600 ق.م). المجموعة النوبية الرابعة: وقد عاصرت فى مصر – الأسرات 18-20 (1600 1085 ق.م). على أننا سنرى أن هذه المجموعة النوبية الأخيرة عاصرت أيضا العهد التاريخى المتأخر – الأسرات 21-31 (1085-332 ق.م) ومنها أسرة ليبية (22) وأسرة كوشية (25) وأسرتان فارسيتان (27 و 31)، كما عاصرت العصرين الپطلمى والرومانى واستمرت حتى نهاية مملكة مروى فى القرن الرابع الميلادى. ويقدم الباب الثالث موجزا لتاريخ النوبة فى مسارين؛ يتمثل أحدهما فى رسم صورة صارت أوضح ، بفضل الكشوف الأثرية خلال القرن العشرين، لانتشار حضارة مصر فى مختلف مناطق النوبة (المعابد، الحصون، مناجم الذهب والنحاس والحديد، إلخ.)، وكذلك معارك وحروب السيطرة على النوبة أو التصدى لاعتداءاتها. ويتمثل المسار الآخر فى محاولة لاستكشاف المجموعات البشرية التى شغلت أرض النوبة، بحثا عن حضاراتها وثقافاتها ودولها وممالكها وإمپراطورياتها من حيث خصائصها وأسرارها وقيامها وانهيارها. وسأحاول رسم "هيكل عظمى" لتعاقب المجموعات السكانية الأربع السالفة الذكر، بما يساعد القارئ على استيعاب المادة الغنية التى يقدمها المؤلف. حضارة المجموعة النوبية الأولى: يؤكد المؤلف أن سكان هذه المجموعة الأولى وهى التى عاصرت العصر التاريخى المبكر فى مصر القديمة "لا يختلفون فى مميزاتهم الجسدية عن المصريين فيما قبل الأسرات وفى الحقيقة لا شك فى أنهم هم السكان أنفسهم الموجودون فى بيئة لا اختلاف بينها". ولأن النوبة كانت قليلة السكان قبل أن يغزو جنس الأسرات مصر (3400 ق.م)، ثم شهدت زيادة السكان ودخول حضارة جديدة، فإن الاحتمال الوحيد كما يرى المؤلف لتفسير هذه الزيادة السكانية هو "تسرب عدد كبير من سكان ما قبل الأسرات منسحبين تحت ضغط الشمال نتيجة غزو المتقدمين من فراعنة مصر الأُوَل". وقد تمتع "قوم" المجموعة الأولى فى النوبة السفلى بعصر انتعاش نسبى، كما يقول. على أن حضارة المجموعة الأولى لم تتطور فيما يبدو تحت السيطرة المصرية لأن اختفاءها يعاصر غزو المصريين الأوائل للمنطقة واستعمارها. وقد حدث الاختفاء المفاجئ لحضارة المجموعة الأولى عند غزو النوبة فى أواخر عصر الأسرة الثانية. حضارة المجموعة النوبية الثانية: مع أن المجموعة الثانية كانت تنحدر إلى حد ما من المجموعة الأولى إلا أنها كانت تنطوى على نواحى اختلاف كثيرة ربما كانت ترجع إلى تدهور عام أو إلى ظهور عناصر سلالية جديدة آتية من الجنوب. وقد عاصرت هذه الحضارة الفقيرة الدولة القديمة فى مصر، وكذلك عصر الانتقال الأول. وفى هذا العصر "ضاعت قوة الحكم المركزى وأعقب ذلك عصر فوضى فى الوطن مما أدى إلى نتيجة حتمية وهى أن مصر ضيعت كل ممتلكاتها فى الجنوب". وبالتالى نشأت حضارتان هما حضارة المجموعة النوبية الثالثة وحضارة المجموعة النوبية الرابعة. حضارة المجموعة النوبية الثالثة: أعطى الفراغ الناشئ عن انسحاب القوة المصرية من النوبة، فى العصر الانتقالى الأول، الفرصة للنوبيين لكى يُنشئوا حضارة مستقلة عُرفت بالمجموعة الثالثة عاصرت الدولة الوسطى والعصر الانتقالى الثانى. "ولا يزال اسم وأصل هؤلاء المهاجرين غير معروف ولكن يبدو أن لهم علاقة – من ناحية الشكل والحضارة – بسكان النوبة السفلى الأوائل. فالمهاجرون والسكان القدامى ينتمون أساسا إلى المميزات الزنجية فى المادة التشريحية المكتشفة فى مقابرهم". على أن "هذا العنصر الزنجى القليل جعل السكان الجدد يختلفون تشريحيا عن سكان المجموعتين الأولى والثانية إلا أنهم ورثوا حضارة أجدادهم وعملوا على تنميتها". ذلك أن "فخَّار المجموعة الثالثة يشبه إلى حد كبير فخَّار مصر فى عصر ما قبل الأسرات ولعل هذا يمكننا من أن نرى فى حضارتهم الرعوية ما يمكن أن يكون تطورا للحضارة ‘النيوليثية‘ [حضارة العصر الحجرى الحديث] المتأخرة التى وُجدت فى كل وادى النيل الشمالى، إلا أن هذه الحضارة سرعان ما انتهت بغزو المصريين فى آخر الألفية الرابعة ق.م." ولكنْ "ما زالت معرفتنا بهؤلاء الناس قليلة ومع أننا نستطيع أن نتقصى آثار تطور حضارتهم منذ أقدم عصورها فى عصر الانتقال الأول (2258 ق.م.) حتى انتهائها فى أوائل الدولة الحديثة (1570 ق.م.) فهناك سؤال حيوى عنهم لم يجد جوابا، وهو حدود حضارتهم الجنوبية: هل انتهت عند الجندل الثانى أم امتدت فى النوبة العليا، وإنْ كانت قد امتدت جنوبا فإلى أىّ مدى وصلت؟ وترجع أهمية الإجابة على هذا السؤال إلى أنها سوف تجلو لنا ستمائة عام من تاريخ النوبة الغامض". وقد وصلت حضارة المجموعة الثالثة إلى ذروة نضجها، فى النوبة السفلى(واوات)، التى لم يشملها النشاط العسكرى المصرى للدولة الوسطى، فظلت بعيدة عن تأثير الحضارة المصرية. وكان أهل النوبة السفلى عندئذ "أكبر عددا منهم فى أىّ عصر أثناء الحكم المروى أىْ بعد حوالى ألف سنة"، ومع أن بقايا المجموعة الثالثة "تشبه ما عثر عليه فى كرما [أولى ممالك وعواصم كوش] إلا أنها تختلف تماما عنها وتُنسب إلى قوم آخرين". وبعد تحرير مصر من الهكسوس بدأ أحمس (الأسرة الثامنة عشرة) الحروب الجنوبية التى أسفرت عن استعادة السيطرة على النوبة وتعمير المصريين لها. وبتأثير المرور المتواصل الطويل للجيوش المصرية عبر النوبة السفلى فى طريقها إلى ساحة القتال مع كوش فى الجنوب، إلى جانب زيادة عدد المستعمرين المتصلين بالجيش والمحطات التجارية، على معتقدات وأسلوب حياة سكان هذه المنطقة اختفى "كل ما تبقى من حضارة المجموعة الثالثة". وهكذا فإن "النوبة، بعد غزوها، كان يسكنها جنس فقير يعتمد على الأشياء الرخيصة المستوردة من مصر" ولم تكن لهم ثقافة خاصة بهم. ولم يرد ذكر للنوبة السفلى (واوات) فى سجلات الحملات المصرية باعتبارها عدوَّة، "ومن الواضح أن هذه الأرض كانت تعتبر جزءا من مصر. وكان أهلها متمصرين إلى حد كبير وكان لزعمائهم ونبلائهم أسماء مصرية". حضارة المجموعة النوبية الرابعة (كوش): أظهرت الحفائر الأثرية فى "كرما"، فى النوبة العليا، "حضارة نوبية أخرى تشبه حضارة المجموعة النوبية الثالثة وفى نفس الوقت تختلف عنها وتنتمى إلى شعب آخر" – "ولم نعرف بعد حدودها الجغرافية ولا تتابعها التاريخى، مثلها فى ذلك مثل حضارة المجموعة الثالثة". وقد صار من الممكن بفضل الكشوف الأثرية "تأكيد الصلة بين حضارة أصحاب المقابر ‘الناقوسية‘ وأهل ‘كرما‘ واستبعاد صلتهم بحضارة المجموعة الثالثة. وبذلك يظهر أن الفرق السمراء التابعة للجيش المصرى [أىْ أصحاب المقابر الناقوسية] كانت تأتى من النوبة العليا". ويضيف المؤلف أنه "يبدو أن المجموعة الثالثة لم تكن قد انتشرت جنوبا حتى الجندل الثانى ولكنها اقتصرت (على) النوبة السفلى (واوات) تاركة النوبة العليا (كوش) لجيرانها المحبين للحروب. والتشابه الشديد بين الحضارة المعروفة بالمقابر ‘الناقوسية‘ فى مصر العليا والمادة التى عُثر عليها فى كرما واختلافها الواضح عن المجموعة الثالثة تجبرنا على أن نصل إلى نتيجة هى: أن المصريين لم يجمعوا المرتزقة من النوبة السفلى، وأن ‘واوات‘ و‘كوش‘ كانتا تختلفان جنسيا وحضاريا. وعلاوة على ذلك فإن المادة التشريحية فى المقابر الناقوسية المصرية زنجية العنصر، أكثر بلا شك، من المجموعة الثالثة النوبية". إذن، فيما بعد الشلال الثانى، فى النوبة العليا، وأثناء الفترة التى ساد فيها الضعف فى مصر، "تكونت قوة عسكرية هائلة فى الجنوب سماها المصريون ‘كوش‘ ومنذ ذلك الحين أصبحت كوش قوة دائمة التهديد للحدود الجنوبية – ولمصر نفسها- إلى درجة أنه عندما اتحدت مصر مرة أخرى تحت حكم فراعنة الأسرة الثانية عشرة العظام، وجد حكامها أنه من المحتم إنفاق جزء كبير من الثروة القومية فى بناء مواقع حماية كبيرة". ويؤكد المؤلف أن الإشارة إلى عدوّ مصر الجنوبى باعتباره "الزنجى" كانت مضللة لأن أهل كوش لم يكونوا زنوجا، وكان المصريون يستعملون كلمة ‘زنجى‘ (‘نحسى‘) "للإشارة إلى كل قاتمى اللون الذين يأتون من الجنوب مهما كانت أجناسهم". ويعبر المؤلف عن اعتقاده أن ما عُثر عليه فى المقابر الناقوسية فى مناطق عسكرية متفرقة من مصر "يرجع قطعا إلى أهل كرما ولا صلة له بحضارة المجموعة الثالثة ". ومن الجلى أن المجموعتين الثالثة والرابعة متعاصرتان خلال مرحلة طويلة وليستا متعاقبتين كما قد يبدو من الترتيب العددى فى تسميتهما غير أنهما مختلفتان جغرافيا، فقد كانت إحداهما (الثالثة) فى النوبة السفلى (واوات) بينما كانت الأخرى (الرابعة) فى النوبة العليا (كوش). على أن حضارة المجموعة الثالثة اختفت على حين استمرت حضارة المجموعة الرابعة، التى لم تكن على كل حال المجموعة الإثنية الأخيرة، فمع تطور واستمرار حضارة كوش فى كرما ثم نپاتا ثم مروى، ومع هجرات وغزوات لكوش من الغرب (النوباتاى) والشرق (أكسوم)، وفى سياق انهيار حضارة مروى ، تأتى مجموعات إثنية متعددة ستكون أشهرها مجموعة البليمى Blemmae (أو البليمز Blemmyes كما ترد فى هذه الترجمة وفقا للصيغة الإنجليزية) ومجموعة النوباتاى Nobatae اللتين يختلف علماء الآثار حول مسألة كون هذه أو تلك هى المجموعة النوبية المجهولة (س) التى أقامت حضارة "بلانة" فى النوبة السفلى خلال القرون الميلادية الرابع والخامس والسادس. ومنذ أواخر الأسرة الثانية عشرة (الدولة الوسطى) تسرب الهكسوس إلى مصر ومع ضعف الأسرة الثالثة عشرة قاموا بغزوها وامتد نفوذهم فيها حتى "قوص" جنوبا، وصارت مصر كلها تحت حكم ملوك الهكسوس بينما اتخذ الحكام الأصليون فى الجنوب من طيبة عاصمة لهم وحكموا محليا دافعين الجزية للمنتصر الأجنبى فى الشمال. وهكذا لم تبق لمصر قوة فى النوبة العليا فامتدت سلطة الحكام الكوشيين إلى منطقة واسعة من النوبة، مع أن جزءا كبيرا من النوبة السفلى (واوات) كان لا يزال تحت السيطرة المصرية أو تحت تأثير المصريين إلى حد كبير ولم يمتد إليها سلطان كوش، فيما يعتقد المؤلف استنادا إلى "تبنى أهل المجموعة الثالثة لطقوس الدفن المصرية التى ترجع إلى ذلك العصر" إلى درجة أن هذا "يمكن أن يدل على وجود عدد كبير من المهاجرين المصريين الذين هربوا من ضغط الهكسوس". أما كوش فقد صارت نصف مستقلة، وفى نپاتا تكونت حكومة منفى فى عام 950 ق. م.، عندما كانت مصر تحت سيطرة ملوك الأسرة الثانية والعشرين الذين كانوا من أصل ليبى، وترعرعت الحضارة الكوشية المصرية وأصبح لها طابع مميز لها، وانقلبت الأوضاع وكانت كوش "هى التى ستغزو مصر". وقد توطد سلطان ملوك الأسرة المالكة الكوشية قبل أن يحاولوا تأكيد سيادتهم على مصر، واستقبلت الجبانة الكبرى فى "كورو" موتاهم منذ عام 860 ق.م. أىْ قبل قيامهم بغزو الشمال بأكثر من مائة سنة. على أن أسلاف الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية التى حكمت مصر فى العصر التاريخى المتأخر (الفترة بين نهاية الدولة الحديثة وبداية الحكم البطلمى) يمتون بالصلة إلى جماعة أخذت بالحضارة المصرية مع أنها تنحدر من أصل كوشى، لعله يرجع إلى رؤساء مدينة كرما. وكانت "الطبقة الحاكمة فى كوش قد أصبحت بصفة عامة منذ عصر ‘كاشتا‘ والد ‘بعنخى‘ مصرية الفن والعمارة والديانة والثقافة والجنس، إذ نتجت روابط وثيقة بزواج أجيال من المستوطنين المصريين بأهل المنطقة". وكما هو معروف فقد دخلت مصر، بعد نهاية الدولة الحديثة، عهود العصر المتأخر، التى شهدت تدهور وانهيار الحضارة المصرية وقلتْ فيها فترات الازدهار. وخلال الألفية الأولى قبل الميلاد، وحتى الفتح العربى، تعاقب على مصر والنوبة فاتحون كثيرون: الليبيون (الأسرة الثانية والعشرون الليبية 952-749 ق.م)، والكوشيون (الأسرة الخامسة والعشرون الكوشية 715-672 ق.م)، والأشوريون الذين غزوا مصر وهزموا الأسرة الكوشية ووضعوا نهاية لحكمها فى القرن السابع قبل الميلاد، والفرس (الأسرتان الفارسيتان السابعة والعشرون 525-404 ق.م والحادية والثلاثون 341-332 ق.م)، ثم جاء المقدونيون (فتح الإسكندر الأكبر مصر وطرد منها الفرس فى 332 ق.م) ثم الرومان (30 ق.م) واستمر حكم البطالمة (332-33 ق.م) والرومان (30 ق.م-642 م) على مدى قرابة ألف سنة منذ الفتح المقدونى فى القرن الرابع قبل الميلاد حتى الفتح العربى فى القرن السابع الميلادى. وفيما يتعلق بكوش فقد كانت حضارة مملكة مروى مرحلتها الأخيرة وقد دامت هذه المملكة قرونا عديدة، فقد انتقلت عاصمة كوش جنوبا إلى مروى بعد أن قضى الغزو المصرى على العاصمة نپاتا فى عام 591 ق.م. وإنْ كانت نپاتا قد استمرت كمركز دينى. ويقول المؤلف إن الحضارة المصرية فى الجنوب تقهقرت وحلت محلها حضارة غير أصيلة سماها الأثريون باسم العاصمة الجديدة مروى. "ومع أن التأثير المصرى الدينى والفنى بقى هو الغالب على الحضارات المروية الجديدة إلا أن التأثير الأفريقى والإغريقى كانت لهما مكانة أيضا". ومكان الهيروغليفية ظهرت "هيروغليفية المروية مكتوبة بخط مختصر وأصبحت فيما بعد طريقة الكتابة فى لغة أهل المنطقة. وهذه الكتابة المروية ‘المختصرة‘ حللها بعد جهد كبير عدة علماء ولكنها لم تزل غير معروفة لنا لأنها كتبت فى لغة غير معروفة أيضا". ومع نمو إمپراطورية مروية قوية بقيت النوبة السفلى –رغم أنها صارت تحت حماية الرومان- جزءا منها فى الوقت نفسه. وبعد أن صارت مصر ولاية رومانية مُنيت الإمپراطورية المروية بهزيمة ساحقة لم تفق منها على أيدى الرومان فى عام 23 ق.م. على أن مملكة مروى بقيت قرونا أخرى إلى أن استولى جيش أكسومى على مدينة مروى ودمرها فأنهى بذلك الوجود المستقل للمملكة. حضارة المجموعة النوبية (س) أو حضارة بلانة: مع أن النوبة السفلى تمتعت بفترة من الرخاء تحت حكم الرومان والحكم الاسمى لمملكة مروى فى الجنوب، جاءت فترة تغير كبير "وهى الفترة التى احتلتها فيها مجموعتان من المحاربين والتى شهدت أيضا النزاع الأخير بين المسيحية والوثنية، وتعرف حضارة هذه الفترة، التى انحدرت من الحضارة المروية، عند رجال الآثار، بالمجموعة (س) [X-Group] لأننا ما زلنا لا نعرف إلى أىٍّ من الشعبين المقاتلين ترجع هذه الحضارة". ولا شك فى أنه حتى أواسط القرن الثالث الميلادى كانت النوبة جزءا من الإمپراطورية المروية المتدهورة. ومع ذلك فقد كان يحتل جزءا كبيرا منها شعب عرفهم الرومان باسم البليمى أو البليميين Blemmae (بالإنجليزية Blemmyes). "ولا زالت معرفة أصل هؤلاء الناس وكيف دخلوا النوبة ومن أين أتوا موضوع جدل". وفى العصر الواقع بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين الذى انتعشت فيه حضارة المجموعة (س)، كان يحتل النوبة شعبان مختلفان هما البليمى والنوباتاى. ورغم أن الرأى السائد هو أن المجموعة (س) يجب اعتبار أنها تنتمى إلى "النوباتاى" فإن المؤلف يرى أن هذه الحضارة كانت تنتمى إلى خصومهم "البليمى". ويقول المؤلف إن "جنس النوباتاى غير مؤكد ولا يمكننا إلا أن نرضى بما يقوله ‘پروكوپيوس‘ من أنهم كانوا قوما محاربين يحتلون منطقة الواحة (الخارجة) فى الصحراء الغربية. ويرجح البعض أنهم فرع من قبائل ‘النوبا‘ الذين انتقلوا من كردفان، وطنهم الأصلى، نحو الشمال قبل بداية العصر المسيحى بقليل. فاستقروا فى الواحة تاركين الجزء الأكبر من جنسهم يغزو منطقة الجزيرة ويقضى فى النهاية على الإمپراطورية المروية فى القرن الرابع الميلادى. وبالإضافة إلى ذلك فقد عُرفوا بالبربر الليبيين كما اعتبر أنهم من نپاتا العاصمة الأصلية لكوش". وهناك نظرية (توردها مصادر أخرى) تقول بأن النوباتاى أو النوبا غزاة متنقلون قادمون من الغرب فرضوا ثقافتهم ولغتهم على الشعوب المستقرة، كما توجد نظرية أخرى تقول بأنهم سكان محليون فى منطقة نپاتا تحت سيطرة مروى لعدة قرون وأن كلمة "نوباتاى" Nobatae مرتبطة مباشرة باسم مدينة "نپاتا" Napata. ومهما يكن من شيء فقد هزم شعب النوباتاى شعب البليمى فى عام 540 م عندما تحول ملك النوباتاى إلى الدين المسيحى، فكانت النتيجة المحتومة هى الحرب ضد البليمى، الذين اختفت بهزيمتهم المعتقدات الدينية الفرعونية. ويضيف المؤلف: "وإذا اعتبرنا أن المجموعة (س) هم ‘البليمز‘ [أىْ: البليمى أو البليميين بالصيغة الإنجليزية] فيلاحظ أنه فى وقت غزو [الملك النوبى] ‘سلكو‘ تشير الأبحاث الأثرية إلى أن حضارة هذه المجموعة كانت تتقهقر واختفت أخيرا واستبدُلت بالحضارة النوبية المسيحية التى اختلفت عنها تماما". ويعود المؤلف إلى "سؤاله المحير": "من هم أهل المجموعة (س) ‘البليمز‘ أم ‘النوباتاى‘؟"، ويستدرك قائلا "ليس فى نيتى أن أكتب بالتفصيل عن هذا الموضوع الذى لا يزال موضع جدل لكثير من رجال الآثار. وهو موضوع يمكن أن تطرأ عليه دلائل جديدة فى أىّ وقت عن طريق معول الحفار". على أنه يفحص عددا من نتائج الحفائر الحديثة المتصلة بأهل هذه المجموعة منها: انحدار أجناسهم من أصل مختلط قريب من المرويين ولكن من عنصر زنجى أقوى، واحتلالهم الجزء الأكبر من النوبة العليا والنوبة السفلى فى الفترة 250-550 م، وطريقة دفن ملوكهم فى بلانة وقسطل، وكونهم وثنيين عبدوا آلهة مروى ومصر القديمة، ومجيئ حضارتهم بعد حضارة مروى مباشرة وعدم الشك فى انحدارهم منها، واتخاذ ملوكهم تيجان ورموز الملكية المروية، وعلاقة تصميم مقابرهم بالشكل المروى، وتأثر فخّارهم بالفخّار المروى، وتأثر أثاثهم بالطراز المروى والبيزنطى، ونوع أسلحتهم، وعدم معرفتهم الكتابة، وغير ذلك. ويُنهى المؤلف كتابه مؤكدا نظريته: "وفى تقريرى الرسمى عن كشف المقابر الملكية فى ‘بلانة‘ و‘قسطل‘ والذى نُشر فى عام 1938 وضحت أسبابى لاعتبارى مجموعة (س) أنهم ‘البليمز‘ والحفائر فى عام 1962-1963 فى جبانة (ابريم) "بريمس" لم تعطنى أىّ سبب لتغيير رأيى. ونظرا لأن الإسهاب فى هذا الموضوع بعيد عن هذا الكتاب فإنى أعتقد أن الحقائق التى أجملتها فيما سبق هى فى نظرى، الدليل لاعتبار حضارة المجموعة (س) تابعة للقوم الذين سماهم الرومان ‘البليمز‘" الذين يعتبرهم المؤلف الأبطال الأخيرين للعقائد الدينية البائدة لمصر القديمة. الحضارة النوبية القبطية: وقد امتدت هذه الحضارة أو الثقافة بين القرنين السادس والرابع عشر. ذلك أنه بحلول القرن السادس الميلادى تكونت ثلاث ممالك مسيحية نوبية جديدة على الأراضى التى كانت تحت سيطرة مملكة مروى، وهى مملكة نوباتيا Nobatia وهى معروفة أيضا باسم بلانة وكانت عاصمتها فرس، ومملكة المقرة أو المغرة Maqurra وعاصمتها دنقلا القديمة، وألوا (أو: علوة) Alwa فى عمق مروى القديمة فى الجنوب وعاصمتها سوبا، وفى الممالك الثلاث جميعا حكمت الأرستقراطية المحاربة سكانا مرويين. أما البجة Beja الذين كان البليميون (البليمى) أسلافهم فقد طردهم ملوك النوبة إلى الصحراء حوالى عام 450 م. وكانت هذه الدول ناطقة باللغة النوبية التى كانت تكتب بالحروف القبطية المعدلة عن الحروف اليونانية مع إدخال تعديلات نوبية عليها (لإضافة حروف تقابل الأصوات اللغوية النوبية الزائدة عليها وحذف حروف تقابل الأصوات اللغوية غير الموجودة فى النوبية). ويبدو أن المروية وكتابتها قد اختفتا تماما. وقد بلغت هذه الحضارة أوج ازدهارها فى القرنين التاسع والعاشر. وكما هو معروف فقد تحول سكان النوبة إلى الإسلام بصورة تدريجية ولم يشكل المسلمون الغالبية الدينية إلا فى القرن الخامس عشر أو السادس عشر. وبطبيعة الحال فإن هذه الحضارة أو الثقافة النوبية هى التى تتميز وحدها بالصفة النوبية بمعنى أننا إزاء جماعة لغوية واحدة مستمرة إلى الآن. ومن المحتمل بالطبع أن هذه الجماعة اللغوية كانت موجودة منذ زمن طويل للغاية قبل فترة ظهور النوباتاى منذ العصر الرومانى فى مصر والنوبة. على أننا نجد أنفسنا أمام لغز كبير: إذا كان النوباتاى، أىْ أسلاف النوبيين الحاليين، جماعة لغوية مختلفة تماما عن الجماعة اللغوية التى تمثلها حضارة كوش وعن اللغة المروية التى يُعتقد أنها كانت لغة الممالك المتعاقبة لحضارة كوش، فكيف حدث أن حلت اللغة النوبية محل لغة حضارة كوش أو اللغة المروية فى كل المنطقة النوبية السودانية؟ هل حدث هذا من خلال غسيل دم لغوى شامل للشعب المروى بالطريقة التى حلت بها اللغة العربية محل اللغة المصرية القديمة فى مرحلتها الأخيرة: القبطية؟ وإذا صحت، على العكس من ذلك، فرضية أن اللغة النوبية هى ذاتها اللغة المروية، فكيف نفسر هذا العجز المتواصل عن فك شفرة الهيروغليفية المروية بافتراض أن الحروف اليونانية القبطية حلت محلها كما كانت قد حلت قبل ذلك محل الهيروغليفية (فى شكلها المعاصر لفترة التحول إلى الكتابة القبطية) فى مصر؟ عودة إلى حضارة المجموعة النوبية الأولى: استعرضت فى الصفحات السابقة المجموعات النوبية الأربع التى يتحدث عنها علماء الآثار، كما يقدمها الكتاب الذى بين يدى القارئ. والحقيقة أن هذا ليس بالتصنيف الوحيد للمجموعات النوبية، وفى أكثر الأحيان يتركز حديث علماء الآثار على المجموعتين النوبيتين "ألِف" A-Group و"ج" C-Group اللتين تناظران المجموعتين الأولى والثالثة فى تصنيف الكتاب الحالى، فأين المجموعة "ب" B-Group التى تناظر المجموعة الثانية فى هذا التصنيف؟ إنها مجموعة افتراضية عند علماء الآثار لملء الفجوة الزمنية بين المجموعتين الأولى والثالثة (أو "ألِف" و"ج") ولإيجاد استمرارية بينهما ومن المحتمل أنها لم توجد أصلا باعتبار أن النوبة السفلى كانت خالية من السكان خلال مئات السنين التى استغرقتها هذه الفجوة الزمنية بين اختفاء المجموعة الأولى وظهور الثانية. ويتحدث الكتاب، كما رأينا، عن مجموعة نوبية رابعة تختلف ثقافتها عن الثالثة عاصرت حضارتها فى النوبة العليا حضارة المجموعة الثالثة فى النوبة السفلى واستمرت بعدها طويلا حتى نهاية مملكة مروى. غير أن أغلب المصادر لا تتحدث عن مجموعة رابعة أو مجموعة "د" D-Group، بل تتحدث فقط عن مجموعة ثالثة أو "ج" تشمل حضارتها النوبة العليا (كوش) والسفلى (واوات) معا باعتبارها حضارة شعب واحد. وهكذا تتنوع التصنيفات والآراء وتتسع الخلافات أحيانا بين العلماء حول تصنيف المجموعات المعنية، وقد سبقت الإشارة إلى الخلاف حول المجموعة (س) X-Group فى النوبة السفلى بين القائلين بأنهم شعب النوباتاى والقائلين بأنهم شعب البليمى. وإذا عدنا إلى المجموعة الأولى (أىْ المجموعة "ألِف") فقد أضافت المعطيات الجديدة المكتشفة فى أوائل الستينات قبيل بناء السد العالى حضارة مملكة قسطل التى كانت حضارة متطورة فى إطار دولة ملكية أعلى من مستوى الحضارة النيوليثية وقد عاصرت أقدم مراحلها الحضارة النيوليثية فى كل من مصر والسودان، وكانت أقدم من أقدم عهود الحضارة المصرية فى عصر الأسرات، وربما كانت نقطة انطلاق مختلف حضارات وادى النيل. وبالتالى يبرز احتمالان لا يستبعد أحدهما الآخر، الأول إسهام حضارة قسطل فى نشأة الحضارة الفرعونية فى مصر العليا قبل توحيد مصر، والاحتمال الثانى هو هجرة حضارة قسطل إلى النوبة العليا مع هجرة المجموعة الأولى من النوبة السفلى إلى النوبة العليا تحت ضغط الغزو المصرى فى عصر الأسرات للنوبة السفلى، وبالتالى الإسهام الذى قدمته المجموعة النوبية الأولى فى تكوين حضارة كوش فى كرما رغم الفجوة الزمنية بين اختفاء حضارة المجموعة الأولى فى النوبة السفلى وبداية حضارة كرما الكوشية فى النوبة العليا. وهذا الكتاب، الذى ترجمته بدقة واقتدار أستاذة المصريات الدكتورة تحية حندوسة، من تأليف والتر برايان إمرى Walter Bryan Emery (يوليو 1903-مارس 1971) الذى كرس حياته بكاملها، باستثناء ست سنوات فى الجيش البريطانى أثناء الحرب العالمية الثانية، وأربع سنوات فى السلك الدپلوماسى بالقاهرة، لتنقيب المواقع الأثرية على طول وادى النيل. وقد عمل فى مجال التنقيبات الأثرية فى مصر منذ 1923، وساعد فى تنقيب تل العمارنة (مدينة أخناتون). وفى 1924 أصبح المدير الميدانى لتنقيبات السير روبرت موند Mond التابعة لجامعة ليڤرپول فى طيبة، وبين 1924 و 1928 عمل مديرا ميدانيا لبعثة موند فى تنقيبات النوبة والأقصر وطيبة. وفى 1929 عُيِّن مديرا ميدانيا للمسح الأثرى للنوبة تحت إشراف مصلحة الآثار المصرية لاستكشاف وتنقيب كل المواقع القديمة فى النوبة والتى كانت توشك على الغرق فى مياه التعلية الثانية لخزان أسوان. وعمل فى قبان وبلانة وقسطل وقام بتنقيب مقابر المجموعة (س) المجهولة الملغزة. وانتهى عمله فى النوبة فى تلك الفترة بتنقيباته فى حصن بوهن ثم صار مديرا للمسح الأثرى فى الأقصر وأرمنت. وبين عامى 1935 و 1939 عمل مديرا للمسح الأثرى للنوبة. وخلال تلك الأعوام قام إمرى أيضا بتنقيب عدة مقابر للأسرات المبكرة فى سقارة، حيث قام هناك باكتشافه البارز لحديقة حيوانات لبقايا حيوانية محنطة. وفى أعقاب سنوات من الانقطاع بسبب الحرب وخدمته كدپلوماسى عمل إمرى فى السودان (بوهن، قصر أبريم). وفى 1964 عاد مرة أخرى إلى سقارة حيث اكتشف حظيرة الحيوانات المقدسة. وفى 1970 جاء إعلان اكتشاف ضريح للبقرة المقدسة وهو أحد أهم الاكتشافات فى حوليات علم المصريات. وقد عمل إمرى أستاذا للمصريات بجامعة لندن 1951-1970 واختير لزمالة الأكاديمية البريطانية فى 1959. ومؤلفاته الرئيسية هى: المقابر العظيمة للأسرة الأولى Great Tombs of the First Dynasty (ثلاثة مجلدات) 1949-1958، مصر العتيقة Archaic Egypt 1961، مصر وبلاد النوبة Egypt in Nubia 1965. وأخيرا فإنه لم يكن بوسعى أن أتحدث عن خصائص الحضارات النوبية المعنية، وقد اكتفيت بالحديث عن إشكالية المجموعات السكانية التى تنتمى إليها تلك الحضارات. وبهذا أعفيت نفسى من مهمة شاقة فوق قدراتى، وأعفيت القارئ من عرض مبتسر لا حاجة إليه لمن يقرأ هذا الكتاب البالغ الأهمية. 7 أبريل 2008 14 الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) Mythes et mythologies politiques، 1986، راؤول چيرارديه Raoul Girardet، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1995 (عرض نُشر فى مجلة العربى الكويتية العدد 423 فبراير 1994) المؤلف هو راؤول چيرارديه Raoul Girardet أستاذ التاريخ المعاصر فى معهد الدراسات السياسية بپاريس وقد أصدر قبل هذا الكتاب العديد من المؤلفات، منها "النزعة القومية الفرنسية 1871- 1914"، و"فكرة الاستعمار فى فرنسا 1871- 1962". والكتاب هو الأساطير والميثولوچيات السياسية Mythes et mythologies politiques، الذى يقدم بحثا من نوع جديد وفريد: الميثولوچيات السياسية بمجموعات أساطيرها فى فرنسا خلال القرنين الأخيرين: التاسع عشر والعشرين. ويستعرض المؤلف "ثيمات" thèmesوأساطير كتابه من خلال توثيق "اقتباس" واسع النطاق من أعمال الأدباء والمؤرخين والفلاسفة الفرنسيين طوال القرنين. من تاريخ الأفكار السياسية إلى عالم الخيال السياسي تمهيدا لإيضاح الفكرة الرئيسية لكتابه يسجل راؤول چيرارديه أن المؤلفات الكثيرة التى يجرى تأليفها منذ أجيال عديدة فى إطار ما يسمى "بتاريخ الأفكار السياسية" تحصر استكشافها، باستثناءات قليلة وحديثة جدا، فى "مجال الفكر المنظم، المصوغ صياغة عقلانية، والمتسلسل منطقيا، دون سواه" والمقصود بسواه هنا هو على وجه التحديد: عالم الخيال l’imaginaire. ويرى المؤلف أن هذا النهج مفهوم ومشروع فهو "متوارث عن تلك الأولوية التى توليها الحضارة الغربية، منذ ثلاثة قرون تقريبا، لما هو عقلى: فقط فى إطار المواجهة بين المذاهب، فى إطار اشتباك أو تصادم ‘الأنساق الفكرية‘ يتم إدراك وفهم المناظرات الكبرى التى تجابهت فيها تاريخيا الرؤى المتعارضة لمصير الأمم". ولا يجادل المؤلف فى مشروعية هذا النهج ولا يرغب بحال من الأحوال فى إعادة النظر فيه فهو النهج السائد على كل حال فى تاريخ الأدب، أو تاريخ الفن، أو تاريخ العلوم. ويتمثل الهدف الجوهرى للكتاب فى توسيع مجال ما يسمى بتاريخ الأفكار السياسية ليمتد فيشمل عالم الخيال، فالكتاب إذن محاولة لاستكشاف شكل بذاته من أشكال عالم الخيال هو فى حالتنا عالم الخيال السياسى، بدلا من الحالة الراهنة التى يصفها المؤلف كما يلى: "الواقع أن كل ما يستعصى على الصياغات الجازمة، كل ما ينبع من الأعماق الخفية للقوى الحلمية، يظل مستبعدا فى منطقة ظِلٍّ يندر حقا من يجرؤ على التوغل فيها. وقلما يؤخذ الحلم فى الاعتبار إلا حينما يتم التعبير عنه فى الشكل التقليدى الذى يُتفق على تسميته باليوتوپيا، أى نوع أدبى محدد تماما، له غايات تعليمية مؤكدة بوضوح، يخضع لترتيب صارم فى العرض، ويسهل فهمه بالذكاء المنطقى وحده". ويشدد المؤلف على "التأثير التاريخى" للأفكار السياسية وخاصة "لعدد من المؤلفات السياسية العظيمة" مثل مؤلفات لوك، أو روسو، أو مونتسكيو، أو ماركس، فلولا هذه المؤلفات لما كانت مجتمعات أواخر القرن العشرين بصورتها الراهنة. غير أن هذا لا يمكن أن يستبعد "التأثير التاريخى" لعالم الخيال السياسى، للأحلام الجمعية والمخاوف الجمعية، للأساطير والميثولوچيات السياسية. والواقع أن الاضطرابات السياسية خلال القرنين الأخيرين من التاريخ الأوروپى كانت مصحوبة بفوران ميثولوچى مذهل: فضح لمؤامرة شريرة ترمى إلى إخضاع الشعوب لسيطرة قوى غامضة ولعينة؛ تصورات عن عصر ذهبى مفقود يجدر بنا أن نستعيد نعيمه أو ثورة منقذة تتيح للبشرية أن تدخل الطور النهائى لتاريخها وتكفل أن يسود العدل إلى الأبد؛ تطلُّع إلى الزعيم المنقذ، مُصلح النظام أو القائد المظفر لعهد جديد من العظمة الجماعية، إلخ. إلخ. إلخ.. وهناك أيضا حقيقة أن بعض هذه "الثيمات" ماثلة "فى خلفية بعض المذاهب العقائدية الكبرى للقرن الماضى، بما فيها تلك التى تستند بكل قوتها إلى دقتها فى البرهنة وإلى الطابع ‘العلمي‘ بصفة جوهرية لفرضياتها"، غير أن الألفيات الثورية، ونزعات الحنين إلى الماضى، وعبادة الزعيم الملهم، والهواجس الشريرة، يمكن أن تتخذ الشكل المباشر للأسطورة: "وعندئذ تفرض الأسطورة نفسها بكل استقلالها، فتتشكل فى نسق متماسك وكامل من المعتقدات. وفى هذه الأحوال، لا تعود الأسطورة تستند إلى أية شرعية أخرى سوى شرعية مجرد تأكيدها، ولا إلى أى منطق آخر سوى منطق انتشارها الحر". ويأخذ الكتاب على عاتقه مهمة دراسة حالة فرنسا خلال القرنين المذكورين من حيث الأساطير السياسية انطلاقا من تصورات بذاتها عن ثيمات الأساطير السياسية وحلول بذاتها لإشكاليات هذه الأساطير. وهكذا تتبلور كموضوعات للبحث والتأمل أربع "كوكبات ميثولوچية" أى أربع مجموعات أبنية ميثولوچية تنتمى كل مجموعة منها إلى ثيمة محورية وتنتظم حول نواة مركزية، وهذه الكوكبات أو المجموعات الميثولوچية الأربع الكبرى هى: المؤامرة، المخلِّص، العصر الذهبى، الوحدة. الأسطورة السياسية والأسطورة عند علماء الأنثروبولوچيا تتمثل فى سرد يتعلق بالماضى ("فى سالف العصر والأوان.."، "كان يا ما كان..")؛ "لكنه يحتفظ فى الحاضر بقيمة تفسيرية بالغة الأهمية بقدر ما يوضح ويعلل بعض الانقلابات فى مصير الإنسان أو فى بعض أشكال التنظيم الاجتماعى". وينقل المؤلف عن ميرسيا إلياد قوله: "تروى الأسطورة تاريخا مقدسا، إنها تسرد واقعة جرت فى الزمن السحيق القدم، زمن البدايات الخرافى. وبعبارة أخرى، تروى الأسطورة كيف جاء واقع ما إلى الوجود سواء أكان هذا الواقع كليا، الكون، أم مجرد جزء ليس إلا: جزيرة، نوع من النبات، سلوك إنسانى، مؤسسة". وعند آخرين، يختلط مفهوم الأسطورة بمفهوم الخداع، ذلك أن الأسطورة - باعتبارها وَهْما أو توهما أو تهويما - تُبَدِّل معطيات الملاحظة التجريبية وتتعارض مع قواعد الاستدلال المنطقى، وبهذا تقوم كحاجز بين حقيقة الوقائع ومقتضيات المعرفة. وعند آخرين غيرهم، هم قراء چورچ سوريل "تمثل الأسطورة نداء إلى الحركة، وحثًّا على العمل، وهى تبدو فى نهاية المطاف حافزا لطاقات ذات قوة استثنائية". وهذه الأبعاد الثلاثة لكل أسطورة بوجه عام نجدها ماثلة كذلك فى كل أسطورة سياسية. "حقا إن الأسطورة السياسية تلفيق، أو تشويه أو تفسير للواقع يمكن الطعن فيه موضوعيا. غير أن من الصحيح أنها، كسرد خرافى، تؤدى أيضا وظيفة تفسيرية، فتقدم عددا من المفاتيح لفهم الحاضر، وتشكل شفرة رموز يمكن للفوضى المحيرة للوقائع والأحداث أن تبدو متسقة من خلالها. كما أن من الصحيح كذلك أن هذا الدور التفسيرى يتضاعف بدور تعبوى: بفضل كل ما تقوم بتوصيله من دينامية نبوئية، تشغل الأسطورة مكانا رئيسيا بين أسباب الحملات الصليبية وكذلك بين أسباب الثورات". بين سيولة ومنطق الخطاب الأسطورى والأسطورة، كالحلم، لا يمكن حصرها أو تحديدها أو حبسها داخل حدود صارمة، فذلك لا يؤدى إلا إلى تشويه الأسطورة وإفقارها وبترها وتجريدها من ثرائها وتعقيدها. كما أن من الجهل التام، كما يقول كلود ليڤي-ستروس أن نحاول أن نطبق على دراسة "الواقع الأسطورى" مبادئ "التحليل الديكارتى". وهذه السيولة الجوهرية للأسطورة بوجه عام هى أيضا سمة أكيدة للأسطورة السياسية التى تتميز ثيماتها بشبكة مرهفة وقوية من الصلات التكاملية: "فالحنين إلى الماضى إلى العصور الذهبية المنصرمة يصبّ عادة فى الانتظار والتبشير النبوئى ببعث تلك العصور. وبالمقابل فمن النادر حقا ألا تقوم الحركات الخلاصية الثورية بإثراء رؤيتها للمستقبل بصُور أو إحالات مستقاة من الماضى. ومن جهة أخرى فسرعان ما يتم قطع الخطوة الفاصلة بين فضح المؤامرات الشريرة والتطلع إلى نداء المخلّص، إلى الزعيم المنقذ، ذلك الذى تنتظره مهمة تخليص الأمة من القوى الشريرة التى تريد بسط سيطرتها عليها". على أن الصلات بين ثيمات الأساطير السياسية لا تتمثل فى صلات التكامل فحسب، فهناك فى كثير من الأحيان صلات تناقض. وليس بين مستكشفى عالم الخيال من يفوته الإلحاح على هذا الجدل بين الأضداد، فالأسطورة مزدوجة كما توضح سلسلة من الأعمال الرائعة التى كرسها جاستون باشلار للتمثيلات السيكولوچية للعناصر الطبيعية الكبرى: "فالبيت حلم المأوى، والتلاقى، والأمان، يمكن أن يغدو صورة الزنزانة، ورمز الاضطهاد فى السجن، ورمز الدفن، وحتى رمز القبر. و‘ثيمة‘ المغارة يمكن أن تكون مُحمَّلة بالرعب كما يمكن أن تكون مُحمَّلة بالروعة. والثعبان هو فى آن واحد موضوع تقزُّز، ووعد خصوبة، وأداة إغواء. والجذر الذى يمتصّ عصارات الأرض ليحملها نحو السماء، لكنْ الذى ينمو إلى أسفل نحو مملكة الموتى تحت الأرض، يُفْهَم فى آن واحد كقوة حياة وقوة ظلام". والأسطورة السياسية لا تخرج عن هذه القاعدة، قاعدة انقلاب الأسطورة إلى العكس. وثيمة المؤامرة ذاتها لا تكون مصحوبة بالضرورة بالدلالات السلبية وحدها: صورة المكيدة الشيطانية تقابلها تلك الخاصة بالمؤامرة المقدسة. وإذا كان هناك ظلام يهدد فهناك أيضا ظلام يحمى وكثيرا ما يمارس "أبناء النور" نضالهم فى الليل. والمكيدة وحدها هى القادرة على إحباط المكيدة. وهكذا فإن السرّ، والقناع، وقَسَم التكريس، وجماعة المؤتمَنين، والمساعى الخفية، وباختصار كل ما يشجبه الآخر ويفزع منه، ينقلب فجأة ويكتسب عند هذا الآخر جاذبية مظلمة وطاغية. والقرين الخرافى الذى يصاحب دائما تقريبا وجود أو ذكرى البطل التاريخى شاهد على ظاهرة مماثلة. إن الإجلال أو اللعن يتغذيان على نفس الوقائع، وينموان انطلاقا من نفس الحبكة. وبين صورة ناپليون العظيم وصورة غول كورسيكا لا تعارُض سوى فى زاوية الرؤية. وسواء أكان مكلَّلا بهالة المجد أم بسُحُب عاصفة مكفهرة فإننا نعثر فى نهاية المطاف على نفس الوجه الواحد. إن غرابة الأصول، وسرعة الصعود، والإرادة المسيطرة، وطبيعة الانتصارات، وضخامة الكوارث، إن كل ما يساهم - فى حالة - فى صنع صورة العظمة، يشكل - فى الحالة الأخرى - وصمة العار. وفيما وراء سيولة الخطاب الأسطورى وازدواجه، هناك منطق للخطاب الأسطورى. فكما أن الصور التى تفرزها أحلامنا تخضع لقوانين بذاتها للتكرار والتداعى "يبدو أن الآليات التوليفية للخيال الجمعى لا تملك تحت تصرفها سوى عدد محدود نسبيا من الصيغ". هناك إذن، على حد تعبير كلود ليڤي-ستروس، "نحو" syntaxe للأسطورة، حيث تظهر عناصر بناء السرد الذى يتألف من سلسلة أو توليفة من الصور "مجمَّعة فى مجموعات متماثلة، ومنتظمة فى تداعيات ثابتة"... وهكذا فإن "ثيمة" المخلِّص، الزعيم مبعوث العناية الإلهية، ستظهر مرتبطة دائما برموز تطهيرية: البطل المنقذ هو الذى يُخلِّص، ويحطم القيود، ويصرع الغيلان، ويجبر القوى الشريرة على التقهقر. كما أنه مرتبط دوما بصُوَر مشرقة متألقة - الذهب، الشمس الصاعدة، بريق النظر؛ وبصُوَر عمودية - السيف، الصولجان، الشجرة المعمرة مائة سنة، الجبل المقدس. كذلك فإن "ثيمة" المؤامرة الشريرة ترد مُحالة إلى نسق رمزى خاص بالدنس: المتآمر يترعرع فى الأماكن النتنة، ومثل الحيوانات النجسة، يزحف ويندسّ، وينفث السم والنجاسة... ميثولوچيا المؤامرة والمؤامرات الأسطورية التى استحوذت على عالم الخيال الجمعى الفرنسى خلال القرنين الأخيرين هى: المؤامرة اليهودية، المؤامرة اليسوعية، المؤامرة الماسونية. والهدف النهائى لكل مؤامرة من هذه المؤامرات لا يقلّ عن السيطرة على العالم. فاستنادا إلى "خطة منهجية" تهدف المؤامرة اليهودية إلى "غزو واستعباد الكرة الأرضية"... و"سيدور الصراع على المستوى الاقتصادى، والسياسى، والاجتماعى، والدينى. وستُستخدم كل الإستراتيچيات، تلك الخاصة بالمضاربة المالية وكذلك تلك الخاصة بالاستيلاء على السلطة الحكومية أو بالسيطرة على وسائل التعليم والإعلام". أما الرهبانية اليسوعية ذات السلطة الهائلة والتى تعمل على بسط هيمنتها على العالم فقد أقامت شبكة هائلة من المراكز السرية للجاسوسية والتخريب فى مواقع لا حصر لها على الكرة الأرضية. وهدف المؤامرة الماسونية "هو "التعجيل بدمار النظام الملكى والمسيحى القديم، والإعداد لقيام السيادة العالمية للحرية والمساواة" من خلال "خطة منظمة ومنهجية للتدمير" يستغرق تحقيقها عشرين سنة، وكان الأب بارويل - أحد أبرز مروجى هذه الأسطورة - يرى منذ 1797 أن "منشأ ومسار الثورة الفرنسية يمكن إرجاعهما من الناحية الجوهرية إلى مساعى الماسونية، وهى الوارثة لتراث طويل من الضغائن إزاء الملكية والكنيسة". وهناك بطبيعة الحال أسس تاريخية موضوعية أكيدة لأساطير المؤامرة والتآمر مهما قامت هذه الأخيرة بتحريفها وتشويهها كما تفعل كل أسطورة. فلا أحد يجهل دور الماسونية خاصة فى تاريخ الجمهورية الثالثة (1870- 1940) كمجموعة ضغط سياسى وأداة للسيطرة الأيديولوچية. وتستند ثيمة المؤامرة اليسوعية إلى قيام بعض القساوسة والنبلاء، منذ عهد الإمبراطورية الأولى، بتأسيس مختلف الجمعيات السرية وغير السرية التى نذرت نفسها لقضية الثورة المضادة. وهناك، فيما يتعلق بالمؤامرة اليهودية، ردود الأفعال التى أثارها، خلال القرن 19، لدى بعض أقسام الرأى العام الفرنسى، التحرير المفاجئ للطوائف اليهودية وازدياد أعداد ممثليهم فى قطاعات مهمة فى الحياة الاقتصادية أو الفكرية أو المدنية. وبدون هذا الاستعداد العام لتلقِّى أساطير المؤامرة، بفضل وجود شفرة رموز محفورة سلفا فى معايير عالم الخيال فى صفوف قطاعات واسعة من الرأى العام، ما كان بوسع مروِّجى هذه الأساطير أو مستغليها لأهدافهم أن يجدوا فرصة للتأثير الفعال للرسالة المراد نقلها. "وهكذا فحتى أولئك الذين يريدون التلاعب بعالم الخيال مرغمون على الخضوع لمقتضياته. إن الأسطورة توجد بصورة مستقلة عن مستغليها المحتملين؛ إنها تفرض نفسها عليهم أكثر كثيرا مما يساهمون هم فى تشكيلها". ميثولوچيا المخلِّص (المنقذ) أو مبعوث العناية الإلهية على مدى قرابة قرنين من الزمان يُدوِّى فى تاريخ فرنسا بلا انقطاع صوت الاستغاثة بالمخلِّص. ومن ناپليون بوناپرت إلى پيتان وديجول، مرورا ببولانچيه أو پوانكاريه أو دوميرج، تتشكل كوكبة بذاتها من الصُور حول شخصية موهوبة. إن المسألة تتعلق هنا إذن "بالظهور المفاجئ لمخلّص على رأس السلطة، لبطل يستأثر بكل حرارة الأمل الجمعى". ويستقصى راؤول چيرارديه أربعة نماذج لهؤلاء المنقذين أو المخلصين، وهى نماذج قد تتطابق أو تتراكب غير أنها قابلة أيضا للعزل والفصل والتعريف المستقل. فنموذج سينسيناتوس (وهو رومانى اشتهر بالبساطة والزهد، تولى منصب الحاكم المطلق مرتين ثم عاد فى نهاية المطاف إلى محراثه) هو نموذج رجل الدولة الذى تتمثل مهمته فى الطمأنة والحماية والإصلاح والاستقرار، وينعكس هذا النموذج الأصلى فى نماذجه الجديدة الفرنسية فى السيرة الأسطورية لكل من دوميرج 1934 وپيتان 1940. ونموذج الإسكندر هو نموذج القائد الشاب، المغامر الجسور، المتقد الحماس، المندفع إلى المجد، والذى يشق طريقه عبر التاريخ بسرعة برق خاطف. وصورة ناپليون الشاب ضمن الأسطورة الناپليونية هى التجسيد الحديث لهذا النموذج الأصلى الذى ينتمى إليه أيضا "الرأس الذهبى" بطل القصيدة الدرامية الطويلة بهذا العنوان لپول كلوديل. والنموذج الأصلى الذى يمثله صولون المشرِّع هو نموذج ناپليون باعتباره المشرِّع المؤسِّس لنظام جديد من المؤسسات، والماريشال پيتان، المؤسِّس "لنظام جديد"، والچنرال ديجول فى 1958 "وهو يرسى مبادئ وقواعد جمهورية جديدة" (الجمهورية الخامسة). أما نموذج موسى، النموذج الأصلى للنبى، المبشِّر بأزمنة قادمة، المدفوع بدافع مقدس، القائد لشعبه على دروب المستقبل، فهو نموذج ناپليون السيرة الناپليونية فى سانت هيلانه وهو يعلن من هناك "تحرير الشعوب والقوميات"، وهو نموذج الچنرال ديجول، على الأقلّ كما يراه أندريه مالرو بعد وفاته. ميثولوچيا العصر الذهبي تُحيل أساطير العصر الذهبى دوما إلى "أيام زمان" وهى أزمنة عاشها الناس فعلا قبل أن يحلموا بها، فهى باقية فى ذاكرة الجماعة المعنية وكذلك فى الذاكرة الفردية. غير أن هناك ماضيا يتعلق بما يُعرف بذاكرة التاريخ. والماضى الذى تشير إليه "أيام زمان" هذه لم يُعرف قط بصفة مباشرة، غير أن ظهوره خارج الزمن المنقضى يمنحه قوة إضافية على قوته كنموذج وقوته كنموذج أصلى. وفى مواجهة صورة حاضر يسود الإحساس بأنه لحظة انحطاط، يقف المطلق المتمثل فى ماض من الكمال والضياء. وتتبلور حول تصوُّر "أيام زمان" كل الاندفاعات، كل قوى الحلم، وتتحول إلى أسطورة. فنحن إذن إزاء صُور لماض تحوَّل إلى أسطورة، ورؤًى لحاضر أو مستقبل وفقا لما كان، أو لما يُفترض أنه كان، فى الماضى. ولن يكون سوى تاريخ مبتور للغاية للأيديولوچيات الفرنسية ذلك الذى يحجب وجود هذه الصور، أو ينسى وفرة هذه التصورات، أو يهمل سلطانها على الأرواح والقلوب. ويشير چيرارديه إلى ذلك التأرجح الدائم الأليم الذى يميز ميثولوچيات العصر الذهبى جميعا "بين العجز عن إعادة تشكيل ما كان وبين قوة الرجاء الذى تحتفظ به الذكرى على الدوام". ومن هنا تلك النداءات التى لا تُحصى - الدائمة فى مجرى الحياة السياسية الفرنسية والقادمة من كافة الآفاق الأيديولوچية - إلى الصبّ من جديد فى الماضى، إلى العودة إلى الزمن المتسامى للبدايات. والحقيقة أنه فى المجتمعات المسماة بالحديثة، حيث يسيطر إيقاع التغيير الذى يزداد سرعة بلا انقطاع، لا مناص من هذا الارتعاش الانفعالى، ذى الطابع الجمالى والعاطفى فى وقت واحد، والذى يتشبث بالبقايا والأنقاض المستعادة من ماض ما يزال قريبا للغاية. ونجد ثيمة "العودة إلى العصور الوسطى" ماثلة، خاصة فى فترة ما بين الحربين، فى خلفية كافة الأبحاث التى تطمح إلى تحديد نمط للمجتمع يرفض فى وقت واحد مبادئ الفردية الليبرالية ومبادئ الدولة الاستبدادية الشمولية. ميثولوچيا الوحدة ومع العصر الحديث، مع اتجاه الروح الاجتماعية إلى الانفجار إلى شظايا، وتآكل التضامنات السابقة، وتدهور الأشكال القديمة للحياة الجماعية، تتسع الهوة بلا انقطاع بين مختلف المجموعات الاجتماعية، وتنغلق كل مجموعة منها على نفسها، وعلى مصالحها، وعلى آرائها المسبقة، وعلى أساليب حياتها وفكرها، وتأتى التغيرات التى تقلب أوضاع الأشكال التقليدية للعمل البشرى، فى اتجاه قدوم حضارة تقنية جديدة لا يكون فيها الشغيل سوى مجرد ترس منعزل. وإلى جانب ذلك هناك "الفجوة المتزايدة العمق، والقائمة منذ قدوم عصر التنوير، بين ما يتعلق بنسق المعرفة العلمية وما يتعلق بعالم صبوات الإيمان"، ويسود "شعور قوى بالتوجس إزاء المجابهة المحتومة بين نسقيْن محدديْن ومتعارضيْن من القيم سرعان ما يتجسدان فى كنيستيْن، كنيسة العلماء وكنيسة الكهنة، تدّعى كل منهما العصمة المطلقة". ويغدو الشغل الشاغل هو ذلك المتعلق بوحدة ينبغى استعادتها، وبتوازن ينبغى إحياؤه، على صعيد الأخلاق الفردية وكذلك على صعيد الوعى الجمعى، فى قلب الإنسان وكذلك على مستوى مؤسسات الدولة. ويظلّ فى نهاية المطاف نفس الوسواس الخاص بفجوة ينبغى ردمها، بانقسام ينبغى تفاديه، بتناقض ينبغى التغلب عليه. ورغم أن صيحة بوسويه: "الحياة هى الوحدة، الموت أكيد خارج الوحدة" لا ترتفع وحدها فوق الساحة بل تردّ عليها صيحة بنچامان كونستان: "التنوع هو الحياة، التماثل هو الموت"، فإن التمزق القائم يظلّ يدفع الرأى العام والمفكرين، من چان چاك روسو إلى سان سيمون وأوجوست كونت وميشيليه وغيرهم، نحو ثيمة الوحدة التى تتبلور حولها ميثولوچيا كاملة تتشعب ثيماتها وتتعدد أساطيرها. وتبرز ثيمات المشاركة والمائدة والأعياد الثورية والاحتفالات الاتحادية والحماس الجماعى والجبرية الجغرافية التى تشكل الأمة الفرنسية والتى ترفع تأكيد الوحدة الفرنسية إلى مستوى ضرورة الرمز الهندسى ولازمنيته. وتتبلور مجموعتان من القوى المتناقضة: قوى الخير وهى قوى التلاقى والتجمع والتلاحم، وقوى الشر وهى قوى التبعثر والتفرق والتفكك. على أن هذا البحث المفعم بالحماس المشترك، بكل تلك القوة وبكل ذلك الشمول، انتهى إلى التوالد المتعارض للعقائد، وقوانين الإيمان، والكنائس. وانقلب حلم الاتحاد ضد نفسه. وربما من هنا هذه الكثافة فى البحث عنه، وهذا الإصرار المؤثر على نداءاته. العرب والأساطير السياسية بعد أن استعرضنا بإيجاز شديد الخطوط الرئيسية لكتاب الأساطير والميثولوچيات السياسية يحقّ لنا أن نتساءل عن مغزى قراءة مثل هذا الكتاب بالنسبة لنا: هل هناك مغزى يخصُّنا نحن العرب فيما وراء القيمة التى لا جدال فيها لمعرفة حاضر أو تاريخ فرنسا؟ وبعبارة أخرى: هل هناك وجود لأساطير سياسية تناظر الأساطير السياسية الفرنسية فى ثقافتنا الراهنة، بكل ما يعنيه وجودها المحتمل من أبعاد التحريف والتفسير والتعبئة كما سبق أن رأينا؟. وبطبيعة الحال، ليس هنا مجال مثل هذه المناقشة. ولهذا سنكتفى بالإشارة إلى رأى كاتب فرنسى آخر، وهو المستعرب ريشار چاكمون. ففى مقدمته لترجمته الفرنسية لمجموعة من مقالات الدكتور فؤاد زكريا، بعنوان: "علمانية أم إسلامية - العرب فى ساعة الاختيار"، يشير الأستاذ چاكمون إلى النزوع إلى الانطواء على النفس ورفض الآخر لدى ثقافة عربية-إسلامية عاجزة عن تجاوز الميثولوچيا السياسية الأصلية للعصر الذهبى، والمؤامرة، والوحدة، والمخلّص "المنقذ"، ويُحيل فى الهامش إلى كتاب راؤول چيرارديه الذى أتينا على عرضه منذ قليل، مُوحيا بذلك بانطباق مبدأ ونظرية الأساطير والميثولوچيات السياسية، بنفس ثيماتها ومجموعاتها الأربع الكبرى، فيما يتعلق بثقافة عربية-إسلامية راهنة، وهو انطباق ينبغى بحث مداه واستقصاء خصوصياته. إشارة 1: عرض خليل كلفت لكتاب: Raoul Girardet, Mythes et mythologies politiques, Éditions du Seuil,1986 بمجلة العربى الكويتية العدد 423 فبراير 1994؛ وقد صدر الكتاب المذكور فيما بعد بالعربية: راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية، ترجمة: خليل كلفت، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1995؛ والعرض منشور هنا كما كتبته وليس كما نُشر فى المجلة. 15 مصير العالم الثالث(1) مصير العالم الثالث: تحليل ونتائج وتوقعات Les destins du Tiers Monde, analyse, bilan et perspectives، توما كوترو Thomas Coutrot و ميشيل إسُّون Michel Husson،1993، دار العالم الثالث، القاهرة، 1995 (عرض فى مجلة العربى الكويتية، العدد 440 يوليو 1995)
يشتمل هذا الكتاب، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، على قسمين يتألف كل منهما من ثلاثة فصول. والقسم الأول بعنوان: حالة العالم الثالث، والقسم الثانى بعنوان: التنمية المستعصية. وإذا أردنا التعرف بسرعة على موضوعات فصول الكتاب، يمكن القول إن الفصل الأول يتناول مفهوم وواقع العالم الثالث اليوم: هل ما يزال هناك عالم ثالث أم أنه انفجر إلى ثلاثة عوالم ثالثة؟ ويتناول الفصل الثانى المسألة السكانية: النمو السكانى - أهو نعمة أم نقمة بالنسبة للفقراء؟ ويضعنا الفصل الثالث أمام محاولات إجابة على أسئلة حاسمة: هل من الممكن تغذية هذه الكتل البشرية بصورة سليمة؟ وأين من ذلك الزراعة والفلاحون فى العالم الثالث، سواء على الصعيد التقنى أو الاجتماعى أو البيئي؟ وأية سياسات زراعية من شأنها تلبية متطلبات كل ذلك؟ والمعونة الغذائية، وبصفة أعم: معونة التنمية، أهى نعمة أم أداة للمزيد من استعباد البلدان الفقيرة؟ وينقلنا الفصل الرابع إلى قطاع الصناعة وإلى مزيد من الأسئلة المصيرية: ماهى الدروب التى سلكتها البلدان التى رغبت فى التحرر من خضوعها إزاء الأسعار الزراعية العالمية كما رغبت فى تنويع هيكلها الإنتاجي؟ والتجربة الناجحة للبلدان الصناعية الجديدة (وخاصة التنانين أو النمور الآسيوية الأربعة)، هل تصلح كمثال يُحتذى؟ وهل هناك إستراتيچيات أخرى من شأنها أن تقدم بديلا؟ ومع الفصلين الخامس والسادس نصل إلى فكرة من الأفكار الأساسية لهذا الكتاب: لا يكمن جوهر التخلف فى المجادلات التقنية حول "الثورة الخضراء"، أو إحلال الواردات، أو الانتقال السكانى. إن ما هو جوهرى يتمثل فى الإجابات التى يقدمها كل بلد من بلدان العالم الثالث على سؤالين: ما هى القوى الاجتماعية التى تدفع النمو الاقتصادي؟ (موضوع الفصل الخامس) وما مدى اندماج كل بلد من هذه البلدان فى الاقتصاد العالمي؟ (موضوع الفصل السادس). ويرى المؤلفان الفرنسيان أن الطريقة التى يجيب بها كل بلد على هذين السؤالين معا تؤثر تأثيرا حاسما على مصير سكانه. وفى مقدمة بعنوان له مغزاه العميق هو: الثالث المرفوع، والمقصود بذلك بطبيعة الحال هو العالم الثالث، يشير المؤلفان إلى انهيار الحقائق اليقينية مع نهاية الثمانينات مع سقوط نظام توازن القوى العالمى السائد منذ الحرب العالمية الثانية ومع الشك العميق فى الإيمان السابق بالتقدم والعلم كدواء لأدواء البشر ومع الشك فى وجود "نموذج للمجتمع" بخلاف الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل الذى لا يمكن تجاوزه للتنظيم الاجتماعى، كما يدّعى أنصار نظرية "نهاية التاريخ". ثم يؤكد المؤلفان أن سياسات التنمية لا تفلت من هذه المجزرة للأفكار السائدة. والحساب الختامى مثير للذهول. سكان الشمال (أو المركز أو البلدان المتقدمة) يمثلون 25٪ من سكان العالم ولكنهم يستهلكون 70٪ من الإنتاج العالمى للطاقة و75٪ من الإنتاج العالمى للمعادن. والبلدان التى يقطنها اﻟ 20% الأغنى من سكان العالم تتصرف فى 83٪ من مجمل الإنتاج العالمى وعلى اﻟ 20% الأفقر أن يقنعوا ﺒ 1.4% من هذا الإنتاج. ونسبة اﻟ 83% هذه فى 1989 كانت 70% قبل ذلك بعشرين سنة أما الخُمْس الأفقر الذين يحصلون الآن على 1.4% فكانوا يحصلون على 2.3% فى 1960. وخلال الثلاثين سنة الماضية تضاعف فارق فى الدخل بين الخمس الأغنى والخمس الأفقر من سكان العالم: فأصبح بنسبة واحد إلى 95 فى 1989. وفى الثمانينات كان العالم الثالث ينمو بسرعة أقل من البلدان الصناعية بل هناك مناطق بأسرها كفت عن النمو حيث تراجع نصيب الفرد من الناتج. وفى بداية التسعينات ظل الدخل الحقيقى للفرد راكدا فى مجموع بلدان الجنوب (العالم الثالث)، بل بلغ هذا التراجع 6.4٪ فى سنتين بالنسبة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وباختصار توقف اللحاق وتتسع الفجوة طوال السنوات العشر الأخيرة. ويلخص المؤلفان النتيجة الاجتماعية الجوهرية لعقود طويلة من التنمية فى العالم الثالث: البلدان التى كانت متخلفة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم حققت للغالبية الساحقة من سكانها العيش فى شروط لائقة من ناحية التغذية والصحة والتعليم، بلدان تعد على أصابع اليدين. فى آسيا: الصين الشعبية، وتايوان، وكوريا الجنوبية (كما يمكن إضافة هونج كونج ، وسنغافورة، وجزيرة موريشيوس). فى أمريكا اللاتينية: كوستاريكا، و( بصورة مشكوك فيها أكثر فأكثر) كوبا. فى أفريقيا: ولا بلد واحد. ويتساءل المؤلفان عما هو مشترك فى السياسات المتبعة فى هذه البلدان المعدودة، والذى من شأنه تفسير نجاحها. ويخرجان بالاستنتاج الرئيسى للكتاب بكامله: " هناك سمتان على وجه الخصوص: هيكل اجتماعى وزراعى يقوم على المساواة نسبيا؛ حكومات فعالة ويقظة إزاء الاندماج فى السوق العالمية. وحتى الياپان، آخر بلد يدخل نادى القوى الصناعية العظمى خلال هذا القرن، حققت ذلك وفقا لهذا النموذج". مفهوم وواقع العالم الثالث يبدأ المؤلفان الفصل الأول بالتمييز بين تيارين فكريين بخصوص مشكلات التنمية. والتيار الأول: بنيوى، كينزى، ماركسى، عالم-ثالثى، ويصف الاقتصاد الرأسمالى العالمى باعتباره بنية هيراركية تتألف من مركز (خاصة الولايات المتحدة، أورپا الغربية، الياپان) ومحيط ( أفريقيا، أمريكا اللاتينية، آسيا باستثناء الصين والياپان). والتيار الثانى: ليبرالى المنحى، ولا يرى علاقة تبعية أو هيراركية بين الشمال والجنوب، بل ينطلق من النظرة الخاصة باقتصاد عالمى موحد لا يملك فيه كل بلد، وفقا للنظرية التى صاغها (ديڤيد ريكاردو) فى بداية القرن التاسع عشر، إلا أن يستغل "مزاياه النسبية" لكى يربح. ورغم التباينات الضخمة بين بلدان العالم الثالث إلا أن هناك سمات مشتركة أكيدة تشكل الوحدة وسط هذا التنوع: * نمو سريع للسكان. * نسبة مرتفعة للسكان العاملين بالزراعة: فى المتوسط 30٪ فى الجنوب مقابل 7٪ فى الشمال. * نقص توظيف قسم ضخم من السكان العاملين، ويرجع إلى بقاء العلاقات العتيقة فى الزراعة كما يرجع إلى الهجرة الجماعية الريفية الناشئة عن انهيارها. ويصبّ هذا فى تضخم فوضوى للمدن وكذلك فى " قطاع غير رسمى" مدينى ضخم وكذلك أيضا فى ضعف الحافز إلى التجديد التكنولوچى والاجتماعى. * ضخامة التفاوتات الاجتماعية: اﻟ 10٪ الأكثر غنى من السكان العاملين يتلقون حوالى 25٪ من الدخل الإجمالى فى البلدان المتقدمة، أما فى البلدان النامية فإنهم يحتكرون 44٪ فى ساحل العاج، و37٪ فى الفليپين، و40٪ فى المكسيك، و50٪ فى البرازيل. * ضعف القدرة على التجديد التكنولوچى: وبالتالى تصبح كل بلدان العالم الثالث تقريبا تابعة للشركات عبر القومية، ويتركز 97٪ من الإنفاق العالمى على تنمية الأبحاث فى البلدان المتقدمة. * تضخم الدولة. فما منشأ هذا التخلف؟ وهل يرجع إلى أسباب داخلية أم خارجية؟. يجيب المؤلفان كما يلى: " تجد علاقات التبعية منشأها فى الوجود المتزامن، فى سوق عالمية واحدة، لأمم تطورت داخلها علاقات الإنتاج الرأسمالية بصورة غير متساوية. وهكذا يمكن تعريف "التخلف" على أنه الصدام بين قانون المنافسة الذى ينظم السوق العالمية، ومجتمعات مجردة من التماسك الداخلى الوظيفى لهذا القانون". وبالتالى فإن جذور التخلف "لا هى داخلية ولا هى خارجية، بل هى داخلية وخارجية.. دوما ". والحقيقة أن العالم الثالث ينقسم إلى ثلاثة عوالم ثالثة: 1 - اقتصاد الاستنزاف قبل الصناعى الذى يسود بلدان أفريقيا جنوب الصحراء (باستثناءات) بالإضافة إلى بلدان أخرى مثل هايتى وبورما وبنجلاديش. 2 - الاقتصاد الأولى التصديرى، حيث الانتشار الحاسم كيفيا لعلاقات الإنتاج الرأسمالية فى قطاعات مهمة وخاصة تصديرية، وتنتمى إليه بلدان پترولية مثل نيچيريا والجزائر والكونغو ومصر وإندونيسيا، ورغم أن السبعينات شهدت معدلات نمو مرتفعة أحيانا فى هذه البلدان إلا أن تراجع الثمانينات كان عنيفا ( مثلا؛ تراجع معدل نمو الصناعة الإندونيسية من 11.9٪ سنويا بين 1965 و 1980 إلى 5٪ منذ ذلك الحين). وفى بلدان أخرى تنتمى إلى هذا الاقتصاد ( مثلا؛ بوليڤيا، المغرب، سوريا) كان النمو أقل سرعة فى السبعينات وبطيئا جدا وحتى سلبيا منذ الثمانينات. 3 - البلدان الصناعية الجديدة أو البلدان شبه الصناعية، كما يفضل المؤلفان تسميتها: هناك فى المحل الأول التنانين أو النمور الآسيوية الأربعة لكن أيضا المكسيك والبرازيل وإن كان هذان البلدان يتجهان إلى الهبوط فى فئة البلدان الثقيلة الديون، كما يمكن إدراج الأرجنتين وتركيا وخاصة الهند فى هذه الفئة . وتتميز هذه البلدان بامتلاك برچوازية صناعية تقف على أقدامها وطبقة عاملة تشغل مكانا مركزيا فى النضالات الاجتماعية والسياسية، وكذلك بنمو سوق داخلية حقيقية للمنتجات المصنعة لا ترتكز فقط على الطبقات السائدة بل كذلك على شرائح متوسطة مهمة. ورغم هذا التنوع ورغم الواجهة الدعائية التى تمثلها النمور الأربعة، هناك ما يشكل وحدة هذه البلدان. فالأمر الجوهرى هو أن "عمليات التصنيع الجارية فى عدد من هذه البلدان هى واقع فعلى غير أن الأمر يتعلق، باستثناءات قليلة نادرة، بتصنيع ناقص، ومشوه، وتابع، وهش، ولم يرتكز على نمو السوق الداخلية وإشباع الحاجات الشعبية". والنتيجة المنطقية والتاريخية هى أن بلدان العالم الثالث، بوجه عام، دخلت مع بداية الثمانينات مرحلة جديدة، هى مرحلة التراجع الاجتماعى: أصبح على عدد من بلدان المحيط، التى ترزح تحت عبء الديون، أن توقف نموها وأن تخصص جانبا مهما من مواردها لدفع فوائد ديونها. السكان: نعمة أم نقمة ؟ يمكن القول إن العالم يشهد اليوم مشكلتين سكانيتين لكل منهما خصائصها وأخطارها النوعية. وفى هذا العالم المنقسم إلى عالم البلدان الغنية أو المتقدمة أو المركز أو الشمال وعالم البلدان النامية أو المتخلفة أو المحيط أو الجنوب ( أى العالم الثالث)، نجد لكل عالم منهما المشكلة السكانية الخاصة به. وباختصار: ركود سكانى فى الشمال، وانفجار سكانى فى الجنوب. وقد شهد التاريخ منذ بدايته فى كل مكان وإلى اليوم نوعين من الركود السكانى أو تباطؤ النمو السكانى. فمنذ بداية التاريخ وحتى بداية العهد الرأسمالى ساد ركود سكانى كان محصلة الالتقاء بين معدل مواليد مرتفع ومعدل وفيات مرتفع. وفى المجتمع الرأسمالى الناضج كما فى الشمال اليوم ( أو منذ عقود طويلة ) يسود ركود سكانى هو محصلة الالتقاء بين معدل مواليد منخفض ومعدل وفيات منخفض. وبين هذين الركودين المختلفين نوعيا تمتد فترة، قد تصل إلى قرون، تتميز منطقيا وتاريخيا بانخفاض معدل الوفيات بفضل بعض التطورات الصحية والطبية فى البداية، ثم بفضل المزيد من التطور الاقتصادى والاجتماعى والصحى اللاحق. أما معدل المواليد فإنه يبقى على ارتفاعه على مر القرون إلى أن يبدأ الانخفاض التدريجى بفضل تطورات اقتصادية واجتماعية وعلمية وطبية بذاتها. وبقدر ما يبقى معدل المواليد مرتفعا مع استمرار انخفاض معدل الوفيات، ومحصلتهما ارتفاع معدل النمو السكانى ونشوء هيكل عمرى جديد يتميز بارتفاع نسبة الشباب والأطفال، نكون أمام ظاهرة لا مفر منها: ظاهرة الانفجار السكانى. أما التطور المنطقى اللاحق: استمرار انخفاض معدل المواليد مع استمرار انخفاض معدل الوفيات، بفضل تطورات تحديثية تاريخية، فإنه يتوقف على حدوث واكتمال ونضج هذه التطورات الأخيرة. وإذا كان هذا التطور قد حدث بالفعل فى البلدان المتقدمة مؤديا إلى الركود السكانى الراهن فى الشمال، فإن حدوثه واستمراره ونضجه واكتماله النهائى فى الجنوب أشياء تتوقف فى نهاية المطاف على استمرار أو انقطاع التطورات التاريخية فى الجنوب. وإذا كانت بعض مناطق الجنوب قد صارت من الآن أورپية من الناحية الديموجرافية (الصين بالذات) فإن الانفجار السكانى هو الواقع الفعلى إلى الآن، وإلى مستقبل طويل، فى أغلب المناطق الأكثر نموذجية فى تمثيل العالم الثالث. وإذا كانت مشكلة الركود السكانى فى الشمال تنطوى على مشاكل اقتصادية ضخمة وثيقة الصلة بالشيخوخة الديموجرافية فى المدى القريب والمتوسط، وعلى مشاكل تتعلق بالبقاء ذاته فى المدى البعيد، فإن مشكلة الانفجار السكانى تواجه العالم الثالث بمشاكل تتعلق بالاقتصاد وبالبقاء فى المدى المباشر والقريب والمتوسط، إلى حد أن أفريقيا مرشحة لتدخل الضوابط المالتوسية وللتحول إلى قارة قليلة السكان نتيجة للمجاعات والحروب الأهلية. ويرى المؤلفان أن الطريقة العقلانية تتمثل، بعيدا عن المالتوسية القديمة والجديدة، فى إدراك وتقييم مدى واتجاهات العمليات الديموجرافية وتقدير آثارها الاقتصادية والاجتماعية واستخلاص نتائجها على الاقتصاد العالمى. البشر والأرض والجوع فى أمريكا اللاتينية يعانى 14٪ من السكان الجوع رغم الكثافة السكانية المنخفضة والأراضى الواسعة القابلة للزراعة. وباستثناء المكسيك وكوبا، حيث جرت إصلاحات زراعية عميقة، يبرز دور التركيز العقارى وراء هذا الوضع (1.3٪ من الملاك يملكون 71.6٪ من الأراضى الزراعية). وفى آسيا نجاح أكيد ولكنه جزئى من خلال زراعة كثيفة فى العمل ومقتصدة فى رأس المال ومن خلال ثورة الأصناف الجديدة من الحبوب الغذائية ومكافحة الطفيليات وتحسين أساليب الرى واستخدام الأسمدة. أما أفريقيا فتمثل كارثة حقيقية حيث يعانى أكثر من 300 مليون أفريقى من أصل 650 مليون سوء التغذية (الفاو). ويتواصل تفاقم انعدام الأمن الغذائى، كما أنه يمكن أن ينقلب إلى مجاعة فى حالة الحرب الأهلية، كما كان الحال فى الصومال. فهل تشكل معونة التغذية أو معونة التنمية حلا؟ فى الواقع، يرتفع باستمرار المبلغ الإجمالى المخصص لمعونة التنمية: من 14 مليار دولار فى 1975، إلى 27 مليار فى 1980، إلى 51 مليارا فى 1988. فإلى أين تذهب هذه الأموال؟ الواقع أن المعونة الدائمة تهم حكومات البلدان المانحة والمستفيدة أكثر مما تلبى مصالح السكان المعنيين بل هى ضارة بهم. فالمعونة الغذائية الدائمة تنافس المحاصيل المحلية وتنافس العادات الاستهلاكية لصالح الأغذية المستوردة من الغرب (وخاصة القمح)، وتقلص أسواق تصريف الزراع المحليين بسبب رخص المواد الغذائية المستوردة، ويؤدى هذا إلى هبوط الأسعار الزراعية الداخلية الأمر الذى يؤدى إلى تقليص الإنتاج المحلى وبالتالى تزايد المعونة والواردات. الطريق الضيق إلى التصنيع خلال قرابة ربع قرن بعد الحرب العالمية الثانية تضاعف نصيب الفرد من الإنتاج الصناعى: 3 أضعاف فى أفريقيا، و 3.8 فى آسيا، و 2.7 فى أمريكا اللاتينية، و 3.2 فى أورپا، وأكثر من 18 ضعفا فى الياپان. وبرغم تباين مستويات الانطلاق والوصول، تجرى عملية لحاق حقيقية فينمو نصيب العالم الثالث فى الإنتاج العالمى كما فى صادرات المنتجات المصنعة. هكذا تغيرت صورة المحيط المتخصص فى المواد الأولية (الزراعة والمناجم) والمركز الصناعى. ويتعلق الفارق الرئيسى بنسبة صناعات التجهيزات ومعدات النقل إلى الإنتاج الصناعى (40٪ فى المركز مقابل 25٪ فى المحيط)، وبالمقابل يكون للصناعات الزراعية الغذائية وصناعات السلع التقليدية أو الوسيطة وزن أكثر أهمية فى المحيط. ويتضح اتساع نطاق التصنيع فى المحيط من واقع أنه حيثما يحدث التصنيع هناك ينتج عن ذلك تقارب فى هيكل الإنتاج الصناعى بين المركز والمحيط. ولكن هيكل صادرات المنتجات المصنعة هو الذى يحدد بدقة ملامح عملية التصنيع. ورغم أن حصة هذه الصادرات تضاعفت من 26٪ إلى 53٪ بين 1965 و1989، إلا أن حصة السلع التجهيزية تطورت بسرعة أقل من المجموع، كما أن تطورها تركز فى عدد قليل جدا من بلدان العالم الثالث. وفضلا عن ذلك، أدى نمو صادرات النسيج إلى ظهور تخصص للجنوب على أساس هذه المرحلة التصنيعية ذات المحتوى التكنولوچى الهزيل. وقد وصلت بلدان الجنوب إلى هذه النتائج من خلال شروط موضوعية متباينة وإستراتيچيات اقتصادية مختلفة: الصناعات التصنيعية، إحلال الواردات، التصنيع بتنمية الصادرات. ويقف المؤلفان عند النموذج الكورى (الجنوبى بالطبع) ويخرجان بدروس مهمة قد تصدم أولئك الذين يعولون عليه والذين لا يدركون جيدا أن النموذج الكورى يتميز بشروط وخصوصيات تاريخية واجتماعية لا تتفق مع تصوراتهم عنه أو بالأخص مع مصالحهم المباشرة: دور المعونة الخارجية الضخمة، دور الإصلاح الزراعى الجذرى الذى فرضته قوات الاحتلال الأمريكية هناك لصد الخطر الشيوعى، الدور الكبير للرأسمالية المحلية. ويرفض المؤلفان أسطورة أن كوريا لم تكن سوى قاعدة تصدير لأمريكا والياپان والشركات المتعددة الجنسيات، ويؤكدان واقع أن تفاوت الدخول فى كوريا الجنوبية أقل من بقية بلدان العالم الثالث باستثناء الصين أساسا، وواقع أن الاقتصاد الكورى كان اقتصادا مخططا إلى حد بعيد ولم يكن اقتصادا ليبراليا على الأقل خلال مرحلة النهوض والهجوم على السوق العالمية. وبالتالى فإن الطريق الكورى ليس طريقا ملكيا يسهل لبلدان العالم الثالث أن تسلكه من خلال مجرد تطبيق تدابير ليبرالية، وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية وإيكولوچية. وأخيرا فليس هناك نموذج عام للعالم الثالث كله اليوم. وإذا كانت بلدان النمط قبل الصناعى - حتى الپترولية منها بسبب هبوط أسعار البترول - تجد نفسها عاجزة أمام مهمة إعادة انتشار جهازها الإنتاجى صوب صناعات أخرى، وإذا كانت الاقتصادات الأولية التصديرية تتعرض لدفع قوى من جانب البنك الدولى إلى التخلى عن طموحاتها فى التصنيع وإلى التركيز على مزاياها النسبية التقليدية، فإن البلدان شبه الصناعية تجد نفسها فى مواجهة مشكلة خاصة بالتماسك الاجتماعى والسياسى (كوريا الجنوبية، البرازيل، المكسيك). النماذج الاجتماعية لا يشهد العالم الثالث انفجار سكانيا فقط بل يشهد كذلك انفجارا سرطانيا فى نمو سكان المدن والمدن الضخمة (الميجاپولات) Mégapoles. وفى العقد الأخير كان نمو السكان بمعدل 2٪ ونمو سكان المدن بمعدل 6.9٪ سنويا. وفى 1965 كان 24٪ من سكان البلدان النامية من سكان المدن فأصبحوا 41٪ فى 1988. ولا تصبّ هذه الهجرة الريفية الضخمة فى عملية تحديث حقيقية بل تقذف بها التكنولوچيات المستوردة فى صناعات البلدان النامية إلى النمو الانفجارى للبطالة المدينية وتهديد الاستقرار الاجتماعى. كما يصبّ كل هذا فى انخفاض الأجور (الذى يعنى أيضا انخفاض الإنتاجية) وتدهور مستويات المعيشة والعمل العرضى الدائم والواسع النطاق وفيما يسمى بالقطاع غير الرسمى، الأمر الذى يؤدى إلى تحولات ضخمة فى سوق العمل وفى تكوين الطبقات العاملة والشعبية. وفى ظل سيطرة نخبة صغيرة، كثيرا ما تكون بيروقراطية حكومية أو عسكرية، على الاقتصاد، وفى ظل دولة كلية الوجود حيث ينبغى ألا تتدخل، وعاجزة حيث ينبغى أن تفعل، وفى ظل تركيز متعاظم للموارد والسلطة، لا تؤدى إستراتيچيات وسياسات التنمية إلى إزالة العراقيل من طريقها، بل إلى إعادة إنتاج المنطق الداخلى للتخلف. اندماج الثمانينات تبقى مسألة أساسية هى تلك المتعلقة باندماج بلدان العالم الثالث فى الاقتصاد العالمى. وفى بداية الثمانينات ساد تطلع متفائل إلى "تقسيم دولى جديد للعمل". والنتيجة فى نهاية الثمانينات هى ظاهرة المديونية الثقيلة للبلدان المرشحة للتنمية التى يتمثل أحد مظاهرها فى انقلاب صافى التحويل (القروض الجديدة مطروحا منها الفوائد والسداد) ليصبح إيجابيا لصالح البلدان الغربية، أى أن العالم الثالث، بما فى ذلك أفريقيا، هو الذى "يساعد" اليوم البلدان الغنية، بما يؤدى إليه من تراجع كل تصنيع طموح أو تنمية حقيقية. ومن هذا الباب يدخل التكيف الهيكلى برعاية منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى، والمقصود: خفض قيمة العملة، إلغاء تدابير الحماية الجمركية، تقليص الدولة، أى تقليص الإنفاق العام والقطاع العام والدعم. غير أن إدراك واقع الاقتصاد العالمى باعتباره اقتصادا هيراركيا يؤدى إلى استنتاج لا مفر منه: التكيف الهيكلى لا يقدم إمكانية حقيقية للتنمية. وهكذا فرغم نجاح عدد ضيق من البلدان أو حتى أجزاء من بلدان، يتجه العالم الثالث بمجمله أكثر فأكثر إلى التهميش من وجهة نظر مساهمته فى الاقتصاد العالمى الذى أصبح يتميز بشكل ثلاثى الأقطاب حيث تنظم كل قمة من قمم "الثالوث" مناطق خاصة بها. وتتجه الولايات المتحدة إلى إعادة فتح القارة الأمريكية، بينما يصبح العملاق الياپانى مركزا تنتظم حوله آسيا بصورة هيراركية، فيما تتجه أوروپا نحو المناطق ذات الأجور المنخفضة للجنوب والشرق. أما بقية الجنس البشرى، غالبيته فى الواقع، فليست مدعوة إلى أن تلعب دورا فعالا، ومن وجهة النظر هذه يمكن حقا "إلغاء العالم الثالث" على حد تعبير مقال لمجلة "نيوزويك" بتاريخ 27 أبريل 1992. إشارة 1: عرضى لكتاب: Thomas Coutrot et Michel Husson, Les destins du Tiers Monde, analyse, bilan et perspectives, Éditions Nathan, 1993. بمجلة العربى الكويتية العدد 440 يوليو (تموز) 1995؛ وقد صدر الكتاب المذكور بالعربية: توما كوترو و ميشيل إسُّون: مصير العالم الثالث، ترجمة: خليل كلفت، دار العالم الثالث، القاهرة، 1995؛ والعرض منشور هنا كما كتبته وليس كما نُشر فى المجلة.
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى مقال عن مجموعة قص
...
-
عملية -عَمُود السَّحَاب- وأقدار مصر وسيناء وغزة بقلم: خليل ك
...
-
روبرت ڤالزر (مقالان: 1: سوزان سونتاج، 2: كريستوفر ميدل
...
-
كتاب سيد عويس: التاريخ الذى أحمله على ظهرى
-
غزة وما بعد غزة
-
بعيدا عن تأسيسية الدستور ودستور التأسيسية ضرورة الإطاحة السل
...
-
كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ -إعادة قراءة
...
-
مارسيل پروست (مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندر
...
-
مصر وبلاد النوبة تأليف: والتر إمرى، ترجمة: تحفة حندوسة مقدمة
...
-
مصير العالم الثالث تحليل ونتائج وتوقعات توما كوترو و ميشيل إ
...
-
الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل
...
-
تفسير الرئيس المصرى الدكتور محمد مرسى لآية الله والعلماء
-
زيارة جديدة إلى -مزرعة الحيوانات- رواية -مزرعة الحيوانات- چو
...
-
عوالم عديدة مفقودة
-
الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة
...
-
الكتب معرفة ومتعة - الجزء الأول
-
حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان
-
جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
-
إلا الرسول الكريم
-
هل انتصرت الثورة المضادة فى مصر؟
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|