حميد المصباحي
الحوار المتمدن-العدد: 3923 - 2012 / 11 / 26 - 23:43
المحور:
الادب والفن
مقطع من رواية موت المجنون,الجزء الأول من ثنائية,ضفاف الموت لحميد المصباحي,دار النشر أفريقيا الشرق,في انتظار الجزء الثاني,موت المهاجر.
لهم من حاجات قد يستغنون عنها حفظا لحياتهم و حياة أقاربهم,لكن المستعمر كان يتربص بالقبائل محرضا بعها على ب
عض ,و لم تكن عيونه بعيدة عنها,إذ جعل أعوانه من أعيانها,غير خافين على الوطنيين,لكنهم لا يقربونهم خوفا من إثارة غضب القبيلة بأكملها,لأن أشرافها لا تنبغي الإساءة لهم,إلا إن تمردوا على المستعمر علنا أو أعلنوا ولاءهم له,هكذا كان الفلاحون يحيون,ببساطة و حذر,حياتهم معلقة بين أيدي شيوخ القبائل و أعيانها,و قد حاول المستعمر التخفيف من مناوشات القبائل لبعضها ليظل العداء مضمرا,و لا ينتهي إلى صراعات بأن يقبل بقسمة الشريف و العامي بعد أن فشل مشروع الأمازيغي و العربي الذي لحم بوحدة العقيدة و قداستها التي لا تفرق بين الناس بناء على أنسابهم,لكن هذه اللحمة التي لم تفعل فعلها لأن الزوايا تحركت مدافعة عن أشرافها و شيوخها معتصمة بالأضرحة و ما تدره عليها من مكانة تهدد بها حتى المستعمر نفسه,تركها تنتعش في البوادي,تشد الناس إلى حياتهم,فينشغلون بها و يهيمون باحثين عن سعادتهم و بهجتهم في التعلق بسراج الحق كلما بانت علاماته اتبعوها مرتلين حامدين, ـ>
81
أما قبيلة الذئاب فقد كانت حصنا للغاضبين بجحورها الكثيرة و غاباتها الممتدة,يتيه فيها العابر و يشرد,كأنها صحراء اخضرت أرضها,فاتسعت و تباعدت حدودها,تشابكت سطوح البيوت حتى بدت كتلال,تكسوها صخور,لم تفتتها رياح عاتية و لا سيول جارفة,لا أحد يعرف أبواب البيوت ولا مداخل القبيلة, في ذلك اليوم جاء عساكر المستعمر بأسلحتهم,حاصروا القبيلة من كل الجهات,و لم يسمحوا لأحد بالمغادرة,و لما انتصف الليل اقتحموها من كل ممراتها,يندفعون مقتحمين الأبواب,أو ما ظنوا أنها أبواب,فما أن هشموها بأعقاب بنادقهم حتى انهارت عليهم جنباتها المحشوة بالأحجار و الأعشاب,أما المداخل المؤدية لبعضها فكانت محفوفة بحفر موحلة مع نبات الصبار بأشواكه المؤلمة,لم يستطع العساكر التراجع,لأن الرجال اعتلوا سطوح بيوتهم و أخذوا يلقون بالحجارة على الجنود,الذين اضطرهم الخوف و الظلام إلى إطلاق النار على كل ما يتحرك,كان بشرا أو بهائم أو حتى أشجار,من رجال القرية من شهر سلاحه و منهم من انتزعه من جنود المستعمر,كانت الليلة دامية,لم يتوقع أحد أن تقاوم القبيلة بتلك الطريقة,فقد كان شيخها,محمد العطار كتوما مسالما,و لم يكن عيسى المقاتل يقترب من قبيلته,ربما إبعادا لعيون المستعمر عن ذلك المخبأ,و ربما لأن العطار كما قيل فيما بعد رفض ظهور المقاتلين جماعات و انتقالاتهم في القرى,لأن ذلك كان يعرض الفلاحين للانتقام,إذ تتهمهم سلطات الاحتلال و المتعاونين
82
معها بعدم التبليغ,كانت هذه المعركة بداية المواجهة في القرى,و قد أعد المستعمر عدته,فأحرق القبيلة وغير المتعاونون معه ملامحها,بل حتى اسمها,من قبيلة الشعاب,إلى قبيلة الذئاب,مشردين أهلها,حتى غدت جحورا مقفرة,أبادوا أشجارها بغازات سامة أثرت على السكان و أبنائهم,و اعتبروهم مجانين,حتى عندما حملوا السلاح وقصدوا الغابات و الوديان لاعتراض أعوان المستعمر,هكذا عرفت قصة البئر المردوم,و ما تلاها من استحواذ على أراضي قبيلة الشعاب التي فر شيخها محمد العطار و لم يترك أثرا,قيل انه تحصن بالجبال,و بقي يقاوم إلى أن قتل فاحترقت جثته,و عندما سئل عنه عيسى المقاتل أجاب غاضبا,
ـ أراد لقبيلته أن تقاوم وحدها,فإن لم يقتل فهو لازال يقاوم وحده,دفاعا عن حياته كما دافع من قبل فقط على قبيلته,.
تلكأ عباس,ثم مضى برفقة محمود,كان يمد خطواته بتكاسل,كأنه شيخ هرم,أتعبته سنين العمر بطولها,فخارت كل آماله التي عاش لها,مصرا ألا يكون إلا ما يريد,بدا له الممر المؤدي إلى المكتب موحشا,جدرانه المتآكلة مصفرة حزنا
83
على ما شهدت من مآسي في هذا المبنى,حيث كل الأسرار يصرح بها,مدينة للبوح,بأصوات مدوية تصدح بالحقيقة,لكن لا أحد يصدق من يهتفون بها علنا,هذا المبنى بدا له وشما لا ينسى,مال عباس على الجدار حتى لامسه بكتفه,ثم توقف متعبا,كانت أنفاسه تتصاعد,و صدره يهتز,و عيناه تجولان في المكان,لم يكن يريد رؤية علال,فلما ولج إلى المكتب كان منكسرا لم يرفع رأسه,و لم يرد تحية علال,بقي متجمدا في مكانه ,لم يتعب من الوقوف,احتار محمود فسأله,
ـ لماذا لم تخبرني أنك تعرفه؟
ـ لأنه تجاهلني,فتجاهلته,
اقترب علال منه فجفل متراجعا إلى الوراء,لكن محمود دفعه و أغلق الباب,التفت عباس يمينا و يسارا فوقع بصره على عائشة و هي ترمقه بغضب,ارتجفت شفتاه,تمكن منه الذعر,و لم يعد يقو على الوقوف,جلس على الكرسي المقابل للمكتب و غرق في صمته الكئيب,ضج جسده بأصوات كأنها نبضات قلبه أو خلجات روحه و هي تسرق منه منتحبة حزينة,بدت له الأمكنة ضيقة,لا تتسع لوجوده الذي لم يعد راغبا فيه,رأى علال يحاصره بين الجدران و يهوي على رأسه بمعول فتتهشم جمجمته ليغرق في دمائه,و عائشة تصرخ بصوت مبحوح,كانت الدماء غزيرة انسابت من تحت باب الغرفة,معلنة عار الخيانة,فاضحة بحمرتها رجلا,يخدم الناس طمعا في تحويلهم إلى خدم و أتباع يروي بهم ظمأ جسده,يحرضهم على التمرد و لم يتمرد هو على شهوات
صورة: مقطع من رواية موت المجنون,الجزء الأول من ثنائية,ضفاف الموت لحميد المصباحي,دار النشر أفريقيا الشرق,في انتظار الجزء الثاني,موت المهاجر. لهم من حاجات قد يستغنون عنها حفظا لحياتهم و حياة أقاربهم,لكن المستعمر كان يتربص بالقبائل محرضا بعها على بعض ,و لم تكن عيونه بعيدة عنها,إذ جعل أعوانه من أعيانها,غير خافين على الوطنيين,لكنهم لا يقربونهم خوفا من إثارة غضب القبيلة بأكملها,لأن أشرافها لا تنبغي الإساءة لهم,إلا إن تمردوا على المستعمر علنا أو أعلنوا ولاءهم له,هكذا كان الفلاحون يحيون,ببساطة و حذر,حياتهم معلقة بين أيدي شيوخ القبائل و أعيانها,و قد حاول المستعمر التخفيف من مناوشات القبائل لبعضها ليظل العداء مضمرا,و لا ينتهي إلى صراعات بأن يقبل بقسمة الشريف و العامي بعد أن فشل مشروع الأمازيغي و العربي الذي لحم بوحدة العقيدة و قداستها التي لا تفرق بين الناس بناء على أنسابهم,لكن هذه اللحمة التي لم تفعل فعلها لأن الزوايا تحركت مدافعة عن أشرافها و شيوخها معتصمة بالأضرحة و ما تدره عليها من مكانة تهدد بها حتى المستعمر نفسه,تركها تنتعش في البوادي,تشد الناس إلى حياتهم,فينشغلون بها و يهيمون باحثين عن سعادتهم و بهجتهم في التعلق بسراج الحق كلما بانت علاماته اتبعوها مرتلين حامدين, ـ> 81 أما قبيلة الذئاب فقد كانت حصنا للغاضبين بجحورها الكثيرة و غاباتها الممتدة,يتيه فيها العابر و يشرد,كأنها صحراء اخضرت أرضها,فاتسعت و تباعدت حدودها,تشابكت سطوح البيوت حتى بدت كتلال,تكسوها صخور,لم تفتتها رياح عاتية و لا سيول جارفة,لا أحد يعرف أبواب البيوت ولا مداخل القبيلة, في ذلك اليوم جاء عساكر المستعمر بأسلحتهم,حاصروا القبيلة من كل الجهات,و لم يسمحوا لأحد بالمغادرة,و لما انتصف الليل اقتحموها من كل ممراتها,يندفعون مقتحمين الأبواب,أو ما ظنوا أنها أبواب,فما أن هشموها بأعقاب بنادقهم حتى انهارت عليهم جنباتها المحشوة بالأحجار و الأعشاب,أما المداخل المؤدية لبعضها فكانت محفوفة بحفر موحلة مع نبات الصبار بأشواكه المؤلمة,لم يستطع العساكر التراجع,لأن الرجال اعتلوا سطوح بيوتهم و أخذوا يلقون بالحجارة على الجنود,الذين اضطرهم الخوف و الظلام إلى إطلاق النار على كل ما يتحرك,كان بشرا أو بهائم أو حتى أشجار,من رجال القرية من شهر سلاحه و منهم من انتزعه من جنود المستعمر,كانت الليلة دامية,لم يتوقع أحد أن تقاوم القبيلة بتلك الطريقة,فقد كان شيخها,محمد العطار كتوما مسالما,و لم يكن عيسى المقاتل يقترب من قبيلته,ربما إبعادا لعيون المستعمر عن ذلك المخبأ,و ربما لأن العطار كما قيل فيما بعد رفض ظهور المقاتلين جماعات و انتقالاتهم في القرى,لأن ذلك كان يعرض الفلاحين للانتقام,إذ تتهمهم سلطات الاحتلال و المتعاونين 82 معها بعدم التبليغ,كانت هذه المعركة بداية المواجهة في القرى,و قد أعد المستعمر عدته,فأحرق القبيلة وغير المتعاونون معه ملامحها,بل حتى اسمها,من قبيلة الشعاب,إلى قبيلة الذئاب,مشردين أهلها,حتى غدت جحورا مقفرة,أبادوا أشجارها بغازات سامة أثرت على السكان و أبنائهم,و اعتبروهم مجانين,حتى عندما حملوا السلاح وقصدوا الغابات و الوديان لاعتراض أعوان المستعمر,هكذا عرفت قصة البئر المردوم,و ما تلاها من استحواذ على أراضي قبيلة الشعاب التي فر شيخها محمد العطار و لم يترك أثرا,قيل انه تحصن بالجبال,و بقي يقاوم إلى أن قتل فاحترقت جثته,و عندما سئل عنه عيسى المقاتل أجاب غاضبا, ـ أراد لقبيلته أن تقاوم وحدها,فإن لم يقتل فهو لازال يقاوم وحده,دفاعا عن حياته كما دافع من قبل فقط على قبيلته,. تلكأ عباس,ثم مضى برفقة محمود,كان يمد خطواته بتكاسل,كأنه شيخ هرم,أتعبته سنين العمر بطولها,فخارت كل آماله التي عاش لها,مصرا ألا يكون إلا ما يريد,بدا له الممر المؤدي إلى المكتب موحشا,جدرانه المتآكلة مصفرة حزنا 83 على ما شهدت من مآسي في هذا المبنى,حيث كل الأسرار يصرح بها,مدينة للبوح,بأصوات مدوية تصدح بالحقيقة,لكن لا أحد يصدق من يهتفون بها علنا,هذا المبنى بدا له وشما لا ينسى,مال عباس على الجدار حتى لامسه بكتفه,ثم توقف متعبا,كانت أنفاسه تتصاعد,و صدره يهتز,و عيناه تجولان في المكان,لم يكن يريد رؤية علال,فلما ولج إلى المكتب كان منكسرا لم يرفع رأسه,و لم يرد تحية علال,بقي متجمدا في مكانه ,لم يتعب من الوقوف,احتار محمود فسأله, ـ لماذا لم تخبرني أنك تعرفه؟ ـ لأنه تجاهلني,فتجاهلته, اقترب علال منه فجفل متراجعا إلى الوراء,لكن محمود دفعه و أغلق الباب,التفت عباس يمينا و يسارا فوقع بصره على عائشة و هي ترمقه بغضب,ارتجفت شفتاه,تمكن منه الذعر,و لم يعد يقو على الوقوف,جلس على الكرسي المقابل للمكتب و غرق في صمته الكئيب,ضج جسده بأصوات كأنها نبضات قلبه أو خلجات روحه و هي تسرق منه منتحبة حزينة,بدت له الأمكنة ضيقة,لا تتسع لوجوده الذي لم يعد راغبا فيه,رأى علال يحاصره بين الجدران و يهوي على رأسه بمعول فتتهشم جمجمته ليغرق في دمائه,و عائشة تصرخ بصوت مبحوح,كانت الدماء غزيرة انسابت من تحت باب الغرفة,معلنة عار الخيانة,فاضحة بحمرتها رجلا,يخدم الناس طمعا في تحويلهم إلى خدم و أتباع يروي بهم ظمأ جسده,يحرضهم على التمرد و لم يتمرد هو على شهوات
#حميد_المصباحي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟