|
ولیمة الفطر
سرفراز علي نقشبندي
الحوار المتمدن-العدد: 3922 - 2012 / 11 / 25 - 07:19
المحور:
الادب والفن
&_ بعد أن أتاهت الطریق ، وقفت سعاد کعمود حجري جامد بین ألوف الصخور حولها، ثم تدحرج جسدها المتعب علی الأرض وسندت بظهرها علی صخرة أشبە بجدار مهجور ، أحتواها البرد والظلام کمعطف الوبر وأرتمت في أحضان الخوف ،حیث لا مأوی سواە ،فهي لا تدري الی أین ستذهب !! الودیان العمیقة غریبة وفجة ، الطرق مفقودة الآثار وکأن الرحالة لم یکشفونها بعد ، عصرت ذاکرتها، کیف وصلت هنا؟. في لحظة هجوم العدو المفاجئ علی مجموعتها، سقطتا رفیقتیها (پلشین) و ( درسیم) برصاص الجنود، وبقیة الرفاق أین ذهبوا ، في أي أتجاە رحلوا .؟ افهي لا تتذکر سوی شعر درسیم وجدیلتها المغروقة بالدماء. أغمضت عیونها برهة ، الخلیة الوحیدة في ذاکرتها الصماء هي جدیلة درسیم المغڕوقة في الدماء. حرکت جسدها وحاولت أن تجمع بقایا ذهنها المنشطر في اللاشیئ، هاهي تحاول أن تحدد الأتجاە ، ولکن کل الصخور تبدو متشابهة والأشجامنسوخة من بعضها، والجبال وکأنها قد تناسلت عن عشرات القمم المتشابهة. زخات خفیفة من المطر تتدحرج علی خصلات شعرها الأحمر ، تختلط بدموعها ، لقد أضاعت رفاقها وغدها مجهول والطریق مفقود، ربما تسقط في ید الأعداء . اأرجعت بذاکرتها الی البدایة ، حینما وقعوا في الکمین المنصوب لهم ، کل رفیق کان یقاوم من جانبە لئلا یقعوا في الأسر ، سمعت صراخ قائد المجموعة وهو یقول: - هیا أنقذوا أنفسکم ، هرولوا أنا سأحمیکم .. ودون أن تستدیر سعاد الی الوراء ، سمعت الرصاص یقحم جسد قائد المجموعة ویختلط بصراخە الذي تحول الی آهة ثم شتم فصمت. همست : - الأوغاد ، کانوا کصیادي الغزلان معدومی الضمیر، فقدتک یا درسیم والی الأبد. عندها تحولت سعاد الی ریح راکض تفر من صیاح الجنود و طلقاتهم الهوجاء، تعبر الصخور والأشواک تهرب دون بوصلة لتجد نفسها في هذا المکان المقفر ، الآن صار الظلام یعیق الرٶیا ویضیف سدا إضافيا لمعاناتها، قررت البقاء هنا في هذە اللیلة ،ربما ساعدها النهار القادم لإيجاد طریق تسلکە. احتضنت بندقیتها وتکورت علی نفسها کدودة الماء التي تتقلص في المخاطر، الأفکار السوداء تغزوا کیانها دون رفقة. مدت أناملها المتجمدة تبحث في جیوبها عن طعام تأکلە، فهي منذ صباح الأمس لم تذوق الطعام ، لقد جف ریقها ولعاب فمها صار کثیف اللزوجة وحنجرتها تلتصق ببعضها من الداخل ، نهضت بحذر یلفە الأرهاق لتبحث عن الماء. الظلام لا یزال ستارا خفیفا علی الأرض ، وقع بصرها علی حفرة صغیرة لامعة وسط الظلام الشفاف ، اقتربت من الحفرة ، کما تبدو انها وقع حوافر حصان ما وقد تجمع فيها المطر، ارتمت علی بطنها وأقربت رأسها من فوهة الحفرة وأخذت تبلل لسانها ثم مدت شفتیها وأخذت تشرب بنهم غیر مکترثة بالطین وبقایا القش والطین الملتصق بجوف فمها أو الوخز الذي تحسە علی شفتیها الرقیقتین. مسحت شفتیها وعادت تبحث عن مکان تحتمي بە من المطر الذي بدأ یبلل الأرض، حشرت نفسها تحت صخرة مائلة ، أشبە بمظلة لکنها گیر مستویة الأطراف، مکان جاف تحاول النوم فیە حتی الصباح ، لکن الخوف والجوع والهلع صارت مطرقة تدق علی بطانة عقلها و تهشم خلایا الأغفاء فیها، قلصت جسدها محتضنة البندقیة تشحذ الدفء من حدیدها البارد. أنهکتها لکمات الخوف الملفوفة علی معدتها الخاویة ، أقيضت المعانات حنینها إلی حیاتها القدیمة في قریتها ، حیث کانت قد ترکت البیت قبل أعوام ،وهي الأخت الوحیدة لخمسة أخوة یحبونها. تذکرت باحة الدار والأیوان العالي المطل علی بساتین الکروم، غرف الدار والنوافذ الصغیرة المتعددة فیها تلمع أمام نور الشمس وتملأ کل حیز بنور ساطع، حتى الأواني وأباریق الشاي الزجاجیة فوق الرفوف یزید بریقها وتعکس ظلا متعدد الألوان علی الحائط الکلسي الأبیض. طغی اشتياقها إلی أبیها فوق شریط الأحداث ، آنذاک کانت تتکأ علی طرف الوسادة الدائریة الکبیرة في غرفة الدیوان وأبوها متکأ علی الطرف الآخر یملأ قلیونە بالتبغ الأصفر الناعم و یتسامران، تهمس لنفسها: - أیها الاشتياق ما بالک الیوم بعد کل هذە الأعوام تذکرني بتلک الحیاة ، ولماذا مشاعري تختلف عن کل المرات التي تذکرت البیت فیها.؟ هنا غرفتها الدافئة ،الضوء الأحمر یتراقص في فوهة المدفأة السوداء ، ودولاب ملابسها الرفیع والسریر ذو الغطاء الأبیض ، کانت قد طرزت اطرافة بعناقید العنب الحمراء والمرآة البیضویة ذو الحوافي الناتئة معلقة علی الجدار، المزمار الکبیر في أسفلە یحمل قلادات الخرز الملون والأساور . في کل صباح کانت تتزین أمام الـمرآة وتنتعل خفا مفتوحا رفیع الکعب تطرق به أرضیة الدار. کانت سعاد مدللة ، وحیدة أبوها الأغا في منطقة (کربوران) ،کل شباب المنطقة کانوا یتمنون ودها، سخطت علی القدر الذي أفقدها تلک الحیاة الناعمة ورماها في آتون الخوف الذي یخنقها وكأنە طوقا منفولاذ، بکت بحرقة ثم حولت جسدها علی طرفها الآخر والصخور تنغرس في أضلاعها وتوجع جسدها النحیف . في الصباح فتحت عینیها تنظر الی ما حولها ، کانت الشمس مختفیة تحت غیوم سوداء والودیان تستضیف الضباب الکثیف والأشیاء تطل من بینها کهامات خرافیة ، یهب علی جسدها نسیم بارد یوخز المسامات ویحول هدوء خصلات شعرها الأمامیة الی صخب مقلق، تبرز من تحت هذا الصخب المجنون وجها منحسر الأحاسیس وباهت الضیاء، أنفها الصغیر قد أحمر من البرد وبیاض وعیونها العسلیة یغزوها الاحمرار والحزن قد أکمل کحلها. سعاد تستعید في ذهنها حوارها الصامت لیلة أمس، البکاء ..الحنین الی الدار ، شعرت بخجل من ضعفها ونهضت فجأة تقول: - اللعنة ، هل نسیت بأني مقاتلة في صفوف الثورة، ألم أقسم بقداسة أرض الوطن، ألم أقل أني ابنة الثورة ، لعنني اللە علی هذە التخیلات الجوفاء. تصمت، تتنفس بشهیق عمیق ثم تخرج زفیرها بقوة وکأنها تطرد بە کل تلک اللعنات، ثم تقول : - الآن یجب أن أجد طریقا ، هکذا سیعصرني الجوع و أموت هنا ، وسوف تمزق الذئاب جسدي المیت في العراء وستحوم النسور حول ولیمة موتي. اعتلت صخرة عالیة ، تمشط الودیان بعیونها ، ثم تقول في حزن: - أیها القدر الأحمق، لماذا جعلتنا جزء من وحوش هذە الجبال، لماذا سلمت مصیرنا لمحتل یبیح إبادتنا . أخرجت ورقة السیجارة و لفتها علی التبغ بأناملها المرتجفة ، أشعلت فیها النار وسحبت نفسا قویا من الدخان وهي تنظر في کیس التبغ ، وتخرج الدخان من منخریها ثم تهمس : - بقي لي مایکفي لسیجارتین.. ثم تحسست بیدها البندقیة وحزام الطلقات المربوط علی خصرها، یسري الاطمئنان في دمها ، تهمس : - هذە هي أنیابي ومخالبي ، هذە هي قوتي التي ستحمي روحي من الوحوش والأعداء، لکن کیف سأحمي نفسي من وتنین الجوع و الخوف .؟ تذکرت الحفرة التي شربت منها الماء مساء أمس، سرت نحوها تقول: - نعم أنها بصمات حوافر الحصان ، لماذا لا أتبعها ، الخطوات منقوشة علی الأرض الرطبة.. سارت عدة خطوات فجأة توقفت ، تقول: - من یقول لي لمن کان هذا الحصان ، ربما کان لجنود العدو ، عندها سأقع في الفخ. ثانیة غارت في أمواج الیأس دون بوصلة، تتجە نحو أسفل الوادي ثم تصعد الجبل المقابل والوادي الذي یلیە وهکذا حتی المساء. مع الغروب وقفت علی تل مغمور بالأوراق الساقطة ، تستعرض في ذهنها المواقع التي مرت بها قبل أمس ، أخیرا وقع نظرها علی تل صغیر في جهة الیسار ، تخیلت بأن خلفە قریة ما، لکنها مع کل ومضة أمل تتعثر بهیکل الخوف القائم أمامها، تسأل نفسها: - قریة ، لنقل هناک قریة.. لمن تکون یا تری و هل فیها جنود العدو ، هل هي في جنوب کوردستان أو في شرقها ، الوطن المنکوب مسور بالمخاطر من کل الجهات ؟! تتوالی ولادة الأسئلة في رأسها والأجوبة عاقرة ،لکنها لم تتوقف بل ظلت سائرة نحو التل بخطوات سریعة قبل أن یحل الظلام، تارة تسیر في استقامة وأخری تکور جسدها بین الأحراش وتخطو علی یدیها خوفا من وجود أبراج المراقبة علی القمم ، وصلت الی حیث أرادت ولک لا وجود لأي قریة کما توقعت،إنها غابة كثيفة الأشجار علی طرف الوادي ، وکأن هناک من صفف أشجارها وسورها و المساء قد أحتلها قبل أطراف الوادي، نظرت الی الغابة بأرتعاب وهي تسأل نفسها: - أي سر یکمن في هذە الغابة الکثیفة؟! وقفت علی طرف الغابة لا تتجرأ دخولها ، أسندت بظهرها علی جذع شجرة کهلة ، وشعرت بالوهن في أوردتها و تخدرت أطرافها،ثقلت جفونها و لازمها رغبة قویة للنوم ، هلعت وهي تقول بأرتجاف: - هذە هي علامات الموت ؛ نعم أنا أموت ببطئ. تذکرت حکایة عزرائیل حین یقع علی جسد الإنسان ویسحب روحە ، بعدها یصبح المرء جثة میتة ، مخیفة ومقززة یجب أن تدفن في التراب. دفعها الخوف من الموت للوقوف ، أمسکت ببندقیتها وعدلت قامتها وهي تقول : - کم أنا سخیفة وجبانة ، أیخیفني الموت الی هذا الحد .. تذکرت صراخ قائد مجموعتها الذي ألهی العدو حتی عبروا رفاقە الخطر ثم قتل وهو یصرخ هیا أعبروا..!! ردت تقول: - أنا مقاتلة منذ أعوام، شارکت في عشرات العملیات ، ولم ینتابني الخوف مثل الآن.. ثم ردت علی نفسها قائلة : - لا لا؛ الموت في القتال ومن أجل الوطن حق ولە معنی مقدس ، لکن هذا الموت الممل لا فائدة منە. بدأت تدخل الغابة وأقدامها تغور في الوحل المتجمع في الحفر ویتسرب الی حذائها المشقوق، یمتزج بعرق أرجلها اللزجة . الغابة ملیئة بالأشجار الکهلة والیافعة ، والظلام الدامس قد تسرب الی کل حیز ، تسیر سعاد کأعمی دون عکازة ، فجأة تتعثر بصخرة مزروعة وسط الأشجار ووقعت علی وجهها، سحبت جسدها لیستقر علی کومة من الأوراق الساقطة وهي تقول في ألم : - تلاحقني یا ملکوت الموت ، لکني لن أموت فأذهب من هنا. - شعرت بشيء دافئ یسیل فوق جبینها، لمستە فتبللت أصابعها فأشعلت قداحة التدخین، الدم یسیل من جبینها، مدت یدها الی مندیلها ووضعتە فوق الجرح ، وهمدت في مکانها . حین أفاقت من النوم ،کان شروق الشمس ولیدا، یحاول أن یطل برأسە من بین أغصان الأشجار النصف عاریة، فرکت عیونها ونهضت من رقادها وأول ما فکرت بە هو الطعام والماء، حرکت أنظارها بین الأشجار، لقد هجم الخریف وفات موسم الثمار وسواعد الأشجار خالیة من الأوراق ، وقع نظرها علی مجموعة من الفطر النابت عند جذع شجرة کبیرة ، لمست الفطر ، لکنها خافت ربما کان ساما ، بدأت بتدخین آخر سیجارة بقیت في کیسها ثم رفعت المندیل عن جبینها المجروح ، کان الجرح رطبا ومدمیا، جمعت رماد سیجارتها في کفها ووضعتە فوق جبینها وغطتە بالمندیل، وعادت تفکر في الفطر هل تأکله أم لا ؟ تناقشت مع نفسها قائلة: - ربما إذا أکلت الفطر أموت أو ربما لا أموت، لکني أذا لم أفعل سأموت جوعا، کلاهما ممیت ولکن الموت الأول إحتمال. مدت یدها الی قبعة الفطر ووضعتە في فمها وأخذت تمضغە بهدوء و وجل، طعمە غیر لذید لکن الحنجرة بلعتها بسرور . جلست فوق ولیمة الفطر ، تدور بعینیها بین الأشجار الباسقة ، أغصانها العالیة تعانق الشمس بشوق عارم ، الأغصان تتسابق علی الدفئ الخریفي الهارب والأوراق القلیلة الباقیة تشحذ القوة من الشمس کي لا تسقط ، لکنه أمل خائب ، لقد کهلت والاصفرار قد غزا سحنتها و ستسقط عاجلا أم آجلا . شعرت سعاد بالسباق العنیف بین ریاح الخریف وشرایین الأوراق ، الأوراق تصارع الموت والخریف یقترب منها بقوة البرق و هدوء ملکوت الموت ، همست : - أیتها الأوراق الکهلة ، لیس أمامک ألا أن تترکي الأغصان وترمي بنفسک علی الأرض کجثة هامدة لا روح فیها ، قدرک أن تفقدي الحیاة کهذە الکومة الیابسة التي أجلس علیها الآن.. تنهدت وقالت: - الأشجار أکثر حظا من البشر ، حین یودعها الربیع يواعدها بلقاء یعید لها الروح من جدید ، والربیع یفي بوعدە ویأتیها بالزینة والعطر . - أما نحن البشر ، وحش الکهولة یحتلنا مرة وبعدها ننتهي ، لا فصل ولا ریح یواعدنا بالقیام ، الطبیعة لا تهبنا الحیاة إلا مرة واحدة ، في وطني نقضي فرصتنا الوحیدة بخوف ومعاناة. نعم في وطني نقضیها في ذل وتدمیر ، الشيء الوحید الذي یحمینا من الألم هو الموت ، والوطن یبقی في ظلامە ولا یهل علیە الربیع أبدا. تتهشم ذاکرة سعاد أمام معادلة الحیاة وسباق الطبیعة ، تبهت الایدولوجیا التي صارت رکنا أساسیا کالصلاة تعیدها کل یوم ، صارت تبحلق في قامات الأشجار بولع صوفي في المحراب. تدور ببصرها بین قامات الأشجار وسواعدها ،هذە قد نفض الریح أوراقها، تلک قد فات موسم الثمار فیها و أخری أوراقها متشبثة رغم اصفرارها. دون تفکیر رفعت ردن قمیصها العسکري تحدق في ساعدها و زندها لتقارن بینها وبین سواعد الشجر ، تری هل أحتلها الخریف مثلها ، هذە أول مرة تمعن النظر في بیاض سواعدها منذ أن التحقت بالثورة ، فالسواعد والکتف والزند لیست سوی حمالة للسلاح والعتاد، همست: - ما جدوی القامات الباسقة والسواعد البضة إذا کانت عاقرة لا تثمر ،الشجرة العملاقة دون ثمر ، یجب قلعها لا محال، هکذا کان تقل أبوها. الثمر والتخصیب هذا ماکانت تفکر بە سعاد ، منذ طفولتها کانت تتمنی أن یکون لها طفلا ، کانت تعدد صفاتە وشکل وجهە ولون عینیە ، ککل الفتیات کانت تناغم دمیتها القطنیة کأنها کائن حي ، تطعمها ،تهدهدها ،تنهرها. ترتفع حرارة جسمها بهدوء ، ثمة بخار یصعد من معدتها ویخرج من فمها غازا برائحة الفطر ، تقول: - لم تفوتني الفرصة بعد ، لازالت کل أجزاء جسدي في ربیعها، لکن متی تنتهي الحرب لأخرج من هذا الغمد، أنا الآن حرة أقدر أن أهرب وأذهب حیث أشاء.. لکن کیف أفعل ولي مکانة بین المقاتلین ، وشخصیتي أکثر قوة عما کنت علیە قبل الثورة ،کل قریتي تفتخر بوجودي کمقاتلة .. تبا لقد قسمت بتراب الوطن بأن أٶجل کل رغباتي الشخصیة حتی یتحرر الوطن ، ثم کیف سأتقبل الحیاة وسط الأوغاد المحتلین الذین یلغون وجود أمتي ، هل نسیت أبن عمي الذي أمسکوا بە لأنە کان یحمل علم أمتي في رکن جیبە ولازال مفقودا منذ عشرة أعوام. من العار أن ألغي هذا التأریخ لأجل رغبة أحادیة ضیقة ، أنا تافهة فعلا، لو تملکني الضعف فعلا ، لسوف أقتل نفسي لأني غیر جدیرة بالحیاة ، فجأة صاحت : - لبیک أیها الوطن ،أعذرني أیها الوطن ، سامحیني یادرسیم فأنا لن أنسی جدیلتک المغروقة بالدم. أجهشت سعاد بالبکاء ،لمن تبکي لواقعها المریر أم أحلامها المٶدة ، لضعفها أم لرفیقتها التي قتلت أمامها.؟! فجأة سمعت خشخشة بین الأحراش ، أستدارت وأمسکت ببندقیتها متأهبة لأي حدث ، هاهو سنجاب رشیق یطفر هنا و هناک ویخبئ شیئا ما تحت الصخر هناک ، نهضت سعاد متجهة نحوە ، أختفی السنجاب کالظل سریعا ، مدت یدها تحت الصخرة ، قسمت الجوز المخبوء فیها بینها وبین السنجاب ، وشربت من ماء المطر في حفرة قریبة قالت: - أعذرني أیها السنجاب اللطیف ، لقد هد الجوع أقدامي ویجب أن أسیر. سارت في الغابة وأدرکت الآن بأنها مقبرة، وما تعثرت به لیلة أمس کان شاهد قبر لیس إلا.. أسرعت الخطی فهذا المکان یذکرها بالموت الذي تهرب من ملکوتە.! ثم قالت: - المقبرة دلیل بأن المکان مسکون ، ولا بد من قریة قریبة ، لکن اذا کان اکمکان داخل الحدود العراقیة فحتما غیر مأهولة بالسکان ، لأن صدام قد هدم القری ورحل أهلها ، ربما عادوا بعد الأنتفاضة. تسیر حتی حافة الوادي ، هناک قریة نصف نائمة أمامها ، أتاها صوت دیک وهمهمة الدجاج ، الدخان یعلو من مداخن البیوت بمللە المعتاد. قفزت کالطائر فرحة : - لقد أنتهی الضیاع ، یجب أن أری طریقا أدخل بها القریة ، لأعرف أین أنا. دارت من خلف أول دار في القریة بمحاذاة السیاج المصنوع من أغصان البلوط وأوراقە الجافة ثم رفعت رأسها بحذر من فوق الأغصان المتشابكة ،رأت امرأة شابة جالسة أمام تنور ملتهب النار محفور في الأرض تفتح قرص العجین بخفة. ترددت لا تدري کیف تحاور المرأة وکیف ستستقبلها ربما تکون القریة تحت سیطرة الجحوش أو الجیش ، لا حیلة لها یجب أن تجازف،نادت علی المرأة بهدوء مرتبک: - أختاە هل لي أن أطلب قرصة من الخبز؟ انتفضت المرأة خائفة ، تردد الصلوات من تحت شفتیها وبید مرتبکة تعدل غطاء رأسها الشفاف : - من تکوني یافتاة ، أأنس أنت أم جن تطلین علي في هذا الصباح - أنا عابرة سبیل یا أختاە، لا تخافي مني فأنا بشر مثلک. - هیا أرفعي قامتک أكثر لأراک و أتأکد. وضعت سعاد قدمها علی طرف السیاج حتی بان نصف جسمها. قالت المرأة: - بل أنت مقاتلة یا فتاة ، ها أنت تردین الزي العسکري و تحملین السلاح ، ماذا تفعلین هنا قرب بیتي بحق الله ؟! قالت سعاد بأرتباک: - نعم أنا منهم ، لا أرید خبزا ، فقط أخبریني ماذا تسمی هذە القریة وأین تقع ؟ نفضت المرأة یدیها من الطحین وقامت متجهة نحو السیاج تمعن النظر في وجە سعاد المتعب والدم المتجمد فوق جبینها المجروح وشفتیها المدمیة من التشقق، فقالت في حزن: - هیا أعبري السیاج یا فتاة لا حاجة للخوف، فنحن مثلک أکراد. قفزت سعاد بخفة السنجاب لتعبر السیاج وجلست قرب المرأة، تتمعن فیها وهي تلصق العجین علی أطراف التنور الملتهب، تمام کما کانت تفعل أمها في القریة . إنها امرأة ذات وجە حیوي وشعر أسود تربط في قمة رأسها وشاحا صغیرا متعدد الألوان یضفي الجمال علی ضفائر المتدلیة ،وقد أحمرت وجنتیها بفعل النار حولها ، أنتزعت قرصة خبز من التنور وضعتە أمام سعاد و وهي تقول : - قلبي یتفطر علیکن ، کیف تعیشن وتحاربن في هذە الجبال الوعرة و أنتن فتیاة، المرأة لم تخلق للقتال فهي ضعیفة الأقدام. بلعت سعاد لقمة الخبز وهي تجیب: - لا لا تقولي هذا یا أختاە ، للمرأة قوة تماثل الرجل ان لم تکن تفوقە ، قوة أقدامنا تنبع من أرض الوطن الذي نسیر علیە. تنهدت المرأة و قالت: - فلیکن کما تقولین ، هل تریدین خبزا أضافیا ، أم أجلب لک ما تأکلینە مع الخبز ، انک جائعة ألیس کذلک؟! - نعم ، لکن هذا لیس مهما .. فقط أخبریني کم تبعد هنا عن منطقة( خاکورک) ؟ - هوووو.. خاکورک عند الحدود ، ها أنت الآن في ضواحي (لیلکان) هل أنت نائمة أم ماذا ، هیا معي لندخل الدار زوجي یعرف المنطقة أکثر مني ؟! - لا لا شکرا لقد تأخرت یجب أن أذهب - هل لازلت تخافین مني ، الدم یا أختاە لا یصبح ماء مهما جری.. نشکر اللە علی انتهاء القتال بین الأخوة ، أنە قتال قبیح الکل کان یقول هذا . - نعم یا أختاە قتال قبیح و مشین ،المحتلین یشلون فتیلها، هم السبب - أنا لا أفهم السیاسة ،لکني دوما أقول الی متی سنعیش هکذا دون أستقرار ،کل واحد یلعب بنا من جانبە؟!! . - قولک صحیح ، ولکن لم تخبریني کیف وقف القتال؟! - أنائمة أنت في أذن الثور أم ماذا.. کأنک لست مقاتلة ، من تکوني یا فتاة.؟! - لا.. لا یا أختاە أنا کنت في مهمة وقد تأخرت في العودة - حسنا ، هناک فتیات من جماعتک في بیت المختار ، سنأخذک هناک.. لقد اتفقت قیادتکم مع قیادة الجنوب ، هذا ما قالە زوجي حین سألتە عن سبب وجود کل هٶلاء الفتیات في ضیافة المختار . رفعت سعاد رأسها و تنفست عمیقا وطفحت دموعها تملأ المآقي الحمراءو هي تقول : أشکرک أیها الرب ،أنتهی اقتتال الأخوة قبل أن أموت .. أشکر ربي بأن بندقیتي لم تتلوث بقذارة هذا القتال .
#سرفراز_علي_نقشبندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المکیال
-
أأنت عارف بشیمة المطر
-
لا لسنا سیان
-
صباحیات أربیل
-
مجنون عند عتبة لوزان
-
حصیلة النداء
-
من سیکون (فیلي براندت ) العراق
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|