|
المادية التاريخية والصراع الطبقى والممارسة الثورية -- جورج لارين -- القسم الرابع والأخير
سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 3921 - 2012 / 11 / 24 - 01:17
المحور:
الارشيف الماركسي
ترجمة سعيد العليمى الفصل الرابع
عناصر إعادة بناء المادية التاريخية
المادية التاريخية والممارسة الإنسانية:
بينت فيما سبق كيف أن هناك حاجة لإعادة بناء المادية التاريخية كنظرية للممارسة بالتعارض مع تفسير حتموى وغائى يختزل التطور الاجتماعى إلى عملية مماثلة للتاريخ الطبيعى ومنظمة بقوانين لا راد لها. وقدمت الفكرة الأساسية وراء هذه المحاولة من قبل ماركس نفسه حين صرح بأن "الناس يصنعون تاريخهم الخاص، ولكنهم لا يصنعونه بالطريقة التى تروقهم بالضبط، إنهم لا يصنعونه فى ظروف يختارونها بأنفسهم، وإنما فى ظروف يواجهون بها، معطاة ومنقولة من الماضى" (الثامن عشر من برومير، مختارات ماركس، ص 96). وقد أكملت هذه الفكرة من خلال فكرة ماركس الواضحة بأن "الناس يغيرون الظروف، وأن التوافق بين تغيير الظروف وبين النشاط الانسانى أو تغير الذات يمكن أن يتصور ويفهم عقليا فقط باعتباره ممارسة ثورية" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 40). ولعله من الضرورى اكتشاف معنى هذه الأفكار بتفصيل أكبر حتى نرى ما إذا كان من الممكن أن تصبح مفتاح حل التوترات التى حددتها فى فكر ماركس وانجلز.
لقد بدأ ماركس بفكرة أن "الحياة الاجتماعية بأكملها هى بصفة أساسية ذات طبيعة عملية. وكل الأسرار التى تؤدى بالنظرية إلى الغيبيات تجد حلها العقلانى فى الممارسة الانسانية وفى ادراك هذه الممارسة" (أطروحات حول فيورباخ، ص 8، الأيديولوجيا الألمانية، ص 5). ومما له مغزى كبير أنه فى صياغة ماركس وانجلز الأولى للمادية التاريخية يلعب مفهوم الممارسة دورا محوريا. فعند وصف المقدمات التى يجب أن تبدأ منها المادية التاريخية يؤكد ماركس وانجلز "إنها إنما تبدأ من الأفراد الواقعيين من نشاطهم والشروط المادية لحياتهم، سواء اكانت قائمة بالفعل أم نتجت عن نشاطهم" (الأيديولوجيا الألمانية، ص31). إذ يجب أن تنتج الكائنات الانسانية أولا، وسائل إعادة إنتاج حياتها المادية. ولكن عملية الانتاج هذه تظهر كعلاقة مزدوجة "باعتبارها عملية طبيعية من ناحية، وعلاقة اجتماعية من ناحية أخرى، بمعنى أنها تشير لتعاون أفراد متعددين" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 43). وهو تعاون قائم على تنظيمات سياسية وقانونية خاصة ومعزز بواسطة عقائد معينة وأشكال من الوعى. والممارسة هى نشاط قصدى وهادف. وهى لا تحول الطبيعة فقط وإنما تحول الكائنات الانسانية نفسها. إذ تعيد الممارسة انتاج الحياة العضوية للأفراد بينما تظل أيضاَ بمثابة "شكل محدد للتعبير عن حياتهم، نمط للحياة محدد من جانبهم" (الأيديولولجيا الألمانية، ص 31). والمجتمع ككل بالنسبة لماركس هو نتيجة الممارسة. إذ يتساءل "ما هو المجتمع، أيا كان شكله؟ ويجيب: هو نتاج فعل البشر التبادلى. لكنه يضيف مباشرة إضافة هامة: هل البشر أحرار فى اختيار هذا الشكل أو ذاك من المجتمع؟ كلا عل الاطلاق" (رسالة إلى ب.ف. أنتكوف، 28 ديسمبر 1846، مختارات ماركس وانجلز، ص30). هذا يعنى أنه بالرغم من أن الممارسة هى الحقيقة الاجتماعية الأساسية فإنها ليست حرة بشكل مطلق أو غير مشروطة. إذ تبلورت الممارسات الانسانية نفسها فى الواقع فى صورة "سلطة موضوعية" ، متمثلة فى بنى وعلاقات اجتماعية لم يتحكم فى صنعها البشر حتى ظهور نمط الانتاج الرأسمالى. وموضعة الممارسة على هذا النحو تفرض حدودا على الممارسات البشرية الفعلية. وهذا هو معنى قول ماركس بأن الناس يصنعون التاريخ ولكن ليس بالطريقة التى تروقهم.
تريد النظرية الماركسية اذن أن تبتعد عن تصور الممارسة باعتبارها إما فعل حر لأفراد خارج أية شروط أو نشاط محتم كليا يكون فيه البشر مجرد حوامل agents. والنظريات البنيوية عن الفعل تصور الكائنات الانسانية ليس كممثلين حقيقيين للتاريخ وإنما بالأحرى كحملة قوى وعلاقات لا يسيطرون عليها. وهكذا فبالنسبة لألتوسير فإن الممارسات تتشكل فى مجموعة من النماذج أو البنى، حيث تصبح الكائنات الانسانية بالنسبة لها حملة أو دعامات فقط (1970،ص 158). وفى الطرف النقيض، تتصور النظريات الحركية actionalist عن الفعل، لأفراد باعتبارهم ممثلين أحرار للتاريخ وكأن أفعالهم لا تتحدد بأى شئ خارجها. فسارتر مثلا، يؤسس نظريته فى الممارسة على القدرة الكلية للفرد (1968، ص 57) وهذا مرتبط بوجوديته، حيث يعد الوعى الفردى بالنسبة لها أساس حرية راديكالية (أنظر بوستر، 1979، ص 22). وبينما نجد لدى ألتوسير أن البنى تكوينية والذوات مكوًَنة، فإننا نجد لدى سارتر أن الفرد تكوينى والبنى مكوًَنة. وهكذا فهما يمزقان الذات والموضوع والوحدة الخاصة بهما، وهى التى حاول ماركس أن يحفظها بواسطة مفهوم الممارسة على وجه التحديد. ولعلنا ندرك الآن لماذا تعتبر الممارسة مفهوما مركزيا لهذا الحد للمادية التاريخية: إذ هى تؤلف نقطة الالتقاء والوحدة بين الكائنات الانسانية والطبيعية، بين كل من الاجتماعى والمادى، والذوات والبنى، والوعى والواقع. وتظهر الممارسة باعتبارها عملا وكذلك أيضا كتعبير عن الذات، كإعادة انتاج عضوية وكذلك كإعادة انتاج اجتماعية، كنشاط مادى وكذلك أيضا كنشاط اجتماعى، كإعادة انتاج للعلاقات الاجتماعية وكذلك أيضا كتحويل سياسى للعلاقات الاجتماعية. وقد طرح كوسيك ذلك قائلا: "الواقع الاجتماعى الانسانى يتم اكتشافه من خلال مفهوم الممارسة، كنقيض لمفهوم الكائن المعطى أى كعملية تشكيل للكائن الانسانى وفى نفس الوقت، كعملية تحديد لنوعه الخاص. فالممارسة هى مجال تشكل الكائن الانسانى" (1976، ص 136). إن شمولية الممارسة فى معالجة ماركس تشكل أساس مركزيتها بالنسبة للمادية التاريخية فضلا عن أنها أيضا مصدر مشاكلها كمفهوم. إذ تنطوى المفاهيم متعددة الأبعاد على صعوبتين أساسيتين، أنها تميل من ناحية إلى أن تكون غامضة مفتقرة للتحدد، ومن ناحية أخرى يمكن لها بسهولة أن تختزل إلى أحد أبعادها دون الأخرى. لقد سبق أن ذكرت أمثلة عن الاختزالية فى مفاهيم سارتر وألتوسير. فلقد اتهم ماركس نفسه من قبل هابرماس (1972، و1982، ص 268) وفيلمر (1971) باختزال الممارسة إلى فعل أداتى وبعدم اعتبار التفاعل الداخلى الاتصالى، لذلك يذهب هابرماس إلى أن الذوات لا "تنتج" سياق حياتها الاجتماعية بنفس الأسلوب الذى تصنع به السلع كما يرفض فيلمر فكرة أن مملكة الحرية "تنتج" وفقا لنموذج الفعل الأداتى. إنه لمن الصحيح بالفعل أن ماركس أدمج فى نفس المفهوم شكلين من النشاط الانسانى الذى ميز بينهما الاغريق باعتبارهما الممارسة PRAXIS والمزاولة POIESIS. لقد كانت الممارسة PRAXIS بالنسبة للإغريق سياسية بصفة أساسية أو نشاط فنى. وقد كانت المزاولة POIESIS النشاط المادى لانتاج أو صنع شئ ما. وهكذا فحين ميز الاغريق بين النظرية والممارسة فهم لم يشيروا إلى التفكير باعتباره مختلفا عن الفعل وإنما بالأحرى إلى نمط من الحياة: الحياة التأملية والحياة السياسية. بالنسبة لأرسطو "الحياة العملية هى حياة مواطنة نشطة، هى الاسهام النشط فى حياة المدينةPolis . أما الحياة النظرية على الضد من ذلك فهى حياة انفصال عن المشاركة السياسية" (لوبكوفيتن، 1967،ص 5). وعلى أية حال، فحقيقة أن ماركس ضمن كلا من الممارسة PRAXIS والمزاولة POIESIS فى مفهوم الممارسة لا تعنى بالضرورة انه اختزل الممارسة إلى مزاولة POIESIS أو إلى فعل أداتى كما يذهب هابرماس وفيلمر. حقا، يشدد ماركس على العمل باعتباره جوهريا لأنه العملية التى تخلق بها الكائنات الانسانية وجودها المادى. فهو فى مخطوطات باريس يثنى على هيجل لادراكه طبيعة العمل ولتصوره للانسان الموضوعى "باعتباره نتاج عمله الخاص" (المخطوطات الاقتصادية الفلسفية، الكتابات الباكرة، ص 386) ولكن ماركس كان واعيا تماما أنه بالرغم من أن العمل يمثل بعدا جوهريا للممارسة فليس من الضرورى أن يكون فى حد ذاته عاملا محررا. لذلك ينتقد هيجل فى نفس السياق لأنه "يرى الجانب الايجابى فقط وليس السلبى للعمل" (ص 386). ذلك أنه بينما تشبع الكائنات الانسانية حاجاتها بواسطة العمل وتذلل عقبات الطبيعة، فإن العمل لكونه يجرى فى ظل شروط اجتماعية أنتجها البشر وليست بالضرورة مختارة أو مسيطر عليها من قبلهم، فيمكن أن يصبح مصدر استلاب وانحطاط. وبالنسبة لماركس فإن العمل المنتج، من حيث هو عملية مستمرة، لايعيد انتاج ذاته فقط وإنما يعيد أيضا انتاج العلاقات الاجتماعية المستلبة والمتناقضة التى يجرى فى ظلها. فالانتاج الرأسمالى، بوصفه عملية مرتبطة باعادة الانتاج، لا ينتج سلعا فحسب، ولا فائض قيمة فقط، وإنما ينتج أيضا ويعيد انتاج العلاقات الرأسمالية، أى الرأسمالى من ناحية، والعامل المأجور من ناحية أخرى" (رأس المال، م1،ص 575). وهكذا فإنه من الصحيح أنه بالنسبة لماركس لا يمكن لانتاج الواقع الاجتماعى أن ينفصل عن العمل. فليس هناك نشاط نوعى منفصل عن العمل قادر على بناء علاقات الانتاج الأساسية. ولكن ماركس لم يعتبر أبدا أن العمل ايجابى على نحو حصرى وقادر بالضرورة أن يحدث التحرر. لذا فهو يعطى أيضا أهمية أساسية لـ "تغير الظروف، التى يجب فهمها باعتبارها ممارسة ثورية" (أطروحات حول فيورباخ، 3،الأيديولوجيا الألمانية، ص 4).
وبالرغم من أن تمييز ماركس بين العمل والممارسة الثورية يغطى البعدين الأكثر أساسية للممارسة فإنه لا يستنفذها. فالعمل هو بالتأكيد الشكل الأساسى لممارسة إعادة الانتاج، لكن هناك أيضا، ضمن نمط الانتاج الرأسمالى، ممارسة ذات طابع سياسى على وجه الخصوص، موجهة للابقاء على علاقات الانتاج الاجتماعية القائمة ولتوفير الحماية لها. وهناك أيضا أشكال مختلفة من الممارسة الثورية. وقد يسعى البعض للسلطة السياسية بدون تغيير علاقات الانتاج. لكن بالنسبة لماركس، على العكس، فإن تغيير علاقات الانتاج يعتبر أساسيا بالنسبة لذلك النوع من الممارسة الثورية. أضف إلى ذلك، أن هناك اختلافات أخرى تفصل، مثلا، بين تمرد، فلاحين فى القرن السادس عشر فى ألمانيا وبين الثورة البلشفية فى العام 1917. فكل حقبة تاريخية بما تتسم به من تنوع أنماط انتاجها تطرح خطوطا وممكنات للممارسة الانسانية. فمن خلال النشاط العملى للكائنات الانسانية يصنع التاريخ. لكن الممارسة الانسانية لا تظل هى نفسها دائما. لايكاد يوجد فى بداية التاريخ الانسانى أى شكل للوجود الفردى والممارسة السياسية. فكما يقول ماركس "يصبح البشر أفرادا فقط من خلال سيرورة التاريخ. فالفرد البشرى يظهر أصلا باعتباره كائنا نوعيا، كائنا عشيريا، أو حيوانا قطيعيا- لكنه لا يظهر بأى طريقة كانت باعتباره حيوانا سياسيا بالمعنى السياسى (الأسس، ص 496). عندئذ، وحين انبثقت أشكال ملكية الأرض والتبعية الشخصية (العبودية، الاقطاعية) أصبح من المستحيل تصور العمل وأشكال الاستغلال باعتبارها منفصلة عن الاعتبارات السياسية والدينية. ولم تستطع تمردات العبيد والفلاحين أن تفهم بالكامل الطابع الحقيقى للتناقضات الاجتماعية ولذلك صاغت برامجها الراديكالية بتعبيرات دينية. وأخيرا مهدت الطريق لحكم غيرها من الطبقات (أنظر حرب الفلاحين فى ألمانيا) لم تغير الثورات السياسية البنى الاقتصادية والاجتماعية الأساسية. غير أنه مع نشأة الرأسمالية تم اكتساب الاستقلال الشخصى وإن كان قد تأسس على "تبعية موضوعية" (الأسس، ص 158) إذ يصبح العمل والممارسات السياسية متمايزة للمرة الأولى بوضوح. ويصبح من الممكن تقدير أهمية النظام الانتاجى نظريا. وطبقا لماركس فإن هذا هو الشرط المسبق للبروليتاريا حتى تصبح منخرطة فى ممارسة ثورية واعية تماما تسعى لإزالة النظام الطبقى ذاته. فبينما كانت الثورة البورجوازية امتدادا سياسيا للتغيرات الاقتصادية التى جرت مسبقا، يطرح ماركس الآن ثورة سياسية عليها أن تغير الاقتصاد . وإلى أن ينتهى نمط الانتاج الرأسمالى فإنه من الممكن الحديث عن "ممارسة مستلبة" طالما لم تصبح العلاقات الاجتماعية بعد تحت السيطرة الجماعية. وبافتراض نجاح الممارسة الثورية فى تحويل علاقات الانتاج، فإنه من الممكن الحديث عن "ممارسة متحررة" بقدر ماتكون العلاقات الاجتماعية الجديدة خاضعة لسيطرة الأفراد الجماعية.
لعله من الأهمية ابمكان ألا تصور الممارسة الثورية باعتبارها "نشاطا حرا" معارضا للعمل باعتباره "نشاطا ضروريا". والنشاط الثورى مشروط أيضا بالبنى الاقتصادية والاجتماعية، ومع ذلك فهو ليس نتيجة آلية لهذه الظروف. فالممارسة الثورية ليست تحكمية و متصورة مسبقا بشكل مطلق. ويذهب ماركس فى الأيديولوجيا الألمانية إلى أن هيمنة الظروف المادية على الأفراد تضع أمامهم مهمة تحويل مثل هذه التبعية "إلى السيطرة والسيادة الواعية على تلك القوى (الأيديولوجيا الألمانية، ص 51). ومع ذلك فماركس واضح بنفس القدر فيما يتعلق بأن الكائنات الانسانية لا تتجه بالضرورة لانجاز تلك المهمة بشكل محتوم. لذلك فهو يستطيع أن يؤكد بأنه "ليست الشيوعية بالنسبة لنا هى حالة راهنة يجب أن تتأسس، ولا مثالا على الواقع أن يكيف نفسه معه. نحن نقصد بكلمة شيوعية هنا الحركة الواقعية التى تزيل الوضع الراهن للأشياء (الأيديولوجيا الألمانية)، ص 41). وبهذا المعنى تتوسط الممارسة الثورية بين الضرورة والحرية.
طابع ونطاق المادية التاريخية يؤدى مفهوم الممارسة إلى نتيجتين هامتين بالنسبة للمادية التاريخية، فهو أولا، يحدد الطبيعة النظرية للمادية التاريخية والطابع التاريخى لموضوعها. وهو ثانيا، يحدد الدور الحاسم للانتاج المادى وخاصة لنمط الانتاج الرأسمالى من أجل فهم التاريخ. والمادية التاريخية تؤكد فى المحل الأول على الرابطة بين النظرية والتاريخ. ولكن ذلك لا يعنى أنها تدور حول كتابة التاريخ بمعنى سرد للأحداث الماضية. فالتأريخ مختلف عن التاريخ. فبينما يُعنى التأريخ بتفسير الأحداث الماضية وكتابتها، يعنى التاريخ بالعملية الشاملة التى يبنى البشر بها عمليا حياتهم، وهو يتضمن ليس الماضى فقط وإنما أيضا الحاضر والمستقبل. فالمادية التاريخية معنية بالتأكيد بفهم الماضى، لكن ليس بالضرورة عن طريق سرد الأحداث التاريخية فى خصوصيتها، إذ هى تتعلق فوق كل شئ بفهم الحاضر من أجل تغييره وهكذا تشكل المستقبل. وعلى ذلك فليست المادية التاريخية نظرية منفصلة عن التاريخ (ألتوسير وباليبار، 1975،ص 105،هيندس وهيرست، 1975، ص 317). وليس التأريخ منفصلا عن النظرية (تومبسون، 1978، ص ص 223،236).
حين أقول أن المادية التاريخية هى نظرية عن التاريخ أعنى أنها محاولة لتطوير مقولات يمكن أن تطبق لفهم التشكيلات الاجتماعية ضمن نطاق التاريخ. ليست المادية التاريخية بالتأكيد فلسفة عامة أو تقييما متعاليا للمسار الضرورى للتاريخ ولكنها معنية بالتاريخ بمعنى أنها تنشئ المفاهيم الضرورية لجعل العمليات التاريخية قابلة لأن تعقل و "هذا يعنى أن، المادية التاريخية ككل النظريات تستخدم التجريد لتشكيل مفاهيمها. ولكن هذه العملية التجريدية ليست منفصلة عن مستوى الملاحظة، حيث يجب أن تتم فى توافق معها (أنظر ويللر، ويللر، 1973، ص 20). وبينما نجد أن تومبسون محق حين يجادل ضد ألتوسير بأن المادية التاريخية ليست فلسفة مستقلة أو نظرية منفصلة عن التاريخ (1978، ص 236). لا يبدو مع ذلك أنه يدرك أن المادية التاريخية كنظرية لا يمكن أن تنشأ ببساطة من ملاحظة الأحداث التاريخية بواسطة عملية تعميم. إذ تتطلب المادية التاريخية كنظرية مفاهيم مجردة، ليس بمعنى توحيد تعميمات مشتقة من مجموعات مختلفة من الملاحظات ولكن بمعنى تأسيس فرضيات غير قابلة للملاحظة المباشرة مرتبطة الواحدة منها بالأخرى من أجل تفسير الظواهر التاريخية القابلة للملاحظة. إذ لا يمكن للملاحظة الخاصة عن تعاقب الأحداث التاريخية أن تولد من ذاتها مفاهيم مجردة مثل قوى الانتاج، وعلاقات الانتاج، والطبقة، وفائض القيمة وارتباطاتها الداخلية. وإن كان ذلك لا يعنى أن هذه المفاهيم وعلاقاتها النظرية قد نشات بمعزل عن الأحداث التاريخية، كما يؤكد هيندس وهيرست (1975، ص ص 310، 312، 317)، فمثل هذه المفاهيم يجب أن تتناظر مع الملاحظات التجريبية ولكنها ليست مجرد نتيجة لها. لذلك لا تستغرق المادية التاريخية فى التأريخ ولا هى نتاج مباشر له.
ويمكن أن يجادل بأن وضع "النظريات العامة" مشكوك فيه وأن ماركس نفسه رفض دراسة المقولات العامة مثل "الانتاج بشكل عام" أو "العمل بشكل عام". وعلى سبيل المثال، فهو يؤكد بأننا "حينما نتحدث عن الانتاج، حينئذ، فالمقصود دائما هو الانتاج فى مرحلة محددة من التطور الاجتماعى" (مقدمة، الأسس، ص 85). وحين يشير إلى العناصر العامة لعملية العمل يصر ماركس على أنه "مثلما لا يدلك مذاق العصيدة على من زرع الشوفان، لا تدلك هذه العملية البسيطة من نفسها عن ماهى الظروف الاجتماعية التى جرت فى ظلها" (رأس المال، المجلد الأول، ص 179). ويمكن أن نستنتج من ذلك كما يفعل بولانتزاس، أن صياغة نظرية عامة عن الاقتصاد أو الدولة أو البنى الفوقية مسألة مستحيلة لأن موضوعاتها النظرية ليست ثابتة. فما هو ممكن ومشروع هو نظرية عن الاقتصاد الرأسمالى أو الاقتصاد الاقطاعى ولكن ليس نظرية عامة (بولانتزاس، 1978، ص ص 17-24). لكن بولانتزاس لا يطور نتائج هذا الموقف بالنسبة للمادية التاريخية ويقتصر على القول بان واحدة من سمات الجدارة الماركسية هى أنها رفضت "النظريات العامة المجردة، الغامضة، الضبابية، التى تتظاهر بأنها تكشف الأسرار الكبرى للتاريخ، والسياسة، والدولة والسلطة" (ص 22).
يبدو لى أن هذا النوع من الجدال يتضمن تشوشا. إذ يبدو من الضرورى التمييز بين عمومية النظرية وبين عمومية موضوع هذه النظرية، حيث الموضوع هنا يجرى تجريده من التحديدات التاريخية النوعية. فأن نتحدث عن "نظرية عامة للمجتمع" ليس نفس الشئ عندما نتحدث عن "نظرية للمجتمع بصفة عامة"، فماركس لم يكن لينكر أبدا الطابع النظرى العام للمادية التاريخية ولكنه كان سيرفض مفهوما للمادية التاريخية كنظرية عن المجتمع بصفة عامة. أضف إلى ذلك، أنه يمكن فقط لنظرة عامة عن المادية التاريخية أن تقترح فكرة أننا لا يمكن أن ندرس الانتاج، أو العمل أو المجتمع بصفة عامة، بدون الرجوع إلى تحديدات تاريخية نوعية. فالوضع النظرى العام للمادية التاريخية له صلة بطابع التجريد العلمى وتطوير المفاهيم غير القابلة للملاحظة من أجل فهم مجتمعات تاريخية نوعية. وما يتعين أن يرفض ليس هذا الطابع النظرى العام الضرورى وإنما اختزال موضوعة إلى مقولة عامة. فنتيجة مثل هذا الاختزال هى المحاولة الخاطئة لاشتقاق العينى الخاص من المجرد العام واستبدال تقييم منطقى مافوق تاريخى بالتحليل التاريخى. بالطبع، لا ينكر ماركس أن كل المجتمعات، كل أحقاب الانتاج والعمل، بينها عناصر معينة مشتركة ومن ثم فإن المفاهيم العامة للعمل، الانتاج أو المجتمع، باعتبارها "تجريدات عقلانية، مفيدة لأنها تثبت المظاهر العامة وتجنبنا التكرار" (مقدمة، الأسس، ص 85). ولكن من أجل فهم نوعية كل شكل من المجتمع يؤكد ماركس أولوية هذه التحديدات التى ليست مشتركة. إذ لا يمكن لنا أن نفهم مرحلة تاريخية خاصة للمجتمع باستنباطها من مفهوم المجتمع بصفة عامة كما لو كانت الأولى مجرد تركيب منطقى نوعى من العناصر الثابتة الكامنة فى الأخير، كما يعرض ذلك ماركس: "هناك سمات تشترك فى كافة مراحل الانتاج، وتؤسس باعتبارها (سمات) عامة بواسطة الذهن، ولكن ما يسمى بالشروط العامة المسبقة لكل انتاج ليست أكثر من تلك اللحظات المجردة التى لا يمكن لمرحلة تاريخية واقعية من الانتاج أن تفهم بها (مقدمة، الأسس، ص 88). وبالاضافة لهذه المفاهيم العامة التى تغطى عناصر مشتركة بالنسبة لكل الأحقاب يجب أن تكون لدينا مفاهيم مجردة أخرى ترصد العناصر التى ليست عامة أو مشتركة. من ثم فإنه من الممكن تأكيد أنه ليس هناك تناقض بين الطابع النظرى العام للمادية التاريخية والطابع التاريخى لموضوعها. لقد سبق أننى أكدت الرابطة بين المادية التاريخية والتاريخ، مفهوما ليس بمعنى التأريخ وإنما بمعنى العملية التى ينتج بها البشر عمليا شروط حياتهم المادية. هذا هو مايسميه ماركس وانجلز "المقدمة الأولى لكل التاريخ الانسانى"، أى، حقيقة أن البشر ينتجون حياتهم المادية بواسطة نشاطهم و "يميزون أنفسهم عن الحيوانات بمجرد أن يبدأوا فى انتاج وسائل معيشتهم" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 31). يؤكد ماركس وانجلز بهذه الطريقة الأهمية الحاسمة للانتاج من أجل فهم التاريخ. هكذا يبدأ ماركس مقدمة عام 1857 بقوله أن: "الموضوع المطروح أمامنا، فى بادئ الأمر، هو الانتاج المادى" (الأسس، ص 83). مع ذلك تمضى مقدمة 1857 أبعد من الأيديولجيا الألمانية فى أنها تقدم مسألتين منهجيتين هامتين بالنسبة لكيف ينبغى أن يدرس الانتاج. الأولى والتى سبق ذكرها، لها صلة بفكرة أن المادية التاريخية لا يمكن أن تبدأ من مفهوم الانتاج بصفة عامة ولكنها يجب أن تتناول الانتاج "فى شكل تاريخى معين" (نظريات فائض القيمة، المجلد الأول، ص 285). المسألة الثانية توضح الأولى ولها صلة بفكرة أن المادية التاريخية لا يمكن أن تبدأ من أشد نظم الانتاج بدائية وإنما يجب أن تحلل أولا أكثرها تقدما حتى تكون قادرة على فهم الأولى. فيما يتعلق بالمسألة الأولى، يقدم ماركس مفهوم نمط الانتاج باعتباره المقولة الأساسية فى تحليل الانتاج فى شكل تاريخى. لكنه لسوء الحظ لا يحدده بدقة، ولا هو يوضح علاقته بمجتمعات تاريخية نوعية. على أنه يكاد يوجد تعريف لنمط الانتاج فى الأسس حين يتحدث ماركس: "نمط انتاج نوعى.. يظهر فى آن معا كعلاقة بين الأفراد، وكعلاقة نشطة نوعية بينهم وبين الطبيعة غير العضوية، نمط نوعى للعمل (الأسس، ص 495) فمثل هذا القول يوحى بأن الكتابات، التى تصف نمط الانتاج باعتباره تركيبا من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج هى كتابات صائبة (لانج، 1974، ص 17، ميلوتى، 1982، ص 3، لاكلاو، 1969،ص 282 ، 1977،ص 34). ومن الهام أن نفهم الطبيعة التجريدية لهذا المفهوم. كما طرحه لاكلاو، حيث يرى أن نمط الانتاج "ليس مرحلة من التطور التاريخى العينى. وليس هناك، من ثم، تحولا تاريخيا يمكن أن يفسر على وجه حصرى يكشف المنطق الداخلى لنمط انتاج محدد" (لاكلاو، 1977،ص 2). وتحتوى المجتمعات التاريخية أو "التشكيلات الاجتماعية" عادة على عدة أنماط انتاج، واحد منها مهيمن (يلاحظ أننى لا أتبع هنا الفكرة اللينينية عن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية كحقبة أو فترة تاريخية، وإنما أفهمها كمجتمع تاريخى عينى). وتجرى التغيرات التاريخية فى تشكيلات اجتماعية معينة وتفسر بمساعدة مفهوم نمط الانتاج. ولكن تلك التغيرات لا تستنبط ببساطة من المنطق الاقتصادى لأى نمط محدد للانتاج (برتراند، 1979، ص ص 56-7).
ويلاحظ أن ماركس لم يوضح أبدا هذه العلاقة بطريقة مرضية. وقد كان مخطئا فعلا فى بعض المناسبات حين خلط بين المستويين: الأمر الذى يجعلنا نذهب أحيانا إلى الاعتقاد أن منطق نمط الانتاج يكفى لفهم كيف ومتى يتغير أو يتطور نمط الانتاج هذا ومع ذلك فإن تحليل تحولات نمط الانتاج يمكن أن تتم فقط على مستوى التشكيلة الاجتماعية. لذلك لا يمكن للتاريخ أن يتصور كتعاقب ضرورى لأنماط الانتاج. هذه الطريقة فى الفهم لها نتائج هامة بالنسبة للمادية التاريخية والتحليل التاريخى. فعلى سبيل المثال، فإننا على المستوى التجريدى يجوز لنا أن نفترض فى نمط الانتاج الرأسمالى أن يستنفذ طاقته الكامنة فى مرحلة مبكرة للغاية، نتيجة لتمفصله مع أنماط انتاج أخرى وظروف تاريخية نوعية مثل الإمبريالية. لذا كان على ماركس وانجلز أن يدركا أنه فى حالة أيرلندا فإن الإمبريالية البريطانية قد "دمرت الحياة الصناعية"، وأعاقت تطورها، على خلاف الموقف الذى اتخذاه قبل ذلك فيما يتعلق بالهند والصين. وثمة حالة أخرى لها صلة بالموضوع هى الرأسمالية التابعة للبلدان غير المتطورة المعاصرة. وهكذا، وبغض النظر عن مشاكل أخرى، فإن فكرة ماركس بإنه لا يتحلل نظام اجتماعى قبل أن تتطور قوى انتاجية تماما، لا يمكن أن تطبق على مستوى نمط الانتاج ولكنها تصبح معقولة ضمن الظروف التاريخية النوعية لتشكيلة اجتماعية، ذات ترتيب نوعى لأنماط انتاج وعلاقات دولية معينة. وقد يفسر هذا جزئيا لم نجحت الثورات الاشتراكية حيث كان نمط الانتاج الرأسمالى معاقا بانماط انتاج ماقبل رأسمالية مرنة أو معاقة بالحكم الاستعمارى. ولكن، رغم أن هذا قد يكون معقولا أكثرمن الموقف التقليدى الذى يحيل القول الفصل لنمط الانتاج، لا تزال هناك مشكلة مع فكرة أن التغير الاجتماعى أو الثورات الاشتراكية يسببها تطور أو استنفاذ القوى الانتاجية. وفيما يتعلق بالمسألة الثانية، يقدم ماركس فكرة أن المادية التاريخية يجب أن تبدأ بدراسة الانتاج الراسمالى، الذى سوف يقدم مفتاحا لفهم أنظمة الانتاج الباكرة: إن المجتمع البورجوازى هو التنظيم التاريخى للانتاج الأكثر تطورا وتعقيدا. والمقولات التى تعبر عن علاقاته، دون ادراك بنيته، تتيح أيضا التبصر بواسطتها فى بنية وعلاقات انتاج كل التشكيلات الاجتماعية المنقرضة... فتشريح الانسان يتضمن مفتاح تشريح القرد. إن صلة التطورات العليا بالنوع الحيوانى الأدنى لا يمكن فهمها إلا بعد معرفة التطور الأعلى بالفعل. وهكذا يزودنا الاقتصاد البورجوازى بمفتاح فهم القديم (مقدمة الأسس، ص 105).
وقد أصبح الأمر على ذلك النحو بسبب أنه فقط فى ظل نمط الانتاج الرأسمالى جرى تحقق الدور المحدد للانتاج إلى حد أن الانتاج ينفصل للمرة الأولى عن المؤسسات الدينية، والسياسية، والقرابة، ويصبح مجالا متخصصا مستقلا. هذا ينتج مفاهيم ومقولات لم يكن من الممكن انتاجها هكذا من قبل. خذ على سبيل المثال، مفهوم القيمة. يسأل ماركس لماذا لم يستطع حتى مفكر عظيم كأرسطو، أن يفكر فيه فى اليونان القديمة. وإجابته هى: أن تنسب قيمة للسلع... هى طريقة فى التعبير فحسب عن أن كل العمل، من حيث هو عمل انسانى، متساو، ونتيجة لذلك فهو عمل ذو نوعية متساوية. بينما كان المجتمع الإغريقى مؤسسا على العبودية، وكان أساسه الطبيعى، هو عدم تساوى البشر وقوى عملهم. فسر التعبير عن القيمة، وهو أن كل أنواع العمل متساوية ومتكافئة، طالما هى عمل بشرى بصفة عامة، ولا يمكن أن يحل لغزه، حتى تكون فكرة المساواة البشرية قد حازت بالفعل شعبية راسخة. الأمر الذى يصبح ممكنا فقط فى مجتمع تتخذ فيه الكتلة العظمى من نتاج العمل شكل السلع (رأس المال، المجلد الأول، ص 65).
ويرتبط ذلك أيضا بحقيقة أن انتزاع العمل الفائض يمكن أن يدرك بصفته كذلك عندما يظهر الاستيلاء الاقتصادى الرأسمالى على فائض العمل فى التاريخ، لأنه ضمن الرأسمالية فقط يمكن أن يتحدد الانفصال بين تكافؤ القيم التبادلية فى السوق وبين الاستيلاء على فائض القيمة عند مستوى الانتاج. وقد يبدو هذا متناقضا ظاهريا لأن انتزاع العمل الفائض ضمن الرأسمالية مختف بسبب مظاهر السوق بينما انتزاع العمل الفائض ضمن الاقطاعية كان واضحا تماما وكان فائض العمل مميزا بدقة عن العمل الضرورىز المسألة هى، على أى حال، وحيث أن الاقتصاد لم يكن يمثل مستوى مستقلا ذاتيا فى المجتمع الاقطاعى، أى مستقلا عن المؤسسات الدينية والسياسية، فإن مفهوم فائض العمل بالذات لم يكن له معنى كمفهوم اقتصادى ولم يكن من الممكن بلوغه دون فكرة القيمة والعمل المجرد. فالاقطاعية مثلها مثل العبودية، يمكن أن يفهما بدقة باعتبارهما نمطى انتاج، فقط حينما يتيح ظهور الرأسمالية تطور المقولات الجوهرية لادراك أنظمة الانتاج الأسبق. على أن ذلك لا يعنى أن المادية التاريخية يجب أن تنسب إلى الماضى مؤسسات وعلاقات هى نموذجية للرأسمالية فقط. فقد كان ماركس متيقظا إلى أن يشير إلى أن الانتاج الرأسمالى يزودنا بمفتاح القديم "ولكن ليس على الاطلاق على طريقة هؤلاء الاقتصاديين الذين يمحون كل الاختلافات التاريخية ويرون العلاقات البورجوازية فى كل أشكال المجتمع (مقدمة،الأسس، ص 105). فصحيح أن العلاقات الاقتصادية الرأسمالية تتيح لنا فهم العلاقات الاقطاعية والعبودية لكن لا يجب علينا أن نطابق الواحدة مع الأخرى. ويتصور البعض أحيانا أن الموضوع الرئيسى لنظرية ماركس كان المجتمع الرأسمالى على وجه الحصر لسبب بسيط هو أنه ليست هناك معالجة منتظمة لأنظمة الانتاج الأسبق عدا الشذرات المتناثرة والاشارات المكتوبة لأغراض المقارنة عند تحليل نمط الانتاج الرأسمالى. ومع ذلك فحقيقة أن ماركس كان قادرا على إكمال دراساته عن الانتاج الرأسمالى دون سواه، لا تعنى أنه قد تخلى عن المادية التاريخية ومشروع دراسة أنماط انتاج أخرى. وهو يعرض لذلك قائلا: أن "هذه المؤشرات، حين تتواكب مع رصد صحيح للحاضر، تقدم مفتاحا لفهم الماضى أيضا- وهو عمل، بحكم جدارته، نأمل أن نكون قادرين على الاضطلاع به أيضا" (الأسس، ص 461). ومع ذلك، فحقيقة أن المادية التاريخية تطورت بدءاً من ظهور الرأسمالية ونتيجة لظهورها تم تفسيرها من قبل بعض الكتاب، ماركسيين وغير ماركسيين، باعتبارها تعنى أن المادية التاريخية متعلقة بالرأسمالية فقط ويجب الا تطبق إلا عليها. فلوكاش، على سبيل المثال، يرى أن المادية التاريخية هى بمثابة "معرفة الذات للمجتمع الرأسمالى". وأنها على المستوى الأيديولوجي، "فى المحل الأول، نظرية عن المجتمع الرأسمالى وبنيته الاقتصادية" (لوكاش، 1971، ص 229). حقا يمكن للمادية التاريخية كمنهج علمى أن تطبق أيضا على المجتمعات الأسبق ولكن "هناك صعوبة منهجية ذات وزن" تكمن "فى الاختلاف البنيوى بين عصر الحضارة والحقب التى سبقته" (ص 232).
ولكى يوضح لوكاش هذا الاختلاف البنيوى يقتبس المقطع الشهير الذى يؤكد فيه ماركس على أنه "فى كل الحالات التى تكون فيها الملكية العقارية هى العامل الحاسم، تهيمن العلاقات الطبيعية، بينما فى الحالات التى يكون فيها العامل الحاسم هو الرأسمال، تهيمن العناصر الاجتماعية التى تطورت تاريخيا" (مقدمة، الأسس، ص 107، عن ص 13، إسهام فى نقد الاقتصاد السياسى). ويذهب جيدنز، لاحقا، فى نقده للمادية التاريخية إلى أن تنسيق الموارد السلطوية يشكل فى المجتمعات غير الرأسمالية المحور المحدد للدمج والتغيير الاجتماعيين. بينما نجد فى الرأسمالية، أن الموارد الموزعة تضطلع بأهمية خاصة للغاية"• (جيدنز، 1981،ص 4، أنظر أيضا ص ص 105 و 109). وهو يستنتج أن المادية التاريخية حين تجعل الأولوية للموارد الموزعة فإنها تبتعد تماما عن أن تكون نظرية كلية للتاريخ.
والواقع أننى لا أجد هذه الجدالات مقنعة تماما. فحقيقة أن المادية التاريخية يجب أن تبدأ تحليلها بالانتاج الرأسمالى، لا يترتب عليها بالضرورة أنها يجب أن تقتصر على الرأسمالية. ونفس المقطع له الذى يقتبسه لوكاش من ماركس تدعيما لفكرة تضييق نطاق فعالية المادية التاريخية يقترح تمييزا نظريا هو بمثابة استنتاج عام للمادية التاريخية ذاتها. فالنظرية العامة للمادية التاريخية تطرح فكرة أن العلاقات الطبيعية تهيمن حتى قبل ظهور الرأسمالية وأن الابداعات الاجتماعية التاريخية تهيمن من ذلك الوقت فصاعدا. فالمادية التاريخية هى التى تقترح الطابع التاريخى للمقولات والمفاهيم وتسعى لتفسير الاختلافات الحاسمة بين المجتمعات الرأسمالية وما قبل الرأسمالية. أضف إلى ذلك، حين يضع ماركس مثل هذا التمييز فهو لا يصف مجتمعا بدائيا لا تاريخيا، حيث لا تنتج العلاقات الاجتماعية عمليا من قبل البشر، بالتعارض مع المجتمع الرأسمالى التاريخى، حيث ينتج البشر علاقاتهم. وإنما يميز ماركس فحسب بين نوع من المجتمع حيث يمكن فيه للمرة الأولى، أن يصبح البشر واعين ويحاولون السيطرة على علاقاتهم الاجتماعية.
وجيدنز محق حين يؤكد على أهمية القوة لاقتطاع فائض الانتاج فى مجتمعات ماقبل الرأسمالية بينما فى المجتمعات الرأسمالية، يقتطع فائض القيمة بواسطة وسائل اقتصادية فقط. لكن لا يستتبع ذلك أن الموارد السلطوية فقط هى القاعدة المركزية للسلطة فى المجتمعات ماقبل الرأسمالية. إذ لا تكون هناك سلطة لأشخاص دون امتلاك الأرض، الأمر الذى يحدد علاقات اجتماعية معينة. وبالنسبة لماركس فمن الواضح تماما أن "الأفراد فى مجتمع كهذا، بالرغم من أن علاقاتهم تبدو شخصية أكثر، يدخلون فى ارتباطات الواحد مع الاخر فقط كأفراد مسجونين ضمن تعريف معين: كسيد اقطاعى وتابع، كمالك أرض وقن، إلخ (الأسس، ص 163). لذلك فمحاولة فهم القاعدة المركزية للسلطة فى المجتمعات ماقبل الرأسمالية بلغة أولوية الموارد السلطوية إنما هو موضع تساؤل. ذلك أن المسألة هى تفسير على أى أساس تحققت السلطة أو السيطرة على الأفراد. ليست هذه عملية تحكمية محضة. بخلاف ذلك، فالاجابة الوحيدة على سؤال من له السلطة فى المجتمع ماقبل الرأسمالى هى: هؤلاء من تصادف أن لهم السلطة. وكما أشار بوتوموف "هذا لا يكاد يوضح شيئا، فهو لا يقول لنا كيف تأتى لهؤلاء الأفراد بالذات ِأن يشغلوا مراكز السلطة" (1964، ص 32،أنظر رايت، 1983).
الممارسة وحل التوترات فى فكر ماركس
لقد بدأت بفكرة أن مادية تاريخية أعيد بناؤها عليها أن تحل بعض التوترات التى كانت قائمة فى فكر ماركس وانجلز ذاتيهما. وقد أوضحت كيف قدمت الماركسية التقليدية حلا معينا لهذه التوترات باقتراح مفهوم للمادية التاريخية يفترض أنه مشتق من القوانين الشاملة للجدل الكامنة فى الطبيعة، التى تعتبر الوعى مجرد انعكاس للمادة، والتى تعد التقدم التكنولوجى السبب الأساسى للتغير الاجتماعى والتى تفضى إلى مفهوم أحادى المسار وغائى للتطور التاريخى. وينطوى نقد هذا التفسير الأرثوذكسى الذى عرضته فى الفصل الثالث، وإن كان سلبيا ومعارضا، على العناصر الأولى لحل مختلف. ولن أكرر هنا الحديث عنها. ولكن من الضرورى أن أوضح بطريقة أكثر إيجابية، وإن بايجاز، السبيل الذى يمكن به لنظرية الممارسة أن تسهم بحلول جديدة للتوترات المذكورة آنفا.
وفيما يتعلق بمفهوم الجدل فلا بد من التأكيد على أن ماركس حين وصف مفهومه بأنه قلب لمفهوم هيجل فإنه أساء فهم الطبيعة الحقيقية لنظريته. وعلى الرغم من أننى لا أقبل الفكرة الألتوسيرية التى تذهب إلى أن هناك انفصالا منهجيا بين نظرية ماركس الحقيقية وفهمه لها، أتصور أن ماركس كان مخطئا فى هذه المسألة النوعية حين اعتقد أن المسألة كانت فقط مسألة قلب الجدل الهيجلى رأسا على عقب، وسبب ذلك مرتبط بمفهوم الممارسة. كان انتاج الفكر بالنسبة لهيجل هو نفسه انتاج للواقع بوصفه نقيضه، مما يعنى أن عملية الموضعة (انتاج الموضوع) كانت فى نفس الوقت عملية استلاب للوعى: أى أن الموضعة كانت بمثابة خلق للوعى بصورة مقلوبة. وقد رفض ماركس أن يطابق بين الموضعة والانسلاب. فالعالم الاجتماعى الموضوعى منتج بواسطة الممارسة المادية. والممارسة الانسانية تبلور ذاتها ليس فقط فى المنتجات المادية الضرورية للحياة، وإنما أيضا فى علاقات اجتماعية ومؤسسات. وهذه الموضعة للممارسة الانسانية ليست فى حد ذاتها استلابية. إنما يأتى الاستلاب مما وصفه ماركس فى الأيديولوجيا الألمانية بأنه "نمط مادى محدود من النشاط" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 36) لأنه، بالرغم من أنه ينتج العالم الاجتماعى الموضوعى، فإنه لا يسيطر عليه.
الاستلاب إذن ذو صلة بافتقار السيطرة الانسانية على نتائج الممارسة الانسانية، وليس ناتجا عن الحقيقة البسيطة المتعلقة بأن الممارسة الانسانية تموضع ذاتها فى نتائج معينة. وهكذا إذ تتحكم الشروط الموضوعية التى أنتجها البشر عمليا فى منتجيها، فتصبح الذوات موضوعات والعكس بالعكس. وفكرة القلب هذه تقع فى مركز فكرة التناقض. ولكن، بينما تتسم عملية القلب هذه، بالنسبة لهيجل بأنها معطى بالضرورة فى أى عملية موضعة، فإنها تتسم، بالنسبة لماركس، بأنها تجرى فقط ضمن شروط اجتماعية نوعية حيث يهيمن "نمط مادى محدود من النشاط" . لذلك، يصبح التناقض بالنسبة لهيجل هو جوهر كل الأشياء التى هى نتاج الاستلاب الذاتى للوعى. أما بالنسبة لماركس، فعلى النقيض من ذلك، يظهر التناقض حيث لا يسيطر البشر على لعلاقات الموضوعية على المؤسسات التى أنتجوها عمليا هم أنفسهم، الأمر الذى يعنى أن عملية الموضعة، وإعادة انتاج الحياة المادية، "تبدو من وجهة نظر العمل كعملية فقد لشئ ممتلك، بينما تبدو من وجهة نظر رأس المال كامتلاك لعمل مغترب... ولكن من الواضح أن عملية القلب هذه هى ضرورة تاريخية فحسب، أى ضرورة لتطوير قوى الانتاج من نقطة انطلاق أو قاعدة تاريخية نوعية فحسب، ولكنها ليست ضرورة مطلقة للانتاج بأى شكل من الأشكال بل إنها بالأحرى فى طريقها للزوال، فقد كان الغرض الكامن لهذه العملية والنتيجة التى حققتها فى الوقت نفسه هى ابطال مفعول هذه القاعدة ذاتها (الأسس، ص ص 831-32). وهكذا، فلكى نعيد بناء المادية التاريخية لا يعود التناقض هو القانون الشامل للحركة ولا يمكن أن يشتق الجدل الاجتماعى من الجدل الطبيعى. فالتطور الجدلى مرحلة من التاريخ رأى ماركس أنها تبلغ نهايتها باختفاء الطبقات وسيطرة البشر، فى نهاية الأمر، على علاقاتهم. ذلك أن "الأفراد المتطورون من جميع النواحى، الذين تخضع علاقاتهم الاجتماعية، والجماعية، لسيطرتهم الجماعية، ليسوا نتاجا للطبيعة، بل للتاريخ (الأسس، ص 162) وهذا يعنى أيضا أن حل التناقض له صلة بأفعال الأفراد أنفسهم وليس بعمليات طبيعية او بنيوية يتصور أنها منفصلة عن الممارسة الانسانية،أو يتصور أنها تحرر البشرمن الخارج فحسب. فالممارسة الانسانية متداخلة فى كل من ظهور التناقضات وحلها ومعنى ذلك أن نمطا ماديا محددا من النشاط يسبب نشوء التناقضات، الأمر الذى لم يكن ممكناً بالكامل أبدا قبل الرأسمالية لأن حل التناقض كان بالضرورة جزئيا، لأنه أفسح مجالا فقط لتناقض جديد. وهكذا يرى ماركس أن البروليتاريا تحتل وضعا يسمح لها ليس فقط بالقضاء على التناقض الرأسمالى النوعى بهزيمة البورجوازية، وإنما أيضا بالقضاء على نفسها كطبقة، أى القضاء، فى نهاية الأمر على النظام الطبقى ذاته "إن شرط تحرر الطبقة العاملة هو القضاء على كل الطبقات" (بؤس الفلسفة، ص 161).
ويمكن القول أن تفسير الوعى بلغة الإنعكاس، الذى توحى به بعض كتابات ماركس وانجلز، قد رفض بالفعل لعدة أسباب وجيهة، ذكرت فى الفصل الثالث، حيث برزت أيضا فكرة الطابع الاستباقى للوعى. ونحن نجد أن حل هذا التوتر فى فكر ماركس وانجلز ينطلق مرة أخرى من نظرية الممارسة. ذلك أن الواقع لا يجب أن يتصور "فى شكل موضوع بل فى شكل ممارسة" بمعنى أن الوعى لا يمكن أن يفهم كتأمل سلبى لعالم معطى سلفا وإنما يفهم كعملية فعالة ترافق وتستبق التكون العملى للواقع. وهذا يعنى أن البشر يعرفون الواقع بقدر ما ينتجون ويتملكون هذا الواقع. الوعى اذن "لا يعكس الواقع فقط بل يستبقه ويجسده أيضا"، وقد عبر ماركس عن هذا كما يلى: انتاج الأفكار والمفاهيم والوعى، يتمازج مباشرة فى البداية مع النشاط المادى والتفاعل المادى للبشر- فهو لغة الحياة الواقعية. فقد كان التصور والتفكير والتفاعل يبدو فى تلك المرحلة كدفق مباشر لسلوكهم المادى. ينطبق نفس الشئ على الانتاج الذهنى كما يعبر عنه لدى سائر الناس فى لغة السياسة، والقوانين، والأخلاق، والدين، والميتافيزيقا، إلخ، إذ لا يمكن للوعى أن يكون أى شئ سوى الوجود الواعى، ووجود البشر هو عملية حياتهم الفعلية... فالبشر وهم يطورون انتاجهم المادى وتفاعلهم المادى، يغيرون عالمهم الواقعى، ويغيرون فى نفس الوقت أيضا تفكيرهم ونتاجات أفكارهم (الأيديولوجيا الألمانية، ص ص 36-7). وعند محاولة فهم الوعى فى سياق الممارسة كان ماركس يميز نفسه عن كل من هيجل وفيورباخ. فبالنسبة لهيجل كان الفكر قد أصبح هو منتج الواقع. أما بالنسبة لفيورباخ فقد كان الواقع أوليا والفكر مشتقا منه. بينما تعنى معالجة الوعى فى سياق الممارسة أن الوعى ليس تأملا مجردا فى عالم معطى وليس هو، فى الوقت نفسه، الذى يخلق العالم، فهناك اختلاف بين تمثلات الحس المشترك التى ينشئها البشر فى روتين حياتهم العملية، التى، تتيح لهم أن يتعاملوا مع محيطهم المباشر، وبين الادراك النظرى أو العملى للواقع الذى يرصد مايكمن وراء مظاهره ومع ذلك فإن هذا الاختلاف الذى تقبله ماركس، لا يستتبع انفصال العلم عن الممارسة. وبالنسبة لامتداح فيورباخ فيما يبدو للمعالجة المستقلة والتأملية للعلوم الطبيعية، التى يمكن لها أن تكشف فقط عن عناصر الواقع التى لا يستطيع الآخرون ان يروها، يرد ماركس: "أين سيكون العلم الطبيعى دون صناعة وتجارة؟ فحتى مثل هذا العلم الطبيعى "الخالص" يستمد غايته ومادته من التجارة والصناعة أى من النشاط الحسى للبشر" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 40).
ويتيح هنا الفهم للصلة بين الوعى والممارسة للمادية التاريخية أن تفسر الأيديولوجيا والتحدد الاجتماعى للوعى بطريقة موحية أكثر وأفضل من الطريقة التقليدية المتاحة بواسطة مجاز الأساس- البناء الفوقى. فمثل هذا المجاز يتسم بالجمود حتما لأنه يتجه لتجزيئ الواقع إلى مستويات يعتبرها مادية، إنه يتجه إلى اعطاء طابع مادى لمجالات المجتمع المدنى التى تؤخذ هكذا باعتبارها معطاة وليس باعتبارها أنتجت عمليا، ومن ثم، فإنه يتجه لاختزال الظواهر الديناميكية مثل الوعى والصراع الطبقى الذى يشمل المجتمع بأسره إلى مستوى واحد معين باستبعاد المستويات الأخرى (أنظر ويليامز، 1977، ص ص 75-82).
ومن المهم أن نفهم أن الأيديولوجيا والتحدد الاجتماعى لا يتطابق الواحد منهما مع الآخر. ونحن نجد مثل هذا التطابق فى التقليد المانهايمى حيث تعتبر كل المعرفة الاجتماعية أو التاريخية أيديولوجية بقدر ماهى محددة اجتماعيا. وإذ ينتج عن ذلك أن التحدد الاجتماعى يقلل من مصداقية فكر ما لكون التحدد دعوى صحة أى وجهة نظر أنه يربط هذا الفكر بموقف اجتماعى نوعى وجزئى (مانهايم، 1972،ص 255). على أن المادية التاريخية لا تسير فى هذا الطريق ومفهومها عن الأيديولوجيا يجعل نطاق تطبيقها أضيق كثيرا. ليس ذلك لأن المادية التاريخية متحيزة وتنتقد بشكل أحادى الجانب وجهات نظر الآخرين بينما ترفض أن تقبل تحددها الاجتماعى الخاص. فالتحدد الاجتماعى للوعى، الذى تتبناه المادية التاريخية والذى تقبله بالتأكيد فى حالتها الخاصة- لا يؤثر بحد ذاته فى صلاحية الأفكار. إذ من الصحيح أن كل وعى محدد اجتماعيا ولكن ليس من الصحيح أن كل وعى أيديولوجيا. فالأيديولوجيا بالنسبة لماركس وانجلز لها صلة بنوع معين من الوعى المشوه الذى يخفى التناقضات الاجتماعية وهكذا يساعد موضوعيا على إعادة انتاج تلك التناقضات. من أين تأتى هذه الأفكار المشوهة التى تخفى التناقضات؟ مرة اخرى، تقدم نظرية الممارسة الاجابة. لقد رأينا سلفا أن كل الأفكار تنتج فى سياق الممارسة، ولكن ماركس يمضى أبعد ويجد أن الأفكار يمكن أن تكون تعبيرا واقعيا أو وهميا عن الممارسة. إذ يقول: "الأفكار هى التعبير الواعى- الواقعى أم الوهمى- عن علاقاتهم الواقعية وأنشطتهم، عن انتاجهم، عن تفاعلهم، عن سلوكهم الاجتماعى والسياسى" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 36). الأيديولوجيا إذن ذات صلة بالأفكار التى تعبر عن الممارسة بشكل غير ملائم وسبب ذلك ليس خطأ ما فى العملية الادراكية، بل هى حدود الممارسة ذاتها فـ "إذا كان التعبير الواعى عن العلاقات الواقعية لهؤلاء الأفراد وهمى، وإذا كانوا قد قلبوا الواقع فى خيالهم رأسا على عقب، فإنما مرد ذلك هو نمط نشاطهم المادى المحدود وعلاقاتهم الاجتماعية المحدودة الناشئة منه" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 36، التشديد لى). تشير حدود الممارسة هذه إلى حقيقة، سبق ذكرها، أن البشر ينتجون عالما اجتماعيا لا يسيطرون عليه، فهم يحولون النشاط الاجتماعى وما ننتجه نحن أنفسنا إلى سلطة موضوعية فوقنا، تتجاوز سيطرتنا (الأيديولوجيا الألمانية، ص 47). هذا هو سبب ما يحدث من "عمليات القلب" أو من التناقضات فإلى الحد الذى يكون فيه البشر غير قادرين عمليا على حل هذه التناقضات، وإلى الحد الذى لا يسيطرون فيه عمليا على مثل هذه "السلطة الموضوعية". فإنهم يسعون لحل المشاكل فى خيالهم ويسقطونها فى أشكال أيديولوجية للوعى. وهكذا فإن الأيديولوجيا هى حلول، على مستوى الذهن، للتناقضات التى لم تحل عمليا. ونتاج الحل الذهنى الخالص هو اخفاء التناقض وإعادة انتاجه (أنظر لارين، 1979، 1983) ومن ثم، فليست كل الأفكار، وليست حتى كل الأفكار الخاصة بالطبقة الحاكمة، بالضرورة أيديولجيا أى تقلل من مغزى التناقضات الاجتماعية. ومع ذلك فكل الأفكار محددة اجتماعيا. ولكن هذا لا يتضمن بالضرورة تحيزا، ولا تجزيئية أو صحة مقيدة.
ويجب أن يفهم التحدد الاجتماعى أيضا فى سياق الممارسة بحيث تكون الأفكار هى التعبير- الواقعى أو الوهمى- عن الممارسات الانسانية. مع ذلك لا ينبغى لنا أن نختزل التحدد الاجتماعى للأفكار إلى الوضع الاجتماعى الذى نشأ فيه. فالمادية التاريخية لا تسعى إلى اختزال أشكال الوعى الاجتماعى إلى خلفيتها الاجتماعية. وحقيقة أن أشكال الوعى الاجتماعى- أعمال الأدب والفن أو الأعمال النظرية والعملية- تبقى بعد زوال الظروف الاجتماعية التى ولدتها تشير إلى أن التحدد هو فى آن معا مشكلة أكثر دقة وأكثر تعقيدا مما تبدو عليه فى الوهلة الأولى. لقد أشار كوسيك بنفاذ بصيرة إلى أن "حياة العمل ليست نتاجا للعمل ذاته ولا مجرد نتاج للظروف الخارجية" فحياة العمل ليست نتاج وجوده المستققل ذاتيا وإنما نتاج التفاعل المتبادل بين العمل والنوع الانسانى" (كوسيك، 1976، ص 81). إن عملا فنيا يبقى لا لأنه تضمن فى ذاته صلاحية شاملة وإنما لأنه يمكن أن يدخل فى، وأن يتمفصل مع، ويتخذ معنى، لممارسة أجيال جديدة وإذا كان ذلك كذلك، إذن لا يمكن للمادية التاريخية أن تفهم التحدد كفعل سببى مفرد. التحدد هو عملية دائمة من انتاج وإعادة انتاج الأفكار ضمن سياقات جديدة وممارسات تعطيها معنى مجددا. التحدد له صلة ليس فقط بتكوين الأفكار وإنما أيضا بقدرتها على البقاء. لذلك يجب أن يفهم كعملية مستمرة حيث تنتج الأفكار كما يعاد إحياؤها أيضا بواسطة ممارسات اجتماعية جديدة.
ويلاحظ أن هذا المفهوم للتحدد يتجاوز المفهوم التقليدى لتحدد الأفكار بواسطة البنية الاقتصادية. وليس هذا بسبب أننى أريد أن أنكر التأثيرات المحددة للبنية الاقتصادية وإنما لأن مفهوما للتحدد مؤسسا على الفعالية الوحيدة للبنية الاقتصادية يعتبر مسألة اشكالية. فإذا نظرنا إلى المجموع الإجمالى لعلاقات الانتاج، فإننا نجد أن البنية الاقتصادية تضع حدودا لانتاج الأفكار ولطابع المؤسسات السياسية والتعليمية. ولكن، إذا اختزلنا مفهوم التحدد إلى "وضع الحدود" بواسطة ترتيب بنيوى، فسنواجه إحدى مشكلتين: إما أن نعتبر وضع الحدود مجرد شرط لتعيين إطار عام يتسع لخيارات عملية عديدة ولتطوير كثير من الأفكار الممكنة، وفى هذه الحالة فإننا لا نعرف لم تمت خيارات معينة أو طورت أفكار معينة بدلا من أخرى مكافئة بشكل متساو مع الشروط البنيوية، أو أن نفهم الحدود باعتبارها محددة بالكامل وسببا كافيا ينتج بدقة هذه الأنشطة العملية والأفكار المتطلبة من قبل البنية، وفى مثل هذه الحالة لا يكون للبشر خيار سوى أن يتصرفوا ويشعروا فى اتجاه معين تم تحديده بواسطة البنية.
يبدو لى أن مفهوم التحدد يمكن أن يمضى أبعد من الخيار الأول دون أن ينكر الحرية الانسانية مثل الخيار الثانى. ويتم ذلك عن طريق ادخال مفهوم الممارسة. إذ بينما تعتبر البنية الاقتصادية شرطا للماراسات الاجتماعية التى تضع حدودا وخيارات معينة فإن الممارسات الاجتماعية ذاتها هى التى تحدد بشكل أكثر خصوصية الأفكار التى يطورها البشر. فعلى سبيل المثال، ليس هناك شك فى أن البنية الاقتصادية تشرط وتضع حدودا لممارسات وأفكار الطبقة العاملة. ولكن ما إذا كانت الطبقة العاملة ستطور أفكارا ثورية معينة أم لا، مسألة تعتمد فى النهاية على طابع ممارستها الاقتصادية والسياسية، وعلى شكل تنظيمها والنضالات الطبقية العينية المنخرطة فيها. إذ يمكن للبنيةالاقتصادية أن تؤسس فقط مصلحة عامة فى اتجاه معين ولكنها لا يمكن ان تضمن تطبيقها العملى. بالطبع هذا المفهوم للتحدد عن طريق الممارسة يعتبر أقل دقة لحد بعيد من التحدد بواسطة البنية المقترح من قبل كوهن. لكنه يتميز على الأقل باتاحة الفرصة للتقصى العينى لطابع ونوعية الممارسات الطبقية والنضالات التى تقدم مفتاح تفسير أشكال معينة من الوعى والتى قد تكون الطبقة المعنية قد طورتها. بينما لا يتطلب التحدد بواسطة البنية الاقتصادية وحدها أى تقصى نوعى عن الممارسات الطبقية: فهو يفترض أن كلا من ممارسات الطبقة وأفكارها تتسق مع النموذج الذى حددته البنية، ونوع التقصى الوحيد الممكن لمثل هذا النموذج هو استكشاف لماذا لم تحدث التأثيرات السياسية والأيديولوجية المتوقعة دائما. على أن الهدف من مثل هذا التقصى سيكون هو تبيان الطبيعة الاستثنائية أو الشاذة لهذه الحالات. فكما يبرر ذلك كوهن فإن نظرية للتاريخ ليست مسئولة عن الأحداث الشاذة"(1978، ص 156).
والآن، فقد رأينا أنه فيما يتعلق بالتحدد، فإننا نجد أن النظرة التقليدية التى جددها كوهن حديثا تدافع عن أولوية قوى الانتاج التى تفترض أن لديها ميلا أصيلا للتطور ومن ثم تختار علاقات الانتاج التى يمكن أن تؤمن تطورها. بينما نجد أن ألتوسير وباليبار وماجالين، على النقيض من ذلك، يجادلون فى صالح أولوية علاقات الانتاج. ويرى هذا الاتجاه أن قوى الانتاج "لازمة" أو أنها"تجسيدات لعلاقات الانتاج" ليس إلا. وسواء أكان الصواب فى جانب هذا الاتجاه أو ذاك، فإن هذا النوع من المناقشة محدود بحكم طبيعته لأنه معنى بتقرير أى عامل بنيوى هو المحدد فى النهاية، ولكنه يطرح إمكانية ألا تكون الأولوية لأى من هذين العاملين البنيويين. وقد وصفت هذا البديل باعتباره توترا آخرا فى فكر ماركس وانجلز: هل التغير الاجتماعى فى أنماط الانتاج المتعارضة يفسر بلغة الصراع الطبقى أم بلغة العوامل البنيوية والتناقضات البنيوية فيما بينها؟ رغم أن كوهن يدافع عن أولوية قوى الانتاج ويدافع ألتوسير وباليبار عن أولوية علاقات الانتاج فهم جميعا يوافقون على أن الصراع الطبقى مشتق وأنه غير تفسيرى لأنه محدد ومتشكل وفقا للبنى.
وكلا الموقفين لا يأخذان فى الاعتبار الذوات الفاعلة حين يفسران الآلية الأساسية للتغير. فبالنسبة لكوهن لا تتضمن قوى الانتاج البشر أو أى عناصر اجتماعية أخرى، فهى ذات طبيعة مادية وتتجه بالضرورة بغض النظر عن الارادة الانسانية والتنظيم الاجتماعى. صحيح أن كوهن يرى أن "التاريخ هو تطور للسلطة الانسانية" ولكنه يضيف مباشرة أن "مجرى تطوره ليس خاضعا للارادة الانسانية" (1978، ص 148) أما بالنسبة لباليبار وألتوسير فلا يمكن لعلاقات الانتاج أن تختزل لعلاقات بين البشر والطبقات ليست هى الفاعل لتلك العلاقات وإنما هى مجرد دعائم لها. وبالنسبة لكلا الموقفين فالذوات الفاعلة المقسمة إلى طبقات يتم تصورها كمجرد دعائم او حملة. ولكنهم ينسون ماهو، من وجهة نظرى، حاسم، وهو، أن كلا من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج هى نتاجات اجتماعية أنتجت بواسطة الممارسة الانسانية، وأنها تبلورات لعملية الممارسة حيث ينتج البشر وجودهم المادى. وهى باعتبارها كذلك فإنها تضع شروطا للبشر بالتأكيد، ولكن هؤلاء البشر يمكن أيضا أن يعدلوها ويغيروها. لقد عبر ماركس وانجلز عن ذلك بوضوح تام:
تحتوى كل مرحلة على نتيجة مادية، هى حصيلة من القوى الانتاجية، أى علاقة مكونة تاريخيا مع الطبيعة وبين الأفراد الواحد مع الآخر، وهى تسلم لكل جيل من الجيل السابق له، وهى تتكون من كتلة من قوى الانتاج، ومن الأرصدة الرأسمالية، ومن الظروف، صحيح أنها من ناحية تعدل من قبل الجيل الجديد، لكنها من ناحية أخرى تملى عليه أيضا شروطه الحياتية الخاصة وتمنحه تطورا محددا وطابعا نوعيا. إنها تبين أن الظروف تصنع البشر بقدر ما يصنع البشر الظروف (الأيديولوجيا الألمانية، ص 54). ويضيف قائلا: ويمكن القول إذن أن قوى الانتاج والعلاقات الاجتماعية هما جانبان مختلفان من تطور الفرد الاجتماعى... والطبيعة لا تصنع آلات، أو قاطرات، أو سكك حديدية أو تلغراف كهربائى، أو مغازل آلية إلخ. فهذه نتاجات الصناعة البشرية.. إنها تجسيدات الدماغ الانسانى، خلقت باليد الانسانية وبقوة المعرفة، ثم أصبحت نتاجات موضوعية (الأسس، ص 706).
فكل قوة انتاجية إذن هى قوة مكتسبة، أى نتاج فاعلية سابقة. وبالتالى فالقوى الانتاجية نتاج طاقة بشرية عملية، بيد أن هذه الطاقة هى نفسها مشروطة بالظروف التى يجد البشر أنفسهم فيها، بالقوى الانتاجية التى أكتسبت من قبل، بالشكل الاجتماعى الذى وجد قبل أن يوجدوا هم. (رسالة إلى ب. ف. أنتكوف، 28ديسمبر 1846، المراسلات المختارة لماركس والنجلز، ص 30).
من ناحيتى إذن، فإننى غير مقتنع بـ "وصف نتيجة اجتماعية ما بأنها ذات أولوية"، سواء أكانت قوى الانتاج أو علاقات الانتاج. فالأولوية يمكن أن ترتبط فقط بالانتاج العملى للبشر، وتحويلهم لحياتهم المادية. وبطبيعة الحال، تتضمن هذه الممارسة كلا من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج كنتائج وشروط مسبقة لإعادة الانتاج المادية. لكن لا يمكن أن يفسر التغير تماما كأثر بنيوى لهذه النتائج الاجتماعية. فالتغير مشروط بها فقط ولكنه ليس محتما بالكامل. فالبشر بنشاطهم العملى هم الذين يحدثون التغير ضمن مجموعة من الخيارات المحدودة. وإذا كان من الصحيح أن البشر لا يختارون بحرية قواهم المنتجة وعلاقات الانتاج الخاصة بهم حيث أنها انتقلت إليهم من الجيل السابق- فإن ذلك لا يجعلهم عاجزين بشكل مطلق عن تغييرها ولا يمنع هذا وجود امكانات عديدة لمحاولة تغييرها.
إن التوترات فى مفهوم ماركس وانجلز عن التغير الاجتماعى يجب ان تحل من ثم لصالح النشاط السياسى العملى والصراع الطبقى- ليس صراعا طبقيا إعتباطيا بشكل مطلق وعشوائى، وإنما صراع طبقى مشروط بالبنية الاقتصادية ومستوى قوى الانتاج. ومع ذلك فهذه الشرطية لا تلغى الاختيارات إنما تحددها فقط. التناقض الرئيسى لأى نمط انتاج تناقضى هو ذلك الذى يولد الصراع الطبقى، أى التناقض بين المنتجين المباشرين ومالكى وسائل الانتاج، بين الفلاحين والسادة الاقطاعيين، بين العمل ورأس المال. فالصراع بين هذين الطرفين المتناقضين هو الذى ينتج تغيرا اجتماعايا ذا أهمية. لقد تحدث ماركس وانجلز عن التناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج باعتباره السبب الأساسى للتغير الاجتماعى. المشكلة هى أننا لا يمكن أن نتحدث بدقة عن التناقض بينهما لأن من شروط التناقض بحكم التعريف أن يكون كل طرف فيه مستغرق فى الآخر. وأن يعرف كل واحد منهما من خلال التضاد مع الآخر بحيث لا يوجد أى منهما منفردا بذاته. بينما علاقات الانتاج وقوى الانتاج هما حدان متغايران وليسا بطبيعتهما الأساسية متعارضين ، لأنه فى بداية نمط الانتاج يفترض فى الأولى أن تحفز تطور الأخيرة وكثير من المؤلفين واعون بهذه المشكلة. إذ يقترح شاف Schaf على سبيل المثال، أنه فى هذا السياق يستعمل ماركس "التناقض" بمعنى مختلف ليعنى "أن قوى المجتمع الانتاجية غير قادرة على أن تشتغل ضمن علاقات الانتاج القئمة، أى أن ثمة عدم توافق بينهما، أى تنافرا" (شاف، 1960،ص 246). لكن من الواضح ، أنه ليس من المقبول أن نعطى تعريفات مختلفة لنفس المفهوم. ويرى آخرون، مثل ماجالين (1975، ص 63)،وإيشتريا (1978، ص 223)،و بتلهايم (1974، ص 23) أنه بدلا من التحدث عن التناقض ينبغى التحدث عن علاقة تطابق او عدم تطابق. وعلى أية حال، فإنه يمكن القول أنه، فى حين أن التناقض الأساسى لنمط انتاج هو أحد مكونات وجوده بالذات منذ ابتدائه، فإن علاقة من عدم التطابق قد تظهر متأخرة فى تطور نمط الانتاج، وبالتالى فالتناقض الأساسى بين المنتجين المباشرين وملاك وسائل الانتاج هو الذى يحدد ظهور "عدم التطابق" أو "عدم التوافق" وليس العكس. والواقع أنه من بين كل التوترات التى وجدتها عند ماركس وانجلز، فمن المحتمل أن التوتر الذى يتعلق بتفسير التغير الاجتماعى هو الذى رجحت فيه أفكار ماركس وانجلز رأيا على الآخر، وهو ، أولوية القوى المنتجة. فوزن الأدلة المتضمنة لهذا المعنى مؤثر للغاية، خاصة إذا ما أخذنا تفسيرا أوسع من (تفسير) كوهن وجعلنا قوى الانتاج تشمل أشكال التعاون الاجتماعى. ولكن بالرغم من هذا فإن مهمة إعادة بناء المادية التاريخية تتطلب أن تقام توازنات جديدة يمكن أن تجعلها نظرية أفضل حتى لو كان من الضرورى تغيير فكر ماركس وانجلز. لقد انتقد كوهن "بلامناتز" لـ"أنه ميال إلى أن يرى فى المجتمع مجموعة من الأنشطة فقط، وليس مراكز، و "يركز على ما يسميه "الحياة الاجتماعية" ويخفق فى تمييزها عن البنية الاجتماعية التى تجرى فيها" (كوهن، 1974، ص 92). أنا نفسى لا أدافع عن موقف بلامناتز وأوافق على أنه يتعين أن نميز الممارسات الاجتماعية عن العلاقات البنيوية. وأوافق حتى على وجهة نظر كوهن الخاصة بأن التحديدات البنيوية وحدها يمكن أن تستخدم لكشف شبكة الارتباطات التى تصل أعضاء المجتمع" (1974، ص 93). مع ذلك لا أوافق على محاولة كوهن لتفسير التغير الاجتماعى كنتيجة مباشرة ولا مفر منها، للعلاقات البنيوية واشتقاق السلوك الانسانى آليا من التوقعات الخاصة بالوظيفة المحددة بنيويا. فمن المؤكد أن العلاقات البنيوية والتوقعات المستمدة من الخصائص الوظيفية تؤثر وتشرط السلوك ومن ثم تحدد التغير، ولكن ليس بصورة حتمية. وقد ميز كل من فليشر (1973)، وفيلمر (1971) تمييزا قيما بين ماهو ضرورى عمليا وماهو ضرورى حتما. فالأخير تغير أو نمط فى السلوك يتحتم حدوثه. ولكن هذا النوع من الضرورة خاج حدود المادية التاريخية. فالاشتراكية هى بالنسبة للمادية التاريخية ضرورة عملية فقط، أى، نمط للحياة يجب أن ينشأ، بمعن أنها مهمة موضوعية أمام البشر لانجازها، ويحتمل أن يخفقوا فى تحقيقها. ولكن بالطبع، فبدون شروط بنيوية معينة، تصبح الاشتراكية وهما أو حلما. إذ تظهر فكرة الاشتراكية بالذات مع نشوء، الرأسمالية فقط حيث خلقت شروط بنائها لأول مرة. ومع ذلك، فليس الشرط الضرورى بنيويا كافيا بشكل حتمى. ولهذا لا يمكن أن نستنبط ببساطة انه بسبب أن الشروط البنيوية للاشتراكية قائمة فإن الاشتراكية يتحتم أن تتحقق. وإنما هى قد تحدث فقط إذا ما نجح البشر فى احداثها عمليا. وليست هذه بأية حال نتيجة محتومة. ويذكرنا لوكاش- وهو محق فى ذلك- بأن لينين اعتقد أنه بالنسبة للرأسمالية لم يكن هناك "وضع لا يمكن الخروج منه. مع أنه أيا ما كان الوضع الذى قد تجد الرأسمالية نفسها فيه، فسوف تكون هناك دائما بعض الحلول الاقتصادية البحتة "المتاحة" (لوكاش، 1971، 306).
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه من الصعب قبول وصف ماركس لتطور المجتمعات كما لو كان عملية من التاريخ الطبيعى محكومة بقوانين مستقلة تقود بشكل حتمى إلى الشيوعية. فعلى الأقل لا يمكن أن يتصور الانتقال إلى الاشتراكية بهذا الشكل. وعلى النقيض مما نتوقع، تبين كتابات ماركس السياسية الناضجة إدراكا متزايدا لعدم اليقين بمثل هذه العملية مقارنة بإشارات نظرية أكثر ميلا للحتمية فى بعض الكتابات الباكرة. بينما دافع ماركس وانجلز فى 1844 عن أن المسألة ليست هى ما يعتبره هذا البروليتارى أو ذاك، أو حتى البروليتاريا بأجمعها هدفها الخاص، إنها مسألة ما هى البروليتاريا، وماذا ، بالتوافق مع هذا الوجود، سوف تكون مجبرة على أدائه تاريخيا" (العائلة المقدسة، ص 44)، كذلك يؤكد ماركس بمناسبة الحرب الفرنسية- البروسية فى 1870 ومشيرا للطبقة العاملة الأوربية أنهم: "إذا تخلوا عن واجبهم، وبقوا سلبيين، فإن الحرب الهائلة لن تكون سوى نذير لعداوات دولية أكثر دمارا، سوف تؤدى فى كل أمة إلى انتصار مجدد على العمال من قبل أمراء الحرب، والأرض، ورأس المال (خطاب المجلس العام إلى أعضاء الأممية، الأممية الأولى ومابعدها، (ص 186). وهكذا نجد أن الوصف القاطع للوعى الطبقى البروليتارى كتطور ضرورى مشتق من وجود البروليتاريا قد استبدلت به فكرة أن تحقيق الوعى الطبقى يعتمد إلى حد بعيد على مواقف وممارسات لا يمكن ضمانها ويجب أن تتطور وسط "ظروف شديدة الصعوبة" (ص 185). ويطرح هنا سؤال عما إذا كان رفض النزعة أحادية المسار وإبدال نظرية للممارسة بها يحول العملية التاريخية إلى مسألة غير محددة عشوائية بدون عقلانية قابلة لأن تدرك، تاركة الماركسية هكذا فارغة (جيلنر، 1983 و 1984). لا أظن ذلك. ومع ذلك فالمسألة هى التحقق من ماذا تعنى العقلانية فى التاريخ. إنها لا يمكن أن تعنى معنى محتوما سابقا على الممارسة الانسانية، إلا إذا كنا نريد أن نعود للفلسفات الكلاسيكية التى عرضت التاريخ باعتباره تحققا للفكرة أو العقل أو العناية الالهية. كما تناول ذلك كوسيك بقوله: ليس العقل شيئا يضعه التاريخ طوال مساره سابقا على الزمان، حتى يتبدى كعقل فى العملية التاريخية، ولكنه بالأحرى يشكل ذاته كعقل فى مجرى التاريخ. ووفقا لمفهوم العناية الالهية يشكل العقل التاريخ، وهو ذاته يتبدى تدريجيا فى تحقق التاريخ. وعلى نقيض ذلك، يرى المفهوم المادى، أن العقل إنما يتشكل فى سياق العملية التاريخية، ومن ثم، يكتسب التاريخ معقولية، فالتاريخ ليس عقلانيا بذاته وبصورة حتمية (كوسيك، 1976، ص 144). فمعنى التاريخ ، إذن، ليس مستقلا عن البشر الذين يصنعون حياتهم عمليا. وهؤلاء البشر، عند تحقيقهم لأنفسهم ككائنات عملية لا يفعلون ذلك وفقا لخطة محتمة. وهكذا فمعنى التاريخ إنما يتشكل من خلال الفعالية العملية التى يحقق البشر من خلالها أنفسهم. ولكن، و كما أن هذه الفعالية العملية ليست حرة بشكل مطلق وإنما مشروطة بظروف مادية وعلاقات أنتجها البشر أنفسهم، فإن العقل فى التاريخ، أيضا، ليس محددا سلفا بشكل كلى وليس لانهائيا فى امكانياته. ففى رسالة إلى ب. ف. أنتكوف، يجادل ماركس بأنه "نتيجة هذه الحقيقة البسيطة، وهى أن كل جيل جديد يجد نفسه مالكا للقوى الانتاجية التى اكتسبها الجيل السابق- وأنها تخدمه على اعتبارها المواد الخام من أجل الانتاج الجديد، يقوم تماسك التاريخ البشرى" (رسالة 28 ديسمبر 1846، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص ص 30-1). وهذا يعنى أن ثمة استمرارية فى الطريقة التى يصنع بها البشر التاريخ، إذ ليس عليهم أن يبدأوا مجددا فى كل مرة من لاشئ. ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن معنى التاريخ معطى فى الظروف المادية المتراكمة باستقلال عن الممارسات الانسانية. فأشكال الممارسة المتموضعة، وقوى الانتاج وعلاقات الانتاج المعطاة كلها أمور حاسمة فى نشوء الترابط فى التاريخ ولكنها تفعل ذلك فى حدود ارتباطها بالممارسة الانسانية فقط لأنه بالرغم من أنها تشرط الممارسة فإن الممارسة تغيرها أيضا وفى النهاية يمكن القول أن الممارسة الانسانية هى التى تعطى الشروط معنى. ومن ثم، فإن معنى التاريخ ليس شيئا معطى بل منتج بواسطة النشاط العملى المشروط للبشر. ومثل هذا المفهوم يستبعد فكرة وجود هدف نهائى يتحتم تحقيقه ويرفض مفهوم وجود دافع باطنى يقود التاريخ نحو غاية ضرورية. كما عبر عن ذلك فليشر بقوله: ليس التاريخ تقدما نحو انسانية وحرية أعلى، وإنما هو تعبير عن الامكانية المتزايدة لمثل هذا التقدم فحسب. إذ يكمن الاحتمال المتأصل فى التاريخ بأسره فى حقيقة أن تحقق الممكن هو دائما مسألة مبادرات حرة وتركيبات خلاقة، وأن نوعيتها ونجاحها ليس مضمونين مقدما (فليشر، 1973، ص 80). ومن خلال هذا السياق يمكننا أن نفهم لماذا يتكافأ الضدان عند ماركس فيما يتعلق بنتائج الاستعمار فى آسيا وأيرلندا فلا يتم حلهما نهائيا وعلى نحو حاسم فى أى من الاتجاهين المذكورين فى نهاية الفصل الأول. فقد كان الاختيار هو اختيار بين إمبريالية تعزز تطور قوى الانتاج أو إمبريالية تشكل عقبة فى وجه تصنيع العالم الثالث. وقد كان الرأى الأخيرهو الموقف التقليدى منذ 1928، بينما حاول وارين حديثا(1980) أن يعيد إحياء الموقف الأول. ولا يتناسب أى من هذين الموقفين المتطرفين، مع مادية تاريخية أعيد بناؤها. لأنهما يقترحان مجرى للتاريخ ثابت ويبدو محتما بشكل سابق على أى تحليل عينى. وكما بينت فى الفصل الثالث، فإن تجربة بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية تتمثل فى أنه بالرغم من أن الإمبريالية لم تفض إلى تصنيع البلدان التابعة فإنها لم تمنع بشكل مطلق تطور قواها الانتاجية. وإنه لمما يثير السخرية، أن ندافع، كما يفعل وارين، عن أن الإمبريالية نافعة فى كل مكان، ولكن من ناحية أخرى من المستحيل إنكار وجود عملية ديناميكية إلى حد ما فى التطور التابع لبعض بلدان العالم الثالث. ويمكن أن تتعايش هاتان الإمكانيتان جنبا إلى جنب لأن الامبريالية لا يمكن أن تفهم كإملاء خارجى محض ينتج نتائج متشابهة فى كل مكان، ولكن، كما ذهب كاردوسو وفالتو (1979). فالامبريالية تحدث تأثيرها وتمارس نفوذها دائما من خلال التمفصل مع الصراع الطبقى الداخلى فى بلدان العالم الثالث.
المعتقدات الأساسية لمادية تاريخية أعيد بناؤها
ربما يكون مفيدا فى نهاية هذا المؤلف أن نلخص أهم المبادئ فيما تقترحه مادية تاريخية أعيد بناؤها والمنظور النوعى الذى تسهم به فى العلوم الاجتماعية. وسوف أعتبر أربع نطاقات مترابطة داخليا أو وجهات نظر هى: المجتمع، والوعى، والتاريخ والفرد. المجتمع: 1- ليس المجتمع مجموعا بسيطا للأفراد "ولكنه يعبر عن مجمل العلاقات الداخلية، العلاقات التى يتعامل من خلالها هؤلاء الأفراد" (الأسس، ص 265). ولكن هذا المفهوم يجب أن يستكمل بفكرة أن المجتمع أيا كان شكله هو "نتاج فعل البشر التبادلى" (رسالة إلى ب.ف. أنتكوف، 28 ديسمبر 1846، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 30). إذ يدخل البشر فى علاقات اجتماعية أثناء عملية انتاج حياتهم عمليا. 2- لعله من الضرورى من أجل فهم المجتمع أن ننظر أولا وقبل أى شئ إلى عملية الانتاج، وهى العملية التى بواسطتها يغير الأفراد الطبيعة، والتى هى، رغم أن الأفراد هم الذين يقومون بها، إلا أنها فى نفس الوقت عملية تعاونية أو اجتماعية. 3- لا ينبغى أن يحلل لا المجتمع ولا الانتاج "بصفة عامة" ولكن يجب أن يقيما فى "شكل تاريخى محدد". 4- يقدم مفهوم "نمط الانتاج"، مفتاح التحليل التاريخى للمجتمع ويتضمن اقتران نظام نوعى من علاقات الانتاج بمستوى معين لقوى الانتاج. 5- يشمل نظام علاقات الانتاج شكلين نوعيين، واحد للسيطرة على وسائل الانتاج والآخر، لانتزاع فائض القيمة. وهو يحدد بالتالى تمييزا طبقيا نوعيا بين المنتجين المباشرين وهؤلاء الذبن يسيطرون على وسائل الانتاج، والنظام السياسى والقانونى يؤمن كل من ملكية وسائل الانتاج وانتزاع فائض العمل. 6- تبدأ المادية التاريخية بتحليل نمط الانتاج الرأسمالى الذى يمكن أن تطور منه المفاهيم والتبصرات اللازمة والتبصرات لتحليل أنماط انتاج أخرى. 7- مفهوم نمط الانتاج هو أداة تحليلية مجردة تتيح تحليل التشكيلات الاجتماعية العينية. ومن ثم فإن نمط الانتاج ليس "مرحلة تاريخية" ولا يمكن لنا أن نشتق من منطقه الداخلى التطور العينى والتقدم المتوقع لمجتمع محدد. ويلاحظ أن معظم المجتمعات العينية تمتلك أكثر من نمط انتاج فى وقت واحد. 8 - تشكل علاقات الانتاج وقوى الانتاج المحددة بواسطة الاقتران النوعى لأنماط انتاج قائمة فى سعى مجتمع معين، المجمل الأساسى للظروف التى تحدد شروط حياة الأفراد وممارساتهم. ولكن يمكن للأفراد أن يغيروا هذه الظروف ضمن جملة من الخيارات المحددة التى تتيحها ذات الظروف. فليس التغير الاجتماعى من ثم اعتباطيا من ناحية، ولا محتوما سلفا على نحو مطلق من ناحية أخرى.
الوعى: 1- ينتج الوعى الاجتماعى فى سياق الممارسات الاجتماعية وهو ليس مجرد انعكاس لما يبدو أنه واقع موضوعى ولكنه يستبق نتائج الممارسة. 2- طالما أن الطبقة الحاكمة هى القوة المادية الحاكمة للمجتمع "فإن أفكار الطبقة الحاكمة هى، فى كل مرحلة، الأفكار السائدة" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 59). 3 - تكشف المادية التاريخية عن شكل معين من الوعى المشوه الذى يخفى التناقض ويسمى الأيديولوجيا. ولا يجب أن نخلط الأيديولوجيا بالأفكار السائدة. فليس من شأن الأفكار السائدة جميعا أن تخفى التناقض بالضرورة. 4 - بالرغم من أن كل أيديولوجيا تخدم مصالح الطبقة الحاكمة، لأن إخفاء التناقض يساعد على إعادة انتاج تلك المصالح، لكن ذلك لا يعنى أن الطبقة الحاكمة فقط هى التى تنتج الأيديولجيا. إذ يمكن لكل الطبقات بما فيها البروليتاريا أن تنتج الأيديولوجيا لأنها منخرطة فى "نمط للنشاط مادى ومحدود". 5 - كل الأفكار محددة اجتماعيا ولكن ليس كل الأفكار أيديولوجيا. 6 - التحدد الاجتماعى للوعى هو عملية مستمرة من إعادة إحياء الأعمال الثقافية والفنية فى سياق ممارسات جديدة. وصحة الأفكار ليست مقصورة على الوضع الاجتماعى الذى نبعت منه. 7 - يختلف العلم عن الحس العام فى السعى إلى اختراق ظاهريات الواقع من أجل الوصول للعلاقات الداخلية ويستتبع هذا انشاء مفاهيم ونماذج ليس لها مرجع تجريبى مباشر. 8 - لا يدعى منهج المادية التاريخية امتلاك أى "منطق جدلى" خاص ويمكن أن يقال أن المادية التاريخية جدلية فقط إلى الحد الذى يكون فيه موضوع دراستها جدليا. والواقع الجدلى الذى يتحرك فى شكل تناقضى يمكن ويجب أن يدرس وفقا لقواعد المنطق الشكلى.
التاريخ: 1- ليس هناك معنى شامل كامن أو غاية ضرورية للتاريخ. "ليس التاريخ شيئا سوى نشاط البشر فى متابعة أهدافهم" (العائلة المقدسة، ص 110). وليس التاريخ تحققا لخطة مقدرة سلفا. 2- "يصبح" التاريخ عقلانيا من خلال الفعالية العملية التى يمارسها البشر. ومن ثم، فنشاط البشر العملى هو الذى يعطى التاريخ معناه. وليس هناك عقلانية مؤسسة مسبقا للتاريخ. 3- ليست المادية التاريخية نظرية غائية. فهى لا تعتقد أن ثمة هدفا نهائيا محتم الحدوث، ولا هى تعتقد فى دافع طبيعى وباطنى يدفع التاريخ إلى الأمام. 4- ترفض المادية التاريخية المفهوم الأحادى المسار الذى يرسم "الطريق العام للتطور الذى يضعه القدر لكل الأمم" (المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 293). 5- يكتسب البشر كينونة فردية خلال عملية التاريخ ولكن لايمكن أن يستنبط التاريخ من الطبيعة الانسانية أو الجوهر الانسانى. 6- ليس التقدم فى التكنولوجيا وفى نوعية العلاقات الاجتماعية شيئا كامنا فى التاريخ ولكنه إمكانية تعتمد على الممارسة الانسانية حينما تتوافر الظروف الاجتماعية المناسبة. 7- بالرغم من أن التناقض أساس التغير التاريخى بالنسبة لأغلب تاريخنا الحضارى، فإن المادية التاريخية لا تدافع عن أن كل تغير تاريخى يسببه التناقض والصراع الطبقى. لقد كان هذا هو الحال فقط بالنسبة للمجتمعات التى هيمنت فيها أنماط الانتاج التناقضية وبالنسبة للتغيرات الاجتماعية الكبرى فقط. 8- يصنع البشر التاريخ حتى لو لم يدركوا أنهم يصنعوه. وحتى لو لم يسيطروا على نتائجه. وعلى أية حال، فالمادية التاريخية تطرح فكرة أنه من الممكن للبشر الآن أن يصنعوا التاريخ بشكل واع بتجاوز كل أشكال الهيمنة الطبقية وبأن يسيطروا جماعيا على علاقاتهم الاجتماعية. الفرد: 1 - رغم أن المادية التاريخية ليست فى المقام الأول نظرية حول الفردية، فإن كثيرا من النتائج بالنسبة لمفهوم الفرد يمكن أن تشتق منها. كبداية، تؤكد المادية التاريخية الجانب الفاعل للأفراد. إذ لا يعيد البشر بواسطة الممارسة انتاج حياتهم المادية والمجتمع الذى يعيشون فيه فحسب بل هم أيضا يغيرون، فى نفس الوقت "طبيعتهم ذاتها" بواسطة "التأثير فى العالم الخارجى وتغييره" (رأس المال، المجلد الأول، ص 173). 2 - ولكن البشر لا يتصرفون كليا وفقا لإرادتهم الحرة، إذ إنهم مشروطون بالمنتجات المتوضعة لممارستهم الخاصة: فهم يولدون داخل علاقات اجتماعية معينة لم يختاروها ويتلقون قوى انتاج معينة من الماضى. 3 - رغم أن الظروف تحدد شروط حياة البشر، فإن باستطاعتهم أن يغيروا الظروف وهذا ما يمكن فهمه كممارسة ثورية. 4 - يستطيع البشر أن يكتسبوا كينونة فردية لأنفسهم فقط وسط المجتمع (الأسس، ص 84) وخلال عملية التاريخ (الأسس، ص 496). 5 - تجد المادية التاريخية فى التاريخ عملية الاتجاه إلى التفردية التى جرت ضمن علاقات اجتماعية أكثر تطورا وأكثر تعقيدا على الدوام. ففى البداية، لم يكن للفرد تقريبا أية أهمية، وكان البشر مدمجون كلية فى العشيرة والقطيع ثم فيما بعد،تابعون شخصيا لسيد أو إقطاعى فيما بعد. لكن مع الرأسمالية بدأ الأفراد يكتسبون استقلالا شخصيا هو رغم ذلك "مؤسس على التبعية الموضوعية". أى على " علاقات اجتماعية أصبحت مستقلة والآن تدخل هذه العلاقات فى تعارض مع مايبدو أنه الأفراد المستقلين... بطريقة يبدو فيها الأفراد محكومون بواسطة التجريدات "بينما كانوا فى السابق يعتمدون الواحد منهم على الأخر" (الأسس، ص 164). 6 - تقترح المادية التاريخية فكرة أن مرحلة ثالثة ممكنة فى عملية التفردية هى مرحلة: "الفردية الحرة المؤسسة على التطور الشامل للأفراد وعلى سيطرتهم على انتاجيتهم الاجتماعية والجماعية وكذلك على ثروتهم الاجتماعية (الأسس، ص 158). وعلى أية حال، فبالرغم من أن المرحلة الرأسمالية الثانية تخلق شروط الثالثة. فليست هذه عملية آلية بل هى موضوعة أمام الممارسة الانسانية لانجازها، فهى مهمة قد يخفق الأفراد فيها. 7 - لا تقترح المادية التاريخية "نزعة انسانية طبقية" بالتعارض مع الحرية الشخصية (ألتوسير). وإنما تتصور المادية التاريخية الطبقة باعتبارها ذات "وجود مستقل ضد الأفراد. إذ أن هؤلاء الأفراد يجدون شروط حياتهم محددة سلفا... وهكذا يصبحون مصنفين تحتها" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 77). ومن ثم تسعى المادية التاريخية لتحرير الأفراد بالقضاء على الطبقات جميعا بما فيها البروليتاريا.
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المادية التاريخية والصراع الطبقى والممارسة الثورية - جورج لا
...
-
المادية التاريخية والصراع الطبقى والممارسة الثورية - جورج لا
...
-
المادية التاريخية والصراع الطبقى والممارسة الثورية - جورج لا
...
-
فى حقوق إمتياز الدولة البوليسية - إعادة هيكلة - قوى الثورة
-
الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر -- بيير بورديو
-
قانون حماية مكتسبات الثورة -- الا نقضاض على مكتسبات الثورة ت
...
-
المفهوم الماركسى للقانون جانيجر كريموف
-
القانون ونظرية الخطاب
-
امبريالية ام مابعد امبريالية ؟
-
القمع يؤرخ للثورة -- ضد مشروع قانون الطوارئ
-
القسم الثانى من رواية عشاق افينيون بقلم الزا تريوليه -- مراج
...
-
القسم الاول من رواية عشاق افينيون بقلم الزا تريوليه -- مراجع
...
-
رواية عشاق أفينيون بقلم الزا تريوليه -- مقدمة ومراجعة ابراهي
...
-
النص القانونى بين التأويل و-او التدليل
-
حول النقد الماركسى للقانون
-
قوة القانون : نحو سوسيولوجيا للحقل القانونى بيير بورديو
-
المسألة الدستورية فى روسيا * ليون تروتسكى
-
النضال ضد الاوهام الدستورية ف . لينين
-
الأزمة الدستورية فى بريطانيا ف . لينين
-
تبدد الأوهام الدستورية ف . لينين
المزيد.....
-
بمناسبة الذكرى 50 لاغتيال الشهيد عبد اللطيف زروال، وقفة احتج
...
-
على طريق الشعب: في المهرجان يكبر الفرح وتتعزز الثقة بالغد
-
بــلاغ صادر عن مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب
-
تفاؤل مغربي وترقب من البوليساريو.. هل يُنهي ترامب نزاع الصحر
...
-
هل تستطيع تركيا التوصل إلى اتفاق مع الأكراد للقضاء على حزب ا
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي بجهة أوروبا الغربية: حول أحداث
...
-
وقفة احتجاجية بالرباط من أجل حرية التنظيم والتجمع وحرية الرأ
...
-
محمد عفيف: الحكومات ستتكاتف من اجل قمع الحريات وعدم المس بما
...
-
هولندا.. اعتقال متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في أمستردام
-
وداعًا المناضل أحمد الأهواني
المزيد.....
-
مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس
/ حسين علوان حسين
-
العصبوية والوسطية والأممية الرابعة
/ ليون تروتسكي
-
تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)*
/ رشيد غويلب
-
مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق
...
/ علي أسعد وطفة
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين
/ عبدالرحيم قروي
-
علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري
...
/ علي أسعد وطفة
-
إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك
...
/ دلير زنكنة
-
عاشت غرّة ماي
/ جوزيف ستالين
-
ثلاثة مفاهيم للثورة
/ ليون تروتسكي
-
النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج
/ محمد عادل زكى
المزيد.....
|