أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - ليون تروتسكي - الأدَبُ وَالثورَة















المزيد.....



الأدَبُ وَالثورَة


ليون تروتسكي

الحوار المتمدن-العدد: 7118 - 2021 / 12 / 26 - 21:03
المحور: الارشيف الماركسي
    


ترجمة
جورج طرابيشي
  
دار الطليعَة - بَيُروت
 
 
حقوق الطبع محفوظة لِدارٍ الطليعة
بيروت – ص ب 111813
 
 
 
 
الطبعة الأولى
كانون الثاني (يناير) 1975
الثقافة البروليتارية والفن البرووليتاري
 
     تبدع * كل طبقة سائدة ثقافتها، وبالتالي فنها. وقد عرف التاريخ الثقافات الرقية الخاصة بالعصور القديمة الكلاسيكية والشرق، والثقافة الإقطاعية المميزة للقرون الوسطى في أوروبا، والثقافة البورجوازية التي تهيمن اليوم على العالم. ومن هنا يبدو أنه من البديهي أن تبدع البروليتاريا بدورها ثقافتها وفنها.
     بيد أن المسألة ليست بالبساطة التي قد تبدو عليها للوهلة الأولى. فالمجتمع الذي كان فيه مالكو الأرقاء يشكلون الطبقة الحاكمة عاش على مدى قرون عديدة. وكذلك حال الإقطاعية. والثقافة البورجوازية ظهرت الى حيز الوجود منذ خمسة قرون، هذا اذا لم نؤرخ لها الا ابتداء من أول تظاهرة علنية وصاخبة لها، أي عصر النهضة. لكنها لم تدرك ملء تفتحها الا في القرن التاسع عشر، وعلى نحو أدق في نصفه الثاني. ويبين التاريخ أن تكوين ثقافة جديدة حول طبقة سائدة يتطلب زمنا طويلا، ولا يكتمل الا في المرحلة التي تسبق الانحطاط السياسي لتلك الطبقة.
     هل سيتاح للبروليتاريا الزمن الكافي لإبداع ثقافة "بروليتارية"؟ الحق أن البروليتاريا، بعكس عهد مالكي الأرقاء والإقطاعيين والبورجوازيين، تعتبر ديكتاتوريتها مرحلة انتقالية قصيرة. وحين نريد التنديد بالتصورات المتفائلة أكثر مما ينبغي بصدد الإنتقال الى الاشتراكية، ننوه بأن مرحلة الثورة الاجتماعية، على الصعيد العالمي، لن تدوم شهورا وإنما سنينا وعشرات السنين، ولكن ليس قرونا وكم بالأحرى ألوفا من الأعوام. فهل تستطيع البروليتاريا في هذه الحقبة من الزمن أن تبدع ثقافة جديدة؟ انه لمما يزيد الشكوك مشروعية أن سني الثورة الاجتماعية ستكون سني صراع حاد بين الطبقات، يحتل فيها الهدم والتدمير مكانا أوسع من ذاك الذي سيحتله نشاط بناء جديد. على كل حال، ستنفق البروليتاريا جوهر طاقتها في الاستيلاء على االسلطة، والمحافظة عليها، وتدعيمها، واستخدامها لتلبية الحاجات الماسة والملحة للوجود والصراع اللاحق. والحال أنه إبان هذه المرحلة الثورية، التي تشتمل في حدود بالغة الضيق على إمكانية بناء ثقافي مخطط، تدرك البروليتاريا ذروة توترها وأكمل تظاهرات طابعها الطبقي. والعكس أيضا صحيح: فكلما توفر للنظام الجديد المزيد من الحماية والأمان من التقلبات العسكرية والسياسية، وكلما تحسنت شروط الإبداع الثقافي وصارت أكثر إيجابية، ذابت البروليتاريا بسرعة أكبر في المجتمع الاشتراكي وتحررت من مميزاتها الطبقية، أي كفت عن أن تكون هي البروليتاريا. وبعبارة أخرى، لا مجال أثناء مرحلة الدكتاتورية لإبداع ثقافة جديدة، أي لأوسع أشكال البناء التاريخي وأرحبها. وبالمقابل، سيكون البناء الثقافي منقطع النظير في التاريخ حين لن يعود هناك من ضرورة لقبضة الدكتاتورية الحديدية، وحين لن يعود لها طابع طبقي، ومن هنا يتوجب أن نخلص بوجه عام لا الى انه ليس هناك ثقافة بروليتاريا فحسب، بل الى أن مثل هذه الثقافة لن تظهر الى حيز الوجود ابدا. وليس ثمة داع، والحق يقال، للتأسف على ذلك: فالبروليتاريا أخذت مقاليد السلطة بين يديها على وجه التحديد كي تضع حدا نهائيا للثقافة الطبقية وكي تفتح الطريق أمام ثقافة إنسانية.
 ----------------------------------
 *  كتب تروتسكي "الادب والثورة" في عامي 1922 و 1923 أثناء اجازته الصيفية – وكان يومئذ وزيرا للحربية – على شكل حلقات ظهرت تباعا في "البرافدا". وقد تناول في القسم الأول من مقالاته أدب ما قبل الثورة، وقد رأينا عدم ادراج هذا القسم في الترجمة العربية لأنه يتناول بالتحليل المقتضب آثار كتاب وشعراء كثيرين لا تعني أعمالهم وأسماؤهم شيئا للقارئ العربي. وقد طوت، بالفعل، معظمهم يد النسيان بصورة نهائية. وبالمقابل رأينا أن نضيف الى القسم الثاني – والأساسي فعلا – من مقالات "الادب والثورة". وهو القسم الغني بالتعميمات النظرية والسوسيولوجية، نص مداخلة لتروتسكي في اجتماع حزبي في أيار 1924 حول موضوع الأدب والحزب، وهي مداخلة تؤلف في الواقع تتمة طبيعية لأطروحات "الادب والثورة". – م -
     إن الكلام المبهم الغامض عن الثقافة البروليتارية، قياسا على الثقافة البورجوازية ومعارضة لها، قائم على خلط غير نقدي بالمرة بين المصائر التاريخية للبروليتاريا والمصائر التاريخية للبورجوازية. والمنهج المبتذل، الليبرالي المحض، القائم على أساس المقايسات التاريخية الشكلية، لا يمت بأي صلة قربى الى الماركسية. وليس هناك أي تشابه فعلي بين الدورة التاريخية للبورجوازية والدورة التاريخية للطبقة العاملة.
     لقد بدأ تطور الثقافة البورجوازية قبل عدة قرون من استيلاء البورجوازية على زمام سلطة الدولة بواسطة سلسلة من الثورات. وحتى يوم كانت البورجوازية لا تزال الطبقة الثالثة، شبه المحرومة من الحقوق، كانت تلعب دورا هاما، لا يني يتعاظم، في جميع مضامير التطور الثقافي. ونستطيع أن نتبين ذلك بتمام الوضوح في تطور الهندسة المعمارية. فالكنائس القوطية لم تُشد على حين غرة، بدفع من إلهام ديني. ففي كاتدرائية كولونيا وهندستها ونحتها تلخيص لكل تجربة الإنسانية في مضمار الهندسة المعمارية منذ أيام الكهوف، وجميع عناصر هذه التجربة تتضافر وتسهم في أسلوب جديد يعبر عن ثقافة عصره، أي في التحليل الأخير بنية ذلك العصر وتقنيته الاجتماعيتين. لقد كانت البورجوازية القديمة، بورجوازية الحرف والروابط المهنية، الباني الحقيقي للقوطيات. والبورجوازية بتطورها واشتداد عودها، أي باغتنائها، تجاوزت عن وعي وإيجابية القوطيات وشرعت تبدع طرازها المعماري الخاص، لا للكنائس كما في السابق وإنما لقصورها. فانطلاقا من منجزات الفن القوطي التفتت نحو العهود القديمة، الرومانية بوجه خاص، واستخدمت الهندسة المعمارية المغربية، وأخضعت ذلك كله لشروط الحياة المدينية الجديدة وحاجاتها، فخلقت بذلك النهضة (ايطاليا في أواخر الربع الأول من القرن الخامس عشر). وفي مقدور الاختصاصيين أن يحصوا، وهم يحصون فعلا، العناصر التي تدين بها النهضة للعهود القديمة، والعناصر التي تدين بها للعصر القوطي، حتى يروا الى أي جانب يميل الميزان. وعلى كل حال، لم تبدأ النهضة الا بعد أن استشعرت الطبقة الاجتماعية الجديدة، المشبعة بالثقافة أصلا، القوة الكافية في نفسها لتنفض عنها نير الفن القوطي، ولتعتبره مع كل ما سبقه محض مادة بناء، ولتخضع عناصر الماضي التقنية لأهدافها المعمارية. وهذا ينطبق أيضا على سائر الفنون، مع الفارق التالي وهو أن الفنون "الحرة"، بسبب مرونتها المفرطة، أي بحكم كونها غير خاضعة للأهداف النفعية ولمواد البناء بقدر خضوع الفن المعماري، لا تميط اللثام عن جدل هيمنة الأساليب وتعاقبها بنفس القدر من الوضوح والإقناع.
     لقد تصرمت بين عصر النهضة والإصلاح اللذين كان هدفهما خلق شروط وجود فكري وسياسي أكثر مواءمة للبورجوازية في المجتمع  الإقطاعي، من جهة أولى، وبين الثورة التي حولت السلطة إلى البورجوازية (في فرنسا)، من الجهة الثانية، تصرمت ثلاثة قرون أو أربعة من نمو القوى المادية والفكرية  للبورجوازية. وقد أدى عصر الثورة الفرنسية الكبرى والحروب التي تمخضت عنها الى انحطاط مؤقت في مستوى الثقافة المادي. لكن النظام الرأسمالي رسخ قدميه بعد ذلك بوصفه نظاما "طبيعيا" و"أبديا"...
     هكذا تكون السيرورة الأساسية لتراكم عناصر الثقافة البورجوازية وتبلورها في أسلوب مميًّز قد تحددت  بالخصائص الإجتماعية للبورجوازية بوصفها طبقة مالكة، مستغِلة: فالبورجوازية لم تنمُ وتتطور ماديا في رحم المجتمع الإقطاعي، مرتبطة به بألف رباط ورباط وجاذبة إليها الثروات فحسب، بل كسبت أيضا تأييد الأنتلجانسيا، خالقة لنفسها نقاط ارتكاز ثقافية (مدارس، جامعات، اكادميات، صحف، مجلات) قبل فترة طويلة من استيلائها على الدولة علنا وجهارا، على رأس الطبقة الثالثة. يكفي أن نعيد هنا الى الأذهان أن البورجوازية الألمانية، بثقافتها التقنية والفلسفية والعلمية والفنية المنقطعة النظير، قد تركت السلطة بين يدي طائفة اقطاعية وبيروقراطية حتى عام 1918، ولم تقرر أو بالأحرى لم تر نفسها ملزمة بالاستيلاء على مقاليد السلطة مباشرة الا حين شرع الهيكل المادي للثقافة الألمانية يتداعى وينهار.
     قد يرد بعضهم على ذلك بقوله: لقد اقتضى ابداع فن المجتمع الرقي ألوف السنين، بينما كانت بضعة قرون كافية للفن البورجوازي. فلماذا إذن لا تكفي بضع عشرات من السنين للفن البروليتاري؟ إن الأسس التقنية للحياة لم تعد بالمرة على ما كانت عليه من قبل، ومن ثم فإن الإيقاع أيضا بات يختلف اختلافا عظيما. بيد أن هذا الاعتراض، الذي قد يبدو للوهلة الأولى مقنعا جدا، يبقى في الواقع خارج المسألة.
     مما لا مراء فيه أنه سيأتي حين، عبر تطور المجتمع الجديد، تتاح فيه للاقتصاد و البناء الثقافي والفن حرية في الحركة للتقدم أكبر بما لا يقاس. اما بصدد إيقاع هذه الحركة فليس في وسعنا حاليا أن نحلم به. ففي مجتمع يكون قد نفض عن كاهليه شاغل الخبز اليومي  بفجاجته وبلادته، وتهيء فيه المطاعم العامة طعاما طيبا حسب ذوق كل فرد، وتغسل فيه المغاسل البلدية بنظافة غسيل الناس جميعا، ويلقى فيه الأطفال، جميع الأطفال، غداء جيدا، ويتمتعون بالمرح والقوة و يتمثلون عناصر العلم والفن الأساسية كما يتمثلون الآحين والهواء وحرارة الشمس، في مجتمع لا تعود فيه الكهرباء و الإذاعة وسائل بدائية على ما هما عليه الان وانما مصادر لا ينضب لها معين للطاقة المركزة التي توجه بكبس الأزرار، ولا تعود فيه "أفواه لا مجدية"، وتتوجه فيه أنانية الإنسان المنعتقة - وما أعظمها من قوة! – بتمامها نحو معرفة الكون وتغييره وتحسينه، في مجتمع كهذا لن تكون دينامية التطور الثقافي قابلة لاي مقارنة مع ما عرفناه  في الماضي. لكن هذا كله لن يتحقق الا بعد مرحلة انتقال طويلة وشاقة، لا يزال علينا ان نقطعها بتمامها تقريبا. والحال أننا نتكلم هنا عن مرحلة الإنتقال هذه على وجه التحديد.
     أليس عصرنا، العصر الراهن، ديناميا؟ انه لكذلك، والى اقصى حد. لكن ديناميته تتركز في مضمار السياسة. فالحرب والثورة ديناميتان، ولكن على حساب التقنية والثقافة الى حد كبير. صحيح أن الحرب أنتجت سلسلة طويلة من الإبتكارات التقنية. لكن الفقر العام الذي نجم عنها ارجأ لفترة طويلة التطبيق العملي لتلك الابتكارات التي كان من الممكن أن تحدث ثورة في الحياة اليومية. ذلك هو شأن الإذاعة والطيران والعديد من المبتكرات الكيميائية. ومن جهة اخرى، تخلق الثورة مقدمات مجتمع جديد. لكنها تفعل ذلك بطرائق المجتمع القديم، بصراع الطبقات والعنف والتدمير والإبادة. ولو لم تقم الثورة البروليتاريا لكانت الإنسانية اختنقت في تناقضاتها الذاتية. إن الثورة تنقد المجتمع والثقافة، لكن بواسطة جراحة مؤلمة للغاية. فجميع القوى الفاعلة مركزة في السياسة أثناء الصراع الثوري. وما تبقى منبود الى مرتبة ثانوية، وكل ما يسبب حرجا أو إرباكا يداس بالأقدام بمنتهى القسوة. ولهذه السيرورة، بالطبع، مدها وجزرها الجزئيان: فشيوعية الحرب قد أخلت الساحة للسياسة الإقتصادية الجديدة التي تمر بدورها بأطوار مختلفة. لكن ديكتاتورية البروليتاريا ليست، في جوهرها، التنظيم الاقتصادي والثقافي لمجتمع جديد، وإنما هي نظام عسكري ثوري يرمي الى النضال في سبيل اقامة ذلك المجتمع. لا يجوز أن ننسى ذلك. ولسوف يضع مؤرخ المستقبل في أغلب الظن نفطة أوج المجتمع القديم في 2 اب 1914، حين اغرقت القوة المهتاجة للثقافة البورجوازية العالم في نار الحرب الإمبريالية ودمها. وسوف يؤرخ لبداية تاريخ  الإنسانية الجديد بيوم 7 تشرين الثاني 1917 على أغلب الظن أيضا. ومن المرجح أن المراحل الأساسية لتطور الإنسانية ستقسم بوجه العموم كالآتي: "التاريخ" ما قبل التاريخي الإنسان البدائي، تاريخ العهود القديمة الذي كان الرق نقطة ارتكاز تطوره، العصور الوسطى القائمة على القنانة، الرأسمالية الاستغلالية على أساس نظام الاجارة، وأخيرا المجتمع الاشتراكي مع الإنتقال الذي سيتم، لنأمل ذلك، بدون ألم الى مشاعة يزول فيها كل شكل من اشكال السلطة. على كل حال، ستدخل الأعوام العشرون أو الثلاثون او الخمسون التي ستستغرقها الثورة البروليتارية العالمية في التاريخ بوصفها أصعب أشكال الإنتقال من نظام الى أخر، وليس البتة بوصفها عصرا مستقلا للثقافة البروليتارية.
     في السنوات الراهنة، سنوات الهدنة واسترداد الأنفاس، قد تولد أوهام بصدد ذلك الموضوع في جمهوريتنا السوفياتية. وقد اولينا المسائل الثقافية اهتمامنا وعنايتنا. واذا سحبنا شواغلنا الحالية على مستقبل بعيد، فقد نتوصل الى تخيل ثقافة بروليتارية. أما في الواقع فإن بنائنا الثقافي، مهما يكن هاما وحيويا، يظل منضويا بكامله تحت جناح الثورة الأوروبية والعالمية. إننا ما زلنا جنودا في حملة. وأمامنا في الوقت الراهن يوم من الراحة، وينبغي أن نستفيذ منه لنغسل قمصاننا ونقص شعورنا، وقبل كل شيء لننظف البندقية ونشحمها. أن كل نشاطنا الاقتصادي والثقافي الحالي لا يعدو أن يكون ضربا من إعادة تنظيم لمتاعنا بين معركتين، بين حملتين. والمعارك الفاصلة لا تزال أمامنا، ولم تعد بعيدة جدا في أرجح الظن. والأيام التي نعيشها ليست هي بعد عصر ثقافة جديدة، وإنما هي في أحسن الأحوال المدخل الى ذلك العصر. وأول ما يتوجب علينا هو ان نحوز رسميا أهم عناصر الثقافة القديمة، بحيث تتوفر لنا القدرة على الأقل على شق الطريق أمام ثقافة جديدة.
     تغذو المسألة في منتهى الوضوح اذا نظرنا إليها، كما هو واجب، على صعيدها العالمي. فالبروليتاريا كانت ولا تزال الطبقة غير المالكة. ومن هنا بالذات تضيق للغاية الإمكانية المتاحة لها لتمثل عناصر الثقافة البورجوازية التي صارت جزءا لا يتجزأ من تراث الإنسانية. صحيح أنه يمكن القول، بمعنى ما، أن البروليتاريا، وعلى الأقل البروليتاريا الأوروبية، عرفت هي الأخرى عهد إصلاحها، وعلى الأخص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين أفلحت، من دون أن تتطاول مباشرة على سلطة الدولة، في الحصول على شروط حقوقية أكثر مواءمة لتطورها في ظل النظام البرجوازي. لكن في عهد "الاصلاح" هذا (البرلمانية والإصلاحات الاجتماعية)، الذي تطابق بصورة رئيسية مع مرحلة الأممية الثانية، وهب التاريخ الطبقة العاملة من العقود بقدر ما وهب تقريبا البورجوازية من قرون. هذا من جهة أولى. أما من الجهة الثانية فإن البروليتاريا لم تصبح البتة، خلال تلك المرحلة التمهيدية، طبقة أكثر غنى، ولم تركز بين يديها أي قوة مادية، بل إنها لم تزدد، على العكس من ذلك، الا حرمانا من وجهة النظر الاجتماعية والثقافية. لقد وصلت البورجوازية الى السلطة مسلحة  أتم التسليح بثقافة عصرها. لكن المهمة الأولي للبروليتاريا، عقب الاستيلاء على السلطة، هي أن تضع يدها على جهاز الثقافة الذي كان فيما سبق يخدم غيرها – الصناعات، المدارس، النشر، الصحافة، المسارح، الخ - وأن تشق لنفسها بفضل هذا الجهاز طريق الثقافة.
     ومهمتنا في روسيا معقدة بحكم فقر تقاليدنا الثقافية والتدمير المادي الناجم عن أحداث السنوات العشر الاخيرة. فبعد زهاء ست سنوات من الاستيلاء على السلطة والنضال في سبيل الحفاظ عليها وتدعيمها، تجد بروليتاريا بلادنا نفسها مرغمة على استنفار جميع قوادها لخلق شروط الوجود المادية الأولية وللتدرب بكل ما في الكلمة من معنى على الف باء الثقافة. واذا كنا قد حددنا لأنفسنا كمهمة القضاء على الأمية من الآن وحتى الذكرى السنوية العاشرة لميلاد السلطة السوفياتية، فليس ذاك بلا سبب.
     قد يعترض معترض بأنني أعطي مفهوم الثقافة البروليتارية معنى أوسع مما ينبغي. فاذا لم يكن هناك مجال لإبداع ثقافة بروليتارية كاملة، مدركة تمام تطورها، فإن في وسع الطبقة العاملة على كل حال أن تنجح في وضع خاتمها على الثقافة قبل أن تنحل في المجتمع الشيوعي. والحق أنه ينبغي قبل كل شيء التنديد بمثل هذا الإعتراض بوصفه انحرافا خطيرا عن موقع الثقافة البروليتاريا. فأن تكون البروليتاريا  مطالبة، خلال عهد ديكتاتوريتها، بأن تسم الثقافة بخاتمها، فهذا أمر لا يمكن أن يوضع موضع نقاش. بيد أن البون يبقى شاسعا بين ذلك وبين الثقافة البروليتارية، إذا كنا نعني بالثقافة نظاما متطورا ومتلاحما داخليا من المعرفة والمهارة في جميع ميادين الإبداع المادي والروحي. إن وصول عشرات الملايين من البشر الى تعلم القراءة والكتابة والى معرفة العمليات الأربع يشكل بحد ذاته حدثا ثقافيا، رفيع الأهمية. فالثقافة الجديدة لن تكون في ماهيتها بالذات أرستقراطية، حكرا لأقلية صاحبة امتيازات، بل ستكون ثقافة جماهيرية، عامة، شعبية. وسيتحول الكم الى كيف أيضا: فنمو الطابع الجماهيري للثقافة سيرفع من مستواها وسيغيرها في وجوهها كافة. ولن تتقدم هذه السيرورة الا عبر سلسلة من المراحل التاريخية. ومع كل خطوة ناجحة على هذا الطريق، ستتراخى الروابط الباطنية التي تجعل من البروليتاريا طبقة، وسيتلاشى بالتالي الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه ثقافة بروليتارية.
     لكن ما شأن الشرائح العليا من الطبقة العاملة؟ طليعتها الأيديولوجية؟ ألا يمكن القول أننا نشهد من الآن في هذا الوسط، حتى ولو كان محدودا، تطور ثقافة بروليتارية؟ أليس لدينا الاكاديمية الاشتراكية؟ الأساتذة الحمر؟ إن ثمة من يقترف خطأ طرح المسألة على هذا النحو الشديد التجريد. فهو يرى الى الأمور كما لو أنه في المستطاع خلق ثقافة بروليتارية بالطرائق المخبرية. والواقع أن اللحمة الأساسية للثقافة منسوجة من العلاقات والتفاعلات القائمة بين انتلجانسيا الطبقة وبين الطبقة ذاتها. لقد حيكت الثقافة البورجوازية – التقنية، السياسية، الفلسفية، الفنية – من خلال تفاعل البورجوازية ومخترعيها وقادتها ومفكريها وشعرائها. كان القارئ يخلق الكاتب، والكاتب يخلق القارئ. وهذا يصح الى حد أكبر بكثير بالنسبة الى البروليتاريا، لأن اقتصادها وسياستها وثقافتها لا يمكن أن تشاد إلا على أساس مبادهة الجماهير الخلاقة. بيد أن المهمة الرئيسة للإنتلجانسيا البروليتارية في المرحلة الآتية مباشرة لا تكمن في تجريد ثقافة جديدة - لا تزال تفتقر الى الأساس - وإنما في العمل الثقافي العيني للغاية: مساعدة الجماهير المتأخرة مساعدة منهجية، مخططة، وبالتـأكيد نقدية، على تمثل العناصر الضرورية من الثقافة القائمة. كلا، لا يمكن إبداع ثقافة طبقية من خلف ظهر الطبقة. والحال أن بناء هذه الثقافة بالتعاون مع الطبقة، وبالإرتباط الوثيق بنهوضها التاريخي العام، يقتضي ... بناء الاشتراكية، على الأقل في خطوطها الكبرى. ومصير الصفات الطبقية للمجتمع، على هذا الطريق، ليس التضخم، وإنما على العكس التقلص التدريجي حتى درجة الصفر، طردا مع نجاحات الثورة. ولئن كانت دكتاتورية البروليتاريا تحريرية، فهذا بمعنى أنها وسيلة مؤقتة – مؤقتة للغاية -  لتمهيد الطريق ووضع الأسس لمجتمع بلا طبقات ولثقافة قائمة على التضامن.
     حتى يكون شرحنا لفكرة "مرحلة البناء الثقافي" في تطور الطبقة العاملة أكثر عينية، لنتوقف قليلا عند التعاقب التاريخي للأجيال، لا للطبقات. فالقول بأن الأجيال يخلف بعضها بعضا - حين يكون المجتمع في تقدم لا في انحطاط – يعني أن كل جيل منها يضيف وديعته إلى ما سبق للثقافة أن راكمته حتى ذلك الحين. لكن لا بد لكل جيل جديد، حتى يستطيع أن يفعل ذلك، من اجتياز فترة تدريب. فهو يتملك الثقافة القائمة، ويحولها على طريقته، ويجعلها مختلفة بقدر أو بآخر عن ثقافة الجيل السابق. وهذا التملك ليس خلاقا بعد، أي ليس إبداعا لقيم ثقافية جديدة، وإنما هو مقدمة له. وما قلناه يصلح الى حد ما، للإنطباق على مصير الجماهير الشغيلة التي ترتفع الى مستوى الخلق التاريخي. بيد أنه ينبغي فقط أن نضيف أن البروليتاريا، قبل أن تخرج من مرحلة التدريب الثقافي، تكون قد كفت أن تكون هي البروليتاريا، لنعد الى الأذهان مرة أخرى أن الشريحة العليا من الطبقة الثالثة، أي البورجوازية، أتمت تدريبها تحت سقف المجتمع الإقطاعي، وأنها تجاوزت، و هي لا تزال حبيسته، الطوائف الحاكمة القديمة من وجهة النظر الثقافية، وأنها غدت محرك الثقافة قبل أن تعتلي سدة السلطة. وليس هذا وضع البروليتاريا بوجه عام، ولا وضع البروليتاريا الروسية بوجه خاص: فقد اضطرت الى استلام مقاليد السلطة قبل أن تمتلك العناصر الأساسية من الثقافة البورجوازية؛ اضطرت الى التطويح بالمجتمع البورجوازي بالعنف الثوري على وجه التحديد لأن هذا المجتمع كان يسد دونها باب الثقافة. وتبذل الطبقة العاملة قصارى جهدها لتحول جهاز دولتها الى مضخة قوية لإطفاء عطش الجماهير الى الثقافة. وهذه مهمة لها أهمية تاريخية هائلة  .لكن اذا كنا لا نريد أن نستعمل الكلمات بخفة، فإن ذلك ليس هو بعد خلق ثقافة بروليتارية صرف. " الثقافة البروليتارية"، "الفن البروليتاري"، وما شابه ذلك من المصطلحات يستعمل عندنا في ثلاث حالات من أصل عشر حالات بدون روح نقدية للإشارة الى ثقافة المجتمع الشيوعي القادم وفنه؛ وفي حالتين من أصل عشر للاشارة الى أن بعض الشرائح الخاصة من البروليتاريا تكتسب بعض عناصر الثقافة الماقبل بروليتارية؛ وأخيرا في خمس حالات من أصل عشر لا يعدو الأمر أن يكون خليطا من الأفكار والألفاظ، لا ذنب له ولا رأس.
     إليكم مثالا جديدا، بين مئات الأمثلة الاخرى، على استخدام متهاون ومغلوط وخطر بلا أدنى نقاش لتعبير "الثقافة البروليتارية ". فقد كتب الرفيق  سيزوف يقول: "إن القاعدة الاقتصادية ونظام البنى الفوقية المناظر لها يشكلان الخاصة الثقافية لعصر ما (اقطاعي، بورجوازي، بروليتاري)". وهو بذلك يضع العصر الثقافي البروليتاري على سوية واحدة مع العصر البورجوازي. والحال أن ما يسميه هنا بالعصر البروليتاري ليس سوى الانتقال القصير الأمد من نظام إجتماعي وثقافي الى آخر، من الرأسمالية الى الاشتراكية. وقيام النظام البورجوازي سبقه هو الآخر عصر انتقال، لكن بعكس الثورة البورجوازية التي سعت، بقدر من النجاح، الى تأبيد سيطرة البورجوازية، تهدف الثورة البروليتارية الى تصفية وجود البروليتاريا كطبقة في اقصر أجل ممكن. وهذا الأجل مرهون مباشرة بنجاحات الثورة. أليس من المذهل أن نرى من يتناسى ذلك ويضع الثقافة البروليتارية على سوية واحدة والثقافة الاقطاعية أو البورجوازية؟
     اذا كان الأمر كما نقول، فهل ينجم عن ذلك  أنه ليس لدينا علم بروليتاري؟ ألا يسعنا أن نقول أن التصور الماركسي للتاريخ والنقد الماركسي للإقتصاد السياسي يشكلان عنصرين علميين لا يقدران بثمن من ثقافة بروليتارية؟ أليس في ذلك تناقض؟
     لا مراء في أن التصور الماركسي  للتاريخ ونظرية القيمة لهما أهمية كبرى سواء بوصفهما سلاحا طبقيا للبروليتاريا أو للعلم بوجه عام. و"بيان الحزب الشيوعي" يتضمن وحده من العلم أكثر مما تتضمنه مكتبات بكاملها، مكتظة بتلفيقات وتأملات وتزويرات أستاذية في الفلسفة والتاريخ. لكن هل نستطيع أن نقول على أساس ذلك أن الماركسية هي نتاج للثقافة البروليتارية؟ وهل نستطيع القول أننا نستخدم الماركسية فعلا من الآن لا في الصراعات السياسية فحسب، بل أيضا في المشكلات العلمية العامة؟   
     لقد تحدر ماركس وإنجلز من صفوف الديمقراطية البورجوازية الصغيرة، وبديهي أن ثقافة هذه الديمرقراطية هي التي كونتهما، وليس ثقافة بروليتاية ما. ولو لم توجد الطبقة العاملة بإضراباتها ونضالاتها وآلامها وانتفاضاتها، لما كانت وجدت الشيوعية العلمية، لأنه ما كانت وجدت الضرورة التاريخية لذلك. لقد شُيدت نظرية الشيوعية العلمية بكاملها على أساس الثقافة العلمية والسياسية البورجوازية، بالرغم من أنها أعلنت على هذه الأخيرة صراعا لا في سبيل الحياة، بل صراعا حتى الموت. وتحت ضربات التناقضات الرأسمالية، إرتفع الفكر الشمولي للديمقراطية البورجوازية، لدى أجرأ ممثليه وأعظمهم استقامة ونفاذ نظر، الى نفي عبقري للذات، مسلح بكل ترسانة العلم البورجوازي النقدية. ذلكم هو أصل الماركسية.
     وجدت البروليتارية في الماركسية منهجها، ولكن ليس من الوهلة الأولى، ولا حتى بشكل تام حتى يومنا هذا. هذا المنهج يخدم اليوم بصورة رئيسية، بل أكاد أقول حصرا، أهدافا سياسية. ولا يزال التطوير المنهجي للمادية الجدلية وتطبيقها الواسع على المعرفة رهن الغد. وانما في مجتمع اشتراكي فحسب، ستكف الماركسية عن أن تكون محض أداة نضال سياسي لتصبح منهج خلق علمي، والعنصر والاداة  الأساسيين للثقافة الروحية.
     لا جدال في أن كل علم يعكس بقدر أو بآخر ميول الطبقة السائدة. وكلما وضع علم من العلوم نصب عينيه في المقام الأول المهام العملية التي لها صلة  بالسيطرة على الطبيعة (الفيزياء، الكمياء، العلوم الطبيعية بوجه عام)، كانت مساهمته الإنسانية أعظم، بعيدا عن الاعتبارات الطبقية. وبالمقابل، كلما تعمق ارتباط علم من العلوم بأوالية الاستغلال الاجتماعية (الاقتصاد السياسي)، أوكلما أوغل في التعميم التجريدي للتجربة الإنسانية (كعلم النفس، لا بمعناه التجريبي والفيزيولوجي وانما بالمعنى المسمى ب"الفلسفي")، تعمقت تبعيته لأنانية البورجوازية الطبقية، وتضاءلت أهمية مساهمته في المحصلة العامة للمعرفة الإنسانية. ويعرف مضمار العلوم التجريبية بدوره درجات مختلفة من التجرد والموضوعية العلمية، وذلك تبعا لسعة التعميمات التي تتم فيه. وبوجه عام، تفصح الميول البورجوازية عن نفسها بأكبر قدر من الحرية في الدوائر العليا للفلسفة المنهجية، في "تصور العالم". لهذا كان من الضروري تنظيف بناء العلم من سافله الى عاليه، أو بتعبير أدق من عاليه الى سافله، إذ يتوجب البدء بالطوابق العليا. بيد أننا لن نكون الا سذجا لو تصورنا مع ذلك أن البروليتاريا مطالبة، قبل أن تطبق على البناء الاشتراكي العلم الموروث عن البورجوازية، بأن تخضع هذا العلم لمراجعة نقدية شاملة. ولو فعلنا ذلك لكنا أقرب ما نكون الى الأخلاقيين الطوباويين الذين يقولون: يتوجب على البروليتاريا، قبل أن تشيد مجتمعا جديدا، أن ترتقي الى مستوى الأخلاق الشيوعية. والواقع أن البروليتاريا لن تحول الأخلاق والعلم، على حد سواء، تحويلا جذريا الا بعد ان تشيد المجتمع الجديد، ولو في خطوطه العريضة. ألا نسقط هنا في حلقة مفرغة؟ وكيف السبيل الى تشييد مجتمع جديد بمساعدة العلم القديم والأخلاق القديمة؟ ان مقدارا قليلا من الجدل أمر لا بد منه هنا، من نفس ذلك الجدل الذي نسفحه بكثرة وغزارة في الشعر الغنائي، وفي الإدارة، وفي حساء الملفوف و الكاشية (1). إن الطليعة البروليتارية بمسيس الحاجة، حتى تبدأ بالعمل، الى بعض نقاط ارتكاز، الى بعض طرائق علمية قمينة بتحرير الوعي من نير البورجوازية الايديولوجي؛ وهي جزئيا متاحة لها من الآن، ولا يزال عليها جزئيا أيضا أن تقتنيها. ولئن سبق لها أن جربت منهجها الأساسي في معارك عديدة وفي شروط بالغة التنوع، فإن ذلك ليس هو العلم البروليتاري. إن الطبقة الثورية لا تستطيع أن توقف كفاحها لأن الحزب لم يقرر بعد هل عليه أن يقبل أو لا يقبل فرضية الكهارب والدوالف، ونظرية فرويد في التحليل النفسي، وعلم الوراثة، والاكتشافات الجديدة في رياضيات النسبية، الخ. صحيح أنه ستتاح للبروليتاريا، بعد الاستيلاء على السلطة، إمكانيات أعظم بكثير لتمثل العلم وإعادة النظر فيه. لكن هنا أيضا يسهل قول الأشياء بدلا من فعلها. فلا مجال لأن ترجئ البروليتاريا بناء الاشتراكية الى أن يكون علماؤها الجدد، الذين لا يزال العديدون منهم يركضون بسراويلهم القصيرة، قد تحققوا من جميع أدوات المعرفة ومن جميع سبلها وطهروها. إن البروليتايا، التي ستلفظ ولا بد كل ما يثبت عدم جدواه وزيفه ورجعيته، ستستخدم في جميع ميادين عملها البنائي طرائق العلم الراهن ونتائجه، وستأخذ بها بالضرورة مع ما تنطوي عليه من نسبة مئوية من العناصر الطبقية، الرجعية. وستبرر النتيجة العملية نفسها بنفسها في جملتها، لأن التطبيق، الخاضع لتوجيه الأهداف الاشتراكية، سيقوم تدريجيا بعملية تحقيق وانتقاء للنظرية ولطرائقها واستنتاجاتها. وإبان ذلك يكون قد نبت علماء جدد في شروط جديدة. على كل حال، يتوجب على البروليتاريا أن ترتقي بعملها البنائي الاشتراكي الى مستوى مرتفع بما فيه الكفاية، أي الى مستوى تلبية فعلية لحاجات المجتمع المادية والثقافية، قبل أن تتاح لها الإمكانية للشروع بتنظيف عام للعالم، من الاعلى الى الأسفل. ولا يدخل في نيتي هنا أن أقول أي شيء كان ضد العمل النقدي الماركسي الذي تسعى حلقات ومنتديات صغيرة كثيرة للقيام به في العديد من الميادين. فهذا العمل ضروري ومثمر. ولا بد من توسيعه وتعميقه بمختلف الصور الممكنة. بيد انه ينبغي علينا أن نحافظ على حس الإعتدال والحذر الماركسي في تقييمنا لأهمية تلك التجارب والمحاولات على ضوء البعد العام لعملنا التاريخي.
     هل ينفي ما تقدم امكانية بروز علماء ومخترعين وكتاب مسرحيين وشعراء نوابغ من بين صفوف البروليتاريا، في الوقت الذي لا نزال فيه في مرحلة الديكتاتورية الثورية؟ بتاتا. لكن من الخفة الزائدة أن نطلق اسم الثقافة البروليتارية حتى على أفضل منجزات الممثلين الفرديين للطبقة العاملة. فمفهوم الثقافة لا يجوز أن يحول الى عملة تداولية فردية، وليس في مستطاعنا أن نقيس  تقدم ثقافة طبقة من الطبقات بحسب جوازات المرور البروليتارية لهذا أو ذاك من المخترعين أو الشعراء. فالثقافة هي المحصلة العضوية للمعرفة والمهارة التي تميز كل مجتمع، أو على الأقل طبقته الحاكمة. وهي تعانق جميع ميادين الإبداع الإنساني وتتغلغل فيها وتوحدها في نظام متلاحم. والمنجزات الفردية تعلو فوق هذا المستوى وترفعه تدريجيا.
     فهل ثمة وجود لهذه الصلة العضوية بين شعرنا البروليتاري الحالي وبين النشاط الثقافي للطبقة العاملة في مجملها؟ بديهي أن لا، إن من العمال من يتمثل، فرديا أو فئويا، الفن الذي أبدعته الانتلجانسيا البورجوازية ويستخدم تقنيتها، على نحو انتقائي بالطبع في الوقت الراهن. ولكن هل ذلك بهدف التعبير عن عالمهم الداخلي، الذاتي، البروليتاري؟ بديهي أن لا. فعمل الشعراء البروليتاريين يفتقر الى تلك الخاصة العضوية التي لا يمكن أن تتأتى الا من ترابط صميم بين الفن وتطور الثقافة بوجه عام. وأعمالهم لا تعدوا أن تكون أعمالا أدبية لبروليتاريين محبوبين أو موهوبين، ولكنها ليست أدبا بروليتاريا. ولكن هل تكون، رغم ذلك، واحدا من مصادره ومنابعه؟
     لا مراء في أن عمل الجيل الحالي ينطوي على العديد من البذور والجذور والمصادر التي سيرجع اليها ذات يوم بحاثة من البحاثين، مجتهد وكدود، انطلاقا من مختلف قطاعات ثقافة المستقبل، مثلما يرجع مؤرخو الفن الحاليون من مسرح إبسن إلى تمثيليات الأسرار الدينية، أو من الانطباعية والتكعيبية الى تصاوير الرهبان. ففي بنية الفن كما في بنية الطبيعة لا يضيع شيء، كما أن كل شيء مترابط. بيد أن الإنتاج الراهن للشعراء المتحدرين من البروليتاريا لا يزال بعيدا في الواقع، في الحياة، عينيا، عن أن يتطور على سوية واحدة والسيرورة التي تهيء شروط الثقافة الاشتراكية المستقبلة، أي سيرورة تثقيف الجماهير وتربيتها.
     لقد أحزن الرفيق دوبوفسكوي، وألب عليه على ما يبدو، فئة من الشعراء البروليتاريين بمقال عبر فيه، الى جانب أفكار قابلة للنقاش، عن جملة من الحقائق المرة بالتأكيد بعض الشيء، لكن المحققة التي لا تقبل المنازعة(2). وقد وصل الى الاستنتاج التالي وهو أن الشعر البروليتاري لا يتواجد لدى جماعة "كوزنيتسا"(المصهر)، وإنما في صحف المصانع الجدارية بمؤلفيها الأغفال. وإن لفي ذلك فكرة صحيحة، وإن كان التعبير عنها لا يخلو من مفارقة. فعلى الأساس نفسه نستطيع، إذا شئنا، أن نقول بقدر مماثل من الصوابية أن ثمة اندادا بروليتاريين لشكسبير وغوته يغذون السير اليوم حفاة إلى إحدى المدارس البدائية. ولا جدال في أن فن شعراء المصانع اوثق ارتباطا بكثير من الناحية العضوية بحياة الجماهير العمالية ومشاغلها اليومية ومصالحها. لكن ليس هذا بأدب بروليتاري. وإنما هو محض تعبير مكتوب عن السيرورة الجنينية لارتفاع السوية الثقافية للبروليتاريا. وقد شرحنا آنفا أن بين الشيئين بونا شاسعا. فمراسلوا الصحف العماليون والشعراء المحليون والنقاد ينجزون عملا ثقافيا كبيرا يعزق الأرض ويهيئها لبذار المستقبل. لكن الحصاد الثقافي والفني المطلوب سيكون - لحسن الحظ !- اشتراكيا لا "بروليتاريا".
     يفصح الرفيق بلتنيف في مقال مثير للاهتمام حول "سبل الشعر البروليتاري"(3) عن فكرة مؤداها أن أعمال الشعراء البروليتاريين لعلى جانب عظيم من الأهمية، بصرف النظر عن قيمتها الفنية، بحكم ارتباطها المباشر بحياة الطبقة. ومن خلال الأمثلة التي يضربها الرفيق بلتنيف على الشعر البروليتاري يكشف للعيان، بصورة مقنعة الى حد ما، عن التغيرات في ذهنية الشعراء البروليتاريين، بالترابط مع التطور العام للحياة ونضالات البروليتاريا. ومن هنا بالذات يدلل الرفيق بلتنيف على أن نتاج الشعر البروليتاري – ليس كله، وانما الكثير منه – يشكل وثائق هامة في تاريخ الفن. لكن هذا لا يعني انها وثائق فنية. يكتب الرفيق بلتنيف عن شاعر عامل إرتفع بنفسه من المشاعر الدينية الى روح ثورية مناضلة: "أما وأن قصائده ضعيفة، قديمة الشكل، مليئة بالأخطاء، فهذا ما أسلم به، لكن ألا تشير الى طرق تقدم الشاعر البروليتاري؟". بلا شك: فالأشعار حتى عندما تكون ضعيفة، بل حتى عندما تكون عديمة الرونق ومليئة بالأخطاء، قمينة بأن تدل على طريق التقدم السياسي لشاعر من الشعراء ولطبقة من الطبقات، ومن الممكن أن يكون لها دلالة عظيمة كظاهرة ثقافية. بيد أن القصائد الضعيفة، وكم بالأحرى تلك التي تنم عن جهل الشاعر، لا تدخل في باب الشعر البروليتاري لأنها، بكل بساطة، لا تدخل في باب الشعر أصلا. ومن المثير للإهتمام أن نلاحظ أن الرفيق بلتنيف، اذ يقيم توازيا بين التطور السياسي للشعراء العمال والتقدم الثوري للطبقة العاملة، يشير بصواب كبير الى أن الكتاب شرعوا منذ بضع سنوات، ولاسيما ابتداء من عهد السياسة الاقتصادية الجديدة، ينفصلون عن الطبقة العاملة، ويفسر الرفيق بلتنيف "ازمة الشعر البروليتاري" – المتواكبة بميل الشكلية والى ... الجهالة المدعية – بنقص تكوين الشعراء السياسي وبقلة الانتباه الذي يخصهم به الحزب. وينجم عن ذلك، على حد قول بلتنيف، أن الشعراء "لم يقاوموا الضغط الهائل للايديولوجيا البورجوازية: بل طأطؤوا الرأس امامه أو هم في سبيلهم الى فعل ذلك". إن هذا التفسير غير كاف بالمرة. أي "ضغط هائل للايديولوجيا البورجوازية" يمكن أن يوجد عندنا؟ المبالغة غير جائزة. ونحن لن ندخل في نقاش لمعرفة هل كان ام لم يكن في مستطاع الحزب أن يفعل أكثر مما فعل لصالح الشعر البروليتاري. فهذا لا يكفي لتفسير ضعف قدرة هذا الشعر على المقاومة، كما أن ضعف القدرة هذا لا تعوض عنه إيماءات "طبقية" حادة (على طريقة بيان "كوزنتسا"). ولب المسألة يكمن في أن الشعراء البروليتاريين في مرحلة ما قبل الثورة وفي المرحلة الأولى من الثورة كانوا لا يعتبرون نظم الشعر فنا له قوانينه الخاصة، بل كانوا يرون فيه وسيلة للشكوى من مصيرهم التعيس أو للإعراب عن مشاعرهم الثورية. لم يتنطع الشعراء البروليتاريون للشعر كفن وصنعة الا في الأعوام الأخيرة، بعد أن سكن قليلا توتر الحرب الأهلية. وقد اتضح في الوقت نفسه أن البروليتاريا لم تخلق بعد في قطاع الفن وسطا ثقافيا، بينما تتمتع الإنتليجانسيا البورجوازية بمثل هذا الوسط بصرف النظر عن جودته أو رداءته. وليست النقطة الأساسية أن الحزب أو قادته لم يقدموا "المساعدة الكافية"، وانما أن الجماهير لم تكن مهيأة فنيا. والحال أن الفن يتطلب كالعلم تهيئة وإعدادا. ان طبقتنا العاملة تملك ثقافتها السياسية - الى حد يكفي لتأمين ديكتاتورياتها - لكنها لا تملك ثقافة فنية. لقد كان لأشعار الشعراء البروليتاريين، ما داموا يسيرون في صفوف التشكيلات الكفاحية المشتركة، قيمتها كوثائق ثورية كما قلنا. ولكنهم حين اضطروا الى مواجهة مسائل الصنعة والفن، طفقوا بإرادتهم أو بغير إرادتهم يبحثون لأنفسهم عن وسط جديد. ليست المسألة اذن هنا محض مسألة قلة انتباه واهتمام، وانما مسألة شروط تاريخية أبعد غورا وأعمق. بيد أن هذا لا يعني البثة أن الشعراء العمال الذين دخلوا في هذه المرحلة من الأزمة قد خسرتهم البروليتاريا بصورة نهائية. واملنا وطيد بأن بضعة شعراء منهم على الأقل سيخرجون من هذه الأزمة وقد اشتد عودهم وقوي ساعدهم. مرة أخرى نقول ان هذا لا يعني أن جماعات الشعراء العمال الحاليين مقيض لها أن تضع الأسس الثابتة التي لا تتزعزع لشعر جديد وعظيم. لاشيء من ذلك بتاتا. وفي أرجح الظن، سيكون ذلك وقفا على الأجيال القادمة التي لا بد أن تمر هي الأخرى بمراحل من التأزم، لانه لا بد أن تبرز الى حيز الوجود ولأمد طويل انحرافات كثيرة تقع فيها الجماعات والحلقات وترددات واخطاء إيديولوجية وثقافية عديدة تكمن علتها العميقة في نقص النضج الثقافي لدى الطبقة العاملة.
     إن التدرب على التقنية الأدبية يمثل وحده مرحلة لا غنى عنها وتتطلب زمنا. والتقنية تلاحظ بأجلى صورة لدى من لا يمتلكها. وفي وسعنا أن نقول بحق عن الكثيرين من الشعراء الشبان البروليتاريين انهم ليسوا هم الذين يمتلكون التقنية، وانما التقنية هي التي تسيطر عليهم. ولا يعدو الأمر بالنسبة الى بعضهم، الموهوبين منهم، أن يكون أزمة نمو. أما أولئك الذين لن يقدروا أبدا على امتلاك التقنية، فسيظهرون دائما "متكلفين"، مقلدين، متصنعين. ومن فاحش الخطأ أن نستنتج من ذلك أن العمال لا حاجة بهم إلى تقنية الفن البورجوازي. بيد أن الكثيرين  يقعون في هذا الخطأ، فتراهم يقولون: "أعطونا شيئا خاصا بنا، حتى وإن كان قبيحا، ولكن ليكن خاصا بنا". ان مثل هذا الكلام خاطئ وخادع. فالفن القبيح ليس فنا، ولا حاجة بالتالي للشغيلة به، ان امتثالية "القبح"، التي تحمل بين طياتها في الواقع قسطا لا بأس به من الازدراء للجماهير، لبالغة الأهمية بالنسبة الى ذلك الطراز الخاص من الساسة الذين كلهم ريبة وشك بقوة الطبقة العاملة وان كانوا يتملقونها ويشيدون بها حين "يسير كل شيء على ما يرام ". ومن وراء الغوغائيين و الديماغوجيين، يردد الابرياء السذج تلك الصيغة التبسيطية شبه البروليتارية.  وليس هذا من الماركسية بشيء، وإنما هو ضرب من نزعة شعبوية  رجعية،  عليها القليل من طلاء الايديولوجيا "البروليتارية". إن الفن الموجه الى البروليتاريا لا يمكن أن يكون فنا رديء النوعية. لا مناص من التعلم، بالرغم من ان "الدراسات" – التي تتم بالضرورة لدى العدو - لا تخلو من شيء من الخطر. لا مناص من التعلم، ومن الواجب أن تقاس أهمية المنظمات التي من شاكلة "برولتكولت"(4) على سبيل المثال، لا بالسرعة التي تخلق بها أدبا جديدا. وإنما بمساهمتها في رفع المستوى الأدبي للطبقة العاملة، ابتداء من شرائحها العليا.
     ان تعابير من شاكلة "الأدب البروليتاري" و"الثقافة البروليتارية" خطرة من حيث أنها تضغط بصورة مصطنعة المستقبل الثقافي في إطار الحاضر الضيق، وتشوه المنظورات، وتضرب بعرض الحائط الأبعاد، وتزيف المعايير، وتنمي على نحو بالغ الخطورة عجرفة الحلقات الصغيرة.
     لكن إذا نبذنا مصطلح "الثقافة البروليتارية"، فماذا نفعل عندئد ب"البرولتكولت"؟ لنتفق إذن على أن "البرولتكولت" يعني "النشاط الثقافي للبروليتاريا"، أي النضال المسعور في سبيل رفع المستوى الثقافي للطبقة العاملة. وفي الحقيقة، لن تتناقص أهمية "البرولتكولت" شعرة واحدة بنتيجة هذا التأويل.
***
 
     يعلن  الكتاب البروليتاريون من جماعة "كوزنتسا"، في بيانهم المنهاجي الذي سبق ان أتينا بذكره، أن "الاسلوب هو الطبقة"، وأن الكتاب الذين من أصل اجتماعي أخر لا يسعهم، بالتالي، أن يخلقوا أسلوبا فنيا يتجاوب وطبيعة البروليتاريا. ومن هنا يبدو أنه من الغني عن البيان أن جماعة "كوزنتسا"، التي هي بروليتارية بتكوينها واتجاهها معا، هي في سبيلها الى إبداع الفن البروليتاري.
     "الأسلوب هو الطبقة". بيد أن الأسلوب لا يولد مع الطبقة في زمن واحد. فالطبقة تعثر على أسلوبها بسبل بالغة التشابك والتعقيد. وما أبسط الأمر لو أن الكاتب يستطيع، بمجرد أنه بروليتاري وفيّ لطبقته، أن يقف في مفترق الطرق ليعلن: "أنني أسلوب البروليتاريا!".
     "الأسلوب هو الطبقة"، لا في الفن فحسب، وإنما في السياسة قبل كل شيء. والحال أن السياسة هي المضمار الوحيد الذي أبدعت فيه البروليتاريا أسلوبها الخاص فعلا. كيف؟ ليس بالمرة عن طريق هذا القياس الساذج: لكل طبقة أسلوبها، البروليتاريا طبقة، إذن هي تعهد إلى هذه الجماعة البروليتاريا أو تلك بصياغة أسلوبها السياسي. كلا، لقد كان الطريق أشد تعقيدا بكثير. فإنشاء السياسة البروليتارية قد مر بالإضرابات الاقتصادية، بالنضال في سبيل حق الاتحاد، بالطوباويين الانكليز والفرنسيين، بمشاركة العمال في المعارك الثورية بقيادة الديمقراطية البورجوازية، ب"بيان الحزب الشيوعي"، بتأسيس الاشتراكية-الديمقراطية التي تخضع مع ذلك في مجرى الأحداث ل"أسلوب" طبقات اخرى، بانشقاق الاشتراكية-الديمقراطية وانفصال الشيوعيين، بنضال الشيوعيين في سبيل الجبهة الموحدة، وبسلسلة من المراحل التي لا تزال في قلب الغيب. وكل ما يتبقي من طاقة للبروليتاريا بعد تلبيتها المطالب الأساسية للحياة ذهب ويذهب الى إنشاء ذلك "الأسلوب" السياسي. ولئن كان الصعود التاريخي للبورجوازية قد تم بتعادل نسبي في جميع ميادين الحياة الاجتماعية، اذ راحت البورجوازية تغتني وتتنظم وتكوّن نفسها فلسفيا وجماليا وتراكم عادات السيطرة والهيمنة، فان سيرورة تقرير المصير الذاتي تتلبس بالنسبة الى البروليتاريا، بوصفها طبقة محرومة اقتصاديا، طابعا سياسيا ثوريا أحادي الجانب الى حد كبير، يجد أعلى تعبير له في الحزب الشيوعي.
     إذا كنا نريد أن نقارن صعود البروليتاريا الفني بصعودها السياسي، فلا بد من القول بأن المرحلة التي نحن فيها حاليا في مضمار الفن هي على وجه التقريب عين المرحلة التي كانت تتلاقى فيها الحركات الجماهيرية الأولى الغضة العود مع جهود الانتلجانسيا وبعض العمال لتشييد أنظمة طوباوية. إننا نتمنى من كل قلوبنا لشعراء "كوزنتسا" أن يسهموا بقسطهم في إبداع فن المستقبل الذي سيكون اشتراكيا على الأقل، وإن لن يكون بروليتاريا. لكن من الخطأ الذي لا يغتفر في الطور الراهن، البدائي للغاية، من تلك السيرورة أن نمنح "كوزنتسا" احتكار التعبير عن "الأسلوب البروليتاري". فنشاط "كوزنتسا" نسبة الى البروليتاريا يتموضع على نفس مستوى نشاط "ليف"(5) و"كروغ" وغيرهما من الجماعات التي تسعى الى التعبير عن الثورة فنيا. وبصدق ونزاهة نقول أننا لا نعرف أي  الجماعات ستسهم بالقسط الأعظم.
     ان بيان "كوزنتسا" يصور الوضع الراهن في مضمار الفن بألوان قاتمة جدا واتهامية: "لقد ظهرت السياسة الاقتصادية الجديدة، بوصفها مرحلة من مراحل الثورة، الى حيز الوجود في مناخ فن يشبه مهارة الغوريلا". و"على هذا كله تُنفق الموارد المالية... فبييلنسكي لم يعد له من أنداد. وعلى صحراء الفن يخيم الغسق ... لكننا نرفع صوتنا ونعلي الراية الحمراء"، الخ. وعن الفن البروليتاري تتكلم الجماعة بألفاظ مفخمة، بل طنانة، بوصفه فن المستقبل من ناحية، وفن الحاضر من ناحية ثانية: "أن الطبقة العاملة المتراصة تبدع فنا على صورتها ونظيرها. ولغتها الخاصة، بأصواتها المتعددة وألوانها الغنية وصورها الثرة، تيسر ببساطتها ووضوحها ودقتها ظهور اسلوب عظيم". اذا كان الأمر كذلك، فمن أين أتت إذن صحراء الفن، ولماذا يخيم فوقها بالضبط الغسق؟ ان هذا التناقض الصارخ لا يمكن أن يكون له سوى تفسير واحد: أن واضعي البيان يعارضون الفن الذي تحميه الحكومة السوفياتية، والذي هو صحراء يخيم عليها الغسق، بفن بروليتاري "رحب الأفق وعظيم الأسلوب"، وإن كان لا يحظى بالتقدير اللازم، اذ لم "يعد هناك وجود لبييلنسكي"، وإنما حل محله بعض "رفاق صحفيين تحدروا من صفوفنا واعتادوا أن يجروا كل شيء بالرسن". ومع أني مهدد بدوري بان ادرج في "أخوية الرسن" فإني ساقول أن بيان "كوزنتسا" مشبع بعجرفة فئوية أكثر مما هو مشبع بروح رسلية طبقية. ان "كوزنتسا" تتحدث عن نفسها بوصفها الحامل الأوحد للفن الثوري، مثلها في ذلك بالضبط مثل المستقبليين والتخيليين و"الاخوان سيرابيون"(6) وغيرهم. أين هو، يارفاق، ذلك الفن "الرحب الأفق، العظيم الأسلوب، ذلك الفن الأبهي"؟ أين؟ الحق أنه كيفما قيَّمنا عمل هذا الشاعر أو ذاك من الشعراء ذوي الأصل البروليتاري – والحاجة هنا ماسة بالطبع الى عمل ناقد يقظ له فرديته الكاملة - فلا وجود لفن بروليتاري. لا يجوز أن نلعب بالكلمات الكبيرة. ليس صحيحا أنه ثمة وجود لأسلوب بروليتاري، وفضلا عن ذلك، رحب الأفق وأبهي. وإذا كان موجودا فأين؟ في ماذا؟ إن الشعراء البروليتاريين هم الآن في مرحلة التدريب، وفي وسعنا، حتى من دون أن نلجأ الى الطرائق المجهرية التي تستخدمها المدرسة الشكلية، أن نحدد التأثير الذي تمارسه عليهم مدارس أخرى، وفي المقام الاول مدرسة المستقبليين. هذا ليس  مأخذا عليهم، إذ ليس في الأمر من خطيئة. لكن لن يتمكن أي بيان من خلق أسلوب بروليتاري أبهي.
     يتشكى أصحابنا قائلين: "ليس هناك من بييلنسكي". ولو كنا ملزمين بأن نأتي بالدليل القانوني على أن نشاط "كوزنتسا" مشبع بالذهنية السائدة في العالم الصغير المغلق للأنتيلجانسيا وفي حلقاتها الصغيرة ومدارسها الصغيرة، لوجدناه في هذه العبارات الحزينة: "ليس هناك من بييلنسكي". بديهي أننا لا نتكلم هنا عن بييلنسكي بوصفه شخصا، وإنما نتكلم عنه بوصفه ممثل تلك السلالة من النقاد االروس التي ألهمت الأدب القديم وسددت خطاه. وأصحابنا من جماعة "كوزنتسا" لم يتبينوا أن تلك السلالة لم يعد لها من وجود، وبالتحديد منذ أن اعتلت الجماهير العمالية خشبة المسرح السياسي. لقد كان بليخانوف في أحد جوانبه، وفي أهم جوانبه، بييلنسكي الماركسي، الممثل الأخير لتلك السلالة النبيلة من الكتاب. فعن طريق الأدب فتح بييلنسكي وانداده منفسا للرأي العام في عصرهم. وهذا ما كأنه دورهم التاريخي. فقد كان النقد الادبي ينوب عن السياسة ويمهد الطريق لها. وما كان محض أوهام وخيالات لدى بييلنسكي وسائر ممثلي النقد الجذري تلقى في زماننا هذا جسد ودم أكتوبر، وصار هو الواقع السوفياتي. ولئن لعب كل من بييلنسكي وتشيرنيشفسكي ودوبروليوبوف وبيسارييف وميخائيلوفسكي وبليخانوف، كل بطريقته الخاصة، دور الملهم العام للأدب، وعلى الأخص دور الملهم الأدبي للرأي العام الوليد، افلا يبدو الآن رأينا العام بأسره، بسياسته وصحافته واجتماعاته ومؤسساته، الترجمان الكافي عن سبله وطرقه الخاصة؟ إن حياتنا الإجتماعية بأسرها مسلط عليها ساطع الأضواء، فالماركسية تنير جميع مراحل نضالنا، وكل مؤسسة من مؤسساتنا تخضع من كل جوانبها لقصف النقد المتواصل. والتفكير في مثل هذه الشروط ببييلينسكي بزفرات أسف يزيح النقاب – وآأسفاه‌!‍‍ وآأسفاه!- عن روح استنكاف وعزوف مميزة للحلقات الفكرية الصغيرة، على أسلوب (ليس فيه من الأبهة شيء) شعبوي يساري، ملؤه الورع والتقوى. "ليس ثمة من بييلنسكي". لكن بييلنسكي لم يكن في خاتمة المطاف ناقدا أدبيا بقدر ما كان دليلا ومرشدا للرأي العام في عصره. ولو أمكن لفيساريون بييلنسكي أن يرتد الى الحياة في أيامنا هذه، لكان صار في أرجح الظن – نحن لا نخفي ذلك عن "كوزنتسا" – عضوا في ...المكتب السياسي. بل ربما صرّف الأمور برسن مرخي، أما كان يتشكى بالفعل من إضطراره إلى اسماع الناس شجي النغمات، وهو الذي كانت طبيعته تقضي عليه بالعواء كابن آوى؟.
***
     ليس من قبيل المصادفة البتة أن يسقط شعر الحلقات الصغيرة، وهو يبذل قصارى جهده لكي يقهر عزلته، في رومانسية باهتة، هي رومانسية النزعة "الكونية". ومؤدى الكونية ما يلي: ينبغي أن نحس بالعالم كوحدة، وأن نحس أنفسنا جزءا فعالا من هذه الوحدة، مع التطلع لا إلى التحكم بالأرض وحدها، وانما بالكون كله في المستقبل، وهذا بلا أدنى شك رائع وفي منتهى العظمة. فقد كنا نقطن في كورسك أو كالوغا البسيطتين، وها نحنذا قد استولينا على روسيا بأسرها، ونشق طريقنا نحو الثورة العالمية. فهل ينبغي علينا أن نكتفي ب"الحدود الأرضية" ؟ ألا فلنضع فورا الطوق البروليتاري حول برميل الكون. هل ثمة أسهل من ذلك؟ نحن نعرف كيف نتدبر أمرنا، ولا نخشى كائنا من كان!
     تبدو الكونية، أو يمكن أن تبدو، في منتهى الجرأة والقوة والثورية والبروليتارية. أما في الواقع فنلفى في الكونية عناصر تتاخم الفرار: فأنصارها يهربون من القضايا الأرضية الشائكة - والبالغة الخطورة في ميدان الفن – ليحتموا بالأفلاك النجمية. من هنا تفصح الكونية عن آصرة قربى غير متوقعة بالمرة بالصوفية. وبالفعل، إن رغبة المرء في إدخال مملكة النجوم إلى تصوره الفني للعالم، لا على نحو تأملي فحسب وإنما بصورة موجبة فعالة، هي مهمة عسيرة بالأحرى، بصرف النظر حتى عن المعارف المتوفرة له في علم الفلك، ناهيك عن أنها، على كل حال، غير مستعجلة بالمرة ... ولا يشق علينا أن نتبين أخيرا أن الشعراء إذا ما صاروا "كونيين" فليس ذلك لأن سكان درب المجرة يطرقون أبوابهم بإلحاح ويطلبون منهم جوابا، وإنما لان المعضلات الأرضية، التي لا تخفض جناحها الا ببالغ العسر للأداء الفني، تحثهم على الوثوب إلى عالم الغيب. بيد أنه لا يكفي أن يسمى المرء نفسه "كونيا" حتى يمسك بالنجوم في السماء، ولا سيما ان الكون منسوج بالفراغات ما بين النجوم أكثر منه بالنجوم بالذات. ونزوعهم المريب هذا الى سد ثغرات تصورهم و ثغرات عملهم الفني بمادة دقيقة كل الدقة، هي مادة المساحات الفضائية ما بين النجوم، ينذر بأن يجر بعض "الكونيين" الى أدق المواد وأرهفها، الروح القدس، الذي يرقد فيه عدد أكثر من وافٍ من الشعراء المتوفين.
    ومما يزيد من خطورة الأنشوطات المتحركة والشباك الملقاة حول الشعراء البروليتاريين أن هؤلاء الشعراء لا يزالون غضاض العود، بل شبه مراهقين. والثورة المظفرة هي التي أيقظت غالبيتهم على الشعر. فقد ولجوا عالمه من دون ان يكتمل تكوينهم بعد، محمولين على أجنحة العفوية والزوبعة والإعصار... والحق أن هذا الثمل البدائي استولى ايضا على نفوس كتاب بورجوازيين تماما، وكانت عاقبته صداع رأس رجعيا وصوفيا وما أشبه. أما المصاعب والإمتحانات الحقيقية فقد بدأت حين تباطأ إيقاع الثورة، وصارت الأهداف أكثر سديمية، وما عاد يكفي أن يسبح المرء في التيار وأن يبلع الماء ويصنع فقاقيع، وبات مطالبا بأن يدلل على  تيقظ وتبصر وبأن يتخندق ويحكم في نتائج الوضع. وعندئد  برز الإغراء: إلى الأمام نحو الكون! أما الأرض؟ أما الارض فمن الممكن أن تكون بالنسبة الى "الكونيين"، كما بالنسبة للصوفيين، وسيلة وواسطة.
     إن شعراء عصرنا الثوريين بحاجة الى جيد المسقى(7)، والسقاية الأخلاقية هنا، وأكثر منها في أي مكان آخر، لا تقبل انفصالا عن السقاية الفكرية. انهم بحاجة الى تصور عن العالم، وبالتالي الى تصور عن الفن متماسك، مرن، مدعم بالوقائع. وحتى نفهم المرحلة الزمنية التي نحيا فيها لا فهما صحفيا وإنما بصورة فعلية عميقة، ينبغي أن نعرف ماضي الإنسانية، حياتها، كدحها، نضالاتها، آمالها، هزائمها ونجاحاتها. ولا مراء في أن علم الفلك و علم نشأة الكون شيء رائع! لكن ما تنبغي معرفته في المقام الاول هو التاريخ الإنساني والحياة المعاصرة في مختلف قوانينها وفي واقعها الفذ والشخصي.
***
     من المثير للفضول أن نلاحظ أن أولئك الذين يفبركون صيغ الشعر البروليتاري المجردة يمرون عادة مرور الكرام بشاعر له الحق، أكثر من أي واحد آخر، في لقب شاعر روسيا الثورية. وتعريف ميول هذا الشاعر وقواعده الإجتماعية لا يقتضي منهجا نقديا معقدا: فدميان(8) حاضر أمامنا بكليته، دفعة واحدة. ليس هو بشاعر اقترب من الثورة، انخفض اليها، ارتضى بها؛ بل هو بلشفي سلاحه الشعر. وهنا بالتحديد تكمن قوة دميان الخارقة للمألوف. الثورة بالنسبة إليه ليست مادة للإبداع، بل هي المحكمة العليا، المحكمة التي وضعته بذاته في منصبه. كتابته خدمة اجتماعية، لا "في خاتمة الحساب" كما يقال عن الفن بوجه عام، بل أيضا ذاتيا، في وجدان الشاعر بالذات. وهذا من الأيام الاولى لخدمته التاريخية. فقد اندمج بالحزب، شب عن الطوق معه، مر بمختلف أطوار تطوره، تعلم يوما بعد يوم كيف يفكر ويحس مع الطبقة العاملة، وكيف يعيد انتاج عالم الأفكار والأحاسيس هذا في شكل مركز بلغة الشعر، تارة بدهاء الحكايات، وطورا بكآبة الأغاني وجرأة المقطعات الهجائية، تارة بسخط، وطورا بإطلاقه نداءات مدوية. لا هواية في غضبه وكرهه. انه يكره بالكره الصافي للحزب الأكثر ثورية في العالم. لديه أشياء ذات قوة هائلة تنم عن "معلمية" ناجزة، ولديه أيضا عدد لا بأس به من الأشياء التي لا تتجاوز المستوى الصحفي، اليومي، الثانوي المرتبة. وذلك يرجع الى أن دميان لا ينتظر، لكي يبدع، الفرص النادرة التي يدعو فيها ابولون الشاعر الى الذبيحة الإلهية، بل يعمل كل يوم، بحسب مقتضيات الأحداث .. واللجنة المركزية. بيد أن عمله يؤلف، اذا أخذناه في مجمله، ظاهرة جديدة مطلق الجدة، فريدة في نوعها. وليفتش بعدئذ صغار الشعراء من مختلف المدارس ممن لا يكرهون أن يتهكموا على دميان – بقولهم: أنظروا الى هذا الشويعر!-  ليفتشوا في ذاكرتهم علهم يعثرون على شاعر آخر له، بأشعاره، مثل ذلك التأثير المباشر والفعال على الجماهير! وأي جماهير؟ ملايين العمال والفلاحين والجنود الحمر! وفي أي زمن؟ في زمن هو أعظم الأزمان قاطبة!
     لم يبحث دميان عن أشكال جديدة. بل انه يستخدم علانية وجهارا الأشكال القديمة المكرسة، المطوبة. لكن هذه الأشكال تعرف لديه بعثا حقيقيا، بصفتها وسيلة نقل منقطعة النظير لعالم الأفكار البلفشي. لم يخلق دميان ولن يخلق أبدا مدرسة؛ بل هو نفسه خلقته مدرسة تعرف باسم حزب روسيا الشيوعي، تلبية لحاجات عصر عظيم لن يكون له ند. ولو نحينا جانبا مفهوم الثقافة البروليتارية الميتافيزيقي كي نرى الى الاشياء من وجهة نظر ما تقرؤه البروليتاريا، ماهي بحاجة اليه، ما يستهويها ويثير حماستها ويدفع بها الى العمل، ما يرفع من مستواها الثقافي ويمهد بالتالي الميدان لفن جديد، نجد أن عمل دميان بييدني أدب بروليتاري فعلا وشعبي حقا، أي أدب ضروري حيوي الضرورة لشعب يستيقظ. قد لا يكون شعرا "أصيلا"، لكنه شيء أعظم من ذلك.
     كتب ذات يوم رجل ليس في عداد الأواخر في التاريخ، هو فردينان لاسال، في رسالة موجهة الى ماركس وانجلز في لندن: "كم يحلو لي أن أعزف عن كتابة ما أعرفه، كي أحقق جزءا فقط  مما أستطيعه".
     بهذه الروح، يمكن لدميان أن يقول، لو شاء، عن نفسه: "يحلو لي أن أترك للآخرين مهمة الكتابة بأشكال جديدة وأكثر تعقيدا عن الثورة، بشرط أن أتمكن من الكتابة بنفسي بالأشكال القديمة من اجل الثورة".
 
 
 
 
 
سياسة الحزب في الفن
 
 
     طفق مؤخرا بعض الكتاب الماركسيين يلجؤون الى وسائل المجازر الجماعية تجاه المستقبليين و"الاخوان سيرابيون" والتخيليين، بوجه عام، تجاه جميع رفاق الدرب، جماعيا وفرديا. ولسنا ندري لماذا درجت، بوجه الخصوص، موضة التحريض على بلنياك، حتى بات المستقبليون أنفسهم يشاركون فيها. لا جدال في أن بلنياك،  في بعض  جوانبه، مثير للسخط: قدر من الخفة أكبر مما ينبغي في كبريات المسائل، كثير من التكلف والتصنع، غلو في الغنائية المصطنعة.. لكن بلنياك أبان للعيان على نحو جدير بالإعجاب الجانب الريفي والفلاحي من الثورة، "قطار ميشوتثسنيكي"(9)، وبفضل بلنياك عاينا ذلك كله على نحو جلي ملموس الى حد لا يقارن مع ما كانت عليه الحال في السابق. وفسيفولد ايفانوف؟ ألم تزدد معرفتنا بروسيا بكل اتساعها وتعدد أجناسها اللامتناهي وحالتها المتأخرة وقوتها، ألم يزدد أحساسنا بها، بعد "النصير" و"القطار المصفح" و"الرمال الزرق"، بالرغم من كل الأخطاء في بنائها، ومن أسلوبها المتقطع، بل وتكلفها؟ أويمكن حقا استبدال هذه المعرفة المباشرة، المزخرفة بالصور والمجازات، بمبالغات المستقبليين، أو بالإنشاد الرتيب للأجهزة الوسيطة، أو بتلك المقالات الصحفية الصغيرة التي لا تفعل شيئا، يوما بعد يوم، سوى اعادة تركيب الكلمات الثلاثمئة عينها في أشكال منوعة ؟ احذفوا بالفكر بلنياك وفسيفولد ايفانوف من حياتنا اليومية، نجد أنفسنا وقد أصابنا فقر ملموس... ولقد كان الهدف الآخر الذي وقع عليه اختيار منظمي الحملة الصليبية على رفاق الدرب – التي يشنونها دونما اعتبار كافٍ للمنظورات والأبعاد – هو الرفيق فورونسكي، رئيس تحرير "كراسانايا نوف"(10)، ومدير منشورات "الحلقة"، بصفته نجيا ومؤتمنا على السر، بل بصفته شريكا أو شبه متواطئ. إننا نعتقد أن الرفيق فورونسكي يؤدي – بناء على أمر الحزب – عملا أدبيا وثقافيا هاما، كما نعتقد أن اصدار أمر أو مرسوم في بيان مقتضب – مع زقزقة عصافير – بانشاء الفن الشيوعي أسهل وأيسر قطعا من العمل و الكد في تحضيره واعداد العدة له، مع  كل ما يتطلب ذلك من عناية واهتمام.
     بصدد "الشكل"، يسلك  نقادنا الطريق الذي سبق أن فتحته مجموعة "راسباد"، في عام 1908. بيد أنه ينبغي أن نفهم ونقيِّم التغيرات التي طرأت على الأوضاع التاريخية، والتوزيع الجديد للقوى الذي تحقق منذ ذلك الحين. فيومئد كنا حزبا مقهورا ومرغما على السرية. وكانت الثورة في جزر، بينما كانت ثورة ستوليبين(11) والفوضويين- الصوفيين المضادة تتقدم على امتداد الخط كله. وفي الحزب نفسه كان المثقفون يلعبون دورا لا يتناسب وأهميتهم، كما كانت جماعات المثقفين المنتمية الى الأسر السياسية الأخرى تؤثر في بعضها بعضا. وفي مثل تلك الشروط ، وحماية منا لأساليبنا في النظر والتفكير، كان علينا بحكم الواجب أن نكافح جميع أشكال التعبير الأدبي للرجعية.
     أما اليوم، فالوضع يختلف كل الاختلاف. فقانون الجاذبية، الذي يفعل فعله لصالح الطبقة الحاكمة والذي يحدد، في التحليل الأخير، نشاط المثقفين الإبداعي، يعمل الآن لصالحنا. وبدالَّة ذلك، ينبغي علينا أن نعرف كيف نرسم وننشيء سياسة فنية.
     ليس صحيحا أن الفن الثوري لا يمكن أن يرى النور الا على أيدي العمال. فعلى وجه التحديد لان الثورة عمالية فانها تحرر – لنكرر ذلك- كمية واهية من طاقة الطبقة العاملة في مضمار الفن. ان أعظم آثار الثورة الفرنسية، الآثار التي تعكسها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، رأت النور على أيدي فنانين ألمان أو أنكليز أو غيرهم، لا على أيدي الفرنسيين. فالبورجوازية الفرنسية، التي كانت مشغولة بصنع الثورة، لم تكن تملك ما فيه الكفاية من القوى لتحفر بنفسها خاتمها. وهذا ينطبق على البروليتاريتا أكثر أيضا: فثقافتها الفنية أضعف وأوهى بكثير من ثقافتها السياسية. وللمثقفين، فضلا عن جميع المكاسب التي يعود بها عليهم تخصصهم، امتياز بغيض يتيح لهم أن يحافظوا على موقف سياسي سلبي، مشوب بقدر أو بآخر من التعاطف تجاه اكتوبر. فلا  غرو أن يقدموا عن الثورة صورا أفضل – حتى ولو كانت مشوهة بقدر أو بآخر – من تلك التي تقدمها البروليتاريا المشغولة بصنع الثورة. إننا لا نجهل حدود رفاق الدرب وتذبذبهم وتأرجحهم. ولكن اذا نحينا جانبا بلنياك و"سنته العارية" و"الاخوان سيرابيون" مع فسيفولود ايفانوف وتيخونوف وبولونسكايا، واذا استبعدنا ماياكوفسكي وإيسنين، فماذا يتبقى لنا سوى بعض الكمبيالات غير المدفوعة، مسحوبة على أدب بروليتاري لا يزال رهن المستقبل؟ أما دميان بييدني – الذي لا يدخل في عداد رفاق الدرب – فلا يمكن ان ينحى جانبا، على ما نأمل، بل إنه يمت بصلة قربى الى الأدب البروليتاري بالمعنى الذي يحدده بيان "كوزنتسا". أجل، ماذا يتبقي لنا بدونهم؟
     هل يعني هذا ان الحزب يقف، خلافا لمبادئه، موقفا انتقائيا في مضمار الفن؟ إن الحجة، التي تريد نفسها ساحقة، هي صبيانية لا أكثر. فالماركسية تتيح امكانيات شتى: تقييم تطور الفن الجديد، تتبع تحولاته كافة، تشجيع التيارات التقدمية بواسطة النقد. فهل في وسعنا أن نطالبها بأكثر من ذلك؟ إن على الفن أن يشق طريقه بنفسه. وطرائقه ليست هي طرائق الماركسية. وإذا كان الحزب يقود البروليتاريا، فإنه لا يقود السيرورة التاريخية. أجل، ثمة ميادين يتولى فيها القيادة بصورة مباشرة، آمرة. وثمة ميادين يشرف فيها ويشجع، وثمة أخرى يكتفي فيها بالتوجيه. ليس الفن ميدانا يتطلب قيادة الحزب. فهذا الأخير يحمي، يحفز، ولا يقود الا بصورة غير مباشرة. إنه يمحض ثقته للجماعات التي تصبو بصدق الى الإقتراب من الثورة، ويشجع على هذا النحو إنتجاها الفني. لكنه لا يستطيع أن يتبنى مواقف حلقة أدبية. إنه لا يستطيع ذلك، ولا يجوز له.
     يذود الحزب عن المصالح التاريخية للطبقة العاملة في مجموعها. يمهد الطريق، خطوة خطوة، نحو ثقافة جديدة، نحو فن جديد . لايرى في رفاق الدرب منافسين للكتاب العمال، وإنما معاونين للطبقة العاملة في مشروعها الضخم لإعادة البناء. يدرك الطابع العارض للجماعات الأدبية في مرحلة الإنتقال. وبدلا من أن يقيِّم هذه الجماعات على أساس الشهادات الشخصية الطبقية التي يحتج بها السادة الأدباء، يهتم للمكانة التي تحتلها أو يمكن أن تحتلها في تشييد ثقافة اشتراكية. وإذا لم يكن ممكنا اليوم تحديد هذه المكانة بالنسبة الى هذه الجماعة أو تلك، فإن الحزب سينتظر بصبر وأناة وتروٍ. وهذا لا يحول البتة دون القراء والنقاد ودون التعاطف فرديا مع هذه الجماعة أو تلك.  ان الحزب، بحكم من أنه يذود عن مجمل المصالح التاريخية للطبقة العاملة، ملزم بأن يكون موضوعيا ومتبصرا. فهو من جهة أولى لا يعطي "بركته" ل"كوزنتسا" لمجرد ان هناك عمالا يكتبون فيها، ومن الجهة الثانية لا يرفض مسبقا أي جماعة أدبية، حتى ولو كانت مؤلفة كلها من مثقفين، اذا ما بذلت جهدا ولو بسيطا للتقرب من الثورة او لتدعيم واحدة من الروابط (والرابطة نقطة ضعف دوما) مع المدينة أو القرية ، بين أعضاء الحزب واللاحزبيين، بين المثقفين والعمال.
     هل تعني هذه السياسة أن أحد أجنحة الحزب، وبالتحديد الجناح المطل على الفن، سيبقى مكشوفا وغير محمي؟ إن لفي توكيد ذلك مبالغة كبيرة. فالحزب، المسترشد بمعاييره السياسية، ينبذ في الفن الاتجاهات السامة أو الانحلالية. صحيح أن جبهة الفن لا يتوفر لها من الحماية ما يتوفر لجبهة السياسة. ولكن ألا يصح ذلك بالنسبة الى العلم أيضا؟  فما رأي أنصار علم بروليتاري محض بنظرية النسبية؟ هل تتفق هذه النظرية مع المادية أم لا تتفق؟ هل حسمت المسألة ؟ أين؟ متى؟ من قبل من؟ واضح للجميع، حتى للجاهلين، أن عمل بافلوف يقف على أرض المادية. لكن ماذا عن نظرية فرويد في التحليل النفسي؟ هل تتفق مع المادية، كما يعتقد الرفيق راديك وكما أعتقد أنا نفسي، أما هي تناقضها؟ في وسعنا أن نطرح السؤال نفسه بصدد النظريات الجديدة المتعلقة بتركيب الذرة، الخ. وما أروع أن يوجد عالم قادر على أن يستوعب منهجيا جميع هذه التعميمات الجديدة، وعلى أن يوضح صلاتها بتصور المادية الجدلية عن العالم. وسيكون في مقدوره انطلاقا من هنا أن يصوغ المعايير المشتركة للنظريات الجديدة وأن يعمق في الوقت نفسه المنهج الجدلي. لكني أخشى ألا يشهد هذا العمل – لا أتكلم عن مقال في صحيفة أو مجلة وإنما عن عمل علمي أو فلسفي واسع شامل مثل (أصل الأنواع) أو (الرأسمال)-  لا اليوم و لا غدا. أو بالأحرى، إذا كتب مثل هذا الكتاب اليوم، فمن المرجح أن صفحاته لن تفتح قبل أن تضع البروليتاريا السلاح.
     ألا يفترض عمل أقلمة الثقافة، أي اقتناء ألف باء ثقافة ما قبل بروليتارية، اختيارا، نقدا، معيارا طبقيا؟ بكل تأكيد. بيد أن هذا المعيار سياسي وليس ثقافيا مجردا. وكلا المعيارين يتطابق مع الآخر بالمعنى الواسع، وذلك بقدر ما تهيء الثورة شروط ثقافة جديدة. هذا لا يعني أن القران بينهما سيظل معقودا على الدوام. فالثورة إذا ما وجدت نفسها مكرهة على هدم جسور أو أنصاب تذكارية عند الاقتضاء، فلن تتردد في تسديد قبضتها الى كل اتجاه فني قد يهدد، مهما تكن منجزاته الشكلية عظيمة، بإدخال خمائر مفسِّخة الى الأوساط الثورية، أو بتأليب القوى الداخلية للثورة، من بروليتاريين وفلاحين ومثقفين، على بعضهم بعضا. إن معيارنا سياسي مكشوف، الزامي، بلا ظلال. ومن هنا كانت ضرورة تعيين حدوده. ولمزيد من الوضوح والدقة أيضا سأقول ان من واجبنا، في ظل نظام التيقظ الثوري، أن ننتهج فيما يتعلق بالفن سياسة رحبة ومرنة، بعيدة عن جميع خصومات الحلقات الأدبية.
     بديهي أن الحزب لا يستطيع، حتى في مضمار الفن، أن يسلم، ولو ليوم واحد، بالمبدأ الليبيرالي القائل "دعه يفعل، دعه يمر". والمسألة إنما هي معرفة متى يتوجب التدخل، والى أي حد، وفي أي حالة. وما هي بمسألة بسيطة الى الحد الذي يتصوره منظِّرو "ليف"، دعاة الأدب البروليتاري.
     إن أهداف الطبقة العاملة وطرائقها هي أكثر عيانية وأفضل تحديدا وأحسن انشاء بما لا يقاس على صعيد النظرية، في المجال الإقتصادي، منها في ميدان الفن. ومع ذلك وجد الحزب نفسه ملزما، بعد أن حاول أن يشيد اقتصادا ممركزا، بالتسليم بوجود أنماط اقتصادية متباينة، بل متنافسة. فالى جانب مشاريع الدولة، المنظمة في شكل تروستات، لدينا مشاريع ذات طابع محلي، وأخرى برسم التأجير، وتلزيمات، ومشاريع خاصة، وتعاونيات، واقتصاديات فلاحية صغيرة، وحرفيون، ومشاريع جماعية، الخ. إن السياسة الأساسية للدولة موجهة نحو اقتصاد اشتراكي ممركز. بيد أن هذا الإتجاه العام ينطوي، لمرحلة محددة، على دعم للإقتصاد الفلاحي والحرفيين. ولو نهجنا غير هذا النهج، لكانت سياستنا الرامية الى بناء صناعة اشتراكية على نطاق واسع أصبحت تجريدا لا حياة فيه.
     تلم الجمهورية السوفياتية شمل العمال والفلاحين والمثقفين ذوي الأصل البورجوازي تحت قيادة الحزب الشيوعي. ومن هذا المركب الاجتماعي ينبغي أن ينبثق، بفضل تقدم التقنية والعلم، مجتمع شيوعي. وهذا عبر سلسلة من المراحل. وسيأتي الفلاحون والمثقفون الى الشيوعية من غير الدرب الذي سيأتي اليها منه العمال. وطرقهم الخاصة لا يمكن الا أن تنعكس في الأدب. والمثقفون الذين لم يربطوا مصيرهم بلا تحفظ بمصير البروليتاريا (من غير الشيوعيين في غالبيتهم الساحقة) يسعون الى الاستناد الى الفلاحين بحكم عدم وجود نقطة ارتكاز بورجوازية، أو بحكم ضعفها الشديد في حال وجودها. هذه السيرورة رمزية بالأحرى في الوقت الراهن، ومؤداها تجميل الروح الثورية للموجيك بَعديا بحلة مثالية. وهي سمة مشتركة بين جميع رفاق الدرب. لكن مع تزايد عدد  المؤسسات المدرسية وعدد أولئك الذين سيتعملون القراءة في الأرياف، يمكن أن يصبح الرابط القائم بين الفن والفلاحين عضويا. ولئن كانت وجهة نظر الفلاحين في الاقتصاد أو السياسة أو الفن أكثر بدائية ومحدودية وأنانية من وجهة نظر البروليتاريا، فإن ذلك لا يغير شيئا في حقيقة كونها معطية من معطيات الواقع. وسينجز الفنان عملا تقدميا من الزاوية التاريخية حين يقتنع، بعد تبنيه وجهة نظر الفلاحين أو بالأحرى بعد التـأليف بينها وبين وجهة نظره الخاصة، بالفكرة القائلة أن اتحاد العمال والفلاحين ضرورة حيوية. ومن خلال إبداعه سيتعزز التعاون بين القرية والمدينة. وستهب مسيرة الفلاحين نحو الاشتراكية مؤلفاته مضمونا غنيا وعميقا، وشكلا متنوع الألوان، ولدينا كل الأسباب والمبررات للإعتقاد بأنه سيضيف فصولا قيِّمة الى تاريخ الفن. وبالمقابل، إن معارضة المدينة بالقرية،القرية العضوية المقدسة أبدا وأزلا، عمل رجعي، معادٍ للبروليتاريا، مناف للتقدم، مقضي عليه بالتعفن. وحتى في مضمار الشكل لا يستطيع فن كهذا أن يؤدي الا الى التكرار والثرثرة والتقليد.
     إن لدى الشاعر كليوف والتخيليين و"الاخوان سيرابيون" وبلنياك، بل حتى لدى المستقبليين من أمثال خليبنيكوف وكروتشينيخ وكامنسكي، خلفية موجيكية، في حين أن لدى غيرهم خلفية بورجوازية مترجمة الى لغة الموجيك. والعلاقات بالبروليتاريا هي على أقل درجة من الغموض والالتباس لدى المستقبليين. أما "الإخوان سيرابيون" والتخيليون وبلنياك، فيكشفون هنا وهناك عن معارضتهم للبروليتاريا، وعلى الأقل في الآونة الأخيرة. فهم يعكسون، ولو بصورة مجزأة، الحالة النفسية للقرية في مرحلة المصادرة الاجبارية للحبوب. انها المرحلة التي كانوا يبحثون فيها عن ملجأ يذودون فيه عن أنفسهم شر الجوع في القرى، فكان أن خزنوا في هذه القرى بالذات انطباعاتهم. وحصادهم أميل الى الالتباس. لكن لا يجور أن ننظر اليه خارج إطار المرحلة التي انتهت مع تمرد كرونشتاد. أما اليوم فقد طرأ تبدل كبير في صفوف الفلاحين. وقد طرأ تبدل مثله في صفوف المثقفين، ولا بد أن ينعكس لدى رفاق الدرب الذين يتغنون بالموجيك. بل أنه تجلي من الان، الى حد ما. والحق أن هذه الجماعات لاتزال تشهد، تحت تأثير الهزات الاجتماعية الجديدة، صراعات داخلية وانشقاقات وانحيازات. ينبغي ان نتتبع ذلك كله بعناية و اهتمام وبروح نقدية. فالحزب الذي يتنطع، ليس بدون مبرر على ما نأمل، لدور القيادة الروحية، لا يستطيع أن يمر بمثل هذه المسائل بمرور الكرام وأن يكتفي بالثرثرة والهذر.
     أليس في مستطاع فن بروليتاري رحب الأفق أن يضيء مسيرة الفلاحين نحو الاشتراكية؟ من المؤكد أنه "يستطيع" ذلك. مثلما "تستطيع" محطة كهربائية أن توزع الضوء على العزبة والإسطبل والطاحون. يكفي لذلك أن تكون هناك محطة، وكابلات واصلة للقرية. وليس ثمة من خطر – لنقل ذلك بالمناسبة - من أن تثور الزراعة في هذه الحال على الصناعة. لكن ليس لدينا بعد، و يا للأسف، كابلات كهذه، والمحطة الكهربائية لا تتألق الا بغيابها. إن الفن البروليتاري عديم الوجود. والفن البروليتاري الإلهام( شعراء عمال ومستقبليون) غير مؤهل لتلبية حاجات المدينة والقرية أكثر، لنقل ذلك، من أهلية الصناعة السوفياتية لحل مشكلات الاقتصاد العالمي.
     لنفترض أننا تركنا جانبا الطبقة الفلاحية (وأنى لنا أن نستطيع ذلك؟)، فلسنا نجد ثمة ما يشير الى أن الأمور بسيطة بالنسبة الى البروليتاريا، وهي الطبقة الأساسية في المجتمع السوفياتي، تلك البساطة التي نلفاها على صفحات "ليف". يقترح المستقبليون أن ننبذ الأدب القديم الفردي النزعة، المهترئ شكلا، المناقض للطبيعة الجماعوية للبروليتاريا (هذه الحجة موجهة الينا، نحن المساكين!). بيد أنهم يدللون على فهم ناقص جدا لجدل العلاقات بين الفرد والمجموع. فليس ثمة من حقائق مجردة، وبعبارة أخرى، أن هناك نزعة فردية ونزعة فردية، فعبر النزعة الفردية ارتمى شطر من مثقفي ما قبل الثورة في الصوفية، وسلك شطر آخر طريق المستقبلية السديمي وتقرب من البروليتاريا بنذره نفسه للثورة، وفي ذلك شرف له أصلا. وحين يحمل هؤلاء الاخيرون الى البروليتاريا مرارة تعود في مصدرها الى نزعتهم الفردية، فهل ينبغي أن نغفر لهم ذلك القدرالهائل من الأنوية، أي من نزعة فردية مشتطة؟ المشكل أن البروليتاري منزه عن مثل هذه الصفة. ففرديته لم تتطور ولم تتمايز بعد بما فيه الكفاية. وأثمن انجاز يحققه التقدم الثقافي الذي بدأ يحبو لتوه سيكون يوم يرتقي بالشخصية بصفاتها الموضوعية وبوعيها الذاتي. ومن الصبيانية أن نتصور أن الآداب الجميلة البورجوازية قادرة على أداء ذلك الدور، على إحداث ثغرة في التضامن الطبقي. فما سيقدمه شكسبير وغوته وبوشكين ودوستويفسكي للعامل هو في المقام الأول صورة أشد تعقيدا عن الشخصية، وعن أهوائها وعواطفها، وعي أعمق لقواها الداخلية، ادراك أوضح للاشعورها، الخ. وسوف يجد العامل لديهم في نهاية المطاف ما يثريه ويغنيه. وقد عرف غوركي، المشبع بنزعة المتشرد الفردية الرومانسية، كيف يغدي الروح الربيعية للثورة البروليتارية عشية عام 1905 لانه ساعد على يقظة الشخصية في طبقة تسعى فيها الشخصية، بمجرد أن تستيقظ، الى الإتصال بشخصيات مستيقظة اخرى. إن البروليتاريا بحاجة الى غداء وتربية فنيين. ولا يجوز أن نعتبرها كتلة من الصلصال يستطيع الفنانون، فنانون الماضي وفنانو الحاضر على حد سواء، أن يجبلوها ويصوغوها على صورتهم.
     إن البروليتاريا، الشديدة الحساسية على الصعيد الروحي والفني، لم تتح لها تربية جمالية، ومن غير المرجح أن ينطلق طريقها من النقطة التي توقفت عندها الانتيليجانسيا البورجوازية قبل النكبة. وكما أن الفرد يجدد، انطلاقا من الجنين، تاريخ الجنس البشري ، والى حد ما، تاريخ العالم الحيواني كله، كذلك لابد للطبقة الجديدة، الى تنبثق غالبيتها العظمى من وجود شبه ما قبل تاريخي، أن تجدد لحسابها كل تاريخ الثقافة الإنسانية. فهي لا يسعها أن تشرع ببناء ثقافة جديدة قبل ان تمتص وتتمثل عناصر الثقافات القديمة. هذا لا يعني انها ستجتاز خطوة خطوة، بمنهجية، كل التاريخ الماضي للفن. فالطبقة الاجتماعية، خلافا للفرد البيولوجي، تمتص و تتمثل بحرية أكبر ووعي أعظم. بيد أنها لا تستطيع المضي قدما الى الأمام من دون أن تتطلع الى أهم صوى الماضي.
     بعد أن تم القضاء بصورة مبرمة وأكثر جذرية من أي وقت سبق على القاعدة الاجتماعية للفن القديم، نجد جناحها اليساري يبحث، كيما يستمر الفن، عن نقطة ارتكاز في البروليتاريا، وعلى الأقل في الشرائح الاجتماعية التي تدور حول البروليتاريا. وهذه الأخيرة تتطلع وتصبو بدورها إلى الفن، مستفيدة من وضعها الطبقي القيادي، وتسعى الى إقامة الإتصال معه، وتهيئ على هذا النحو الأسس لنمو فني عظيم. وبهذا المعنى، صحيح القول أن صحف المصانع الحائطية تمثل البشائر الضرورية، لكن النائية جدا، لأدب الغد. طبيعي أن ما من إنسان سيقول: لننفض اليد من هذا كله بانتظار وصول البروليتاريا، ابتداءا من تلك الصحف الحائطية، الى المقدرة الفنية. فالبروليتاريا بحاجة، هي الأخرى، الى استمرارية في التقاليد الفنية. وهي تحققها اليوم، بصورة غير مباشرة أكثر منها مباشرة، من خلال الفنانين البورجوازيين الذين يدورون في مدارها أو يبحثون عن ملجأ تحت جناحها. إنها تتحمل شطرا منهم وتؤيد شطرا آخر، تتبنى هؤلاء وتتمثل أولئك تمام التمثل. وسياسة الحزب في الفن مشروطة بالتحديد بتعقيد هذه السيرورة وبأواصرها الداخلية التي لا تقع  تحت حصر. ومن المستحيل إختزالها الى صيغة من الصيغ، الى شيء يضارع منقار العصفور الدوري اقتضابا. كما أنه ليس ثمة من ضرورة مطلقة لإختزالها.
 
 
 
 
الفن الثوري والفن الاشتراكي
 
 
     حين نتكلم عن الفن الثوري يذهب بنا الفكر الى ضربين من الظاهرات الفنية: الأعمال التي يعكس موضوعها الثورة، والأعمال المشبعة، الملونة بعمق، بالوعي الجديد المنبثق عن الثورة من دون ان تكون مرتبطة بهذه الثورة بموضوعها. هذه الظاهرات تعود أو يمكن أن تعود، بالبداهة، الى تصورات متباينة كل التباين. فألكسيس تولستوي يصف مرحلة الحرب والثورة في روايته "طريق العذابات". وهو ينتمي الى مدرسة ياسنايا – بوليانا (12)، ولكن برحابة أقل ووجهة نظر أضيق. إنه يذكرنا بكل قسوة، بصدد كبريات الحوادث، بأن مدرسة ياسنايا – بوليانا كانت موجودة ثم لم يعد لها الآن من وجود. وبالمقابل، حين يتكلم الشاعر الشاب تيخونوف عن بقالية صغيرة -يبدو وكأنه يتهيب الكتابة عن الثورة- يعي ويصف الخمول والجمود بنضارة وحيوية مشبوبة العاطفة على نحو لا يستطيع التعبير عنه سوى شاعر من العصر الجديد.
     وهكذا، إن لم يكن الفن الثوري والكتابة عن الثورة شيئا واحدا، فإن بينهما على كل حال نقاط تماس. فالفنانون الذين خلقتهم الثورة لا يستطيعون أن يمسكوا عن الرغبة في الكتابة عن الثورة. كذلك فإن الفن الذي لديه حقا مايقوله بصدد الثورة لا خيار له إلا أن ينبذ بلا شفقة وجهة نظر تولستوي العجوز، و ذهنيته كنبيل عظيم، وصداقته للموجيك.
     لا وجود بعد لفن ثوري. هناك عناصر لهذا الفن، ومضات، محاولات باتجاهه. إنما هناك، قبل كل شيء، الإنسان الثوري الذي في سبيله الى تنشئة الجيل الجديد على صورته، والذي تشتد حاجته أكثر فأكثر الى ذلك الفن. كم من الزمن يقتضي هذا الفن حتى يبرز إلى حيز الوجود بروزا حاسما؟ من الصعب التكهن بذلك ولو تكهنا، والأمر أمر سيرورة غير قياسية، ونحن مكرهون على حصر حساباتنا حتى عندما يكون قصدنا تحديد آماد السيرورات الإجتماعية المادية. وهل هناك أصلا من مانع  يحول دون أن تظهر في القريب العاجل الموجة الكبيرة الأولى من ذلك الفن، فن الجيل الجديد الذي نشأ في الثورة وحملته الثورة معها؟
     إن فن الثورة الذي يعكس، بصورة مكشوفة وعلنية، جميع تناقضات مرحلة الإنتقال، لا يجوز الخلط بينه وبين الفن الاشتراكي الذي لم يتوفر بعد أساس له. بيد أنه لا ينبغي في الوقت نفسه أن ننسى أن الفن الاشتراكي سيخرج مما يتحقق خلال تلك المرحلة الإنتقالية.
     اننا لا ندلل، بإلحاحنا على مثل هذه المناقشة، على أي ولع بالمخططات المجردة. وليس من قبيل العبث ان يكون انجلز قد عرّف الثورة الاشتراكية بأنها قفزة من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية. والثورة ليست هي "ملكوت الحرية" بعد. بل على العكس من ذلك: فهي ترفع صفات "الضرورة" إلى أعلى درجة. سوف تلغي الاشتراكية التناحرات الطبقية وسوف تلغي في الوقت نفسه الطبقات، لكن الثورة ترفع صراع الطبقات الى الذروة. والأدب الذي يساند العمال خلال الثورة في صراعهم ضد المستغِلين ضروري وتقدمي. ولا يملك الأدب الثوري ألا يكون مشبعا بروح من الكراهية الإجتماعية هي عنصر خلاق بين يدي التاريخ في عصر الديكتاتورية البروليتارية. وفي ظل الاشتراكية، سيكون التضامن أس المجتمع. والأدب برمته والفن بأسره سيتم ضبطهما على إيقاع جديد. وجميع الانفعالات التي نتردد، نحن الثوريين الحاليين، في تسميتها بأسمائها، لكثرة ما أصابها من ابتذال وما حل بها من انحطاط، كالصداقة المتجردة وحب القريب والتعاطف، سترن بعالي النغمات في الشعر الاشتراكي.
     ألا يهدد الشطط في هذه العواطف المتجردة بأن يحط الإنسان إلى حيوان عاطفي، سلبي، قطيعي، على نحو ما يخشى النيتشويون؟ بتاتا. فقوة التباري العظيمة، التي تتلبس في المجتمع البورجوازي سمات المزاحمة السوقية، لن تضمحل في المجتمع الاشتراكي. وإذا أردنا إستخدام لغة التحليل النفسي فسنقول إنها ستُصعَّد، أي ستزداد سموًا وخصبا. ستأخد موقعها على صعيد تصارع الآراء والمشاريع والأذواق. وطردًا مع استبعاد الصراعات السياسية - لا مجال لمثل هذه الصراعات في مجتمع بلا طبقات – ستتوجه الأهواء المنعتقة نحو التقنية والبناء، وكذلك نحو الفن الذي سيصبح بالتأكيد أكثر انفتاحا ونضجا وتمرسا، كأسمى شكل من أشكال بناء الحياة في جميع الميادين، لا في ميدان "الجمال" وحده، ولا بوصفه ملحقا إضافيا.
     إن جميع دوائر الحياة، من فلاحة الأرض إلى تخطيط السكن، إلى بناء المسارح، إلى طرائق التربية، إلى حل المشكلات العلمية، إلى إبداع أساليب جديدة، ستحظى باهتمام كل فرد وباهتمام الجميع. وسينقسم الناس إلى "أحزاب" بصدد قناة هائلة جديدة أو توزيع الواحات في الصحراء الكبرى (مثل هذه المسألة ستنطرح هي الأخرى)، وبصدد تنظيم المناخ أو تنظيم مسرح جديد، وبصدد فرضية كيمياوية أو مدارس موسيقية متنافسة أو أفضل نظام للرياضة البدنية. ومثل هذه التكتلات الجديدة لن تكون مسممة بأي أنانية طبقية أو فئوية، وسيكون الجميع معنيين على قدر متساوٍ بمنجزات المجتمع. وسيكون للصراع طابع ايديولوجي محض. ولن يمت بصلة الى التسابق على الأرباح، أو إلى الابتذال والخيانة والفساد، أي إلى كل ما تتكون منه روح "المزاحمة" في المجتمع المنقسم إلى طبقات. هذا لا يعني أن الصراع سيكون أقل إثارة وأقل درامية وأقل حماسة. فلما كانت جميع مشكلات الحياة اليومية التي كانت تحل فيما سبق بصورة عفوية وآلية، وكذلك المشكلات التي كانت موضوعة تحت وصاية الطوائف الكهنوتية، ستصبح الميراث العام للمجتمع الاشتراكي، ففي وسعنا أن نقول بثقة ويقين أن الأهواء والمصالح الجماعية والمزاحمة الفردية سيكون لها أرحب مجال ممكن وستتاح لها فرص لا محدودة للإفصاح عن نفسها. ولن يشكو الفن من نقص في تلك الشحنات من الطاقة العصبية الإجتماعية، من نقص في تلك الدوافع النفسية الجماعية التي تنتج اتجاهات فنية جديدة وتحدث انعطافات في الأساليب. فالمدارس الجمالية ستتجمع حول "أحزابها"، أي حول تكتلاث على أساس الأمزجة والمشارب والإتجاهات الروحية. وفي أتون صراع متجرد ومنزه عن الغرض إلى هذا الحد، وناشط ومحموم في الوقت نفسه الى هذا الحد، على أساس  ثقافي لا يني يعلو ويتسامى باستمرار، ستنمو الشخصية في جميع الإتجاهات وستصفي وستهذب جوهرها الأساسي النفيس، جوهرها الذي يجعلها لا تكتفي أبدا بالنتيجة التي تم الوصول اليها. وفي الحقيقة، ليس هناك أي سبب يدعونا الى أن نتخوف من أن تنام الشخصية أو يصيبها الخمول والذبول في ظل المجتمع الاشتراكي.
 
***
 
     هل في مقدورنا أن نعرّف فن الثورة باسم قديم؟ إن الرفيق أوسنسكي يدعوه في موضع ما بالواقعي. وما يقصد اليه من وراء هذه  التسمية صحيح وذو معزى، لكن لابد لنا من الاتفاق على تعريف لكي نتحاشى سوء تفاهم.
     إن الواقعية في الفن تتطابق في تاريخنا، بأكمل أشكالها، مع "العصر الذهبي" للأدب، أي مع كلاسيكية أدب مكتوب للنبلاء.
     إن مرحلة الموضوعات الهادفة، في الزمن الذي كان الأثر الأدبي فيه يقيَّم في المقام الأول على أساس نيات الكاتب ومقاصده الإجتماعية، تتطابق مع المرحلة التي كانت فيها الانتلجانسيا تستيقظ وتبحث عن معبر الى النشاط الإجتماعي وتحاول أن ترتبط ب"الشعب" في صراعه مع العهد البائد.
     أما المدرسة الانحطاطية(13) والمدرسة الرمزية اللتان ولدتا كرد على "الواقعية" السائدة، فتتطابقان مع المرحلة التي صممت فيها الانتلجانسيا، المنفصلة عن الشعب، المتدلهة بتجاربها الذاتية والخاضعة في الواقع للبورجوازية، على ألا تنحل نفسيا وتذوب جماليا في البورجوازية. ولهذا الغرض استنجدت الرمزية  بالسماء.
     وكانت مستقبلية ما قبل الحرب محاولة للانعتاق على صعيد فردوي من الخنوع للرمزية، وللعثور على نقطة ارتكاز شخصية في المنجزات اللاشخصية للثقافة المادية.
     ذلك هو بوجه الإجمال منطق تعاقب المراحل الكبرى في الأدب الروسي. فقد كان كل اتجاه من هذه الإتجاهات ينطوي على تصور للعالم الإجتماعي أو للجماعة وسم بميسمه الموضوعات والمضامين واختيار الأوساط وطبائع الشخصيات، الخ. وفكرة المضمون لا تشير الى الموضوع، بالمعنى الشكلي للكلمة، وإنما الى التصور الإجتماعي. فالعصر والطبقة ومشاعرهما تجد تعبيرها في غنائية بلا موضوع كما في رواية اجتماعية على حد سواء.
     بعد ذلك تنطرح مسألة الشكل. الشكل يتطور، ضمن حدود معينة، بحسب قوانينه الخاصة، مثله في ذلك مثل كل تقنية أخرى. فكل مدرسة أدبية جديدة، إذا كانت مدرسة فعلا وليست تطعيما اصطناعيا، تنطلق من كل التطور السابق، من التقنية القائمة قبلها، من الكلمات والألوان، ثم تبتعد عن الشواطئ المعروفة في أسفار جديدة و فتوحات جديدة.
     التطور في هذه الحالات أيضا جدلي: فالإتجاه الفني الجديد ينفي السابق. لماذا؟ غني عن البيان أن بعض العواطف وبعض الأفكار تشعر بضيق واختناق في إطار الطرائق القديمة. بيد أن الصبوات الجديدة، بالمقابل، تجد في الفن القديم المكتمل التبلور بعض عناصر قمينة، في حال تطويرها لاحقا، بأن تقدم لها التعبير الضروري؛ وبذلك تُرفع راية التمرد على "القديم" في مجموعه باسم بعض عناصر فيه قابلة للتطوير. إن كل مدرسة أدبية كامنة بالقوة في الماضي، وكل مدرسة أدبية تتطور من خلال قطيعة عدائية مع الماضي. والعلاقة المشتركة بين الشكل والمضمون (فهذا الأخير ليس محض "موضوع"، وإنما هو بالأحرى مركًّب حي من مشاعر وأفكار تبحث عن تعبيرها) تتحدد بالشكل الجديد الذي يتم اكتشافه والإعلان عنه وتطويره تحت ضغط ضرورة باطنية، تحت ضغط طلب نفسي جماعي، له، ككل البسيكولوجيا الإنسانية، جذوره الإجتماعية.
     من هنا كانت ثنائية كل اتجاه أدبي؛ فهو يضيف من جهة أولى شيئا ما الى تقنية الفن، فيرفع (أو يخفض) المستوى العام للمهنة الفنية؛ ويعبر من جهة ثانية، في شكله التاريخي العيني، عن متتطلبات محددة هي في التحليل الأخير متطلبات طبقية. والمتطلبات الطبقية تعني أيضا متطلبات فردية: فمن خلال الفرد تعبر الطبقة عن نفسها. وهي تعني كذلك متطلبات قومية: فروح الأمة تتحدد بالطبقة التي تقودها وتلحق الأدب بركابها.
     لنأخذ الرمزية. ماذا ينبغي أن نفهم منها؟ أهي فن تحويل الواقع رمزيا، كمنهج شكلي للإبداع الفني؟ أم هي اتجاه خاص يمثله بلوك وسولوغوب وآخرون؟ إن الرمزية الروسية لم تخترع الرموز، وإنما اكتفت بتطعيمها على جسم اللغة الروسية الحديثة بمزيد من الحميمية والصميمية. وبهذا المعنى لن تساور فن الغد، أيا تكن دروبه المقبلة، الرغبة في التخلي عن تراث الرمزية الشكلي. لقد استخدمت الرمزية الروسية الفعلية، في بعض السنوات المحددة، الرمز لأهداف معينة. ما هي؟ لقد كانت المدرسة ما قبل الرمزية تبحث عن حل لجميع المشكلات الفنية في قمقم تجارب الشخصية: الجنس، أو الموت، الخ، أو بالأحرى الجنس والموت، الخ. وما كان لها الا أن تستنفد قواها في أجل قصير من الزمن. ومن هنا وجدت، بدافع إجتماعي محدد، ضرورة الوصول الى توكيد أكثر مطابقة للمتطلبات والمشاعر والأمزجة، حتى تُغني وترفع الى مستوى أعلى. والرمزية، التي جعلت من الصورة رمز إيمان فضلا عن كونها منهجا فنيا، كانت بالنسبة الى الانتلجانسيا الجسر الفني الموصل الى الصوفية. بهذا المعنى لم تكن الرمزية، في جوهرها الإجتماعي العيني لا الشكلي والمجرد، محض طريقة من طرائق التقنية الفنية، بل كانت تعبر عن الهرب أمام الواقع عن طريق بناء عالم ما ورائي، والإستسلام لقوة أحلام اليقظة، والتأمل، والسلبية. ففي شخص بلوك نلفى ندا محدثا لجوكوفسكي. وقد تضمنت المجموعات والمقالات النقدية الماركسية القديمة (لعام 1908 والأعوام التالية)، مهما بدت لنا بعض تعميماتها بدائية (فقد كانت تنزع الى أن تضع كل شيء في جعبة واحدة)، تضمنت تحليلا وتشخيصا ل"الأفول الأدبي" أبلغ دلالة وأقرب الى الصحة بما لا يقاس مما فعل على سبيل المثال الرفيق تشوزهاك الذي إن كان سبق العديد من الماركسيين الآخرين في الإنكباب على مشكلة الشكل وأولاها من الإهتمام أكثر مما أولوها، فإنه بالمقابل رأى فيها، تحث تأثير المدارس الفنية المعاصرة، مراحل تراكم ثقافة بروليتارية لا مراحل تباعد وتناء متزايد للإنتلجانسيا عن الجماهير.
     علام ينطوي مصطلح "الواقعية"؟ لقد عبرت الواقعية، في عصور شتى، عن مشاعر فئات إجتماعية شتى وعن حاجاتها بطرق شتى. وكل مدرسة من المدارس الواقعية تقتضي تعريفا أدبيا واجتماعيا متمايزا وتقييما أدبيا وشكليا متمايزا. ما السمة المشتركة بينها؟ الإنجذاب بصورة لا يمكن أن تسقط من الحساب نحو كل ما له صلة بالعالم، نحو الحياة كما هي. فبدلا من أن تهرب من الواقع، تقبله في استقراره العيني أو في قابليته للتغير. وهي تسعى الى أن تصور الحياة كما هي أو الى أن تجعل منها ذروة الإبداع الفني، إما لتبريرها أو إدانتها، وإما لمحاكمتها أو تعميمها أو ترميزها. إنها على الدوام الحياة في أبعادها الثلاثة، بوصفها مادة كافية ذات قيمة نفيسة لا تقدر.
     بهذا المعنى الفلسفي الواسع، لا بمعنى مدرسة أدبية، نستطيع القول بثقة ويقين أن الفن الجديد سيكون واقعيا. فالثورة لا يمكن أن تتعايش والتصوف. وإذا كان ما يسميه بلنياك والتخيليون وغيرهم بالرومانسية هو، نخشى أن يكون الأمر كذلك، إندفاعة وجلة للتصوف تحت اسم جديد، فإن الثورة لن تتسامح طويلا مع هذه الرومانسية. وتأكيد ذلك ليس ضربا من الجمود المذهبي، وإنما هو دليل على التفكير السليم. فلا مجال في أيامنا هذه لأن يكون "بجانبنا" صوفية منقولة، شيء أشبه ما يكون بكلب صغير ندلـله وندلعه. إن عصرنا يبتر بترا كالفأس. الحياة المرة، العاصفة، المصطرعة حتى الأعماق، تقول: "انني بحاجة الى فنان قادر على حب وحيد. فبأي الوسائل تستولي عليّ، ومهما تكن الأدوات والآلات التي تستخدمها، فإنني استسلم لك، لمزاجك، لعبقريتك. لكن عليك أن تفهمني على حقيقتي، وأن تأخذني كما سأصير، ولا يجوز أن يكون هناك سواي بالنسبة اليك".
     إن هذه لنزعة واحدية واقعية، بمعناها كتصور للعالم، لا بمعنى الترسانة التقليدية للمدارس الأدبية. ولسوف يكون الكاتب بحاجة الى جميع الطرائق والأساليب المستخدمة في الماضي، والى بعض طرائق وأساليب أخرى أيضا، كي يستوعب الحياة الجديدة. ولن يكون ذلك ضربا من الانتقائية الأدبية، لان وحدة الفن تظل قائمة من خلال إدراك إيجابي للعالم.
***
     لم يكن من النادر في عامي 1918 و 1919 أن نصادف في الجبهة فرقة عسكرية، على رأسها خيالة، وفي مؤخرتها عربات تنقل ممثلين و ممثلات وديكورات ومستلزمات المسرح. فمكان الفن، بوجه عام، هو في قطار التطور التاريخي. ونظرا إلى التبدلات السريعة في جبهاتنا، كانت العربات بما تحمله من ممثلين وديكورات تجد نفسها في كثير من الأحيان في وضع متقلقل، لا تدري أين تذهب. وفي أحيان غير قليلة كانت تقع في أيادي البيض. وليس في وضع أقل صعوبة يجد اليوم الفن نفسه، في مجموعه، بعدما باغته تبدل مفاجئ في جبهة التاريخ.
     يواجه المسرح، بشكل خاص، وضعا حرجا للغاية، لا يدري كيف يهتدي فيه الى سواء السبيل. ومما يسترعي الإنتباه أن منظِّريه هم أكثر المنظرين جذرية مع أنه قد يكون أكثر أشكال الفن محافظة. كلنا يعلم ان الفئة الأكثر ثورية في اتحاد الجمهوريات السوفياتية هي فئة النقاد المسرحيين. وسيكون من المستحسن، إذا ما لاحت بوارق ثورة في الغرب أو الشرق، أن ينظموا في كتيبة عسكرية خاصة تسمى "ليفتريتسي" (النقاد المسرحيين اليساريين). حين تقدم مسارحنا "ابنة السيدة آنغو" أو "موت تاتلكين" أو "توراندو"، يظهر أصحابنا الموقرون من كتيبة "ليفتريتسي" اناة وصبرا. أما حين يزمع تقديم مسرحية مارتينه، فان ثائرتهم تثور حتى قبل أن يلعب ميرخولد "الليل"(14). فالمسرحية وطنية! ومارتينه مسالم! بل لم يحجم أحد النقاد عن التصريح: "أن ذلك كله لهو من الماضي بالنسبة إلينا، وبالتالي لا طائل تحته". والحق أنه وراء هذه النزعة اليساروية إدعاء وغرور ليس فيهما ذرة من الروح الثورية. ولو كان علينا أن نتناول الأشياء من وجهة النظر السياسية، لقلنا أن مارتينه كان ثوريا وأمميا في زمن كان فيه عدد من الممثلين الحاليين ليسارنا المتطرف لا تخطر لهم الثورة ببال لا من قريب ولا من بعيد. هل دراما مارتينه بنت للماضي؟ ماذا يعني ذلك؟ ترى أتكون الثورة في فرنسا حدثت وتمت؟ أترى أنها انتصرت؟ وهل ينبغي علينا أن نعد الثورة في فرنسا دراما تاريخية مستقلة، أم محض تكرار ممل للثورة الروسية؟ الحق أن تلك النزعة اليساروية تنطوي، فضلا عن أشياء أخرى كثيرة، على ضيق الأفق القومي بأكثر معاني الكلمة ابتذالا. فمما لا شك فيه أن مسرحية مارتينه لا تخلو من إطالات، وأنها درامية كتبية أكثر منها عملا مسرحيا (ما كان مؤلفها بالذات يأمل بأن يراها تقدم على المسرح). بيد أن هذه العيوب كانت ستبقى متوارية عن الأنظار لو نظر المسرح الى هذه التمثيلية من جانبها العيني، التاريخي، القومي، أي باعتبارها دراما البروليتاريا الفرنسية في عصر محدد من مسيرتها الكبرى، لا باعتبارها دراما عالم جالس على مؤخرة حصان. إن نقل الحدث، الجاري في وسط تاريخي محدد، الى وسط آخر تم بناؤه تجريديا، يعني الانفصال عن الثورة، عن تلك الثورة الفعلية، الحقيقية، التي لا تني تشتد ساعدا بكل عناد وتصميم وتنتقل من قطر الى آخر؛ والتي تبدو فيما بعد لبعض الأدعياء من الثوريين تكرارا مملا لما سبق له أن عرف نبض الحياة.
     لست أدري إن كان المسرح بحاجة اليوم الى الميكانيكا الحيوية، ولست أدري إن كانت هذه الأخيرة تحتل مكانة الصدارة في الضرورة التاريخية. لكن لا يخالجني أي شك، إذا كان من المباح استحذام تعبير ذاتي كهذا، في حاجة المسرح الروسي الى ذخيرة جديدة تعالج الحياة الثورية، وفي الحاجة، في المقام الأول، الى كوميديا سوفياتية. من الواجب أن تكون لنا مسرحياتنا الخاصة بنا على شاكلة "القاصر" و"شقاء كثرة التفكير" و"المفتش"(15). لا أعني بذلك إخراجا جديدا لهذه الكوميديات الثلاث القديمة، ولا روتشتها على سبيل المحاكاة الساخرة استجابة للمتطلبات السوفياتية، بالرغم من أن ذلك ضروري ضرورة حيوية في خمس وثمانين بالمئة من الحالات. كلا، إنما نحن بحاجة بكل بساطة الى هجاء للأعراف والأخلاق السوفياتية، هجاء يبعث على الضحك والسخط. إنني أستعمل هنا عن قصد هذه المفردات التي تكثر في الكتب المدرسية الأدبية القديمة، ولا أخشى البتة أن أتهم بأنني أسير القهقرى، إن الطبقة الجديدة، والحياة الجديدة، والرذائل الجديدة، والبلاهة الجديدة تقتضي أن يزاح النقاب عنها. ويوم يتم ذلك يكون قد قام لدينا فن مسرحي جديد، إذ أنه يستحيل أن يماط اللثام عن البلاهة الجديدة بدون طرائق ووسائل جديدة. كم من "قاصر" جديد ينتظر وهو يرتعد أن يقدم على خشبة المسرح؟ كم من هموم تلم بمن يكثر من التفكير أو من يدعي كثرة التفكير، وما أحسن أن يطوف "مفتش" جديد عبر أريافنا السوفياتية. لا نتذرعوا بالرقابة المسرحية، فهذه ذريعة كاذبة. صحيح أنه إذا حاولت تمثيليتكم الهزلية أن تقول: "انظروا الى أين أوصلتمونا؛ خير لنا أن نعود الى عش الطبقة النبيلة القديم الوثير"، فإن الرقابة ستمنع مثل هذه الكوميديا وستتصرف كما ينبغي لها أن تتصرف. لكن اذا قالت تمثيليتكم الهزلية: "نحن في سبيلنا الآن الى بناء حياة جديدة، هذه هي المخازي والمباذل والدناءات القديمة والجديدة التي ينبغي تكنيسها"، فإن الرقابة لن تتدخل في هذه الحالة. وإذا تدخلت، فسيكون ذلك من قبلها غباوة سنتصدى لها جميعا.
     في المناسبات النادرة التي ما كان عليّ فيها، أمام الستار المرفوع، أن أخفي بكل تهذيب تثاؤباتي حتى لا أجرح كائنا من كان، لاحظت باهتمام كبير أن المتفرجين يلتقطون بنباهة وتوقد ذهن كل اشارة، ولو عابرة، الى الحياة الحالية. وفي وسعنا أن نتبين ذلك في الاوبريتات التي يحييها "مسرح الفن" والتي فيها ما فيها من أشواك كبيرة وصغيرة (لا وردة بدون شوك!). وتخطر ببالي هنا الفكرة التالية: إذا كنا لم ننضج بعد للكوميديا، فإن من واجبنا على الأقل أن نقدم استعراضا اجتماعيا.
     غني عن البيان، بدون أدنى شك، أن المسرح سيخرج في المستقبل من جدرانه الأربعة وسينزل الى حياة الجماهير، التي ستكون قد أمست منصاعة كليا لايقاع المكانيكا الحيوية، الخ. وهذا، بعد كل شيء، ضرب من "المستقبلية"، وعلى وجه الدقة موسيقى مستقبل بعيد جدا. لكن بين الماضي الذي يقتات المسرح من مائدته وبين المستقبل البعيد جدا، هناك الحاضر الذي فيه نحيا. وما أحسن أن نتيح على خشبة المسرح، بين الماضوية والمستقبلية، فرصة ل"الحاضرية". الا فلنصوت لإتجاه كهذا. فالحياة ستدب في المسرح لبضع سنوات إذا ما وجدت الكوميديا السوفياتية الصالحة. ومن يدري؟ فقد تصبح لدينا أيضا تراجيديا، وهي التي تعد بحق أسمى تعبير للفن الأدبي.
***
 
     يتساءل بعض المتصوفين وكلهم استعداد لقبول الثورة إذا ما ضمنت لهم العالم الماورائي: هل في مستطاع عصرنا الملحد أن يبدع فنا أبهيا(16)؟ إن التراجيديا هي الشكل الأبهي للفن الأدبي. وقد بنت العصور القديمة الكلاسيكية التراجيديا على الميتولوجيا. فكل تراجيديا العصور القديمة مشبعة بإيمان عميق بالقدر، مفترضة أنه هو الذي يعطي الحياة معنى. والفن الأبهي للعصور الوسطى مرتبط بدوره بالميتولوجيا المسيحية التي تعطي معنى لا للكاتدرائيات والأسرار(17) فحسب، بل للعلاقات الإنسانية جميعا. وما أمكن للفن الأبهي أن يقوم في ذلك العصر الا من خلال اتحاد حس الحياة الديني والمشاركة الفعالة في هذه الحياة نفسها. فلو أقصينا الإيمان جانبا (لا نتكلم عن الطنين الصوفي المبهم الذي يترجع في روح الانتلجانسيا الحديثة، وإنما نتكلم عن الدين الحقيقي بإلهه الواحد وشريعته السماوية وتراتبيته الاكليركية)، لتعرت الحياة ولما عاد هناك مجال للصراع اليائس بين البطل والقدر، بين الخطيئة والفداء. إن المتصوف المعروف ستيبون يسعى الى تناول الفن من وجهة النظر هذه في مقاله عن "التراجيديا والعصر الراهن". وهو ينطلق، بمعنى من المعاني، من حاجات الفن ذاته، ويعد بفن أبهي جديد، ويبين احتمال انبعاث للتراجيديا، وفي الختام يطلب باسم الفن أن نخضع للقوى السماوية! إن ثمة منطقا مخادعا في صياغة ستيبون. فمؤلفنا لا يهتم، في الحقيقة، بالتراجيديا ولا يكترث لها: فما قيمة قوانين التراجيديا في مواجهة التشريع السماوي! إنه يريد الإمساك بعصرنا بخنصر الجمالية التراجيدية، حتى يحكم خناق قبضته عليه. وهذا أسلوب يسوعي صرف. ومحاكمة ستيبون شكلية وسطحية من وجهة النظر الجدلية. فهو يجهل بكل بساطة الأسس المادية التاريخية التي ولدت في ظلالها التراجيديا القديمة والفن القوطي، والتي سينبثق انطلاقا منها فن جديد.
     كان الإيمان بالقدر المحتوم يكشف عن الحدود التي كان الإنسان القديم أسيرها. فقد كان هذا الإنسان صاحي الفكر ولكن فقيرا بالتقنية، فما كان في مقدوره أن يتجرأ على غزو الطبيعة على نفس النطاق الذي نستطيعه نحن اليوم، وكانت الطبيعة معلقة فوقه وكأنها القدر الذي لا راد له. والقدر هو بدائية الوسائل التقنية ومحدوديتها، صوت الدم، المرض، الموت، وباختصار كل ما يحد الإنسان ويعيده إلى حدوده. وكانت المأساوية تعبر عن تناقض بين عالم الوعي المتيقظ وبين المحدودية الآسنة للوسائل. والميتولوجيا لم تخلق التراجيديا، وإنما عبرت عنها باللغة الرمزية المميزة لطفولة الإنسانية.     
     إن تناقضات الحياة في العصر الوسيط لم يخلقها التصور الروحي عن الفداء، وبوجه عام كل نظام المحاسبة القائم على القيد المزدوج – قيد سماوي وآخر أرضي- والنابع من الروح المزدوجة للدين، وبوجه خاص المسيحية التاريخية، أي المسيحية الحقيقية. كل ما هنالك أن ذلك التصور كان يعكسها ويجد حلا ظاهريا لها. وقد تغلب المجتمع القروسطي على تناقضاته المتنامية بسحبه كمبيالة على إبن الله: فوقعتها الطبقات الحاكمة، وظهًّرها الهرم الاكليريكي الى البورجوازية، وتهيأت الجماهير المضطهَدة لخصمها في الآخرة.
     قام المجتمع البورجوازي بتذرير العلاقات الإنسانية، مسبغا عليها مرونة وحركية لا سابق لهما. وبزوال العلاقات الإقتصادية البدائية زالت وحدة الوعي البدائية التي كانت العماد الذي عليه قام الفن الديني الابهي. ومع الإصلاح تلبس الدين طابعا فردويا. فانهارت الرموز الفنية الدينية، وانقطع حبلها السُري الذي كان يصلها بالسماء، وبحثت عن نقطة ارتكاز في صوفية الوجدان الفردي المبهمة.
     في تراجيديات شكسبير، التي ما كان من الممكن تصورها لولا الإصلاح، نجد الأهواء الإنسانية الفردية من حب وغيرة وظمأ الى الإنتقام وشره وصراع الضمير تطرد القدر القديم والأهواء القروسطية. وفي كل مسرحية من مسرحيات شكسبير نجد الهوى الفردي مرفوعا الى درجة من التوتر يتجاوز معها الفرد ويحلق فوق شخصه ويغدو ضربا من القدر: غيرة عطيل، طموح مكبث، شح شايلوك، حب روميو وجولييت، صلف كوريولان، وحيرة هامليت الفكرية. إن  تراجيديا شكسبير فردوية، وبهذا المعنى ليس لها الدلالة العامة التي ل"أوديب ملكا" التي تعبر عن وجدان شعب بأسره. بيد أن شكسبير يمثل، بالمقارنة مع أسخيلوس، خطوة هائلة إلى الأمام ، لا خطوة إلى الوراء. ففن شكسبير أكثر إنسانية. على كل حال، لن نقبل بعده بتراجيديا. الله هو الآمر فيها والإنسان هو المطيع. وعلى كل، لن يكتب إنسان بعده مسرحية تراجيدية كتلك.
     لقد حدد المجتمع البورجوازي لنفسه، أثناء صعوده، وبعد تذريره العلاقات الإنسانية، هدفا كبيرا: تحرير الشخصية. ومن هذا الهدف ولدت مآسي شكسبير و"فاوست" غوته. فقد بات الإنسان يعد نفسه مركز الكون، وبالتالي مركز الفن. وقد سادت هذه الموضوعة طوال قرون. ولم يكن الأدب الحديث برمته سوى إنشاء وصياغة لتلك الموضوعة، لكن الهدف الأولي - تحرير الشخصية و توصيفها -  تلاشى في متاهة ميتولوجيا جديدة لا روح لها حين انكشف أمر عدم كفاية المجتمع القائم المتخبط في تناقضاته التي لا تحتمل ولا تطاق.   
     إن الصراع بين ما هو شخصي وبين ما يتجاوز الشخص يمكن أن يدور على أساس ديني. ويمكن أن يدور أيضا على أساس هوى إنساني يتجاوز الإنسان: في المقام الأول، العنصر الإجتماعي. ومادام الإنسان ليس سيد تنظيمه الإجتماعي، فإن هذا الأخير سيبقى مسلطا عليه كالقدر. وسواء أكان الغلاف الديني حاضرا، أم على العكس ثانويا، فإنه مرتهن بدرجة هجران الإنسان. إن نضال بابوف  في سبيل الشيوعية في مجتمع لما ينضج لها بعد يماثل  نضال بطل من العصور القديم ضد القدر. ومصير بابوف له جميع سمات التراجيديا الحقة، مثله مثل مصير الأخوين غراكوس اللذين استعار بابوف عنهما اسمه (18).
     إن تراجيديا الأهواء الشخصية الجامحة غثة وعديمة الطعم بالنسبة إلى عصرنا. لماذا؟ لأننا نعيش في عصر الأهواء الإجتماعية. تراجيديا عصرنا تتجلى في الصراع بين الفرد والجماعة، أو في الصراع بين جماعتين متعاديتين داخل شخصية واحدة. زماننا هو من جديد زمان المقاصد الكبرى. تلك هي سمته. وتكمن عظمة هذا العصر في مجهود الإنسان ليتحرر من الضباب الصوفي أو الإيديولوجي حتى يبني نفسه ويبني المجتمع بمقتضى خطة رسمها بذاته. وهذه بلا أدنى ريب مشادة أعظم من لعبة القدماء الطفلية التي كانت تنسجم وعصرهم الطفلي، أو أعظم من هذيان رهبان القرون الوسطى، أو من الصلف الفردوي الذي يفصل الفرد عن المجتمع ويستنفد قواه بسرعة إلى آخر رمق ويقذف به في هوة التشاؤم، هذا ان لم يجعله يخر على أربع أمام البقرة حابي التي أحييت عبادتها مؤخرا.
      إن التراجيديا تعبير أدبي سامٍ لأنها تستتبع إصرارا بطوليا على السعي والكد وثباتا في الأهداف والصراع والأهواء. بهذا المعنى كان ستوبين على حق حين وصف بالتفاهة فن "العشية" عندنا، أي على حد تعبيره فن ما قبل الحرب والثورة.
     لم يترك المجتمع البورجوازي والفرودية والإصلاح والدراما الشكسبيرية والثورة الكبرى أي مكان لأي معنى تراجيدي للأهداف التي يتم تحديدها من الخارج؛ فالهدف الكبير لا بد من أن يتجاوب مع وجدان شعب أو طبقة حاكمة حتى يولع شرارة البطولة ويخلق التربة التي تولد فيها العواطف الكبرى التي تنفخ الحياة في التراجيديا. إن الحرب القيصرية، التي كانت أهدافها غريبة عن وجداننا، لم تتمخض الا عن قصائد رخيصة وشعر فردوي ناضج، عاجز عن الإرتفاع الى الموضوعية والفن الكبير.
     لقد كانت المدرستان الرمزية وما قبل الرمزية، بكل تشعباتهما، خربشات، تمرينات، دوزنات مبهمة للأوتار، من وجهة نظر الإرتقاء التاريخي للفن بوصفه شكلا إجتماعيا. وكانت "العشية" في الفن مرحلة بلا هدف. فمن كان له  هدف كان عنده شيء آخر يصنعه غير الإهتمام بالفن. أما اليوم ففي المستطاع الوصول الى أهداف كبرى بواسطة الفن. ومن الصعب أن نتهكن هل سيتاح للفن الثوري الوقت لانتاج تراجيديا ثورية "كبيرة". بيد أن الفن الإشتراكي سيجدد التراجيديا بكل تأكيد، بدون الله طبعا.
     إن الفن الجديد سيكون فنا ملحدا. إنه سيبعث الحياة في الكوميديا، لأن الإنسان سيرغب في الضحك، وسينفخ حياة جديدة في الرواية. وسيهب الغنائية جميع الحقوق، لأن الإنسان الجديد سيحب على نحو أفضل وأقوى مما كان يحب القدماء، وسيحمل أفكاره عن الولادة والموت. وسيحيي الفن الجديد جميع الأشكال التي انبثقت عبر تطور الفكر الخلاق. وانحلال هذه الأشكال وأفولها ليس لهما دلالة مطلقة، كما أن تلك الأشكال لا تتناقض مطلق التناقض مع روح الأزمنة الحديثة. حسب شاعر العصر الجديد أن يرتبط على نحو جديد بأفكار الإنسانية وعواطفها.
***
     إن الهندسة المعمارية هي التي عانت وقاست في الأعوام الأخيرة أكثر مما عانى وقاسى أي فن آخر؛ وهذا ليس في روسيا وحدها. فالمباني القديمة تداعت شيئا فشيئا وآلت إلى أنقاض ولم تشيًّد مباني جديدة محلها. ويواجه العالم بأسره أزمة سكن. فحين انصرف الناس من جديد بعد الحرب إلى العمل، وجهوا إهتمامهم الأول إلى الحاجات اليومية الأساسية، وبعدها الى ترميم وسائل الإنتاج ودور السكن. وعلى كل حال، أن دمار الحرب والثورات التي سيخدم في خاتمة المطاف الهندسة المعمارية، مثلما ساهم حريق 1816 في تجميل موسكو، ولئن كانت المواد  الثقافية القابلة للدمار في روسيا أقل منها في الأقطار الأخرى، فإن يد الدمار عملت فيها بالمقابل على نطاق أوسع، وإعادة البناء تتقدم فيها ببطء أشد الى حد لا يقاس. ولا غرو أن نكون قد أهملنا الهندسة المعمارية ، اكثر الفنون أبهة.
     نحن في سبيلنا اليوم، رويدا رويدا، إلى إعادة رصف الشوارع، والى ترميم الأقنية، والى إنجاز البيوت التي لبثت ناقصة البناء، بيد أننا لا نزال في البداية لا أكثر. لقد شدنا مباني معرض موسكو الزراعي لعام 1923 من الخشب. ولا مناص من مزيد من الإنتظار قبل ان نبني على نطاق واسع. وسوف يتاح الوقت لواضعي المشاريع العملاقة، من أمثال تاتلين، لكي يعملوا الفكر في هذه المشاريع أو يحسنوها أو يعيدوا النظر فيها جذريا. نحن لا نعتقد بالطبع أننا سنستمر في ترميم الشوارع والبيوت القديمة لعشرات عديدة أخرى من السنين. إن الترميم لا غنى عنه في البداية هنا كما في كل مكان آخر، ثم ينبغي أن نستعد بأناة وأن نجمِّع قوانا، قبل أن تبدأ مرحلة التطور السريع. ويوم تتم تلبية حاجات الحياة الماسة الملحة، وتظهر إمكانية توالد فائض، ستضع الدولة السوفياتية في جدول الأعمال مسألة إنشاء مبان عملاقة يمكن لروح عصرنا أن تجد فيها تجسدها. إن تاتلين محق، بكل تأكيد، حين استبعد من برنامجه الطرز القومية والنحت الرمزي والتحف المعجونة من الجص والزينة والزخرفة، وحاول أن يستخدم  مواده على الوجه الصحيح، فعلى هذا النحو شيدت منذ طويل الآماد الآلات والجسور والأسواق المفتوحة. لكن لا بد أيضا من البرهان على أن تاتلين محق فيما يتعلق بابتكاراته الخاصة: المكعب الدائر والهرم والاسطوانة، وكلها مصنوعة من البلور. وسوف تتيح له الظروف والوقت لاستكمال الأدلة واتقانها في تأييد وجهة نظره.
     كان موباسان يكره برج ايفل، وما من إنسان مجبر على تقليده. صحيح أن برج ايفل يخلف في النفس انطباعا متناقضا: تجذبها اليه بساطة شكله ويردها عنه في الوقت نفسه عدم نفعه ولا جدواه. وياله من تناقض: استخدام المادة بصورة لامتناهية العقلانية لبناء برج شاهق العلو لا ينفع في شيء! إنه ليس بناء وإنما لعبة بناء. لكننا بتنا نعلم اليوم أن برج ايفل يستخدم كمحطة للإذاعة. وهذا ما يضفي عليه معنى ويجعله أكثر انسجاما من وجهة النظر الجمالية. ولو أنه شيد من البداية برسم هذه الغاية، لجاءت أشكاله في ارجح الظن أكثر عقلانية، ولكان جماله الفني أعظم.
     كذلك لا نستطيع أن نوافق على الحجج التي تُبرر بها جمالية تاتلين. فهو يريد أن يبني من البلور قاعات اجتماع ل"المجلس العالمي لمفوضي الشعب" و"الأممية الشيوعية" الخ. فالعضادات والأعمدة التي ينتصب عليها الأسطوانة والهرم الزجاجيان – وليس لها غير تلك الفائدة – غليظة وثقيلة حتى ليكاد يحسبها المرء صقالة منسية. إننا لا ندرك علة لوجودها. وإذا ما  قيل لنا أن المفروض فيها أن تدعم الأسطوانة التي ستتم فيها الإجتماعات، ففي وسعنا أن نجيب أنه ليس من الضروري أن تعقد الاجتماعات في أسطوانة، وأنه ليس من الضروري أن تدور الاسطوانة . أذكر أني رأيت في طفولتي كنيسة محبوسة في زجاجة جعة، فاستثار ذلك مخيلتي من دون أن أتساءل ما النفع منه. وتاتلين يسلك الطريق المعاكس. فهو يريد أن يحبس الزجاجة البلورية الخاصة بالمجلس العالمي لمفوضي الشعب في معبد حلزوني من الإسمنت المسلح. وهنا لا يسعني الا أن أتساءل: لماذا؟ وعلى كل حال، لا اعتراض لنا على الأسطوانة ودورانها إذا كان بناؤها بسيطا وخفيفا، وإذا كانت أواليات تدويرها لا تسحق البناء بأسره تحت ثقلها.
     كذلك لا نستطيع أن نوافق على الحجج التي يفسرون لنا بها الأهمية الفنية والتشكيلية لنحث يعقوب ليبشيتز. فهم يقولون أن النحت مطالب بأن يفقد استقلاله الوهمي، ذلك الإستقلال الذي جعله يعيش حياة خاملة في فناء الحياة الخلفي أو في مقابر المتاحف. مطالب بأن يؤكد روابطه بالهندسة المعمارية، وبأن يحتفي بها في إطار تركيب أسمى وأرقى. والنحت مطالب، بهذا المعنى الواسع، بأن يجد تطبيقا نفعيا. حسنا. لكن ما السبيل الى تطبيق هذه الأفكار على تشكيليات ليبشيتز؟ تظهر لنا الصورة الفوتوغرافية مستويين يتقاطعان، تتفتق خطوطهما عن رجل جالس وبين يديه أداة. يقولون لنا إذا لم يكن ذلك نافعا فهو "وظيفي". بأي معنى؟ حتى نحكم على الوظيفية، لا بد لنا أن نعرف الوظيفة. لو فكرنا باللاوظيفية أو بالنفع المحتمل لذانك المستويين اللذين يتقاطعان، لتلك الأشكال المقرّنة والنافرة، لتحول النحت في نهاية المطاف الى مشجب. ولو كان النحات وضع نصب عينيه أن يصنع مشجبا لكان وجد، في أرجح الظن، شكلا أكثر ملاءمة. كلا، لا يسعنا أن نوصي بصب مثل هذه المِدَمَّة (19) في الجص.
     تبقى هناك فرضية واحدة: أن تشكيليات ليبشينز، مثلها مثل فن كروتشينيخ اللفظي، لا تعدو أن تكون محض تمارين تقنية، سلالم أنغام من منظار موسيقى المستقبل ونحته. و في هذه الحال، لا يجوز تصوير التنغيم على أنه هو الموسيقى. الا فلندعها في المشغل، ولا نظهرن صورها الفوتوغرافية.
***
     لا يداخلنا ريب في أن مهمات أبهية مثل التخطيط الجديد للمدن – الحدائق والبيوت النموذجية والسكك الحديدية والمرافئ ستستأثر في المستقبل، ولاسيما في المستقبل البعيد، باهتمام الجماهير الشعبية الواسعة لا باهتمام المهندسين والمعماريين وحدهم. فبدلا من تكديس الأحياء والشوارع بعضها على بعض، حجرا حجرا، جيلا بعد جيل، على طريقة النمل، سيشيد المهندس المعماري، والفرجار في يده، مدنا - قرى لا يستوحيها إلا من الخريطة. وسوف تطرح مخططاته على بساط النقاش، وستتشكل تكتلات شعبية حقيقية تأييدا لها أو معارضة، وأحزاب تقنية – معمارية لها نشاطها التحريضي وعواطفها الجياشة ومهرجاناتها واقتراعاتها. وستنبض الهندسة المعمارية من جديد بنفح عواطف الجماهير وأمزجتها، على صعيد أرقى وأسمى، وستعتاد الإنسانية، المنشأة تنشئة أكثر "تشكيلية"، على اعتبار العالم صلصالا طيعا قابلا للتقولب في أشكال متزايدة الجمال باستمرار. إن الجدار الذي يفصل الفن عن الصناعة سيؤول الى هدم. وطراز المستقبل العظيم سيكون تشكيليا بدلا من أن يكون زخرفيا. والصواب يحالف المستقبليين بصدد هذه النقطة. بيد أن ذلك لا يبيح لنا أن نتكلم عن إقصاء الفن وتصفيته على يد الصناعة.
     لنتأمل مدية. فالفن والتقنية يمكن ان يتآلفا فيها على شكلين: فإما أن تٌزخرف المدية بتزيين نصلها برسم ملكة من ملكات الجمال أو برج ايفل، وإما أن يساعد الفن التقنية على ايجاد شكل "مثالي" للمدية، شكل أكثر انسجاما مع مادتها وموضوعها. ومن الخطأ أن نتصور أنه من الممكن التوصل الى ذلك بوسائل تقنية صرف؛ فالموضوع والمادة قابلان لعدد لا يقع تحت حصر من التشكيلات. ولصنع مدية "مثالية" لا بد من معرفة خواص المادة وطرائق الشغل فيها، ولا بد أيضا من خيال وذوق. ونحن نعتقد، ضمن خط تطور الثقافة الصناعية، أن الخيال الفني سيضع نصب عينيه انشاء شكل جمالي للموضوع كموضوع، لا زخرفته التي هي علاوة تضاف اليه. وإذا كان ذلك يصح بالنسبة الى مدية، فإنه سيكون أكثر صحة بالنسبة الى الملبس والأثاث والمسرح والمدينة. هذا لا يعني بالطبع أنه لن تعود هناك حاجة الى العمل الفني، حتى في أبعد مستقبل ممكن تصوره. وانما يعني أن الفن مطالب بالتعاون وثيق التعاون مع جميع فروع التقنية.
     هل ينبغي أن نتصور أن الصناعة ستمتص الفن، أو أن الفن سيرقى بالصناعة الى قمة أولمبه؟ إن الجواب سيختلف تبعا لتناول المسألة من زاوية الصناعة أو من زاوية الفن. أما من حيث النتيجة الموضوعية، فلا فرق . فالحالتان كلتاهما تفترضان ازدهارا عملاقا للصناعة وارتقاءا عملاقا لطابعها الفني. ونحن نقصد هنا بالطبع بالصناعة كل نشاط الإنسان المنتج، بما فيه الزراعة الممكنة والمكهربة.
     إن الجدار الذي يفصل الفن عن الصناعة، وكذلك الجدار الذي يفصل الفن عن الطبيعة، سينهاران. لا بالمعنى الذي كان جان جاك روسو يقول به أن الفن سيقترب أكثر فأكثر من الطبيعة، وإنما بمعنى أن الطبيعة ستٌقرب من الفن أكثر. إن الموقع الراهن للجبال والأنهار والحقول والمروج والسهوب والغابات والسواحل لا يمكن أن يعد نهائيا. لقد أجرى الإنسان من الآن تغيرات محددة لا تخلو من أهمية في خريطة الطبيعة، ولكنها لا تعدو أن تكون تمارين مدرسية بسيطة بالمقارنة مع ما سيأتي به الغد. لقد كان في وسع الإيمان ان يعد فقط بنقل الجبال، أما التقنية التي لا تقبل بشيء "على أساس الإيمان" فإنها ستهيرها وستبدل مواقعها. هي لم تفعل ذلك الى الآن إلا لأهداف تجارية أو صناعية (مناجم وانفاق)، لكنها ستفعله في المستقبل على نطاق أوسع بما لا يقاس، طبقا لمخططات إنتاجية وفنية شاملة. سوف يجري الإنسان جردة جديدة للجبال والأنهار. وسوف يدخل تعديلات جدية ومتتالية على الطبيعة. ومن المحتمل ان يعيد صياغة الأرض وتشكيلها بحسب ذوقه. وليس ثمة ما يدعونا الى التخوف من أن ذوقه سيكون  فقيرا.
     يصرح الشاعر كليويف بخبث في حِجاجه مع ماياكوفسكي أنه "لا يناسب الشاعر أن يهتم بالرافعات الميكانيكية " وأن "ذهب الحياة الأرجواني مصهور في بوتقة القلب لا في أي بوتقة أخرى". ويأتي ايفانوف رازومنيك، وهو شعبوي كان اشتراكيا ثوريا يساريا – وهذا القول يغني عن قول آخر – ليضيف إلى المناقشة حبة ملحه. يصرح ايفانوف رازومنيك، مستهدفا ماياكوفسكي، أن شعر المطرقة و الآلة سيكون عارضا. حدثونا إذن عن "الأرض البدائية"، "شعر الكون الأزلي". من جهة معين أزلي للشعر، ومن الجهة الثانية العرض الزائل. وبديهي أن  رازومنيك، المثالي شبه المتصوف، الحصيف المحترس التفه، يؤثر الأزلي الأبدي على العارض الزائل. والحال أن هذه المقابلة بين الأرض والآلة غير ذات موضوع؛ اذ ليس في الإمكان معارضة الريف المتأخر بالطاحون أو بالمزرعة او بالمشروع الإشتراكي. ليس شعر الأرض خالدا، بل متغير. ولم يطفق الإنسان يغني الا بعد أن وضع بينه وبين الأرض أدوات، آلات بدائية. لولا الفأس والمنجل والمحراث لما وجد الشعر الفلاحي. هل يعني هذا أن الأرض بالمنجل لها امتياز الخلود والأبدية على الأرض  بالمحراث الكهربائي؟ إن الإنسان الجديد، الذي هو في سبيله الى الولادة، لن يعارض، كما يفعل كليويف ورازمونيك، الرافعات الميكانيكية والمطارق الآلية بالأدوات المصنوعة من العظم أو الحسك. سوف يسيطر الإنسان الاشتراكي على الطبيعة بكاملها، بتدارجها وأحفاشها(20)، بواسطة الآلة. وسوف يعين الأماكن التي ينبغي أن تنهار عندها الجبال، وسوف يغير مجرى الأنهار ويطوق المحيطات ويحسبها. يمكن  للمثاليين البلهاء أن يقولوا أن ذلك كله قد تذهب متعته وتزول بهجته في خاتمة المطاف، ولكنهم لهذا السبب بالذات بلهاء. هل يتصورون أن الكرة الأرضية ستنظم بأسرها أدق التنظيم، وأن الغابات ستحول الى حدائق وبساتين؟ الحق أنه ستبقى هناك أدغال وغابات، تدارج ونمور، حيثما يأمرها الإنسان بأن تبقى. وسيتصرف الإنسان على نحو لا يلاحظ معه النمر وجود الآلة فيتابع الحياة على سابق منواله. إن الآلة لن تنتصب في وجه الأرض معارضة لها. فهي أداة للإنسان الحديث في جميع ميادين الحياة. وإذا كانت مدينة اليوم "مؤقتة"، فهذا لا يعني أنها ستذوب في القرية القديمة. بل على العكس: سوف ترتفع القرية الى مستوى المدينة. وتلك ستكون مهمتنا الرئيسية. المدينة "مؤقتة"، لكنها تشير الى المستقبل وتدل على الطريق. أما القرية الراهنة فهي برمتها بنت الماضي، وجماليتها قديمة أكل الدهر عليها وشرب وكأنها مستخرجة من متحف للفن الشعبي.
     سوف تخرج الإنسانية من مرحلة الحروب الأهلية مفقرة، منهكة، بنتيجة الدمار الرهيب، هذا إذا لم نتكلم عن الهزات الأرضية كتلك التي حدثت في اليابان مؤخرا. وسيكون شاغلنا الأول خلال عشرات وعشرات السنين العمل على قهر الفقر والجوع والحاجة في شتى أشكالها، أي تأهيل الطبيعة وتدجينها. وخلال المرحلة الأولى من كل مجتمع اشتراكي فتي ستكون الحماسة عظيمة للجوانب الإيجابية في طريقة الحياة الأمريكية. ولقد ولى من منظار الفن زمان الإستمتاع السلبي بالطبيعة، وسوف تكون التقنية معين إلهام عظيم للإبداع الفني. وفي يوم آت، ستنحل المعارضة بين التقنية والفن في تركيب أسمى وأرقى.
 
***
 
     إن هذا المنظور يتفق على أحسن وجه مع الأحلام الراهنة لبعض المتحمسين المتطلعين إلى صبغ الوجود الإنساني بصبغة درامية والى إشاعة تناغم موزون فيه. فالإنسان، سيد اقتصاده، سيقلب رأسا على عقب الحياة اليومية الآسنة. وستحل المبادرة الإجتماعية محل الأسرة في عمل تغدية الأولاد وتنشئتهم المضجر. وستنفض المرأة عن نفسها أخيرا نير ما يكاد أن يكون عبودية لها ورقا. والى جانب التقنية، سيقوم علم التربية بتكوين أجيال جديدة وبتوجيه الرأي العام. وستشهد تجارب التنشئة الإجتماعية، من خلال تنافس المناهج، تطورا لا يمكن تصوره اليوم. ولن ينمو طراز الحياة الشيوعي خبط عشواء، على غرار شعب المرجان في البحر. وإنما سيتم بناؤه بوعي. وسيكون خاضعا لرقابة الفكر النقدي. إن الإنسان، الذي سيقدر على تحويل الأنهار وتبديل أماكن الجبال، والذي سيتعلم كيف يبني قصورا للشعب على مرتفعات الجبل الأبيض او في عرض المحيط الأطلسي، سيعطي وجوده الغنى والتوترالدرامي والدينامية في أعلى درجاتها. وما أن تشرع قشرة بالتكون على سطح الوجود الإنساني حتى تتشقق تحت ضغط ابتكارات ومنجزات جديدة. كلا، إن حياة المستقبل لن تكون رتيبة.
     أخيرا سيشرع الإنسان بصورة جدية بتحقيق التناغم داخل كيانه بالذات. فهو سيتطلع الى أن تتحلى حركات جسمه في العمل والسير واللعب  بمزيد من الدقة والروية والتناسق، وبالتالي بمزيد من الجمال. وسيتطلع أيضا الى السيطرة على العمليات نصف الشعورية و اللاشعورية في جسمه: التنفس، دوران الدم، الهضم، الإنسال. وسيسعى، ضمن حدود محتمة، الى اخضاعها لرقابة العقل و الإرادة، والإنسان العاقل، الذي هو في حالة تجمد الآن، سيعامل نفسه بنفسه كموضوع لاعقد الطرائق وللانتخاب الصناعي وللتمارين النفسية – الجسيمة.
     إن هذه المنظورات تنبثق من كل تطور الإنسان. فقد شرع بتبديد ظلمات الإنتاج والايديولوجيا، وبتحطيم رتابة عمله البربرية بواسطة التكنولوجيا، وبالإنتصار على الدين بواسطة العلم. وقد نفى اللاشعور واللاوعي من السياسة باطاحته بالملكيات التي أحل محلها ديموقراطيات وأنظمة برلمانية أكثر عقلانية، ثم الديكتاتوريات السوفياتية التي لا يحوطها لبس. وبواسطة التنظيم الاشتراكي ينحي من العلاقات الاقتصادية العفوية العمياء البدائية. وهذا ما يتيح إمكانية إعادة بناء حياة الأسرة التقليدية على أسس مغايرة تماما. وأخيرا، اذا كانت طبيعة الإنسان قابعة في أظلم خبايا اللاشعور أفلا يكون من البديهي أن تتجه في هذا الإتجاه أعظم جهود الفكر الذي يبحث ويبدع؟ هل ثمة من داع لكي يستسلم الجنس البشري، بعد أن ما عاد يزحف امام الله والقيصر والرأسمال، لقوانين الوراثة والإنتخاب الجنسي الأعمى التي يحيط بها الظلام؟ إن الإنسان، بعد ان يصير حرا، سيسعى الى بلوغ توازن أفضل في أداء أعضائه لعملها والى نمو أكثر انسجاما في أنسجته. وبذلك سيحصر الخوف من الموت في حدود رد فعل عقلاني للجسم أمام الخطر. وبالفعل، لا شك في أن انعدام الإنسجام التشريحي والفيزيولوجي وإختلال التناسب في تطور أعضائه أو في  استخدام أنسجته يصبغان غريزة الحياة فيه بذلك الخوف المرضي، الهستيري، من الموت، وهذا الخوف يضرم بدوره في نفسه أوار التخيلات الغبية والمذلة عن الآخرة. سوف يحاول الإنسان أن يتحكم بمشاعره وعواطفه، وأن يرقى بغرائزه إلى مستوى الشعور والوعي، أن يجعلها شفافة، وأن يخترق بإرادته دياميس اللاشعور. وبذلك سيرتفع بنفسه الى مستوى أعلى، وسيخلق نمطا بيولوجيا واجتماعيا أرقى، إنسانا أسمى إذا شئتم.
     ليس ثمة من فارق في الصعوبة بين التكهن بحدود ما يمكن أن يتوصل اليه الإنسان من سيطرة على ذاته وبين التكهن بالمدى الذي يمكن أن يبلغه تطور سيطرته التقنية على الطبيعة. فروح البناء الاجتماعي والتربية النفسانية – الجسمانية الذاتية ستكونان بمثابة وجهين توأمين لسيرورة واحدة. وستضفي الفنون جميعا – الأدب، المسرح، الرسم، النحت، الموسيقى، الهندسة المعمارية – على تلك السيرورة شكلا ساميا رفيعا. وبعبارة أدق، إن الشكل الذي ستتلبسه سيرورة البناء الثقافي والتربية الذاتية للإنسان الشيوعي سيطور إلى أقصى حد ممكن العناصر الحية في الفن المعاصر. سوف يصبح الإنسان أقوى وأعقل وأرهف بما لا يقاس. وسوف يغدو جسمه أكثر اتساقا، وحركاته أحسن توازنا، وصوته أكثر شجوا. وسوف تكتسب أشكال وجوده صفة درامية عميقة. وسوف يكون الإنسان المتوسط في مستوى أرسطو أو غوته أو ماركس. وفوق هذه الذرى سوف ترتفع قمم جديدة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المستقبلية
 
 
     المستقبلية  ظاهرة أوروبية. وتكمن أهميتها، في ما تكمن، في أنها، بخلاف ما تؤكده المدرسة الشكلية الروسية، لم تحبس نفسها في إطار الشكل الفني، بل ارتبطت من البداية، في ايطاليا على وجه الخصوص، بالأحداث السياسية والاجتماعية.
     لقد كانت المستقبلية انعكاسا في الفن للمرحلة التاريخية التي بدأت في أواسط سنوات 1890 واكتملت مباشرة في الحرب العالمية. كان المجتمع الرأسمالي قد عرف عقدين من نهوض اقتصادي منقطع النظير، طوح بالأفكار القديمة التي كانت شائعة عن الغنى والقوة، وأوجد  مقاييس جديدة ومعايير جديدة للممكن والمستحيل، وانتشل الناس من خمولهم المستكين ليرمي بهم في مجازافات جديدة.
     بيد أن الأوساط الرسمية تابعت حياتها على منوال أواليات البارحة. فالسلام المسلح بلصقاته الدبلوماسية، والنظام البرلماني الخاوي، والسياسة الداخلية والخارجية القائمة على منظومة من صمامات الأمان والكوابح، هذا كله كان يثقل بباهظ وطأته على الشعر في ظرف كان فيه الجو المشحون بالكهرباء يوعد بانفجارات كبيرة وشيكة. وقد كانت المستقبلية البارقة المنذرة بها في الفن.
     لقد لوحظت  ظاهرة تكررت أكثر من مرة في التاريخ: فالبلدان المتأخرة، التي لا تتألق  بثقافة خاصة، تعكس بسطوع أكبر وبقوة أشد في ايديولوجياتها منجزات البلدان المتقدمة. هكذا عكس الفكر الألماني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر المنجزات الاقتصادية لانكلترا والمنجزات السياسية لفرنسا. كذلك، تدرك المستقبلية اسطع تعبير لها لا في أمريكا أو في المانيا، وانما في ايطاليا وروسيا.
     إن الفن، إذا استثنينا منه الهندسة المعمارية، لا يقوم الا في آخر درجة على التقنية، أي بمقدار ما تقدم التقنية قاعدة لجميع البنى الفوقية. وتبعية الفن العملية، وبخاصة فن الكلمات، للتقنية لا يعتد بها. فمن الممكن أن نكتب قصيدة تتغنى بناطحات السحاب والمناطيد المسيرة والغواصات في ركن ناء في ريف روسي، على ورق أصفر وبقلم رصاص. فحتى تلتهب مخيلة ذلك الريف المضطرمة، يكفي تماما أن تكون ناطحات السحاب والمناطيد المسيرة والغوصات موجودة في أمريكا. فالكلمة هي من بين جميع مواد البناء أكثرها قابلية للنقل.
     لقد ولدت المستقبلية كمنعرج من منعرجات نهر الفن البورجوازي، وما كان يمكن أن تولد على غير هذا النحو. وطابعها المعارض العنيف لا ينفي تلك الحقيقة.
     إن الانتلجانسيا بعيدة كل البعد عن التجانس. وكل مدرسة فنية معترف بها هي مدرسة تغدق عليها المكافآت، ويقودها مثقفون نافذون، كثيرة أزرارهم. وبوجه الإجمال، يتولى هؤلاء المتنفذون في الفن عرض مناهج مدارسهم بأكبر قدر من  البراعة، مستهلكين في الوقت نفسه مؤونتهم من البارود. فإذا ما طرأ تبدل موضوعي ما، انتفاضة سياسية أو عاصفة اجتماعية، أخذ الهياج البوهيميا الأدبية، الشبيبة، العباقرة الذين ما يزالون في سن خدمة العلم والذين يلعنون الثقافة البورجوازية، الشبعى والمبتذلة، ويحلمون سرا ببعض الازرار  لهم، الذهبية إذا أمكن.
     إن أولئك الذين يعلقون من بين الباحثين، لتحديد الطبيعة الاجتماعية للمستقبلية في بداياتها، أهمية فاصلة على الاحتجاجات العنيفة على الحياة والفن البورجوازيين، تنقصهم بكل بساطة الدراية الكافية بتاريخ الاتجاهات الأدبية. فقد كان الرومانسيون، الفرنسيون منهم أم الألمان، يتكلمون على الدوام بلاذع الكلام عن الأخلاق البورجوازية والرتابة. وكانوا، فضلا عن ذلك، يرسلون شعورهم، ويتكلفون سحنة ضاربة الى الخضرة، وكان تيوفيل غوتييه يرتدي، حتى يجلل البورجوازية بالعار، صدرية حمراء صارخة. وليس من ريب البتة في أن قميص المستقبليين الأصفر نسيب للصدرية الرومانسية التي أثارت ما أثارته من الإشمئزاز لدى البابوات والماموات. ومعلوم للجميع أن ما من كارثة أعقبت تلك الاحتجاجات والشعور الطويلة وصدرية الرومانسية الحمراء. لقد تبنى الرأي العام البورجوازي بلا ضرر أولئك السادة وطوبهم في موجزاته المدرسية.
     إنه لمن السذاجة بمكان معارضة طابع البورجوازية "الانحطاطي" بدينامية المستقبلية الإيطالية وتعاطفها مع الثورة. ولا يجوز تصور البورجوازية وكأنها هر عجوز قيد الاحتضار. كلا، فالوحش الإمبريالي جسور، مرن،  وذو مخالب. أنكون قد نسينا، يا ترى أمثولة 1914؟ فقد استخدمت البورجوازية، حتى تشن حربها، بقدر الإمكان العواطف والأمزجة المقيض لها، بحكم طبيعتها، أن تغذي التمرد. وفي فرنسا، صُوّرت الحرب وكأنها تتويج الثورة الكبرى. أفلم تنظم البورجوازية المحاربة، بالفعل، ثوراث  في أقطار أخرى؟ وفي إيطاليا كان "الثوريون" تدخليين (أي أنصار للتدخل في الحرب)، ونعني ب"الثوريين" الجمهوريين والماسونيين والاشتراكيين - الشوفنيين والمستقبليين. وأخيرا، ألم تصل الفاشية الإيطالية إلى السلطة بطرائق "ثورية"، بإثارتها الجماهير والجموع وملايين الناس، وبتنشيطهم وتسليحهم؟ وليس من قبيل المصادفة أو سوء التفاهم أن تكون المستقبلية الإيطالية قد صبت في سيل الفاشية. فذلك يتفق تمام الإتفاق والأحداث.
     ولدت المستقبلية الروسية في مجتمع ما يزال في المرحلة التمهيدية المتمثلة في الكفاح ضد راسبوتين، ويأخذ استعداداته للثورة الديمقراطية في شباط 1917. هذا ما ميز مستقبليتنا ومازها على غيرها. فقد تمثلت ايقاعات حركة وعمل وهجوم وتدمير كانت لاتزال مبهمة. وخاضت النضال كي تجد لنفسها مكانا تحت الشمس، بعزم وصلابة وضجة فاقت كل ما فعلته المدارس السابقة، وهذا ما كان يرضي مزاجها ووجهات نظرها التطرفية. صحيح أن المستقبلي الغض العود ما كان يذهب الى المصانع، لكنه كان يثير الكثير من اللجبة في المقاهي، ويقلب مقارئ الموسيقى، ويتسربل بقميص أصفر، ويصبغ وجنتيه، ويرفع قبضته بلا تعيين.
     بيد أن الثورة البروليتارية انفجرت في روسيا قبل أن يسنح الوقت للمستقبلية كي تتحرر من صبيناتها وقمصانها الصفر وهيجانها، وقبل أن تحظى بالاعتراف الرسمي بها، أي  قبل أن تتحول الى مدرسة فنية غير مؤذية سياسيا، وذات أسلوب مقبول. لقد فاجأ استيلاء البروليتاريا على السلطة المستقبلية، باغتها في الوقت الذي كانت ما تزال مضطهَدة! وقد دفع هذا الظرف بالمستقبلية نحو سادة الحياة الجدد، ولاسيما أن فلسفتها، أي عدم احترامها للقيم القديمة وديناميتها، قد سهلت عليها الإقتراب من الثورة والإحتكاك بها. لكن المستقبلية حملت معها، في الطور الجديد من تطورها، بصمات أصلها الاجتماعي، أي البوهيميا البورجوازية.
 
***
 
     لئن كانت المستقبلية تقف في طليعة الأدب، فإنها تبقى، مثلها في ذلك مثل أي مدرسة أدبية أخرى معاصرة، نتاجا للماضي الشعري. والقول بأن المستقبلية حررت الفن من روابطه السحيقة القدم بالبورجوازية، كما كتب الرفيق تشوجاك، تقدير يبخس حق ذلك الماضي السحيق القدم. ودعوة المستقبليين إلى القطيعة مع الماضي، الى التخلص من بوشكين، الى تصفية التراث، الخ، دعوة ذات معنى بقدر ما هي موجهة إلى الطائفة الأدبية القديمة المغلقة على نفسها، الى دائرة الأنتيلجانسيا المقفلة. بعبارة أخرى، ليس لها من معنى الا بقدر ما ينهمك المستقبليون في قطع الحبل السري الذي يشدهم الى أحبار التراث الأدبي البورجوازي.
     لكن تلك الدعوة تغدو لاغية المعنى على نحو لا يقبل جدالا، ما أن تتوجه الى البروليتاريا. فالطبقة العاملة ليست ولا يمكن أن تكون مطالبة بالقطيعة مع التراث الأدبي، لأنها لا تجد نفسها أسيرة مثل ذلك التراث. إن الطبقة العاملة لا تعرف الأدب القديم، وما يزال عليها أن تتآلف معه، أن تتمكن من بوشكين، وأن تستوعبه، وأن تتجاوزه كذلك. إن قطيعة المستقبليين مع الماضي هي، بعد كل شيء، عاصفة في العالم المغلق للانتيلجانسيا المترعرعة على بوشكين وفيث وتيوتشيف وبريوسوف وبالمونت وبلوك، الانتليجانسيا "الماضوية"(passéiste) لا لأنها مصابة بعدوى توقير خرافي لأشكال جديدة. ليس عندها، بكل بساطة، شيء تقوله. إنها تكرر وتعيد المشاعر القديمة بكلمات شبه جديدة. وقد أحسن المستقبليون صنعا بافتراقهم عنها. لكن لا يجوز تحويل هذا الانفصال الى قانون كوني للتطور.
     في الرفض المستقبلي المشتط للماضي لا تختبئ وجهة نظر ثورية بروليتارية، وانما عدمية البوهيميا. إننا، نحن الماركسيين، نعيش مع تراث وتقاليد، ولا نكف بسبب ذلك عن أن نكون ثوريين. لقد درسنا وحفظنا في أذهاننا حية تقاليد عامية باريس منذ ما قبل ثورتنا الأولى. ثم إنضافت اليها تقاليد 1905 التي كانت لنا بمثابة غداء مقيت هيأنا للثورة الثانية. وقد توغلنا الى أبعد من ذلك في الماضي، فربطنا العامية بأيام تموز 1848 وبالثورة الفرنسية الكبرى. وفي مضمار النظرية، استندنا، عبر ماركس، الى هيغل والاقتصاد الكلاسيكي الإنكليزي. وقد عشنا على التقاليد الثورية، نحن الذين كانوا قد نشؤوا ودخلوا المعركة في عصر من التطور العضوي للمجتمع. وقد رأينا بأم أعيننا أكثر من اتجاه أدبي واحد يعلن حربا عديمة الشفقة على "الروح البورجوازية" وينظر الينا شزرا. وكما تعود الريح دوما وأبدا الى مجاريها، وجد أولئك الثوريون الأدبيون، أولئك المدمرون للتقاليد، سبيلهم من جديد الى المسالك الأكاديمية. وقد بدت ثورة أكتوبر للانتلجانسيا، بما فيها جناحها اليساري الأدبي، وكأنها التدمير الشامل للعالم الذي كانت تعرفه، لذلك العالم عينه الذي كانت تبت بين الفينة والفينة صلتها به حتى تبدع مدراس جديدة، والذي كانت دوما وأبدا ترتد اليه. أما بالنسبة الينا فقد كانت الثورة تجسد، على العكس التراث المألوف، المتمثّل. فنحن إذ غادرنا عالما لفظناه نظريا ونسفناه عمليا، كنا في سبيلنا الى دلوف عالم مألوف لدينا مسبقا بفعل الثراث والخيال. هنا يتعارض النمط السيكلوجي للشيوعي، الرجل السياسي الثوري، مع النمط السيكولوجي للمستقبلي، المجدد الثوري في الشكل. ذلكم هو منبع سوء التفاهم الذي يفصل بينهما. الداء لا يكمن في "نفي" المستقبلية للتقاليد المقدسة للانتيلجانسيا. إنما يكمن، على العكس، في واقع أنها لا تشعر نفسها منتمية الى التراث الثوري. وفي حين أننا دخلنا في الثورة، سقطت فيها المستقبلية  سقوطا.
     على أن الوضع ليس ميئوسا منه. فالمستقبلية لن تعود الى "مجاريها" لان هذه المجاري لم يعد لها من وجود. وهذا الظرف، الذي لا يخلوا من مغزى ودلالة، يعطي المستقبلية إمكانية بعث، إمكانية دخول في الفن الجديد، لا بصفتها التيار الغالب، وإنما كواحد من أهم مركباته.
 
***
 
     تتألف المستقلبية الروسية من عدة عناصر مستقلة بعضها عن بعض بما فيه الكفاية، ومتناقضة أحيانا. فنحن نلقى فيها انشاءات ودراسات في فقه اللغة تتميز بتقليدها للقدامى (خلبنيكوف، كروتشينيخ) أو لا تنتمي على كل حال الى الشعر، وعروضا، أي نظرية في الطرائق والأساليب، وفلسفة، بل فلسفتين للفن، أولاهما شكلية (شلوفسكي) وثانيتهما متجهة نحو الماركسية (آرفاتوف، تشوجاك، الخ)، وأخيرا الشعر نفسه كإبداع حي. نحن لا نرى في الوقاحة الأدبية عنصرا مستقلا: فهي مقرونة على وجه الاجمال بأحد العناصر الأساسية. حين يقول كروتشينيخ أن المقاطع العارية من المعنى "دير، بول، تشيل" تحتوي من الشعر أكثر مما يحتوي بوشكين كله (أو ما شابه ذلك)، فإن مثل هذا القول يحتل مكانه في منتصف المسافة بين العروض الفقهي واللغوي وبين -اغفروا لي ذلك- وقاحة من ذوق فاسد. إن فكرة كروتشينيخ يمكن أن تعني، لو ارتدت شكلا أكثر اعتدالا، ان مَوسقة بيت الشعر على مقام "دير، بول، تشيل" توائم بنية اللغة الروسية وروح أصواتها أكثر من مَوسقة بوشكين المتأثرة عن لاوعي باللغة الفرنسية. وسواء أصح ذلك أم لم يصح، فمن البديهي أن "دير، بول، تشيل" ليس مستقاة من عمل مستقبلي، وعلى هذا لا مجال للمقارنة. لعل أحدهم سينظم قصائد بمقتضى هذا المفتاح الموسيقي والفقهي اللغوي تأتي متفوقة على قصائد بوشكين. لكن لا مناص لنا من الانتظار.
     إن ابداعات خلبنيكوف وكروتشينيخ من الكلمات تقف هي الأخرى خارج الفن الشعري. إنها فقه لغة ذو طابع ملتبس، وهي جزئيا ضرب من علم الأصوات اللغوية، ولكنها بالتأكيد ليست شعرا. انه لمن المحقق أن اللغة تحيا وتتطور، فتخلق ألفاظا جديدة بدءًا من ذاتها وتنحي الألفاظ المهجورة. لكنها تفعل ذلك ببالغ الحذر، بحساب، وطبقا لحاجاتها الماسة. وكل عصر جديد كبير يعطي اللغة دفعا. واللغة تستوعب بالفعل عددا كبيرا من الألفاظ المستحدثة، ثم تقوم بضرب من تسجيل جديد، فتلفظ كل ما هو فائض عن الحاجة وأجنبي. وصياغة خلبنيكوف أو كروتشينيخ لعشر أو لمئة من الكلمات الجديدة، المشتقة من جذور قديمة، يمكن أن تتمخض عن بعض الفائدة من زاوية فقه اللغة ؛ يمكن، الى حد بالغ التواضع، أن تسهل تطور اللغة الحية، بل وحتى اللغة الشعرية، وأن تبشر بمرحلة يتم فيها توجيه الانشاء بمزيد من الوعي. لكن هذا العمل، المساعد للفن، يقع هو ذاته خارج نطاق الشعر.
     ليس هناك من داع البتة للسقوط في حالة من الوجد الورع إزاء أصوات ذلك الشعر فوق العقلي الذي يشبه سلالم أنغام وتمرينات على المهارة اللفظية، قد تكون نافعة من دفاتر التلاميذ، ولكن غير مناسبة بالمرة على خشبة المسرح. على كل حال، من الواضح أن محاولة إحلال تمرينات "ما فوق العقل" محل الشعر لا بد أن تؤدي الى خنق الشعر. وبالأصل، لا تسلك المستقبلية هذا الطريق. فماياكوفسكي، الذي هو بلا أدنى جدال شاعر، يأخذ كلماته بوجه الإجمال من معجم داهل الكلاسيكي، ونادرا جدا من مفردات خلبنيكوف أو كروتشينيخ. وطردًا مع مرور الزمن، يتضاءل أكثر فأكثر استخدام ماياكوفسكي لإنشاءات عسفية من الكلمات أو لالفاظ  مستحدثة.
     إن المشكلات التي يثيرها منظِّروا جماعة "ليف" بصدد الفن وصناعة الآلات، الفن الذي لا يجمِّل الحياة بل بقولبها، وبصدد الثأثير المحقق الذي تمارسه على تطور اللغة والتشكيل النهاجي للألفاظ الميكانيكا البيولوجية بوصفها مربية لنشاطات الإنسان بروح نزعة عقلانية أرحب وأوسع، وبالتالي بروح جمال أعظم، هي جميعها مشكلات فائقة الأهمية ومثيرة للاهتمام من منظور بناء ثقافة اشتراكية.
     من سوء الحظ أن "ليف" تلون مناقشة تلك المشكلات بتعصب مذهبي طوباوي. فحتى عندما يحدد منظِّرو "ليف" تحديدا صحيحا الاتجاه العام للتطور في مضمار الفن والحياة، يستبقون التاريخ ويعارضون ما هو كائن بمخططهم أو بطريقتهم. هكذا يحرمون أنفسهم من كل جسر الى المستقبل. إنهم يذكروننا بالفوضويين الذين يستبقون انعدام وجود حكومة في المستقبل، فيعارضون بمخططاتهم السياسة والبرلمانات وعدة وقائع أخرى لا بد أن ينفضها وضع الأمور القائم عن كاهله على ما يتخيلون. في الواقع، انهم يدفنون أنوفهم، مع أنهم لم يحرروا مؤخراتهم الا لتوهم. يشهد ماياكوفسكي، بأبيات معقدة ومقفاة، على عدم لزوم الشعر والقافية، ويعد بكتابة صيغ رياضية، مع أن أهل الرياضيات موجودون عندنا لذلك. وحين يظهر ميرخولد، المجرب المهووس، اللابس لبوس بييلنسكي المغرم الى حد التعصب بالمسرح، على المنصة بعض الحركات نصف الإيقاعية التي لقنها لممثلين ضعاف في الحوار، ويطلق على ذلك اسم الكيمياء الحياتية، تأتي النتيجة فشلا ذريعا. أن يسلخ المرء من المستقبل ما لا يمكن أن يتطور الا بوصفه جزءا لا يتجزأ منه، وأن يجسد بعجلة هذا الاستباق الجزئي في حالة الجدب الراهن، أمام أنوار المسرح المطفأة، انما هو أمر يحملنا على التفكير بالهواية القروية. وما من شيء يناوئ الفن الجديد ويناصبه العداء كالنزعة القروية والهواية.
     سوف تقوم الهندسة المعمارية الجديدة على عنصرين اثنين: هدف جديد وتقنية جديدة في استعمال مواد البناء، الجديدة في قسم منها، والقديمة في قسمها الآخر. ولن يكون الهدف الجديد تشييد معبد أو قصر أو دار شخصية، وإنما بالأحرى بيت للشعب، فندق متعدد النزلاء، دار مشتركة، مدرسة ذات أبعاد كبيرة. أما مواد البناء واستخدامها فستتحدد بوضع البلاد الاقتصادي لحظة تقف الهندسة المعمارية على أهبة الاستعداد لحل مشكلاتها. وكل محاولة لسلخ الإنشاء المعماري عن المستقبل تبرهن فقط على إرادة عسفية ذكية وفردية بقدر أو بآخر. والحال أن الأسلوب الجديد لا يمكن أن يكون قرين العسف الفردي.
     يشير كتاب "ليف" أنفسهم بسداد الى أن أسلوبا جديدا يتطور حيثما خدمت الصناعة الميكانيكية حاجات المستهلك الشخصي. وجهاز الهاتف مثال على الأسلوب الجديد. كذلك فإن عربات النوم المقطورة والادراج ومحطات المترو والمصاعد هي جميعها بلا نقاش عناصر أسلوب جديد، مثلها مثل الجسور المعدنية والأسواق المغطاة وناطحات السحاب والروافع. هذا يعني أنه لا سبيل إلى إبداع أسلوب معماري جديد خارج نطاق مشكلة عملية محددة وعمل جدي في سبيل حلها. ومحاولة إنتاج أسلوب كذلك، باستنباطه من طبيعة البروليتاريا، من نزعتها الجماعية، من نشاطيتها، من إلحادها، الخ، إنما هي مثالية محض ولا تعبر الا عن أنا القائم بها، ثورية عسفية وعين الهواية القروية القديمة.
     يتجلى لنا خطأ "ليف"، أو على الأقل خطأ بعض منظِّريها، في شكله الأكثر تعميما حين يطالبون بلهجة آمرة بأن يكون أساس الفن الحياة. فلا حاجة للبرهان على أن انفصال الفن عن مظاهر أخرى للحياة الاجتماعية ينجم عن البنية الطبقية للمجتمع، وعلى أن الفن الذي يكفي نفسه ليس الا الوجه الآخر للفن الذي هو ملك للطبقات صاحبة الإمتيازات، وعلى أن الفن سينصهر شيئا فشيئا مع الحياة، أي مع الإنتاج والإحتفالات الشعبية والحياة الجماعية. من المستحسن أن تفهم "ليف" ذلك وأن تفسره. لكن ليس من المستحسن أن تقول، وهي توجه إنذارا انطلاقا من الفن الحالي: دعوا "مهنتكم" وانصهروا مع الحياة. الواجب يقضي اذن بأن يتوقف الشعراء والرسامون والنحاتون والممثلون عن التفكير، عن التخيل، عن نظم القصائد، عن رسم اللوحات، عن نحت التماثيل، عن التعبير عن أنفسهم تحت أضواء المسرح، وعن حمل فنهم الى الحياة مباشرة؟ لكن كيف، وأين، ومن أي الأبواب؟ لا ريب في أنه من واجبنا أن نحيي كل محاولة لحمل أكبر قدر ممكن من الإيقاع والنغم واللون إلى الإحتفالات الشعبية والمهرجانات والمظاهرات. لكن لا بد أن نتمتع على الأقل بقدر من الخيال التاريخي حتى نفهم أن أكثر من جيل واحد سيأتي وسيختفي بين فاقتنا الاقتصادية والثقافية الراهنة وبين اليوم الذي سينصهر فيه الفن مع الحياة، أي اليوم الذي ستأخذ فيه الحياة أبعادا كبيرة الى درجة تغذوا معها مصاغة بكاملها من قبل الفن. وإن خيرا أو إن شرا، سيبقى فن "المهنة" قائما لسنوات عديدة وسيكون أداة التربية الفنية الإجتماعية للجماهير، أداة متعتها الجمالية، لا بالنسبة الى الرسم وحده، وإنما أيضا بالنسبة الى الشعر الغنائي والرواية والكوميديا والتراجيديا والنحت والسمفونية. إن رفض الفن كوسيلة لوصف المعرفة وتخيلها بحجة معارضة الفن البورجوازي التأملي والانطباعي الذي درج في العقود الأخيرة، معناه أن ننزع من يدي الطبقة التي تشيد مجتمعا جديدا أداة عظيمة الفائدة. يقال لنا أن الفن ليس مرآة وإنما مطرقة، فهو لا يعكس وإنما يصنع. لكن استعمال المطرقة يتم تعليمه اليوم بالذات بمساعدة مرآة،  بمساعدة فيلم حساس يسجل جميع عناصر الحركة. و يغدو التصوير الشمسي والتصوير السينمائي، بفضل قوتهما الوصفية، أداتين عظيمتين للتربية في مضمار العمل. وإذا لم يكن في المقدور الاستغناء عن مرآة، حتى لكي نحلق، فكيف السبيل الى بناء أو إعادة بناء حياتنا من دون أن نرى أنفسنا في "مرآة" الأدب؟ وليس من شك في أن ما من أحد يفكر بأن يطالب الأدب الجديد بأن تكون له برودة المرآة. فكلما كان الأدب أعمق، اشتدت رغبته في صياغة الحياة، وكان أقدر على "رسم" الحياة بصورة دالة ودينامية.
     ماذا يعني "رفض التجارب"، أي السيكولوجيا الفردية في الأدب وعلى خشبة المسرح؟ ان هذا الرفض عبارة عن احتجاج متأخر ومتقادم عليه الزمن من قبل جناح الانتليجانسيا اليساري على واقعية تشيخوف السلبية وعلى الرمزية الحالمة. ولئن كانت تجارب الخال فانيا قد فقدت شيئا من نضارتها - وهذه المصيبة وقعت فعلا - إلا أن الخال فانيا ليس الوحيد الذي يملك  حياة داخلية. بأي طريقة، على أي أسس، باسم ماذا يمكن للفن أن يدير ظهره للحياة الداخلية للإنسان المعاصر الذي يشيد عالما خارجيا جديدا، ومن ثم يعيد بناء نفسه؟ وإذا لم يساعد الفن هذا الإنسان على تثقيف نفسه وعلى تقويتها وتهذيبها، فما فائدته اذن؟ وأنى له أن ينظم الحياة الداخلية إذا لم يدلف اليها ولم يكررها؟ هنا تتلو المستقبلية صلواتها وطلباتها الخاصة التي أكل الدهر عليها وشرب.
     من الممكن أن نقول الكلام ذاته عن الحياة اليومية. فقد كانت المستقبلية، في بادئ الأمر، احتجاجا على فن الواقعيين التافهين الذين كان مسلكهم في الحياة اليومية مسلك الطفيليين: كأن الأدب يختنق، يتبلد في العالم الصغير الآسن، عالم المحامي، الطالب، السيدة العاشقة، موظف المحافظة، السيد بيردونوف (21)، وعواطفهم وأفراحهم وأتراحهم. لكن هل ينبغي توسيع الاحتجاج ليشمل أولئك الذين يحيون حياة الطفيليين الى حد فصل الأدب عن شروط الحياة الإنسانية وأشكالها؟ لقد كان للإحتجاج المستقبلي على واقعية صغيرة النفس تبريره التاريخي، وذلك بقدر ما شق الطريق لإعادة بناء فنية جديدة للحياة، لهدم وإعادة تعمير على محاور جديدة.
     إنه لمما يبعث على الإستغراب أن تستشهد "ليف"، في الوقت الذي تنقي فيه أن تكون رسالة الفن تصوير الحياة اليومية، ب"نييبو بوشتسا" لبريك نموذجا للنشر. فما هذا العمل إن لم يكن لوحة لحياة كل يوم، ولو في شكل سرد للوقائع المحلية يكاد أن يكون شيوعيا؟ إن العيب لا يكمن في كون الشيوعيين غير مصورين فيه وديعين كالحملان أو قساة كالفولاذ، وانما في عدم وجود أي منظور أو فاصل بين المؤلف وبين الوسط السوقي الذي يصفه. ذلك أن الفن، حتى يكون قادرا على أن يغير، قدرته على أن يعكس، فلا بد أن يتعالى الفنان عن الحياة اليومية مثلما يتعالى الثوري عن الواقع السياسي.
     ردا على بعض الانتقادات، المهينة في الواقع أحيانا أكثر منها مقنعة، أكد الرفيق تشوجاك على حقيقة أن "ليف" منهمكة في عملية بحث متواصل. ولا ريب أن "ليف" تبحث، أكثر مما تجد. لكن ليس هذا بسبب كافٍ حتى يفعل الحزب ما يوصيه به الرفيق تشوجاك بإلحاح: تطويب "ليف" أو جناح معين منها على أنه فن شيوعي. فمن المستحيل تطويب الأبحاث استحالة تسليح كتيبة باختراع لم تتأكد صلاحيته.
     هل يعني هذا أن "ليف" تسلك طريقا خاطئا، وأنه لا دخل لنا بها؟ كلا، فلا مجال لان يكون للحزب وجهات نظر محددة وثابتة في مسائل فن الغد، حتى يكون في مستطاع جماعة من الجماعات أن تشوهها وتخربها. كلا، ليس هذا هو المقصود. فالحزب ليس له ولا يمكن أن يكون له قرارات جاهزة بصدد نظم الشعر وتطور المسرح وتجديد اللغة الأدبية والأسلوب المعماري، الخ،  مثلما  ليس للحزب ولا يمكن أن يكون له في مضمار آخر قرارات جاهزة حول أفضل سماد أو أحسن تنظيم للمواصلات أو أجود الرشاشات. وفيما يتعلق بالرشاشات والموصلات والأسمدة، هناك حاجة فورية لقرارات عملية. فماذا يفعل الحزب؟ إنه يعين لبعض أعضائه مهمة دراسة تلك المشكلات وحلها، ويراقب هؤلاء الأعضاء من خلال النتائج العملية لنشاطاتهم. اما في ميدان الفن، فإن المسألة أبسط وأعقد في آن معا. ففيما يتعلق بالإستغلال السياسي للفن أو بمنع مثل هذا الإستغلال من قبل اعدائنا، يملك الحزب ما فيه الكفاية من التجربة والفطنة والتصميم والمقدرة. لكن  التطور الفعلي للفن والصراع في سبيل أشكال جديدة لا يدخلان في مهام الحزب ومشاغله. والحزب لا يكلف أحدا بعمل كهذا. بيد أنه توجد، مع ذلك، بعض نقاط تماس بين مشكلات الفن والسياسة والتقنية والاقتصاد. ونقاط التماس هذه ضرورية ولازمة لتحديد العلاقات الداخلية المتبادلة بين تلك المشكلات. هذا ما تهتم به جماعة "ليف". فهذه الجماعة تتشقلب، تغطس في هذا الجانب وذاك، ومن دون أن نتقصد جرح شعورها، تبالغ مبالغة لا يستهان بها في المضمار النظري. لكن ألم نبالغ، أولسنا نبالغ الآن في ميادين أكثر حيوية وأهمية بكثير؟ فوق ذلك، هل حاولنا جديا أن نصحح أخطاء التمهيد النظري أو الحماسة الحزبية في العمل التطبيقي؟ ليس لدينا من داع البتة للشك في أن جماعة "ليف" لا تبذل جهودا جادة للعمل في صالح الاشتراكية، أو للشك في أنها غير معنية عميق العناية بمشكلات الفن، وفي أنها لا تريد أن تهتدي بهدي معايير ماركسية. فلمَ البدء بالقطيعة بدلا من السعي إلى التأثير والتمثل؟ أن المسالة لا تنطرح البتة على حد السكين. وأمام الحزب وقت طويل للقيام بفحص، وللتأثير بعناية، وللاختيار. أم أنه لدينا قدر كبير من القوى المختصة كي نبيح لأنفسنا مثل تلك الخفة في السخاء والإسراف؟ إن مركز الثقل يكمن، بعد كل شيء، لا في الصياغة النظرية لمشكلات الفن الجديد، وإنما في التعبير الفني. فكيف الوضع فيما يتعلق بالتعبير الفني للمستقبلية وبأبحاثها ومنجزاتها؟ إن دواعينا، على هذا المستوى، للاستعجال وللتعصب أقل وأوهن.
 
***
 
     لا يسع المرء اليوم أن يكتفي بإنكار المنجزات المستقبلية في الفن، وبخاصة في الشعر. ففيما عدا بعض الاستثناءات القليلة، تعرض شعرنا الحالي برمته لتأثير المستقبلية، سواء أبصورة مباشرة أم غير مباشرة. و لا يمكن للمرء ان يماري في تأثير ماياكوفسكي  على مجموعة كاملة من الشعراء البروليتاريين. وتسجل البنائية (22) بدورها مكاسب هامة، وان لم يكن في عين الاتجاه الذي حددته لنفسها. وما أكثر ما ينشر من مقالات عن التفاهة التامة للمستقبلية وطابعها المناهض للثورة بتوقيع أيدي البنائيين. وفي معظم المنشورات الرسمية تظهر القصائد المستقبلية جنبا إلى جنب مع ألذع الانتقادات الموجهة الى المستقبلية. وتربط المستقبليين ب"البرولتكولت" روابط حية. وتصدر مجلة "هورن" (البوق) الآن بروح مستقبلية لا تخفي نفسها. صحيح أنه ليس ثمة من ضرورة للمبالغة في أهمية تلك الوقائع لانها  وقعت، كما في غالبية سائر تجمعاتنا الفنية، في داخل شريحة عليا، واهنة الوشائج للغاية في الوقت الحاضر بالجماهير العمالية. لكن من الغباء أن نغمض اعيننا دون تلك الوقائع وأن نعامل المستقبلية وكأنها اختراع تدجيلي من أنتلجانسيا منحطة. فحتى لو اتضح غدا أن المستقبلية آيلة الى أفول - لا أحسب ذلك مستحيلا كل الاستحالة – فان قوة المستقبلية اليوم متفوقة في جميع الأحوال على قوة سائر الاتجاهات التي على حسابها نمت المستقبلية وتنمو.
     كانت المستقبلية الروسية، في بداياتها، كما سبق أن ذكرنا، تمرد البوهيميا، أي الجناح اليساري شبه المملق من الانتلجانسيا، على الجمالية المغلقة، الفئوية، للانتلجانسيا البورجوازية. ومن خلال قوقعة ذلك التمرد الشعري كان المرء يشعر بضغط قوى اجتماعية عميقة ما كانت للمستقبلية نفسها لتفهمها. وكان الصراع ضد القاموس القديم والتركيب النحوي القديم للشعر، بغض النظر عن كل مبالغاته البوهيمية، تمردا مفيدا على قاموس ضيق وبليد ومتكلف الصنع حتى لا يعكر صفوه شيء أجنبي؛ كان تمردا على الانطباعية التي كانت تطمح إلى الحياة من خلال قشة، تمرداً على الرمزية التي صارت زائفة في فراغها السماوي، على زينايدا هيبيوس (23) واضرابها، على سائر الليمونات المعصورة وعظام الفراريج المنخورة الرابلة في العالم الصغير للأنتلجانسيا الليبرالية- الصوفية.
     اذا أمعنا النظر الفاحص في الحقبة المنصرمة، لا نستطيع ان نمتنع عن الاعجاب بمدى حيوية  وتقدمية عمل المستقبليين في مضمار فقه اللغة. فمن دون مبالغة في أبعاد تلك "الثورة" في اللغة، يتوجب علينا أن نقر بأن المسقبلية طردت من الشعر الكثير من الجمل والألفاظ المهترئة، وحقنت غيرها من جديد بالدم، وحالفها التوفيق في بعض الأحوال في خلق جمل وألفاظ جديدة دخلت أو هي في سبيلها الى دخول القاموس، وقابلة لان تغني اللغة الحية وتثريها. هذا صحيح لا فيما يتعلق ببعض الكلمات فحسب، وإنما أيضا في ما يتعلق بمكانها بين كلمات أخرى، أي علم النحو وتركيب الجملة. فمن المؤكد أن المستقبلية تجاوزت الحدود التي يمكن أن تقبل بها لغة حية في مجال تركيب الكلمات وفي مجال تشكيلها على حد سواء. بيد أن الشيء ذاته حدث مع الثورة، وتلكم هي "خطيئة" كل حركة حية. صحيح أن الثورة، وبخاصة طليعتها الواعية، تبرهن على نقد ذاتي أكثر مما يبرهن عليه المستقبليون. ولكن هؤلاء، بالمقابل، لاقوا مقاومة خارجية كبيرة، وسيلاقون، لنأمل ذلك، المزيد منها. وسوف تتلاشى المبالغات، ولن يبقى الا العمل المطهِّر أساسا والثوري حقا الذي ينصب على اللغة الشعرية.
     كذلك، لا بد لنا من أن نعترف بعمل المستقبلية المبدع والجليل الفائدة فيما يتعلق بالوزن والقافية، وأن نقدره حق قدره. ومن الممكن أن ينظر اللامبالون، أو أولئك الذين يقبلون ببساطة بتلك المعطيات (24) لان أسلافنا هم الذين أورثونا إياها، الى جميع التجديدات المستقبلية نظرتهم الى شيء مضجر ومكلف على صعيد الانتباه. وبهذه المناسبة، يسعنا أن نطرح المسألة المتعلقة بمعرفة ما إذا كان الوزن والقافية ضروريين على كل الأحوال. ومما يبعث على الإستغراب أن ماياكوفسكي نفسه يبرهن بين الفينة والفينة، في أشعاره المقفاة على نحو بالغ التعقيد، على أن القافية ليست بلازمة. ولو أخذنا بنظرة منطقية صرف لانتفت الاسئلة التي نطرحها على أنفسنا بصدد الشكل الفني. والحال أنه لا يجوز لنا أن نحكم بالعقل، الذي لا يتعدى حدود المنطق الشكلي، بل ينبغي أن يصدر الحكم عن النفس التي تتضمن اللاعقلي بقدر ما أنه حي وحيوي. فالشعر قضية إنفعالية أكثر منه قضية عقلية، والروح التي استوعبت الاوزان البيولوجية، الأوزان والتركيبات الموزونة المرتبطة بالعمل الاجتماعي، تسعى الى التعبير عنها في شكل مؤمثل بالأصوات والأغاني والكلمات الفنية. وما دامت مثل هذه الحاجة حية، فإن القوافي والاوزان المستقبلية، الأكثر مرونة والأعظم جرأة والأشد تنوعا، تشكل انجازا أكيدا وقيِّما. وقد بسط هذا الانجاز تأثيره الى ما وراء الجماعات المستقبلية الصرف.
     وانجازات المستقبلية، في مضمار موسقة البيت، لا يدخلها الشك هي الأخرى، ولا يجوز لنا أن ننسى أن الصوت هو المرافق السمعي للحس. ولئن أخطأ المستقبليون وما يزالون يخطئون بتقديمهم، شبه المنكر، للصوت على الحس، فالأمر لا يعدو أن يكون حماسة، "مرضا يساريا طفوليا" من جانب مدرسة شعرية جديدة أحست، على نحو جديد وبأذن غضة، بالصوت في مقابل رتابة الكلمات المتكلفة العذوبة. صحيح أن غالبية العمال الساحقة لا تكترث، اليوم، لهذه المسائل. والشطر الأكبر من طليعة الطبقة العاملة، المجند لمهام أعجل وأكثر إلحاحا، مشغول هو الآخر عن تلك المسائل. لكن الغد آت. وسيقتضي هذا الغد موقفا أكثر اهتماما وأكثر تدقيقا، اكثر علمية وأكثر فنية، تجاه لغة الشعر ولغة النثر على حد سواء، وعلى الأخص لغة النثر. ان الكلمة لا تغطي تمام المدلول العيني لفكرة من الفكرات. ثم إن للكلمة صوتا وشكلا. لا بالنسبة الى الأذن والعين فحسب، بل أيضا بالنسبة الى منطقنا وخيالنا. وليس في الإمكان التعبير عن الفكر بمزيد من الدقة والوضح عن طريق انتقاء الكلمات بعناية الا إذا جرى اختيار هذه الكلمات بعد وزنها بمختلف الطرق، أي من زاوية علم الأصوات والسمعيات أيضا، وتم التأليف بينها وتركيبها على أعمق نحو ممكن. وليس من المحبذ أن نتلمس طريقنا على غير هدى في هذا الميدان، وانما نحن بحاجة الى أدوات ميكرومترية(25). ينبغي أن يخلي الروتين والتقليد والعادة والتهاون الساح لعمل منهج بالعمق. والمستقبلية، في أحسن مظاهرها، إحتجاج على النشاط الذي يتلمس طريقه على غير هدى، ذلك النشاط الذي يشكل مدرسة أدبية ضاربة الجذور، بممثيلها الواسعي النفوذ في الميادين كافة.
     يلخض مؤلـًّف لم ينشر بعد للرفيق غورلوف، الذي يصف في رأيي وصفا خاطئا الاصل العالمي للمستقبلية وينتهك المنظور التاريخي فيخلط بين المستقبلية والشعر البروليتاري، يلخص منجزات المستقبلية تلخيصا مترويا وفي منتهى الرصانة. ينوه غورلوف بحق بأن الثورة المستقبلية في الشكل، تلك الثورة التي تفرعت عن تمرد على الجمالية القديمة، تعكس على صعيد النظرية التمرد على الحياة الراكدة والآسنة التي انتجت تلك الجمالية، وبأنها أحدثت لدى ماياكوفسكي، أكبر شعراء تلك المدرسة، ولدى أصدقائه الحميمين، تمردا على النظام الاجتماعي المنتج لتلك الحياة المنفرة ولجماليتها المنفرة. ولهذا السبب ارتبط أولئك االشعراء برباط عضوي بأكتوبر. ومخطط غورلوف هذا صحيح، لكن لا بد من تحديده وتوضيحه بقدر أكبر أيضا. فمن المؤكد أن كلمات جديدة وتركيبات جديدة للكلمات و قوافي جديدة وأوزانا جديدة باتت ضرورية ولازمة، لان المستقبلية أعادت، بتصورها للعالم، ترتيب الاحداث والوقائع من جديد، وأقامت علاقات جديدة فيما بينها، واكتشفتها لحسابها.
     ان المستقبلية تناهض التصوف، والتأليه السلبي للطبيعة، والكسل الارستقراطي، مثلما تناهض كل ضرب آخر من الكسل، وشرود الأحلام، واللهجة الشاكية الباكية؛ وتناصر بالمقابل التقنية، والتنظيم العلمي، والآلة، والتخطيط، والارادة، والشجاعة، والسرعة، والدقة، مثلما تناصر الانسان الجديد، المسلح بكل تلك الاشياء. والارتباط بين هذا "التمرد" الجمالي والتمرد الاجتماعي والاخلاقي مباشر: فكلاهما يندرج بتمامه في تجربة حياة القسم النشيط، الجديد، الفتي، غير المدجًّن، من الانتيليجانسيا اليسارية، من البوهيميا المبدعة. وقد انتج القرف من الطابع المحدود للحياة القديمة وابتذالها وسوقيتها أسلوبا فنيا جديدا كأداة للافلات من طوقها ولتصفيتها. وقد رأينا، من خلال تركيبات متباينة، وانطلاقا من مسلمات فنية متنوعة، قرف الانتيليجانسيا يؤلف أكثر من أسلوب جديد واحد. وفي ذلك أيضا كانت على الدوام نهاية ذلك القرف. لكن الثورة البروليتارية أمسكت هذه المرة بالمستقبلية في طور معين من نموها ودفعت بها الى أمام. هكذا صار عدد من المستقبليين شيوعيا. وبالفعل نفسه، دخلوا في مضمار مشكلات وعلاقات أعمق، فتخطوا بكثير حدود عالمهم الخاص الصغير، حتى وان لم تكن روحهم قد تمكنت بعد من اعدادهم وتهيئتهم عضويا. ولهذا يكون المستقبليون، بمن فيهم ماياكوفسكي، على أضعف ما يكونون على صعيد الفن حيثما بدوا في أحسن أحوالهم كشيوعيين. وليست علة ذلك في أصلهم الاجتماعي بقدر ما أنها في ماضيهم الروحي. فالشعراء المستقبليون لم يسيطروا على العناصر التي تنطوي عليها مواقع االشيوعية وتصورها العالمي كافي السيطرة لكي يجدوا لها تعبيرا عضويا في شكل كلمات، على اعتبار أن هذه الأخيرة لم تدخل في دمهم اذا صح التعبير. ولهذا كان مكتوبا على هؤلاء الشعراء في غالب الأحيان أن يمنوا بهزائم فنية وسيكولوجية، وأن يتكلفوا أشكالا متصنعة ومتعجرفة، وأن يجعجعوا بلا طحن. إن المستقبلية تغدو، في أعمالها الثورية الأكثر تطرفا، ضربا من النمنمة، على أن الشاعر الشاب بيزمينسكي، الذي يدين بالكثير لماياكوفسكي، يعطي تعبيرا حقيقيا للتصورات الشيوعية: فبيزيمنسكي لم يكن شاعرا ناجز التكوين حين انخرط في صفوف الشيوعية، بل ولد روحيا في  ظل الشيوعية.
     قد يعترض بعضهم، وقد اعترض أكثر من مرة، بأن المذهب والبرنامج البروليتاريين بالذات قد أبدعها ابناء الانتيلجنسيا الديمقراطية البروجوازية. وهنا لا بد أن نقيم فرقا هاما. فاصلا في الموضوع. فمذهب البروليتاريا الاقتصادي والتاريخي – الفلسفي يرتكز الى معرفة موضوعية. فلو أن نظرية فائض القيمة رأت النور على يد الدكتور في الفلسفة، الشمولي في تبحره، كارل ماركس، وإنما على يد النجار بيبل، الضنين بالحياة والفكر الى حد الزهد، والمشحوذ الذهن كموسى حلاقة، لتمت صياغتها  في مؤلـًّف أسهل منالا وأكثر بساطة وأكثر احادية جانب بكثير. ولا مجال للشك في أن غنى الأفكار والحجج والصور والشواهد وتنوعها في "الرأسمال" يكشفان عن الخلفية "الفكرية" لذلك السفر الكبير. ولكن لما كانت المسألة هنا مسألة معرفة موضوعية، فإن جوهر "الرأسمال" يغدو ملكا لبيبل وللآلاف والملايين من البروليتاريين الآخرين. أما في مضمار الشعر، فيواجهنا تصور للعالم على صعيد الصورة، لا معرفة علمية بالعالم. وعليه، فان الحياة اليومية والبيئة الشخصية ودورة التجارب الشخصية تمارس تأثيرا حاسما على الابداع الفني. واعادة صياغة عالم المشاعر المتشربة منذ الطفولة، على صعيد علمي، هي أشق عمل داخلي  وأصعبه في الوجود. والمقدرة على ذلك لا تتوفر للناس قاطبة، لهذا نجد في العالم الكثيرين من الناس الذين يعملون فكرهم كثوريين ويعملون عواطفهم كجهلة أدعياء. ولهذا نعاين في الشعر المستقبلي، حتى في شطره المكرس نفسه بتمامها للثورة، روحا ثورية أقرب الى البوهيميا في أصلها منها الى البروليتاريا.
 
***
 
     ماياكوفسكي موهوب كبير، أو كما يعرّفه بلوك، موهوب هائل. فهو قادر على تمثيل أشياء، سئمنا رؤيتها، على نحو تبدو معه وكأنها جديدة. يتلاعب بالكلمات وبالقاموس كمعلم مقدام يعمل طبقا لقوانينه الذاتية، سواء أحاز عمله الفني على الرضى أم لم يحز عليه. الكثير من صوره ، من صيغه، من تعابيره، دخل الأدب، وسيبقى مقيما فيه ردحا طويلا من الزمن، ان لم نقل الى الأبد. له تصوراته الخاصة، تمثيله الخاص، وزنه الخاص وقافيته الخاصة.
     مرمى ماياكوفسكي الفني ذو مغزى على الدوام تقريبا، وذو فخامة في بعض الأحيان. فالشاعر يدرج في مجاله الخاص الحرب والثورة، الجنة ولجحيم. وماياكوفسكي يكره التصوف، يكره كل ضروب النفاق والرياء، يكره استغلال الإنسان للإنسان، وتعاطفه متجه كله الى البروليتاريا المكافحة. لا يزعم أنه كاهن الفن، أو على الاقل أنه كاهن ذو مبادئ؛ بل على العكس، فهو على استعداد ليضع فنه كله في خدمة الثورة.
     لكننا لا نجد في هذه الموهبة الكبيرة، أو بالأصح في كل شخصية ماياكوفسكي الخلاقة، ذلك التآلف الضروري بين مركباتها، ذلك التوازن، ولا حتى توازنا ديناميا. ماياكوفسكي يدلل على أكبر الضعف حيثما يتوجب التدليل على حس التناسب وعلى المقدرة على النقد الذاتي.
     كان من الطبيعي لماياكوفسكي أكثر منه لاي شاعر روسي آخر أن يقبل بالثورة، لأنها كانت تتفق ومجمل تطوره. كثيرة هي الطرق التي تقود الانتيليجنسيا الى الثورة (لا توصل جميعها الى الهدف)، ومن المهم بالتالي تحديد إتجاه ماياكوفسكي الشخصي وتقديره حق قدره. هناك طريق الشعر "الموجيكي" الذي سلكته الانتيليجنسيا و"رفاق الدرب" المتقلبو الأطوار، وهناك طريق الصوفيين الذين يكدون في أثر "موسيقى" أسمى (ا. بلوك)، وهناك طريق "تغيير الاتجاه" (26) وطريق أولئك الذين يتحملوننا لا أكثر(شكابسكايا، شاغينيان). وهناك طريق العقلانيين والانتقائيين (شكابسكايا، غورودتسكي، وشاغينيان ايضا)، كذلك توجد طرق أخرى عديدة، ولا يسعنا أن نسميها كلها. وقد جاء ماياكوفسكي من أقصر الطرق، طريق البوهيميا المتمردة، المضطهَدة. فقد كانت الثورة بالنسبة إلى ماياكوفسكي تجربة حقيقية، فعلية، عميقة، لانها انقضت كالرعد و البرق على الاشياء ذاتها التي كان يكن لها ماياكوفسكي البغض على طريقته والتي لم يكن قد تصالح معها بعد. في ذلك، تحديدا، تكمن قوته. لقد صبت نزعة ماياكوفسكي الفردية الثورية بحماسة في الثورة البروليتارية، لكنها لم تتحد بها. فعواطفه اللاشعورية تجاه المدينة، والطبيعة، والعالم قاطبة، ليست عواطف عامل، وانما عواطف انسان بوهيمي. أن "مصباح الشارع الاصلع الذي يعري الشارع من جواربه"، هذه الصورة الأخاذة المميزة لماياكوفسكي كل التمييز، تلقي على طبيعة الشاعر البوهيمية والمدينية من الضوء أكثر مما يلقيه أي اعتبار آخر. والنبرة الصفيقة والماجنة للكثير من الصور، وبخاصة صور المرحلة الشعرية الأولى، تنم عن البصمة الواضحة أكثر مما ينبغي الوضوح للملهى الفني، للمقهى،  ولكل ما يرتبط بهما.
     إن ماياكوفسكي أقرب الى طابع الثورة الدينامي وبسالتها الصلبة منه الى الطابع الجماعي لبطولتها و مآثرها وتجاربها. وكما كان الاغريقي القديم انساني التشبيه، يحسب بسذاجة أن قوى الطبيعة تضارعه وتماثله، كذلك فان شاعرنا ماياكوفيّ التشبيه،  يعمر بشخصيته ساحات الثورة وشوارعها وميادينها. صحيح أن الضدين يتلاقيان. فتعميم اناه الخاصة يمحو الى حد ما حدود الشخصية ويقرب الانسان من الجماعة، عن طريق الطرف المقابل. لكن ليس ذلك بصحيح الا الى حد ما. فالصلف الفرودي والبوهيمي، الذي يتنافى، لا مع تواضع لا يطالب به أحد، وإنما مع اللباقة وحس الاعتدال اللذين لا غنى عنهما، يخترق اختراقا كل ما كتبه ماياكوفسكي. كثيرا ما نلفى توترا شديد الارتفاع في أعماله، لكن لا نلفى على الدوام قوة كامنة خلفه. فالشاعر يبرز نفسه أكثر مما ينبغي. لا يمنح الأحداث والوقائع الا القليل من الاستقلال، بحيث أن الثورة ليست هي التي تقارع العقبات، وإنما ماياكوفسكي الذي يجترح معجزات في مضمار الكلمات تضارع تلك التي يجترحها صناديد ألعاب القوى في الرياضة البدنية. أحيانا، نراه يحقق معجزات حقا، لكنه بين الفينة والفينة، وعلى حساب جهود بطولية حقا، يرفع أثقالا مجوفة على نحو ظاهر للعيان.
     عند كل خطوة يتحدث ماياكوفسكي عن نفسه، تارة بضمير المتكلم، وطورا بضمير الغائب، تارة كفرد، وطورا من خلال ذوبانه في الجنس البشري. حين يريد أن يعلى الإنسان، يرفعه الى ماياكوفسكي. مع كبريات حوادث التاريخ، يبيح لنفسه لهجة عدم الكلفة. ذلك هو أقل ما يطاق في عمله وأكثره خطورة. في وضعه، لا نستطيع الكلام عن أخفاف أو عكاكيز : فهي بالنسبة إليه ركائز صغيرة إلى حد مضحك. ماياكوفسكي يسند إحدى قدميه الى الجبل الأبيض، والأخرى الى إيلبروز(27) صوته يغطي على الرعد. فهل يمكن أن يأخدنا العجب حين نراه يعامل التاريخ بألفة، ويخاطب الثورة بلا كلفة؟ والحال، ههنا يكمن الخطر : فلو أخذ المرء على الدوام وفي كل مكان بمثل تلك المعايير العملاقة، وأرعد (لفظة مأثورة لدى الشاعر) من أعالي إيلبروز أو الجبل الأبيض، لغابت عنه مقاييس شؤوننا الأرضية، و لما عاد يستطيع تمييزا لما هو صغير عما هو كبير. لهذا يتكلم ماياكوفسكي عن حبه، أي عن مشاعره الحميمة، كما لو أن الموضوع هجرة الشعوب. لكن لهذا أيضا يعجز عن العثور على لغة أخرى حين يريد أن يتكلم عن الثورة. إنه يطلق طلقاته على الدوام بأعلى ارتفاع ممكن، لكن مثل هذه الرماية، كما يعلم كل مدفعي، تصيب الهدف بأقل عدد ممكن من الضربات، وتضرر ضررا بالغا بالمدافع.
     صحيح أن النزعة الى المبالغة والغلو تعكس اندفاع عصرنا وضراوته، لكن ذلك لا يبرر استعمالها بخفة في الفن. فليس في مقدور المرء أن يصرخ بأعلى من الحرب أو الثورة. الا أنه من السهل أن يقع في شباك ذلك الإغراء. وحس الاعتدال في الفن شبيه بحس الواقعية في السياسة. والغلطة الأم في الشعر المستقبلي، حتى في أجود آثاره، الافتقاد الى الاعتدال. فضياع اعتدال الصالونات لم يؤد الى العثور على اعتدال الساحة العامة. والحال أنه لا بديل عن العثور عليه. فمن يرغم صوته على الزعيق، يجعله يصير أجش، مبحوحا، مختنقا، ويبطل مفعول الخطاب. ينبغي أن نتكلم بالصوت الذي حبتنا به الطبيعة، لا بصوت أقوى. وإذا توصلنا إلى ذلك، أمكننا استعمال ذلك الصوت بكل مداه. ماياكوفسكي غالبا ما يصرخ حيث ما كان عليه الا ان يتكلم فحسب. ولهذا تبدوا صرخاته، حيثما اقتضى الصراخ، وكأنها غير كافية. فإشجاء كلامه يتلاشى أمام الزعيق والبحة.
     ان صور ماياكوفسكي القوية، بالرغم من روعتها في غالب الاحيان، تجزىء في غالب الأحيان أيضا المجموع، وتشل الحركة. والشاعر مدرك لذلك بكل تأكيد؛ لهذا تراه يطمح الى مغالاة أخرى: إلى لغة "الصيغ الرياضية"، الغريبة عن الشعر. وهناك ما يحملنا على الاعتقاد بأن الصورة للصورة، وهو ما تتصاهر به التخيلية والمستقبلية – وهل هناك أقرب الى التخيلية الفلاحية من ذلك الموقف؟ - تستمد جذورها من الخلفية الريفية لثقافتنا. فالصورة للصورة تصدر عن كنيسة باسيل الطوباوي أكثر مما تصدر عن جسر من الإسمنت المسلح. ومهما يكن التفسير التاريخي والثقافي لذلك، فان ما تفتقد اليه أعمال ماياكوفسكي أكثر من أي شيء آخر هو الحركة. قد يبدو ذلك من المفارقات، إذ أن المستقبلية تبدو مرتكزة برمتها على الحركة. لكن هنا يتدخل الجدل غير القابل للتطويع: ففرط الصور العنيفة يفضي الى الهدوء المسطح. والحركة، حتى تُدرك فيزيائيا، وكم بالأحرى فنيا، لا بد أن تتوافق وأوالية ادراكنا، وتواتر مشاعرنا. المفروض في العمل الفني أن يظهر للعيان النمو التدريجي لصورة، لفكرة، لمزاج، لحجة، لحبكة، حتى بلوغها أوجها، لا أن يتقاذف المرء من أفق الى آخر، حتى ولو فعل ذلك باقدر الصور على الاقناع والإفحام. لدى ماياكوفسكي، تسعى كل جملة، كل صيغة، كل صورة الى أن تكون حدا، ذروة، أوجا. لهذا يفتقد المجموع الى قمة. والمشاهد يخيل إليه أنه يتقطع إربا إربا، ويفلت منه كل شيء. إن تسلق جبل أمر شاق، ولكن مبرر. أما النزهة في ارض وعرة فلا تقل إتعابا، لكنها تعطي لذة أقل. وكتابات ماياكوفسكي لا ذروة لها، ولا تنصاع لأي انضباط داخلي. الأجزاء ترفض أن تمتثل للكل، بل يسعى كل واحد منها الى أن يستقل بذاته، فيطور ديناميته الخاصة من دون اعتبار للمجموع. لهذا لا وجود لا لمجموع ولا لدينامية المجموع. ان عمل المستقبليين في اللغة و الصور لم يصل بعد الى تجسيد مركب.
     كان المفروض ب 150.000.000 ان تكون قصيدة الثورة. وما هي بذلك. فهذا العمل، العظيم في مرماه، ملغوم بضعف المستقبلية وعيوبها. اراد المؤلف أن يكتب ملحمة عن ألم الجماهير، عن بطولة الجماهير، ملحمة الثورة اللاشخصية ل 150.000.000 ايفان. لهذا السبب لم يوقعها :"لم يؤلف قصيدتي أحد". لكن هذا الاغفال المقصود، الاصطلاحي، لا يغير في الأمر شيئا : فالقصيدة، في الواقع، شخصية للغاية، فردوية، وهذا بالمعنى المرذول لهاذين المصطلحين. انها مشوبة بالكثير الكثير من العسف المجاني. فصور من أشباه :"ويلسون السابح في الشحم"، لكل مقيم في شيكاغو لقب جنرال على الأقل"، "ويلسون يأكل بنهم، يسمن، تعلوا بطنه طابقا فطابقا"، الخ، هذه الصور البسيطة والفجة في الظاهر، ليست بحال من الأحوال صورا شعبية، وايست على كل حال صورا تستخدمها الجماهير اليوم. فالعامل، على الأقل ذاك الذي سيقرأ قصيدة ماياكوفسكي، قد رأى صورة ويلسون(28) الفوتوغرافية. وبالرغم من أنه يسعنا أن نسلم بأن ويلسون يلتهم كميات كافية من البروتينات والشحوم، فانه يبقى رجلا نحيفا. وقد قرأ العامل أيضا ابتون سنكلير(29)، ويعلم أن في شيكاغو، بالاضافة الى "الجنرالات"، عمال مسالخ. واننا لنحس بأن تلك الصور المجانية والبدائية تنطوي، بالرغم من نزعتها الى الغلو والمبالغة، على ضرب من الزأزأة(30) الشبيهة بتلك التي يلجأ اليها الراشدون مع الصغار، وما تنم عنه ليس بساطة خيال شعبي فياض، وإنما غباء البوهيميا. ان لويلسون سلما. "أذا تسلقته شابا، فلن تصل القمة الا بعد لأي يوم تكون قد صرت شيخا!". ايفان يهاجم ويلسون، إنها مباراة "بطولة صراع الطبقات العالمي". عند ويلسون "غدارات بأربعة ديوك، وسيف بستين سنا منشارية"، لكن لدى ايفان "يد ويد أخرى، وهي مدفونة في حزامه". ايفان أعزل من السلاح، يده في حزامه، يواجه الكافر المسلح بغدارات : إنها في الحق فكرة روسية قديمة جدا! ألسنا في حضرة ايليا مورومييتز(31)؟ اللهم الا اذا كان ايفان الساذج الذي يتقدم، حافي القدمين، لمجابهة الآليات الألمانية الحاذقة؟ يضرب ويلسون ايفان بسيفه : "يصرعه بأربع طعنات نجلاء ... لكن الرجل الجريح ينهض فجأة". وهكذا دواليك، وحسن الطالع دوما معه. ولكن كم هي في غير محلها تلك الأساطير الشعرية البدائية والحكايات الخرافية وما اتفهها حين تزدرع في شيكاغو الصناعية وتُطبق على صراع الطبقات! لقد أريد لذلك كله أن يكون جبارا عملاقا، لكنه لا يعدو أن يكون ضربا من ألعاب القوى، وألعاب القوى المشبوهة، المزيفة، التي تشعوذ بأثقال جوفاء. "مباراة البطولة العالمية لصراع الطبقات!". ايها النقد الذاتي، أين أنت؟، ان مباراة البطولة عرض برسم ايام العطلة، وغالبا ما تكون مدبرة النتائج سلفا. لا الصورة ولا اللفظة تصلحان هنا. وبدلا من الصراع العملاقي الحقيقي لمئة وخمسين مليون  نسمة، تقدم لنا محاكاة ساخرة، قوامها خرافة أو مباراة استعراضية. صحيح أن المحاكاة الساخرة ليست مقصودة، ولكن ذلك لا يغير في الأمر شيئا.
     ان الصور التي لا تستهدف شيئا، أي الصور التي لم يتم تمثلها داخليا، تلتهم الفكرة من دون أن تترك منها أثرا، وتشوهها على الصعيد الفني والصعيد السياسي على حد سواء. لماذا يبقي ايفان يده، في مواجهة السيوف والغدارات، دفينة في حزامه؟ ما الداعي الى مثل هذا الازدراء للتقنية؟ ان ايفان أوهن تسليحا بكثير من ويلسون، هذا مؤكد. ولكن لهذا على وجه التحديد ينبغي عليه أن يستخدم كلتا يديه. وإذا وجدناه لا يخر على الارض صريعا، فهذا لان في شيكاغو عمالا، لا جنرالات فحسب، وكذلك لأن قسما كبيرا من أولئك العمال هم ضد ويلسون ومع ايفان. القصيدة لا تبين ذلك. وواضعها، بحرصه على الوصول الى صورة عظيمة الحجم، يضيًّع معالمها الاساسية.
     يقسم المؤلف، بعجلة وبالإتفاق، أي هنا أيضا بلا حافز او مبرر، العالم إلى طبقتين اثنتين : من جهة أولى ويلسون السابح في الشحم، مع القواقم والقنادس والأجرام السماوية الكبيرة، ومن الجهة الثانية ايفان، مع بذلات العمل وملايين نجوم درب المجرة : "للقنادس ثرثرة منحطي العالم بأسره، وللبذلات جملة المستقبليين الفولاذية". ومن سوء الحظ ان الشاعر، بالرغم من أنه معبر ومالك لبعض جمل قوية مناسبة، بالإضافة إلى صور لامعة براقة، لا يملك في الحقيقة أي جملة فولاذية لبذلات العمل. أعلة ذلك نقص في الموهبة؟ كلا، وانما افتقارا منه الى صورة للثورة. مصاغة بالاعصاب والدماغ، صورة يكون التعبير مناطا بها. يلعب المؤلف لعبة الأقوياء، فيتلقف جملة ثم يرميها، وهكذا دواليك. قول ماياكوفسكي مهددا : "سنجهز عليك، ايها العالم الرومانسي!". حسنا. يجب أن يوضع، بالفعل، حد لرومانسية اوبلوموف وكاراتاييف. ولكن كيف؟ "انه هرم، اقتله، وأتخد من جمجمته منفضة". أليست هذه رومانسية، بل ورومانسية سلبية؟ ان الجماجم المتخذة منافض ليست عملية ولا صحية. وهذه الوحشية، بعد كل شيء... ليست بذات دلالة كبيرة. لا جدال في أن الشاعر مصاب بداء الرومانسية حتى يخطر له أن يستعمل عظام الجمجمة على ذلك النحو. على كل الأحوال، لم يتمثل صوره ولم يوحدها. "انشلوا ثروة العالمين جميعا!". بهذه اللهجة الرافعة للكلفة يتكلم ماياكوفسكي عن الاشتراكية. لكن النشل يعني سلوك مسلك اللص. فهل تكون هذه الكلمة في محلها،حين يكون المقصود بها مصادرة المجتمع للارض والمصانع؟ إنها قطعا في غير محلها، وبشكل لافت للنظر. المؤلف لا يحجم عن التبذل حتى يتصادق مع الاشتراكية والثورة. والحال أنه حين ينخس بلا كلفة المئة والخمسين مليون ايفان "في خواصرهم"، فانه لا يكبِّر ايفان الى حجم عملاق، بل يصغره فقط الى ثمن صفحة. إن رفع الكلفة لا يعبر بتاتا عن العلاقة الحميمة العميقة، ولا يدلل في غالب الأحيان إلا على انعدام اللياقة السياسية أو الاخلاقية. إن روابط رصينة وجدية وعميقة بالثورة تستبعد اللهجة الرافعة للكلفة، وعنها يمكن أن يتولد ما يسميه الألمان إشجاء البعد.
     تحتوي القصيدة على جمل قوية، على صورة جريئة، وعلى تعابير تقع من النفس موقعا حسنا. ولعل "صلاة السلم المظفرة" التي تختتمها هي أقوى أجزائها. لكنها في مجملها مطبوعة بطابع من انعدام الحركة الداخلية. والتناقضات غير مسلطة عليها الأنوار، حتى يجري حلها فيما بعد. أقصيدة عن الثورة، والحركة فيها منعدمة ! والصور، الموجودة لذاتها، تتصادم ويجندل بعضها بعضا. وافتقادها التوافق لا ينبع من المادة التاريخية، وانما من شقاق داخلي مع فلسفة ثورية للحياة. ومع ذلك، حين نصل، ولو بعد لأي، الى خاتمة القصيدة، يخطر لنا ان عملا كبيرا كان من الممكن أن يكتب لو دلل الشاعر فحسب على اعتدال ونقد ذاتي! لعل هذه العيوب الاساسية لا ترجع الى ماياكوفسكي نفسه، وإنما الى كونه يعمل في إنبيق أو حوجلة. فما من شيء يقضي على النقد الذاتي و الرزانة وحسن الاعتدال مثل حياة النوادي.
     تخفق مسرحيات ماياكوفسكي الهجائية هي الأخرى في التغلغل الى جوهر الاشياء والى صميم علاقاتها. هجاؤه لاذع  ولكنه سطحي، فالرسام الكاريكاتوري، حتى يقول شيئا ما، لا يكفي أن يكون متمكنا من قلمه فحسب بل عليه أن يعرف العالم الذي يميط القناع عنه، معرفته بجيبه. لقد كان سالتيكوف(32) يعرف حق المعرفة البيرقراطية والنبالة! وأن رسما كاريكاتوريا تقريبا (واأسفاه! أن 99 من أصل 100 من الرسامين الكاريكاتوريين السوفياتيين هم كذلك) لهو أشبه برصاصة تخطئ الهدف، ولو بعرض أصبع، أو حتى شعرة؛ لقد كادت أن تصيب الهدف، ولكنها أخطأته بعد كل شيء. ان هجاء ماياكوفسكي تقريبي؛ فملاحظاته التهكمية اللاذعة، التي يرددها الممثل على انفراد، تخطيء هدفها، حينا بعرض أصبع، وحينا آخر بعرض اليد كلها. يعتقد ماياكوفسكي اعتقادا جادا أن "الهزلي" يمكن عزله عن ركيزته واختزاله الى  ظاهره. بل انه، في مقدمته لديوانه الهجائي، يضع "مخططا للضحك". وما يجعل المرء يبتسم بحيرة بالاحرى، عند قراءة ذلك "المخطط". هو أنه لا ينطوي على شيء مضحك البتة. وحتى لو قدم لنا أحدهم "مخططا" أكثر توفيقا من "مخطط" ماياكوفسكي، لما ألغى الفارق  الذي يفصل الضحك الناجم عن هجاء يصيب هدفه عن الهمهمة تحدثها ذغدغة لفظية.
     لقد ارتقى ماياكوفسكي من البوهيميا التي دفعت به الى أمام الى مستوى انجازات مبدعة حقيقية. لكن الغصن الذي تسلق عليه ليس الا غصنه. انه يتمرد على شرطه، على التبعية المادية والمعنوية التي تغل حياته، وبخاصة حبه، ألمه، سخطه على أولئك الذين يملكون المقدرة على حرمانه من محبوبته، يحضانه حتى على مناداة الثورة وعلى التنبؤ بانقضاضها كالصاعقة على رأس مجتمع يحرم شخصا يدعى ماياكوفسكي من الحرية. اليست "الغيمة في البنطال"، وهي قصيدة حب تعيس، أثره الأبلغ دلالة على صعيد الفن، والاكثر جرأة والأحفل بالوعود على صعيد الابداع؟ بل انه ليشق على المرء أن يتصور أن قطعة بمثل تلك القوة الباهرة وذات شكل بمثل تلك الأصالة قد كتبها فتى يتراوح عمره بين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين. لكن "الحرب والكون" و"السر المضحك" و"150.000.000" أضعف بكثير، وذلك لأن ماياكوفسكي هجر مداره الشخصي ليدور في مدار الثورة. وكلما نستطيعه هو ان نحيي جهوده لأنه لا وجود، بالفعل، لطريق آخر بالنسبة اليه. وتعود "بهذه المناسبة" الى موضوعة الحب الشخصي، ولكن الى ما وراء "الغيمة" ببضع خطوات ، لا الى قدامها. والحق أنه لا يمكن الحفاظ على التوازن على صعيد أعلى بكثير الا عن طريق توسيع حقل المعرفة وتعميق المضمون الفني. بيد أنه لا يسعنا ألا  نقر بأن الانخراط في طريق فني واجتماعي جديد أمر بالغ الصعوبة. في الآونة الأخيرة هذه تحسنت، بلا جدال، تقنية ماياكوفسكي، لكنها زادت أيضا ابتسارا ونأيا عن الاصالة. تنطوي "السر المضحك" و"150.000.000"، الى جانب جمل رائعة، على ثغرات محتومة، تعوض عنها بقدر أو بآخر البلاغة وبعض الخطوات الراقصة على الحبل الصوتي. الطابع العضوي، الصدق، الصيحة الداخلية التي كنا سمعناها في "الغيمة" لم تعد موجودة. يقول بعضهم: "ماياكوفسكي يكرر نفسه". ويضيف بعضهم الآخر: "استهلك ماياكوفسكي نفسه". ويتهلل آخرون بخبث: "ماياكوفسكي صار شاعرا رسميا". أصحيح هذا كله؟ لا نتسرعن في التنبؤ بنبوءات متشائمة. صحيح أن ماياكوفسكي لم يعد مراهقا، لكنه ما يزال شابا. هذا يبيح لنا الا نغمض أعيننا دون العقبات التي تسد طريقه. فتلك العفوية الخلاقة، التي تنبض كنبع حي في "الغيمة"، لن يستعيدها أبدا. لكن لا داعي للتأسف على ذلك. فعفوية أيام الفتوة والشباب تخلي الساح بوجه عام، في أيام النضج والكهولة، لتمكن أكيد من الذات، لا يتجلى  في التمكن المتين من اللغة فحسب، بل أيضا في رؤية واسعة رحبة للحياة والتاريخ، في تغلغل عميق في أوالية القوى الجماعية والفردية والأفكار والأمزجة والأهواء. هذا التمكن أو الاقتدار يتنافى مع الهواية الاجتماعية، والصراخ، وقلة احترام الذات، المرافقة عادة للتبجح الملحف والمزعج . إنه لا يتجلى في ادعاء العبقرية والتظاهر بها، أو في ممارسة الغش  لانتزاع إعجاب الناس، أو أي درجة أخرى رائجة في مقاهي الانتلجانسيا. واذا ما انتهت الأزمة التي يمر بها الشاعر - والأزمة قائمة فعلا – الى أن تجد حلا لها في صحو فكري يعرف كيف يميز الخاص من العام، فان مؤرخ الأدب سيقول ان "السر المضحك" و"150.000.000" لم تشيرا الا الى انخفاض محتم ومؤقت في التوتر عند منعطف طريق لا يني يتصاعد. ونحن نتمنى صادقين الا يكذّب ماياكوفسكي مؤرخ المستقبل.
 
 
***
 
     حين يكسر المرء ذراعا له أو ساقا، لا يترتب على ذلك انكسار العظام وانقطاع الاوتار والعضلات والشرايين والأعصاب والجلد وفق خط واحد، كذلك فانها لا تعاود الالتصاق و تتماثل الى الشفاء في وقت واحد. وحين يحدث كسر ثوري في  حياة المجتمعات، لا يقوم هنا أيضا تواقت أو تناظر في السيرورات، سواء أعلى الصعيد الايديولوجي أم في البنية الاقتصادية. لقد رأت المقدمات الايديولوجية الضرورية للثورة النور قبل الثورة، في حين أن أهم النتائج الايديولوجية للثورة لا تظهر الا بعد مرور وقت طويل على قيامها. وعليه، من  الخفة بمكان أن نقيم، استنادا الى تشابهات وتجانسات شكلية، نوعا من وحدة الهوية بين المستقبلية والشيوعية، وان نستخلص من ذلك أن المستقلبية هي فن البروليتاريا. من الواجب أن نرد أشباه هذه الادعاءات، لكن هذا لا يعني أنه من الواجب أيضا أن ننظر بعين الازدراء الى عمل المستقبليين. فهم يشكلون، في رأينا، المعالم التمهيدية الضرورية لتكوين أدب جديد وعظيم. بيد أنهم، من منظور هذا الادب، لا يشكلون سوى حلقة ذات مغزى. حسبنا، حتى نقتنع ذلك، ان نتناول المسألة تناولا أكثر عيانية، على الصعيد التاريخي. فالمستقبليون لا يجانبون الصواب، حين يردون على لوم اللائمين بأن أعمالهم ليست في متناول الجماهير، بأن "رأسمال " ماركس ليس هو الآخر في متناول الجماهير. فمن المحقق أن الجماهير ما تزال تنقصها الثقافة والتأهيل الجمالي، وأنها لن ترتقي الا ببطء. لكن ليس ذلك سوى واحد من الأسباب التي تجعل المستقبلية في غير متناولها. وثمة سبب آخر: فالمستقبلية، في طرائقها وأشكالها، تحمل البصمات الواضحة لهذا العالم أو بالأحرى هذا العالم الصغير الذي رأت فيه النور، والذي لما تخرج منه بعد بحكم منطق الأشياء - سيكولوجياً لا منطقيا- حتى يومنا هذا. وانه لمن الصعب أن نسلخ عن المستقبلية اقنومها الفكري، صعوبة فصل الشكل عن المضمون. ولو حدث ذلك، لتعرضت المستقبلية لتغير كيفي بالغ العمق لا تعود معه هي المستقبلية. ولسوف يحدث ذلك، ولكن ليس غدا. على أنه يسعنا، حتى من اليوم، أن نؤكد أن ما تتألف منه المستقبلية سيكون في شطره الأكبر نافعا، وستكون هناك إمكانية لاستخدامه في انبعاث الفن ومعاودته النهوض، بشرط أن تتعلم المستقبلية الوقوف على ساقيها، من دون أن تحاول فرض نفسها بمرسوم حكومي، كما شاءت أن تفعل ذلك في مستهل الثورة. فالأشكال الجديدة ينبغي أن تجد من تلقاء نفسها، باستقلال، منفذا إلى وجدان العناصر المتقدمة من الطبقة العاملة، طرداً مع تطور هذه العناصر ثقافيا. إن الفن لا يستطيع لا أن يحيا ولا أن يتطور من غير أن يحوطه جو من الود والتعاطف، وإنما على هذا الطريق، وليس على أي طريق آخر، ستظهر سيرورة معقدة من العلاقات المتبادلة. فارتفاع المستوى الثقافي للطبقة العاملة سيساعد وسيكون له ثأثيره على أولئك المجددين الذين لديهم حقا شيء  يقولونه. أما التصنع، المحتم حين تسيطر التكتلات، فسيزول وستتمخض البراعم الحية عن أشكال جديدة تتيح إمكانية حل مشكلات فنية جديدة. هذا التطور يفترض قبل أي شيء آخر تراكم خيرات ثقافية، ونمو الرفاهية، وتطور التقنية. ليس هناك طريق آخر. من المستحيل أن نتصور جديا أن التاريخ سيضع أعمال المستقبليين في معلبات حتى يقدمها، بعد سنوات عديدة، للجماهير التي تكون قد أدركت النضج. ان ذلك سيكون ضربا  خالصا من ...الماضوية. يوم سيأتي ذلك الزمن، وهو لن يأتي غدا، يوم تردم التربية الثقافية والجمالية للجماهير الكادحة الهوة بين الانتيلجينسيا المبدعة والشعب. يومئد سيرتدي الفن مظهرا مغايرا تماما. وفي هذه السيرورة، سوف تظهر المستقبلية على أنها حلقة لا غنى عنها . فهل هذا بالقليل؟
 
 
 
 
مدرسة الشعر الشكلية و الماركسية
 
 
     اذا نحينا جانبا الأصداء الواهنة للمذاهب الايديولوجية السابقة للثورة، فان النظرية الوحيدة التي وقفت موقف المعارضة من الماركسية في روسيا السوفياتية في السنوات الأخيرة هي نظرية الفن الشكلية. ووجه المفارقة هنا ان الشكلية الروسية كانت وثيقة الصلة بالمستقبلية الروسية، وانه في حين استسلمت هذه الأخيرة، من وجهة النظر السياسية، بقدر أو بآخر أمام الشيوعية، أفصحت الشكلية بكل قواها عن معارضتها النظرية للماركسية.
     فكتور شكلوفسكي هو، في آن معا، منظِّر المستقبلية وزعيم المدرسة الشكلية. وبحسب نظريته، كان الفن على الدوام ابتكارا لاشكال صافية مكتفية بذاتها، والمستقبلية هي أول من أقر بذلك. المستقبلية، اذن، هي أول فن واعٍ في التاريخ، والمدرسة الشكلية هي أول مدرسة فنية علمية. وبفضل جهود شكولوفسكي- وليس هذا ادنى أفضاله!- ارتقت أخيرا نظرية الفن، والفن نفسه الى حد ما، من مستوى السيمياء الى مستوى الكيمياء. ويقرّع بشير المدرسة الشكلية، كيميائي الفن الاولى، تقريعا وديا اولئك المستقبليين "المصالحين" الذين يبحثون عن جسر الى الثورة ويحاولون أن يجدوه في التصور المادي للتاريخ. فمثل هذا االجسر ليس ضروريا: إذ أن المستقبلية تكفي ذاتها بذاتها ملء الكفاية.
     ينبغي أن نتوقف هنيهة عند هذه المدرسة لسببين. أولا لذاتها: فبالرغم من كل ما تنطوي عليه نظرية الفن الشكلية من جوانب سطحية ورجعية. فان شطرا معينا من نشاط الشكليين في ميدان البحث نافع حقا. أما السبب الثاني فهو المستقبلية: فمهما تكن باطلة إدعاءات المستقبليين بأنهم الممثلون الأوحدون للفن الجديد، لا يسعنا أن نستبعد المستقبلية من التطور المفضي الى فن الغد.
 
     ما المدرسة الشكلية ؟
 
     انها قبل كل شيء، وكما يمثلها في الساعة الراهنة شكلوفسكي وجيرمونسكي وجاكوبسون وغيرهم، طرِح أو جهيض وقح. فبعد أن أعلنت هذه المدرسة أن ماهية الشعر هي الشكل، فصرت مهمتها على تحليل، وصفي أساسا وشبه سكوني، للأصول الإشتقاقية والنحوية للأعمال الشعرية، ولاحرف العلة والصوامت والمقاطع والنعوت التي تتكرر. هذا الشغل الجزئي، الذي لا يهاب الشكليون أن يسموه "علم شكل الشعر" أو "علم الشعر" ضروري ونافع بلا أدنى نقاش، بشرط أن ندرك طابعه الجزئي والمساعد والتمهيدي. وهو قابل لأن يصير عنصرا أساسيا في التقنية الشعرية وقواعد المهنة. كذلك، من المفيد للشاعر، أو الكاتب بوجه عام ، أن يضع قوائم بالمترادفات وأن يزيد عددها لتوسيع قاموسه اللفظي، ومن المفيد للشاعر، بل من الضروري له أن يزن كلمة من الكلمات لا بحسب مدلولها الذاتي، بل أيضا بحسب قيمتها السمعية، ما دامت هذه الكلمة تصل الى الآخرين عن طريق السمع قبل كل شيء. ومن الممكن لطرائق الشكلية، اذا لزمت حدودا معقولة، أن تساعد على توضيح الخصائص الفنية والسيكولوجية للشكل (تناسقه، حركته، متناقضاته، مبالغاته، الخ). وبدورها، تستطيع هذه الطرائق أن تشق للفنان طريقا - طريقا بين طرق اخرى – نحو ادراك العالم ، وان تسهل اكتشاف علاقات تبعية فنان بعينه أو علاقات تبعية مدرسة فنية كاملة للوسط الاجتماعي. وما دمنا في حضرة مدرسة معاصرة، حية، مستمرة في التطور، فمن الضروري، في العصر الانتقالي الذي نحياه، أن نمتحنها بروائز اجتماعية وأن نسلط الضوء على جذورها الطبقية. بهذه الطريقة يمكن، لا للقارئ وحده، بل للمدرسة نفسها، أن تهتدي الى سواء السبيل، أي ان تعرف نفسها، وان تستنير، وأن تشق طريقها.
     لكن الشكليين يرفضون التسليم بان طرائقهم ليس لها الا قيمة مساعدة ، نفعية وتقنية ، شبيهة بقيمة الاحصاء بالنسبة الى العلوم الاجتماعية ، او المجهر بالنسبة الى العلوم البيولوجية . انهم يذهبون الى أبعد من ذلك بكثير: ففنون الكلام تجد اكتمالها و كمالها ، في نظرهم، في الكلمة ، مثلما تجدهما الفنون التشكيلية في اللون. فالقصيدة تركيبة أصوات، أما المنظور الاجتماعي والسيكولوجي، الذي يعطي وحده في نظرنا معنى للشغل المهجري والاحصائي في المادة، فلا يعدو أن يكون في نظر الشكليين ضربا من السيمياء .
      "لقد كان الفن على الدوام مستقلا عن الحياة، ولم يعكس لونه قط لون العلَم الذي يخفق فوق حصن المدينة "(شكلوفسكي). " المطابقة مع التعبير ، مع الكتلة اللفظية، هي اللحظة الوحيدة، الاساسية ، في الشعر" (ر.جاكسون، في "الشعر الروسي الراهن"). "ما أن يوجد شكل جديد حتى يوجد مضمون جديد. فالشكل يحدد المضمون" (كروتشينيخ). " ما الشعر الا تشكيل للكلمة، تشكيل له قيمته في ذاته، أو كما يقول خلبينكوف "مستقل بذاته" (جاكوبسون) ، الخ.
صحيح أن المستقبليين الايطاليين فتشوا في الكلمة عن أداة للتعبير عن عصر القطارات والحوامات و الكهرباء والراديو، الخ. و بعبارة أخرى ، فتشوا عن شكل جديد لمضمون الحياة الجديد. لكن ذلك كان ، على ما يبدو ، "اصلاحا في مضمار الريبورتاج، لا في مضمار اللغة الشعرية (جاكسون). و يختلف كل الاختلاف امر المستقبلية الروسية ؛ فهي تقطع الشوط الى آخره في ما يتعلق ب "المطابقة مع الكتلة اللفظية" . الشكل هو الذي يحدد المضمون، بالنسبة الى المستقبلية الروسية .
      صحيح أن جاكوبسون مرغم على التسليم بأن " سلسلة من طرائق شعرية جديدة نجد تطبيقها (؟)  في هندسة المدن". ولكن اليكم استنتاجه : "من هنا كانت قصائد ماياكوفسكي وخلبينكوف الهندسية المدينية". بعبارة أخرى، ليست هندسة المدن هي التي أوحت للشاعر، بعد أن أثارت انتباه عينه و أذنه أو أعادت تربيتهما ، بشكل جديد، بصورة  جديدة، بنعوت جديدة، وبوزن جديد ، بل ان الشكل الجديد، على العكس، هو الذي رأى النور عفويا (بصورة "مستقلة بذاتها") فارغم الشاعر على البحث عن مادة موائمة، و دفع به، في من دفع بهم، باتجاه المدينة ! لقد تم تطور "الكتلة اللفظية" عفويا من "الاوذسيه" الى "الغيمة في البنطال": أما المشعلة، و الشمعدان، ثم المصباح الكهربائي ، فلا دخل لها بالموضوع ! حسبنا أن نصوغ وجهة النظر هذه صياغة واضحة حتى يبرز للعيان تهافتها الصبياني . لكن جاكوبسون يحاول أن يلح ويصر؛ فهو يرد سلفا بأننا نجد لدى ماياكوفسكي عينه أبياتا كهذه : "اتركوا المدن، يأغبياء البشر". وتصدر عن منظّر المدرسة الشكلية هذه المحاكمة الفكرية العميقة: "ما هذا أذن؟ أتناقض منطقي؟ ولكن فليعز غيري الى الشاعر الافكار المعبر عنها في أعماله. أن تجريم الشاعر بسبب الافكار والعواطف موقف لا يقل عبثية عن موقف جمهور العصر الوسيط حين كان ينهال بالضرب على الممثل الذي أدى دور يهوذا". وهكذا دواليك.
     من الجلي الذي لا يحتاج الى بيان أن كل مل ما سلف كتبه تلميذ ثانوي موهوب جدا، عن نية واضحة و"مستقلة بذاتها" في "وخز استاذ الأدب، وهو متحذلق مشهور، بريشة". لكن مجددينا الاشاوس، البارعين كل البراعة في غرس ريشتهم، عاجزون عن استخدامها في عمل نظري صحيح. وليس من العسير سوق الادلة على ذلك.
     بديهي ان المستقبلية أحست بإيحاءات المدينة والترامواي والكهرباء والتلغراف والسيارة والحوامة والملهى الليلي (وعلى الاخص الملهى الليلي) قبل ان تعثر على شكلها الجديد. وهندسة المدن ضاربة جذورها في لاشعور المستقبلية، وما نعوت المستقبلية واشتقاقاتها ونحوها وأوزانها إلا محاولة لاعطاء شكل فني لروح المدن الجديدة التي استحوذت على الوعي. ولئن هتف ماياكوفسكي: "اتروكوا المدن، ياأغبياء البشر"، فهذه صيحة أبن مدينة، صيحة رجل متمدين حتى نخاع العظم. ومدينيته لا تتجلى في اوضح اشكالها واسطعها إلا خارج المدينة اصلا، حين "يترك المدينة"... كي يذهب الى داره الريفية. ليست المسألة هنا، بحال من الاحوال، "تجريما" ( ترد هذه الكلمة كالشعرة في الحساء) لشاعر على الافكار والعواطف التي يعبر عنها. ولا ريب في ان الطريقة التي يعبر بها عنها هي التي تجعل من الشاعر شاعرا. لكن الشاعر يؤدي، في خاتمة المطاف، في لغة المدرسة التي تبناها أو ابدعها بنفسه، مهام تقع خارجا عنه. وهذا صحيح حتى ولو قصر نفسه على حلقة الغنائية الضيقة: حبه الشخصي وموته الذاتي. وطبيعي ان الفروق الدقيقة الفردية في الشكل الشعري تناظر طريقة التفكير الفردية، لكنها تتكيف ايضا مع التقليد والروتين، سواء افي ميدان العواطف ام في ميدان التعبير عنها. ان الشكل الفني الجديد، مأخوذا بالمعنى التاريخي الواسع، يرى النور استجابة لحاجات جديدة. وإذا شئنا البقاء في دائرة الشعر الغنائي الحميم، أمكننا أن نقول انه يندرج بين فسيولوجيا الجنس و بين قصيدة عن الحب نظام معقد من اواليات التوصيل النفسية التي تدخل فيها عناصر فردية ووراثية و اجتماعية . الاساس الوراثي ، الجنسي، للانسان يتغير ببطء. أما اشكال الحب الاجتماعية فتتغير بسرعة أكبر. فهي تطال البنية الفوقية النفسية للحب، وتنتج فروقا دقيقة جديدة، وأداءات جديدة ، و مطالب روحية جديدة، وحاجة الى مفردات جديدة، وتطرح بالتالي مطالب جديدة على الشعر. لا يستطيع الشاعر ان يجد مادة للابداع الفني الا في وسطه الاجتماعي، وهو ينقل نزوات الحياة ودوافعها الجديدة من خلال وعيه الفني الذاتي. و تعطي اللغة، المعدلة و المعقدة بالشروط المدينية، الشاعر مادة لفظية جديدة، توحي او تسهل تركيبات جديدة للكلمات برسم الصياغة الشعرية لافكار جديدة او لعواطف جديدة تحاول اختراق قوقعة اللاشعور المعتمة . ولو كانت لاتحدث تغيرات نفسية متولدة عن تغيرات الوسط الاجتماعي، لما حدثت حركة في الفن، ولكان الناس أستمروا على أكتفائهم، جيلا بعد جيل، بشعر التوراة أو قدامى الاغريق.
     لكن هنا يهتف فيلسوف الشكلية، وهو ينقض علينا انتقضاضا، أن الامر لا يعدو أن يكون محض شكل جديد "في مضمار الريبورتاج، وليس في مضمار اللغة الشعرية"؟ وهنا، بالفعل، نصعق ! فالشعر، أعلم ذلك اذا كان من الممكن أن يسرك، هو الآخر ضرب من الريبورتاج، ولكن بأسلوب فخم.
     إن الخصومات حول "الفن الخالص" والفن الموجه كانت الشغل الشاغل لليبيراليين والشعبويين. لكنها ليست جديرة بنا. فالجدل المادي فوق مثل تلك الخصومات: الفن بالنسبة إليه، من وجهة نظر السيرورة التاريخية الموضوعية، هو أبدا ودائما خادم اجتماعي، نفعي تاريخيا. إنه يعثر على ايقاع الكلمات الضروري للتعبير عن عواطف غامضة ومبهمة، يقرّب الشقة بين الفكر والعاطفة، أو يعارض أحدهما بالآخر، يغني التجربة الروحية للفرد والمجموع، يهذب العاطفة، يجعلها أكثر مرونة، أكثر حساسية، يضفي عليها المزيد من الواقع والترجيع، يوسع حجم الفكر بفضل مراكمة تجربة تتجاوز النطاق الشخصي، يثقف الفرد، الجسم الاجتماعي، الطبقة، والامة. وهو يفعل ذلك من دون أن تكون هناك أي أهمية لمعرفة ما اذا كان يعمل، في تياره الراهن، تحت راية الفن "الخالص" أو تحت راية فن هادف على نحو مكشوف وسافر. لقد كان الفن الهادف، في تطورنا الاجتماعي الروسي، راية لانتلجانسيا تسعى الى الارتباط بالشعب. فقد كانت هذه الانتلجانسيا، العاجزة، المسحوقة من قبل القيصرية، المحرومة من الوسط الثقافي، الباحثة عن سند في الشرائح الدنيا من المجتمع، تبذل ما في مستطاعها لتثبت ل"الشعب" أنها لا تفكر الا به، ولا تحيا الا من أجله، وتحبه حبا "جامحا". وكما كان الشعبويون الذين "يذهبون الى الشعب"(33) على استعداد للاستغناء عن البياضات النظيفة، وعن المشط وفرشاة الاسنان، كذلك كانت الانتلجانسيا على استعداد للتضحية على صعيد فنها ب"رهافة" الشكل كي تعبر تعبيرا مباشرا وفوريا عن أوجاع المضطهَدين وآمالهم. وعلى النقيض من ذلك، كان الفن "الخالص" شعارا طبيعيا للبورجوازية الصاعدة التي ما كان يسعها أن تتصور نفسها علنا وجهارا كبورجوازية، والتي كانت تسعى في الوقت نفسه الى الابقاء على الانتلجانسيا في خدمتها. إن وجهة النظر الماركسية بعيدة غاية البعد عن تلك الاتجاهات التي كانت ضرورية تاريخيا، ولكن التي فات أوانها وتم تجاوزها تاريخيا. فالماركسية، المثبتة قدميها على صعيد التنقيب العلمي، تبحث بثقة بالنفس عن الجذور الاجتماعية للفن "الخالص" بمثل رباطة الأجأش التي نبحث بها عن الجذور الاجتماعية للفن الهادف. انها لا "تجرم" البتة شاعرا من الشعراء على الافكار والعواطف التي يعبر عنها، لكنها تطرح على نفسها أسئلة ذات مغزى أعمق وأبعد مدى بكثير، وهي: ما نسق العواطف الذي يتجاوب معه شكل محدد من العمل الفني بجميع خصائصه؟ ما الشروط الاجتماعية التي ترجع اليها تلك الافكار وتلك العواطف؟ ما المكان الذي تشغله في التطور التاريخي للمجتمع، للطبقة ؟ وكذلك: ما عناصر التراث الادبي التي ساهمت في انشاء الشكل الجديد؟ وما الدوافع التاريخية التي نقفت تحت تأثيرها مركبات العواطف والافكار الجديدة واخترقت القوقعة التي كانت تفصلها عن دائرة الوعي الشعري؟ ومن الممكن أن يزداد البحث تعقيدا وتفصيلا وتفردا، لكن فكرته الاساسية ستبقى الدور المساعد الذي يلعبه الفن في السيرورة الاجتماعية.
      إن لكل طبقة في الفن سياستها، وهي سياسة تختلف باختلاف الزمن، أي لها نطامها الخاص الذي تقدم بموجبه مطالبها الى الفن: رعاية البلاطات وكبار النبلاء للفن، اللعبة الآلية للعرض والطلب المكملة بطرائق معقدة للتأثير على الفرد، وهكذا دواليك. وتبعية الفن الاجتماعية، بل حتى الشخصية، لم تحجب قط عن الانظار، بل شهرت على العكس على الملأ، طالما كان الفن محافظا على طابعه البلاطي. أما الطابع الاوسع، والأكثر شعبية، والغفل للبورجوازية الصاعدة فقد أفضى، بالاجمال، وبالرغم من بعض الانحرافات، الى نظرية الفن "الخالص". ولقد كانت الارادة الهادفة، التي تكلمنا عنها آنفا، للانتلجانسيا الشعبوية تنطوي أيضا على أنانية طبقية: فبدون الشعب كانت الانتلجانسيا عاجزة عن ضرب جذورها في الارض، وتوطيد اقدامها، والفوز بالحق في أداء دور في التاريخ. لكن الانانية الطبقية للانتلجانسيا انقلبت، في أتون الكفاح الثوري، رأسا على عقب، واتخذت لدى جناحها اليساري شكل التفاني ونكران الذات السامي. لهذا السبب لم تخف الانتلجانسيا، بل على العكس أعلنت بملء عقيرتها اراداتها الهادفة، مضحية أكثر من مرة في فنها بالفن نفسه، مثلما ضحت بأشياء اخرى عديدة.
      ان تصورنا الماركسي عن الانشراط الاجتماعي الموضوعي للفن وعن نفعه الاجتماعي لا يعني البتة، عند ترجمته الى لغة السياسة، أننا نريد التحكم بالفن بواسطة مراسيم وتعليمات. ويجانب الصواب من يقول ان فنا يتكلم عن العمال هو وحده الفن الجديد والثوري بالنسبة الينا. أما من يزعم أننا نطالب الشعراء بأن يصفوا فقط مداخن المصانع أو انتفاضة ما على الرأسمال، فباطل زعمه ولاغٍ. صحيح أن الفن الجديد لن يمكنه، بحكم طبيعته بالذات، الا يضع كفاح البروليتاريا في صدارة أهتمامه. لكن سكة الفن الجديد ليست مقصورة على عدد معلوم من الاخاديد المرقمة؛ بل على العكس، عليها أن تحرث وتفلح وتقلب الارض كلها طولا وعرضا. ومهما تكن دائرة الغنائية الشخصية صغيرة وضيقة، فمن حقها الذي لا نزاع فيه أن يكون لها وجودها في الفن الجديد. بل أكثر من ذلك: فالانسان الجديد سيتعذر تكوينه بدون غنائية جديدة. الا أن هذه الغنائية الجديدة لن ترى النور الا اذا أحس الشاعر نفسه بالعالم احساسا جديدا. فاذا لم يكن أمام الشاعر من مناص، عند عناقه للعالم، الا أن يتخيل المسيح أو السبعوت بشخصه (كما هي الحال لدى أخماتوفا(34) وزفيتاييفا(35) وشكابسكايا وغيرهن)، فهذا لا يشهد الا على أفول غنائيته وعدم تكيفه الاجتماعي، ومن ثم الجمالي، مع الانسان الجديد. وحتى حيثما لا يعدو ذلك المصطلح أن يكون تخلفا في المفردات أكثر منه مخلفة عميقة، فانه يشهد في الاقل على ركود نفسي يكفي لمعارضة وعي الانسان الجديد به. لن يفرض أحد، ولن يخطر ببال أحد أن يفرض على الشعراء موضوعا بعينه. أكتبوا كل ما يعن لكم ببال! لكن اسمحوا للطبقة الجديدة، التي ترى نفسها بقدر من الصواب مدعوة الى بناء عالم جديد، أن تقول لكم في هذه الحالة أو تلك: لئن ترجمتم تصورات "دوموستروي" الى لغة الاوجيين(36)، فليس ذلك ما سيجعل منكم شعراء جددا. إن شكل الفن مستقل الى حد كبير، لكن الفنان الذي يبدع هذا الشكل والمتفرج الذي يتذوقه ليسا بآلتين فارغتين، أولاهما منذورة لابداع الشكل، وثانيهما لتثمينه. إنهما من الكائنات الحية، ونفسهما متبلورة، وواصلة الى قدر من الوحدة، وإن كانت هذه الوحدة غير متناغمة على الدوام. إن هذه النفس ثمرة للشروط الاجتماعية. وإبداع الاشكال الفنية واستقبالها ادراكيا واحدة من وظائفها. ومهما بالغ الشكليون في رهافتهم، يظل تصورهم التبسيطي مبنيا بتمامه على جهلهم بالوحدة النفسية للانسان الاجتماعي، الانسان الذي يخلق ويستهلك ما تم خلقه.
      إن ما ينبغي للبروليتاريا أن تجده في الفن هو التعبير عن تلك الحالة النفسية الجديدة التي شرعت للتو بالنشوء فيها، والتي يتوجب على الفن أن يساعدها على التكون . ليس المقصود هنا قرارا يصدر عن الدولة، وإنما المسألة مسألة معيار تاريخي. وقوة هذا المعيار تكمن في الطابع الموضوعي لضرورته التاريخية. فليس في المستطاع لا التملص منها ولا الافلات من سلطانها.
      يظهر أن المدرسة الشكلية تبذل ما بوسعها لتكون، بالتحديد، موضوعية. فهي مشمئزة، ليس بدون مسوغ، من التعسف الأدبي والنقدي الذي لا يتعامل ألا مع المشارب والاذواق والامزجة. انها تفتش عن معايير دقيقة لتصنيف التقييمات والاحكام. لكن نظرا الى ضيق نظرتها والطابع السطحي لطرائقها، تسقط باستمرار في خرافات ومعتقدات باطلة مثل فراسة الخط وفراسة الدماغ. فهاتان المدرستان تهدفان، هما أيضا كما هو معلوم، الى وضع معايير موضوعية صرف لتحديد الطبع البشري، معايير من نظير عدد الحلقات ومقدار استدراتها في الخط، وصفات الحدبات خلف الرأس. وليس من المستبعد، بالفعل، ان يكون للحلقات والحدبات صلة بالطبع، لكن هذه الصلة ليست مباشرة، وبعيدة عن تحديد الطبع البشري بتمامه. إن هذه النزعة الموضوعية الوهمية، التي تستند الى عناصر عرضية وثانوية أو فقط غير كافية، تقود حتما ألى أرذل ضروب النزعة الذاتية. وفي مثال المدرسة الشكلية، تفضي الى صنمية الكلمة. فالشكلي، بعد أن يعد النعوت ويزن السطور ويقيس الاوزان، يجد نفسه أمام واحد من أمرين: إما ان يتوقف ويصمت بسحنة رجل ما عاد يعرف ماذا يفعل بنفسه، وإما ان يصدر تعميما غير متوقع يحتوي على خمسة بالمئة من الشكلية وعلى خمسة وتسعين بالمئة من الحدس اللانقدي.
      في الواقع، لا يتابع الشكليون طريقتهم في فهم الفن الى نتيجتها الختامية المنطقية. فلو أعتبرنا عملية الابداع الشعري مجرد تركيب للاصوات أو للالفاظ، ولو أصررنا على سلوك هذا الطريق لحل جميع مشكلات الشعر، لكانت الصيغة الوحيدة المثلى ل"علم الشعر" هي التالية: تسلح بقاموس محكم وابدع، بواسطة تركيبات ومبادلات جبرية لعناصر اللغة، جميع ما في العالم من آثار شعرية ماضية ومستقبلة. لو أجرينا محاكماتنا العقلية "شكليا"، لأمكن لنا أن نصل الى "يوجين أونيغين"(37) بطريقين اثنين: اما عن طريق ربط اختيار عناصر اللغة بفكرة فنية مسبقة التصور، كما فعل بوشكين، واما عن طريق حل المشكلة جبريا. والمنهج الثاني هو المنهج الأصح من وجهة نظر "الشكلية"، لانه غير منوط لا بالحالة النفسية ولا بالالهام ولا بأي عناصر عارضة أخرى من هذا القبيل، ولأن له فضلا عن ذلك مزية أخرى، وهي أنه في الوقت الذي يوصل فيه الى "يوجين أونيغين" يملك المقدرة على الايصال الى عدد لا حصرله من الاعمال الكبيرة الاخرى. وكل ما سيكون اليه حاجة هنا هو زمن لا محدود، أي الابدية. ولكن لما لم تكن الابدية تحت متناول البشرية، وكم بالاحرى تحت متناول الشاعر الفرد، فان النابض الأساسي للتأليف الشعري سيبقى، كما في السابق، الفكرة الفنية المسبقة التصور، المفهومة بأوسع معنى، أي كفكرة محددة أو عاطفة شخصية أو اجتماعية مفصح عنها بوضوح وفي الوقت نفسه كاستعداد فكري مبهم. هذه الفكرة الذاتية سوف تلقى بدورها، في مساعيها وجهودها الى التحقيق الفني، الاثارة والحفز من قبل الشكل المطلوب والمبحوث عنه، ومن الممكن أحيانا أن تُزج برمتها في طريق لم يكن في الحسبان البتة عند الانطلاق. هذا مؤداه ببساطة أن الشكل اللفظي ليس انعكاسا سلبيا لفكرة فنية مسبقة التصور، وانما هو عنصر ايجابي فعال يمارس تأثيره على الفكرة ذاتها. لكن هذا النوع من العلاقة الايجابية المتبادلة، الذي يؤثر فيه الشكل على المضمون ويقلبه أحيانا رأسا على عقب، معروف لدينا في جميع ميادين الحياة الاجتماعية، بل والحياة البيولوجية. ولكن ذلك لا يسوغ بحال من الاحوال نبذ الداروينية والماركسية وانشاء مدرسة شكلية في علم الاحياء وعلم الاجتماع.
      ان فكتور شكلوفسكي، الذي يتأرجح بأعظم اليسر من الشكلية اللفظية الى التقييمات المغرقة في الذاتية، يتبنى في الوقت نفسه أكثر المواقف تصلبا تجاه تعريف الفن ودراسته المبنيين على أساس المادية التاريخية. ففي كتيب نشره في برلين بعنوان "مسيرة الفارس"، صاغ في ثلاث صفحات صغيرة – الايجاز هو الفضيلة الأولى، التي لا جدل فيها على كل حال، لشكلوفسكي – خمس حجج شمولية (لا أربع، ولا ست، وإنما خمس) ضد التصور المادي للفن. وسوف نستعرض هذه الحجج، لانه من المفيد للغاية أن نرى ونبين ما الترهات والسفاسف التي تقدم لنا وكأنها الكلمة الفصل في الفكر العلمي (مع أكبر تنويعة من الاحالات العلمية في تلك الصفحات المجهرية الثلاث عينها).
      يكتب شكلوفسكي يقول: "اذا كانت البيئة وعلاقات الانتاج تؤثر على الفن ، أفما كانت الموضوعات الفنية أرتبطت بالمكان الذي تتناظر فيه مع تلك العلاقات؟ والحال أن الموضوعات لا مكان لها ولا موضوع". حسنا. ولكن ماذا عن الفراشات؟ انها "تناظر" هي أيضا، في رأي داروين، علاقات محددة، ومع ذلك نراها تطير من مكان الى مكان مثلها مثل أي كاتب حر في تحركاته.
      إن ما يشق علينا أن نفهمه هو لماذا يفترض بالماركسية، وبها تحديدا، أن تقضي على الموضوعات الفنية بالرق والعبودية. أن كون الشعوب الأكثر تنوعا والطبقات المختلفة من شعب واحد تستخدم الموضوعات ذاتها يؤكد ببساطة أن الخيال الانساني محدود، وأن الانسان في جميع ابداعاته، بما فيها ابداعه الفني، ينزع الى ادخار قواه والاقتصاد فيها. وكل طبقة تحاول أن تستعمل، على أوسع نطاق ممكن، الميراث المادي والروحي لطبقة أخرى. ومن الممكن بسهولة، لو شئنا، أن نحول حجة شكلوفسكي الى مضمار تقنية الانتاج بالذات. فمنذ غابر الازمنة قامت العربة على موضوعة واحدة: محاور، عجلات، قاعدة. ومع ذلك، كانت عجلة النبيل الروماني موائمة لمشاربه وحاجاته بقدر ما كانت مركبة الكونت أورلوف، بكل ما فيها من وسائل راحة داخلية، موائمة لذوق نديم كاترين. كذلك نجد نقالة الفلاح الروسي مكيفة مع ضرورات نشاطه الاقتصادي وقوة حصانة الصغير وخصائص الطرق الريفية. أما السيارة، التي هي بلا جدال نتاج التقنية الجديدة، فتنطوي مع ذلك على "الموضوعة" عينها: أربع عجلات مركبة على محورين. ومع ذلك، في كل مرة يحيد فيها حصان فلاح على واحد من طرق روسيا ليلا، وقد أذغرته مصابيح سيارة باهرة للانظار، يعكس هذا الحادث النزاع بين ثقافتين.
      "أذا كانت البيئة تفصح عن نفسها في الرواية، فما كان العلم الاوروبي ليحشر دماغة حتى يعرف متى ألفت "ألف ليلة وليلة"، وأين، أفي مصر أم الهند أم فارس". هذه هي حجة شكلوفسكي الثانية. والحال أن القول بأن بيئة الانسان – والفنان انسان – أي شروط حياته وتربيته تجد تعبيرها في عمله، لا يعني البتة أن لهذ التعبير طابعا جغرافيا واتنولوجيا واحصائيا دقيقا. ولئن يكن من العسير أن نقرر هل كتبت بعض الروايات في مصر أو الهند أو فارس، فليس في ذلك ما يبعث على الدهشة، لان تلك البلدان تشترك في العديد من الشروط. بيد أن كون العلم الاوروبي "يحشر دماغه" حتى يحل تلك المسائل انطلاقا من نصوص تلك الروايات بالذات إنما يشهد بالضبط على أن تلك النصوص تعكس البيئة، ولو على نحو بالغ التشويه والتحريف. لا يستطيع أحد ان يخرج من ذاته. حتى هذيانات مجنون من المجانين لا تحتوي على شيء لم يتلقه آنفا من العالم الخارجي. ولا يسع أحدا سوى طبيب نفسي محنك، ذي عاقل ثاقب، مطلع على ماضي المريض، أن يجد في مضمون الهذيان البقايا المشوهة والمحرفة من الواقع. بديهي أن الابداع الفني ليس من قبيل الهذيان. لكنه هو الآخر تحريف، تشويه، تحويل للواقع بحسب قوانين الفن الخاصة. ومهما أمكن للفن أن يوغل في غرائب الخيال، فانه لا يملك من مادة سوى تلك التي يقدمها له العالم المثلث الابعاد الذي نحيا فيه والعالم الأضيق نطاقا المتمثل في المجتمع الطبقي. وحتي حين يبدع الفنان السماءأو الجحيم، لا تعدو صوره الخيالية الجامحة أن تكون تحويلا لتجربة حياته الخاصة، حتى وبما فيها فاتورة غرفته المفروشة غير المدفوعة.
      يستطرد شكلوفسكي فيقول: "لو كانت الخصائص الفئوية والطبقية تنعكس في الفن، فكيف نفسر أن الحكايا الروسية – الكبيرة عن النبيل هي هي نفسها الحكايا عن الخوري؟".
      في الواقع، ليس هذا إلا شرحا اضافيا للحجة الأولى. فما المانع من أن تكون قصص النبلاء والخوارنة واحدة، وأين وجه المنافاة فيها للماركسية؟ إن النداءات التي يكتبها ماركسيون معروفون تتكلم في كثير من الأحيان عن ملاك عقاريين ورأسماليين وكهنة وجنرالات وغيرهم من المستغِلين. ولا مرية في أن المالك العقاري يتميز عن الرأسمالي، ولكن من الممكن في بعض الحالات وضعهما في كيس واحد. فلماذا اذن لا يجوز للفن الشعبي أن يضع هو الآخر، في بعض الحالات، النبيل والخوري في كيس واحد، بصفتهما ممثلين لفئات تتسلط على الفلاح الموجيك وتنهبه؟ وكثيرا ما نجد الخوري والمالك العقاري جنبا الى جنب، في رسوم مور ودوني الكاريكاتورية من دون أن يترتب على ذلك أي ضرر أو أذى للماركسية.
      يقول شكلوفسكي بإلحاف :"لو كانت الخصائص الاتنوغرافية تنعكس في الفن، لما كان فولكلور شعوب مختلفة قابلا للمبادلة، ولما صلحت الحكايا التي ترى النور بين ظهراني الشعب الفلاني للشعب المجاور".
      أحسن فأحسن! لا تزعم الماركسية البتة أن للسمات الاتنوغرافية طابعا مستقلا! بل على النقيض من ذلك، فهي تنوه بالاهمية الفاصلة للشروط الطبيعية والاقتصادية في تكوين الفولكلور. فالتشابه في شروط تطور الشعوب الراعية والمزارعة، حيث الهيمنة للطبقة الفلاحية، والتشابه في التأثيرات التي يمارسها بعضها على بعض، لا يمكن إلا أن يؤديا الى فولكلور متشابه. ثم إنه لا أهمية، من وجهة نظر المسألة التي تعنينا هنا، أن نعرف هل ولدت الموضوعات المتشابهة مستقلة لدى مختلف الشعوب كانعكاس، يحرف أشعته موشور الخيال الفلاحي الواحد، لتجربة متماثلة في معالمها الرئيسية، أم على العكس، هل تولت ريح موائمة نقل بذور الحكايا الشعبية من مكان الى مكان، لتضرب جذورها حيثما أبدت التربة استعدادا لذلك. وفي الواقع، إن هذين النمطين قد تراكبا في أغلب الظن.
      أخيرا – "وجهة النظر الماركسية عن الفن خاطئة، خامسا، لان..." – يشهر شكلوفسكي، بصفة حجة متمايزة، موضوعة عينية هي موضوعة الخطف التي وصلت، عبر الكوميديا الاغريقية، حتى الى اوستروفسكي(38). بعبارة أخرى، يكرر ناقدنا من جديد، تحت شكل خاص، حجته الاولى (حتى في ما يتعلق بالمنطق الشكلي، كما نرى، لا يسير كل شيء على ما يرام لدى صاحبنا الشكلي...). أجل، إن الموضوعات تهاجر من شعب الى شعب، من طبقة الى طبقة، وحتى من مؤلف الى مؤلف. هذا يعني فقط أن الخيال الانساني، مقتصد. فما من طبقة تعاود ابداع الثقافة برمتها من البداية، بل تضع يدها على الماضي، تغربله، ترممه، تعيد تنظيمه، وتتابع البناء بدءاً منه. ولولا هذا الاستخدام ل"خزانة ملابس" الماضي المستعملة، لما وجدت بوجه العموم حركة الى الامام في السيرورة التاريخية. ولئن وصلت الى اوستروفسكي موضوعة الدراما من المصريين عن طريق اليونان، فان الورق الذي عالج عليه تلك الموضوعة يدين به للبردي المصري، تم للرق الاغريقي. لنأخذ مماثلة أخرى، أقرب عهداً الينا: فكون الطرائق النقدية للسفسطائيين الاغريق، الذين كانوا شكليي عصرهم الخلص، قد تغلغلت عميقا في وجدان شكلوفسكي لا يبدل شيئا في كون شكلوفسكي نفسه نتاجا طريفا ومثيرا لوسط اجتماعي ولعصر محددين.
      ان تدمير شكلوفسكي للماركسية في خمس نقاط يعيد الى ذاكرتنا على نحو ملح تلك المقالات المناهضة للداروينية التي كانت تنشرها "المجلة الاورثوذكسية" في أيام زمان. فقد كتب منذ ثلاثين عاما أو أربعين عاما أسقف أوديسا الجهبذ، نيكانور، انه اذا صحت النظرية القائلة أن الانسان متحدر من القرد، فان أجدادنا كان سيكون لهم العلامات المميزة لذنب، أو كانوا تذكروا تلك السمة لدى أجدادهم وجداتهم. ثانيا، ان القرود، كما يعلم كل انسان، لا تلد الا القرود... خامسا، أن الداروينية مجانبة للصواب لانها تناقض الشكلية ... عفوا، أقصد القرارات الشكلية لهيئات الكنيسة الكونية. بيد ان رجل الكهنوت العلامة كانت له ميزة على كل حال: فقد كان ماضويا سافرا، وكان يستقي حججه من لدى بولس الرسول، لا من الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات، كما يفعل ذلك، عابرا، المستقبلي شكلوفسكي.
      لا جدال في أن الحاجة الى الفن لا تخلقها الشروط الاقتصادية. ولكن ليس الاقتصاد أيضا هو الذي يوجد الحاجة الى التغدي. بل على العكس، فالحاجة الى الغداء والدفء هي التي تخلق الاقتصاد. ولا نقاش البتة في انه لا يسع المرء في أي حال من الاحوال ان يستند الى مبادئ الماركسية وحدها حتى يحكم على عمل من الاعمال الفنية، فيرفضه أو يقبله. فالعمل الفني يجب أن يحاكم، قبل كل شيء، بموجب قوانينه الخاصة، أي بموجب قوانين الفن. بيد أن الماركسية وحدها هي القادرة على تفسير لماذا وكيف ظهر، في هذه الحقبة التاريخية أو تلك، هذا الاتجاه الفني أو ذاك، أي من عبر عن الحاجة الى تلك الاشكال الفنية دون غيرها، ولماذا.
      انه لمن السخف أن نعتقد أن كل طبقة تستطيع، من تلقاء نفسها، أن تبدع فنها الخاص بها بتمامه وكماله، وأن البروليتاريا، بوجه الخصوص، قادرة على ابداع فن جديد عن طريق حلقات فنية مغلقة، ندوات، "برولتكولت"، وما شابه.. فالنشاط الابداعي للانسان التاريخي وراثي، بصورة عامة، وكل طبقة جديدة ترتقي على أكتاف الطبقات السابقة لها. لكن هذا التعاقب جدلي، أي أنه يكتشف نفسه بواسطة نفور وقطيعة داخليين. أما زخم الحاجة الى تصورات فنية وأدبية جديدة، في شكل حاجات فنية جديدة، فيتحدد بالاقتصاد، بوساطة طبقية جديدة، وبدرجة أقل، بالوضع المستجد لطبقة بعينها حين تزداد ثروتها وقوتها الثقافية. إن الابداع الفني هو على الدوام قلب معقد للاشكال القديمة تحت دفع حوافز جديدة ترى النور خارج نطاق الفن. بهذا المعنى الواسع يمكن أن نتكلم عن وظيفة الفن، أن نقول أن الفن يفيد ويخدم. انه ليس عنصرا متجردا عن الماديات يغدي نفسه بنفسه، وإنما هو وظيفة للانسان الاجتماعي، لا تقبل عراها انفصاما عن وسطه وعن طرز حياته. ومسعى شكلوفسكي، كما هي الحال على الدوام عند المغالاة برأي مسبق اجتماعي والشطط به الى حد المحال واللامعقول، فصيح الدلالة الى أبعد حد بهذا المعنى: فقد اعتنق شكلوفسكي الفكرة القائلة أن الفن مستقل استقلالا مطلقا عن طراز الحياة الاجتماعي، في مرحلة من تاريخنا الروسي أزاح فيها الفن النقاب بجلاء لا سابق له عن تبعيته الروحية والمادية اليومية تجاه الطبقات وفروع الطبقات وفئات المجتمع!
      لا تنكر المادية أهمية العنصر الشكلي، سواء أفي المنطق أم في التشريع أم في الفن. وكما أن في الامكان ومن الضروري أن يُحكم على نسق حقوقي ما بمقتضى منطقه وتماسكه الداخليين، كذلك يمكن ويجب أن يُحكم على الفن من وجهة نظر منجزاته الشكلية، إذ أنه لا وجود البتة للفن خارج نطاقها. بيد أن نظرية حقوقية تحاول أن تثبت أن القانون مستقل عن الشروط الاجتماعية هي نظرية فاسدة وباطلة من الاساس. فالقوة المحركة إنما نجدها في الاقتصاد، في تناقضات الطبقات؛ والقانون انما يعطي فقط شكلا وتعبيرا متلاحمين داخليا لتلك الظاهرات، لا في خصائصها الفردية، وانما في عموميتها، في ما هو قابل للتكرر منها ودائم. واليوم بالتحديد، نستطيع أن نرى بجلاء يندر نظيره في التاريخ كيف يتشكل قانون جديد: لا بطرائق استدلال منطقي يكفي ذاته بذاته، وانما عن طريق تقدير وتقويم تجريبي للحاجات الاقتصادية للطبقة السائدة الجديدة وعن طريق مطابقة تجريبية مع هذه الحاجات. والأدب، الذي تغوص جذوره في الماضي السحيق وتمثل التجربة المتراكمة في فن الكلمة، وبما يمتاز به من طرائق ومناهج، يعطي تعبيرا للافكار والعواطف والحالات النفسية ووجهات النظر والآمال العائدة لعصره وطبقته. لا يمكن الخروج من هذا النطاق. ولا حاجة أصلا، على ما يبدو، للخروج منه، على الاقل بالنسبة الى أولئك الذين لا يعملون في خدمة عصر دائل وطبقة ولى زمانها.
      إن طرائق التحليل الشكلي لازمة، لكن غير كافية. فمن الممكن أن نحصي عدد من المجانسات الاستهلالية في الامثال الشعبية، أن نصنف الاستعارات، أن نحصي عدد أحرف العلة والاحرف الصوامت في أغنية من أغاني الاعراس، هذا كل سيغني بلا أدنى نقاش، بطريقة أو أخرى، معرفتنا بالفولكلور. لكن إذا كنا لا نعرف نظام تعاقب الزروع الذي يعتمده الفلاح والدورة التي تنجم عن ذلك في حياته، واذا كنا نجهل دور المحراث البدائي، واذا لم نستوعب دلالة التقويم الكنسي بالنسبة إلى الفلاح، من اللحظة التي يتزوج فيها الى اللحظة التي تضع فيها الفلاحة، فلن نعرف من الفن الشعبي سوى الص٘دٙفة الخارجية، ولن نصل الى النواة. وبوسعنا كذلك أن نرسم الخطة المعمارية لكاتدرائية كولونيا بقياسنا قاعدة أقواسها وارتفاعها، بتحديدنا الأبعاد الثلاثة لاجنحتها وأبعاد أعمدتها وتنظيمها، ألخ. لكن اذا كنا لا نعرف ماذا كانت عليه مدينة العصور الوسطى، وماذا كانت عليه الحرفة وأهلها، وماذا كانت عليه الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، فلن نفهم أبدا كاتدرائية كولونيا. إن محاولة تحرير الفن من الحياة، واعلانه نشاطا مستقلا، تعني تجريده من الروح والقضاء عليه بالموت. إن الحاجة الى مثل هذه العملية هي بذاتها أمارة لا جدال فيها على الانحطاط الايديولوجي.
      إن المماثلة التي أشرنا اليها أعلاه مع الاعتراضات اللاهوتية على الداروينية يمكن أن تبدو للقارئ سطحية واقرب ما تكون الى النادرة الطريفة. بمعنى من المعاني، هذا صحيح، بكل تأكيد. لكن ثمة ارتباطا أعمق وأبعد غورا. فالنظرية الشكلية في نظر الماركسي، مهما يكن قليل الاطلاع، لا يمكن الا أن تذكره بالانغام المألوفة للحن فلسفي سحيق القدم. فقد كان الحقوقيون وواضعوا القواعد الاخلاقية (لنذكر بالمناسبة الألماني ستاملر وصاحبنا الذاتي النزعة ماياكوفسكي) يحاولون أن يبرهنوا على أن الاخلاق والحقوق لا يمكن أن تتحدد بالاقتصاد، وهذا لسبب وحيد وهو أن الحياة الاقتصادية لا يمكن تصورها هي نفسها خارج اطار المعايير الحقوقية والاخلاقية. صحيح أن أنصار المدرسة الشكلية في الحقوق والاخلاق ما كانوا يغالون الى حد توكيد الاستقلال الكامل للحقوق والاخلاق عن الاقتصاد؛ بل كانوا يعترفون بوجود صلة متبادلة معقدة معينة بين "العوامل"، لكن هذه "العوامل" تحتفظ في نظرهم، في الوقت ذاته الذي يؤثر فيه بعضها على بعض، بصفاتها كجواهر مستقلة، آتية من مصدر غي معروف. أما توكيد الاستقلال الشامل ل"العامل" الجمالي عن تأثير الشروط الاجتماعية، على غرار ما يفعل شكلوفسكي، فهو مثال على شطط من نوع خاص، متحدد هو الآخر بالشروط الاجتماعية: إنه جنون عظمة علم الجمال الذي يرى واقعنا القاسي واقفا على رأسه. وعلاوة على هذه الخاصية، تشكو انشاءات الشكليين من نفس النهاجية الشائهة والقاصرة التي يشكو منها كل ضرب آخر من المثالية. إن الدين والقانون والاخلاق والفن تمثل، في نظر المادي، مظاهر متمايزة من سيرورة تطورية اجتماعية ذات أساس واحد أوحد. وبالرغم من أن السياسة والدين والحقوق والاخلاق والجمالية تتميز عن قاعدتها الانتاجية، وتغدو معقدة، وتعزز وتطور تفصيليا خصائصها الخاصة بها، فانها تبقى مع ذلك وظائف للانسان المرتبط اجتماعيا والمنصاع لقوانين تنظيمه الاجتماعي. أما المثالي فلا يرى سيرورة واحدة للتطور التاريخي تنتج الاجهزة والوظائف اللازمة لها، وانما يرى تصالبا أو تراكبا أو تفاعلا لبعض المبادئ المستقلة: الجواهر الدينية والسياسية والجمالية والاخلاقية، التي تجد أصلها وتفسيرها في اسمها بالذات. أن مثالية هيغل الجدلية تعزل تلك الجواهر (التي هي مع ذلك مقولات خالدة) على هواها، لترجعها الى وحدة وراثية. وبالرغم من أن هذه الوحدة عند هيغل هي الروح المطلق الذي ينتش ويبرعم، أثناء عملية تظاهراته الجدلية، في شكل "عوامل" متنوعة، فان نظام هيغل يعطي – بفضل طابعه الجدلي، لا بفضل مثاليته – فكرة عن الواقع التاريخي تعادل الفكرة التي يعطيها قفاز مقلوب عن اليد البشرية. أما الشكليون (وأعظمهم عبقرية هو كانط) فلا يهتمون بدينامية التطور، وانما بقطع بالعرض منه، يوم وساعة يحل عليهم الوحي الفلسفي. انهم يكتشفون فيه تعقيد وتعددية موضوعهم (لا السيرورة، فهم لا يفكرون على أساس السيرورة). وهم يحللون ذلك التعقيد ويصنفونه. يعطون العناصر أسماء سرعان ما تتحول الى ماهيات، الى فروع من المطلق بلا أب ولا أم: الدين، السياسة، الاخلاق، القانون، الفن... ولا تعود المسألة هنا مسألة قفاز التاريخ المقلوب، وانما مسألة الجلد المسلوخ عن الأصابع والمجفف حتى درجة التجريد الكامل؛ هنا تصبح يد التاريخ نتاج "تفاعل" الإبهام والسبابة والوسطى و"عوامل" أخرى. أما "العامل" الجمالي فهو الخنصر، أصغر الأصابع ولكن ليس أقلها حبا الى النفس.
      إن المذهب الحيوي في البيولوجيا طبعة أخرى من ذلك التأليه لمختلف مظاهر السيرورة الكونية، من غير تفهم لجبريتها الباطنة. وكما تنزل "القوة الحيوية" منزلة المطلق وفوق الفيزياء، كذلك تنزل الاخلاق والجمالية منزلة المطلق نفسه وفوق ما هو اجتماعي، ولا يعود ينقصها سوى شيء واحد... خالق أوحد. وما تعددية "العوامل" المستقلة، التي لا بداية لها ولا نهاية، سوى شرك مموه. ولئن مثلت المثالية الكانطية تاريخيا ترجمة المسيحية الى لغة الفلسفة العقلانية، فان جميع أصناف ترجمة الشكلية المثالية تقود بالمقابل، علنا أو سرا، الى الله بوصفه علة العلل طرا. وبالمقارنة مع الاوليغارشية المثالية لدزينة من فروع المطلق، يمثل الخالق الشخصي والأوحد عنصرا من عناصر النظام. هنا بالتحديد يكمن أعمق الارتباط بين الدحض الشكلي للماركسية والدحض اللاهوتي للداروينية.
      إن المدرسة الشكلية طِرح مشرّح للمثالية، مطبق على مشكلات الفن. ويفصح الشكليون عن تدين آخذ بالنضوج السريع. إنهم تلامذة القديس يوحنا: فبالنسبة اليهم، "في البدء كانت الكلمة". أما بالنسبة الينا نحن، ف"في البدء كان العمل". وقد تبعته الكلمة وكأنها ظله الصوتي.
الحزب والفنانون
 
 
                                             [نص مداخلة تروتسكي في اجتماع نظمه في 9 أيار 1924  المكتب الصحفي للجنة المركزية حول "سياسة الحزب في ميدان الأدب". نشر لأول مرة في موسكو في عام 1925].
 
 
      تروتسكي – أعتقد أن وجهة نظر جماعة " نابوستو"(39) قد عبر عنها بأعظم الوضوح الرفيق راسكولنيكوف – هذه واقعة لا تستطيعون حيالها شيئا، يا رفاق "نابوستو"! فبعد رحلة نائية جاء راسكولنيكوف ليتكلم هنا بكل النضارة والبراءة الافغانيتين(40)، في حين أن بعض أعضاء "نابوستو" ذاقوا قليلا من ثمار شجرة المعرفة ويجهدون لستر عريهم – وهذا بالطبع باستثناء الرفيق فاردين الذي لبث في نفس الملابس التي ولد بها.
      فاردين – أنت لم تسمع حتى ما قلته هنا!
      تروتسكي – صحيح، فقد قدمت متأخرا. لكني رأيت، أولا، مقالك في العدد الاخير من "نابوستو"؛ وراجعت لتوي، ثانيا، النص المختزل لخطابك؛ وينبغي أن أقول، ثالثا، أن في مقدور المرء، من دون ان يصغي اليك، أن يعلم مسبقا ما ستتقوله.(ضحك).
      لكن لنعد الى الرفيق راسكولنيكوف. لقد قال: انهم يوصوننا خيرا ب"رفاق الدرب"، لكن هل نشرت "البرافدا" القديمة، التي كانت تصدر قبل الحرب، أو "زفسديا" مؤلفات ارتسيباشيف أو ليونيد اندرييف أو غيرهما ممن كانوا سيعدون اليوم بكل تأكيد "رفاق الدرب"؟ وهذه، والحق يقال، طريقة فجة وساذجة في طرح المسألة، من دون ارباك للنفس بتفكير لا طائل تحته. لكن ما دخل ارتسيباشيف واندرييف هنا؟ لم ينظر اليهما أحد قط، على حد علمي، على أنهما من "رفاق الدرب". فقد مات ليونيد اندرييف في حالة من الحقد المسعور على روسيا السوفييات. أما أرتسيباشيف فهو الآن في الخارج، في المنفى لا أكثر ولا أقل. لا يجوز ان نخلط الأمور الى هذا الحد! ما "رفيق الدرب"؟ في الأدب، كما في السياسة، نطلق إسم "رفيق درب" على من يسير الى حد ما، وهو يعرج ويترنح، في نفس الدرب الذي نسير فيه نحن، الدرب الذي يقودنا بالطبع، أنت وأنا، الى مسافة أبعد بكثير. أما من يسير بعكسنا، فليس رفيق درب، وإنما عدو، ونحن ننفيه عند الاقتضاء، لان صالح الثورة هو في نظرنا القانون الأسمى. كيف يمكنك، في هذه الشروط، أن تقرن أندرييف بمسألة "رفاق الدرب"؟
      راسكولنيكوف – حسنا، ولكن ماذا عن بلنياك في هذه الحال؟
      تروتسكي – اذا كان بلنياك هو من قصدته عندما تكلمت عن ارتسيباشيف فانه لا يعود في استطاعتي والحالة هذه أن أتناقش وإياك (ضحك).
      صوت – أليس الأمر سواء؟
      تروتسكي – كيف، سواء؟ اذا استشهدت بأسماء، فلا بد ان تعرف عمن تتكلم. فسواء أكان بلنياك صالحا أم طالحا، صالحا في هذا أو طالحا في ذاك، فان بلنياك يبقى بلنياك، وعليك أن تتكلم عنه بصفته بلنياك، لا بصفته ليونيد أندرييف، فان تعرف فهذا معناه، بوجه عام، أن تبدأ بتمييز الأشياء والأحداث، لا أن تخلط بينها في بلبلة سديمية... يقول لنا راسكولنيكوف :"لم نستنجد قط، بالنسبة الى البرافدا وزفسديا، ب"رفاق الدرب"، بل "بحثنا، ووجدنا شعراء وكتابا بين جماهير البروليتاريا". بحثنا، ووجدنا ! بين جماهير البروليتاريا! ولكن ماذا تنتظر في هذه الحال؟ لماذا تخفيهم عنا، أولئك الشعراء وأولئك الكتاب ؟
      راسكولنيوف – إنهم موجودون. دميان بييدني، على سبيل المثال.
      تروتسكي – آه حسنا، على رسلك! كنت أجهل، أقر بذلك، أنك أنت الذي اكتشفت دميان بييدني بين جماهير البروليتاريا (ضحك عام). هأنتذا ترى إذن ما العدة وبأي معارف نتطرق الى مسألة الأدب : فنحن نتكلم عن ليونيد أندرييف، في حين أننا نقصد بلنياك؛ نتباهى بأننا اكتشفنا بين جماهير البروليتاريا كتابا وشعراء، لكننا نتبين عند التحقيق أن هذه "الجماهير" لم تقدم كممثلين لها سوى دميان بييدني وحده (ضحك). هيا. هذا كله ضرب من الترهات. والمسألة تتطلب الشيء القليل من الجد.
      لنحاول، بالفعل، أن نتفحص بقليل من الجد تلك المنشورات العمالية، فيما قبل الثورة، تلك الصحف والمجلات التي جاء ذكرها هنا. نحن نتذكر جميعا أننا قرأنا عددا لا بأس به من القصائد المكرسة للنضال، للاول من أيار، إلخ. هذه الأشعار كلها تؤلف، في مجموعها، وثيقة تاريخية وثقافية بالغة الأهمية وبليغة الدلالة. إنها تشهد على اليقظة الثورية والتقدم السياسي للطبقة العاملة. وبهذا المعنى، لا تقل قيمتها الثقافية والتاريخية أهمية عن قيمة مؤلفات كل ما وجد على سطح الارض من شكسبير الى مولير الى بوشكين. فمهما يكن ضعف تلك الأشعار، فان لفيها وعدا بتلك الثقافة الانسانية الجديدة، الاسمى والأرقى، التي ستبدعها الجماهير المستيقظة يوم ستستحوذ على العناصر الأساسية من الثقافة القديمة. بيد أن الأشعار العمالية المنشورة في زفسديا أو في البرافدا بعيدة عن أن تعني أن أدبا جديدا، بروليتارياً، قد ولد. إن الأشعار الخاوية من الفن على منوال درجافين(41) أو ما قبل درجافين لا يمكن البتة ان تعد أدبا جديدا، بالرغم من أن الافكار والعواطف التي تتطلع الى التعبير عن نفسها في تلك الأشعار تخص كتابا مبتدئين ينتمون الى الطبقة العاملة. إنه لمن الخطإ أن نتصور أن تطور الأدب يضارع سلسلة متصلة تشكل فيها الاشعار الساذجة، وإن الصادقة، التي نشرها عمال شبان في مستهل هذا القرن، الحلقة الأولى من "أدب بروليتاري" قادم. في الواقع، كانت تلك القصائد الثورية حدثا سياسيا، لا حدثا أدبيا. لقد أسهمت في تقدم الثورة، لا في تقدم الأدب. لقد أفضت الثورة الى انتصار البروليتاريا، ويؤدي انتصار البروليتاريا بدوره الى تحول الاقتصاد. وتحول الاقتصاد يدخل تعديلا عميقا على السيماء الثقافية للجماهير الكادحة. ويخلق تقدم الشغيلة الثقافي القاعدة الحقيقية لأدب جديد، وبوجه عام لفن جديد. لكن الرفيق راسكولنيكوف يقول لنا :"ان اللبس غير معقول. بل ينبغي ان تؤلف المقالات السياسية والقصائد في منشوراتنا كلا واحدا. فما تتميز به البلشفية هو أنها مقدودة من صخر واحد "، الخ... قد تبدو هذه الأفكار للوهلة الأولى غير قابلة للدحض، لكنها لا تعدو ان تكون في الواقع تجريدا محضا، بلا مضمون. إنها في أحسن الاحوال أمنية ورعة ليس فيها من الواقعية شيء. بالطبع، ليس أروع من أن تقترن سياستنا وأدبنا السياسي الشيوعيان بتصور بلشفي للعالم معبر عنه في شكل فني. لكن ليس هذا هو واقع الحال، وليس ذلك من باب الصدفة. وانما علة ذلك تكمن في أن الابداع الفني، بحكم ماهيته بالذات، يتأخر عن سائر وسائل تعبير الفكر الانساني، وكم بالاحرى حين يكون الأمر متعلقا بطبقة اجتماعية. إن فهم هذه الواقعة أو تلك والتعبير عنها منطقيا شيء، وشيء آخر تماما تمثل الجديد تمثلا عضويا واعادة المرء النظر في عواطفه الذاتية وايجاده تعبيرا فنيا عن هذه البنية الجديدة. إن هذه العملية الاخيرة أكثر عضوية، وأشد بطئا، وأصعب خضوعا لتأثير عمل واعٍ، متعمد، وبالتالي تكون متأخرة على الدوام عن كل الباقي. ان الفكر السياسي للطبقة العاملة يتقدم على ساقين طويلتين، بينما يعرج الابداع الفني خلفه على عكازين. على كل، لقد عبر ماركس وانجلز رائع التعبير عن فكر البروليتاريا السياسي في زمن لم تكن فيه الطبقة العاملة قد استيقظت بعد بما هي كذلك.
      صوت – أجل، أجل، هذا صحيح!  
      تروتسكي – أشكرك كثيرا (ضحك). لكن حاول الأن أن تستخلص من ذلك الاستنتاجات الضرورية، وأن تفهم لماذا لا وجود هناك لتلك الوحدة الصخرية بين الأدب السياسي والشعر. ان ذلك سيساعدنا أيضا على أن نفهم لمَ كنا نتكاتف – أو كنا نوشك ان نتكاتف – في المجلات الماركسية القديمة الشرعية مع "رفاق درب" مثيرين للريبة أحيانا، بل وأحيانا منافقين وكاذبين لا أكثر ولا أقل. أنتم تذكرون جميعا، بالطبع، ال"نوفيا سلوفو"(42)، خير المجلات الماركسية القديمة الشرعية التي شارك في تحريرها العديد من الماركسين من الجيل القديم، بما فيهم فلاديمير إيليتش. كان لهذه المجلة، كما تعلمون، صلات ودية للغاية بأتباع المدرسة ما قبل الرمزية. لماذا؟ لأن هؤلاء كانوا يؤلفون، عصرئد، اتجاها فتيا ومضطهَدا من اتجاهات الأدب البورجوازي. وكانت معاناتهم من الإضطهاد تدفع بهم نحونا كممثلين لقوة من قوى المعارضة، معارضة مغايرة تماما في طابعها لمعارضتهم. ومهما يكن من أمر، كان ما قبل الرمزيين بالنسبة إلينا رفاق درب، ولو مؤقتا. كذلك فان المجلات الماركسية – هذا اذا لم نشأ أن نتكلم عن المجلات شبه الماركسية – التي ظهرت فيما بعد، بما فيها بروسفيشنييه(43)، لم يكن لها هي الاخرى قسم أدبي صخري الوحدة، وقد أفسحت مكانا واسعا ل"رفاق الدرب". وقد أمكن لنا، بحسب الظرف، أن نكون أكثر تشددا أو أكثر تساهلا بهذا الخصوص، لكن كان من المتعذر علينا، بحكم غياب العناصر الفنية الضرورية، أن ننهج في ميدان الفن سياسة "الوحدة الصخرية".
      بيد أن هذا كله لا يستأثر، في الحقيقة، باهتمام راسكولنيكوف. فهو يجهل على وجه التحديد ما يجعل من الأعمال الفنية أعمالا فنية. هذا يتضح بجلاء من حكمه الذي يسترعي الانتباه عن دانتي. فقيمة "الكوميديا الإلهية" تكمن، في رأيه، في كونها تسمح لنا بأن نتفهم بسيكولوجيا طبقة معينة في عصر معين. لكن طرح المسألة على النحو يخرج "الكوميديا الإلهية" بكل بساطة من ميدان الفن. ولعل أوان ذلك قد آن، لكن لا بد في هذه الحال من فهم جوهر المسألة بوضوح وعدم الخوف من النتائج المنطقية. اذا قلت أن قيمة "الكوميديا الإلهية" تكمن في كونها تساعدني على فهم نفسية طبقات معينة في عصر معين، فإنني أجعل منها والحالة هذه محض وثيقة تاريخية، مع أن "الكوميديا الإلهية" تتوجه من حيث أنها عمل فني الى نفسيتي الخاصة، الى عواطفي الخاصة، ولابد أن تعني لها شيئا. من الممكن أن يكون ل"كوميديا" دانتي تأثير خانق، مرهق عليّ، ومن الممكن أن تنمي فيّ التشاؤم والسويداء، ومن الممكن على العكس أن تشد من عزيمتي وأن تبث في نفسي الشجاعة والحماسة... إنما في ذلك، على كل حال، يكمن جوهر العلاقة بين القارئ والأثر الفني. بديهي، ليس هناك ما يحول دون سلوك القارئ مسلك الباحث ودون رؤيته في "الكوميديا الإلهية" الوثيقة التاريخية وحدها. بيد أنه من الواضح للعيان أن هذين الموقفين ينطلقان من مستويين، لا يقوم أحدهما مقام الآخر وإن كانا مترابطين. كيف نفسر اذن امكانية وجود علاقة جمالية مباشرة، لا محض علاقة تاريخية فحسب، بين أثر من آثار العصر الوسيط الايطالي وبيننا؟ تفسير ذلك يكمن في أن جميع المجتمعات الطبقية لها، مهما تباينت، سمات مشتركة. ومن الممكن لأثر فني تم إبداعه في أحدى مدن ايطاليا في العصر الوسيط أن يُؤثر فنيا اليوم بالذات، وهذه حقيقة واقعة. ماذا يقتضي ذلك؟ قيلا من الأشياء: يكفي أن تكون النفسية والعواطف التي يفصح عنها قد وجدت تعبيرا واسعا، مكثفا، قويا، قادرا على الارتقاء بها الى ما فوق الحدود الضيقة للحياة في ذلك العصر. لا جدال في أن دانتي نتاج لوسط اجتماعي محدد. لكنه عبقري أيضا. ففنه يرفع الانفعالات الخاصة بعصره الى علو نادرا ما يمكن ادراكه. واذا كنا ننظر اليوم الى آثار اخرى من العصر الوسيط بوصفها مجرد مواضيع للدراسة، بينما نرى في "الكوميديا الإلهية" مصدرا لإدراك فني، فليس ذلك لأن دانتي كان من صغار البورجوازيين الفلورنسيين في القرن الثالث عشر، وإنما بالاحرى بالرغم من ذلك. لنأخذ على سبيل المثال شعورا فيزيولوجيا أوليا كالخوف من الموت. أن هذا الشعور ليس وقفا على الإنسان؛ فهو يساور الحيونات أيضا. وقد وجد تعبيره لدى الإنسان قي بادئ الأمر في لغة منطوقة، ثم لقي تعبيرا فنيا. وقد تنوع هذا التعبير تبعا للعصور وتبعا للاوساط الاجتماعية، أي أن بني الإنسان خافوا من الموت بصور مختلفة. بيد أن ما يقوله عن ذلك الشعور لا شكسبير أو بايرون أو غوته وحدهم، بل منشدو المزامير أيضا، قابل لا يؤثر فنيا (هتاف تعجب من قبل الرفيق ليبيدنسكي). أجل، أجل، يا رفيق ليبيدنسكي، لقد وصلت بالضبط في اللحظة التي كنت تشرح فيها للرفيق فورونسكي بالاسلوب السياسي ب + ا = با – على حد تعبيرك بالذات – الفروق في النفسيات بين مختلف الطبقات. إن الأمر لا يقبل نقاشا في شكله العام هذا. بيد أنك لا تستطيع أن تنكر أن شكسبير وبايرون يخاطبان روحنا، روحك وروحي.
      ليبيدنسكي – سيمتنعان عن ذلك عما قريب.
      تروتسكي – عما قريب؟ أجهل ذلك. لكن من المؤكد أنه سيأتي زمن سيرى فيه الناس الى أعمال شكسبير وبايرون كما نرى نحن اليوم الى أعمال شعراء العصر الوسيط، أي من منظار التحليل التاريخي وحده. لكن قبل ذلك بحقبة طويلة سيأتي زمن يمتنع فيه الناس عن البحث في "رأسمال" ماركس عن ارشادات لنشاطهم العملي، ويكون فيه "الرأسمال" قد آل الى محض وثيقة تاريخية، مثله مثل برنامج حزبنا. بيد أننا لسنا على استعداد في الوقت الراهن، لا أنت ولا أنا، الى تحويل شكسبير وبايرون الى قسم الأرشيف. بل على العكس، فسوف نوصي العمال بقراءاتهم. الرفيق سوسنوفسكي، على سبيل المثال، يوصي بشدة بقراءة بوشكين لأن بوشكين يكفي، على حد قوله، لخمسين سنة اخرى. لندع جانبا مسائل الزمن. بأي معنى نستطيع أن نوصي العمال بقراءة بوشكين؟ لا وجود عنده البتة لاي وجهة نظر طبقية بروليتارية، وكم بالاحرى لتعبير مقدود من صخر واحد عن الأفكار الشيوعية ! صحيح أن لغة بوشكين رائعة – ماذا نقول أكثر من ذلك؟ - لكنه يستخدمها في التعبير عن رؤية ارستقراطية للعالم. هل سنقول للعامل: إقرأ بوشكين حتى تفهم كيف كان نبيل من رجال البلاط وملاك الاقنان يستقبل الربيع ويودع الخريف؟ من المؤكد أن هذا العنصر كان موجودا لدى بوشكين المتحدر من أصل اجتماعي محدد. لكن التعبير الذي أعطاه بوشكين لنفسيته مشبع الى أقصى حد بتجارب فنية وسيكولوجية عريقة القدم، وبكلمة واحدة كان عاما الى درجة كان كافيا معها حتى يومنا هذا وسيكفي لخمسين سنة على الأقل كما قال سوسنوفسكي. وحين يأتي أحدهم ليقول لي في هذه الحال أن قيمة دانتي الفنية تكمن بالنسبة إلينا في كونه يعبر عن حياة عصر محدد وعن تقاليده، لا يبقى لي من خيار سوى أن أهز كتفيّ. وفي الحق، إنني لعلى يقين من أن الكثيرين من الناس أمثالي لن يستطيعوا، عند قراءتهم دانتي، أن يتذكروا تاريخ ميلاده ومكانه الا اذا حمًّلوا ذاكرتهم ما فوق طاقتها، لكن هذا لا يمنعهم مع ذلك من ان يجنوا متعة فنية كبيرة، ان لم نقل من "الكوميديا" كلها، فعلى الأقل من العديد من أقسامها. وبما أنني لست مؤرخا للثقافة القوسطية، فان رد فعلي حيال دانتي ذو طبيعة فنية في المقام الأول.
      ريازانوف – هذه مبالغة. "أن نقرأ دانتي، فهذا معناه أن نستحم في البحر" : هذا ما كان شيفيرييف، الذي كان هو الآخر ضد التاريخ، يرد به على بييلنسكي.
      تروتسكي – لا أشك في أن سيفيرييف قال ذلك، يا رفيق ريازانوف، لكنك تخطئ بقولك أنني ضد التاريخ. لا مراء في ان تناول دانتي من وجهة النظر التاريخية أمر مشروع تماما وضروري، ولا مراء في أن ذلك يؤثر على رد فعلنا الجمالي تجاه عمله، لكننا لا نستطيع أن نستغني عن ذلك بهذا. انني لاتذكًّر هنا ما كتبه كاريئييف بصدد هذا الموضوع في مجادلة له ضد الماركسيين. فقد كان يقول: ألا فليبين لنا أولئك "الماركسيديون" (هذا هو الاسم الهزلي الذي كان يطلق يومئد على الماركسيين)، ألا فليبينوا لنا اذن ما المصالح الطبقية المزعومة التي أملت كتابة "الكوميديا الإلهية". لكن ماركسياً ايطالياً قديما، أنطونيو لابريولا، كتب من جهة اخرى شبيه ما يلي: "الحمقى وحدهم هم الذين قد يخطر لهم أن يحاولوا تفسير نص الكوميديا الإلهية بالفواتير التي كان تجار الجوخ الفلورنسيون يرسلونها الى زبائنهم". إنني أتذكر هذه الجملة عن ظهر قلب تقريبا، لانه سبق لي أن وجدت نفسي ملزما بالإستشهاد بها أكثر من مرة في مجادلتي ضد الذاتويين. انه ليخيل الي أن الرفيق راسكولنيكوف يتناول دانتي، بل الفن بوجه عام، لا بمعايير ماركسية، وانما بمعايير المرحوم شولياتيكوف الذي تفتق ذهنه في هذا المجال عن صورة كاريكاتورية حقيقية للماركسية. وعن هذه الصورة الكاريكاتورية قال أنطونيو لابريولا بحزم ما كان ينبغي أن يقال عنها.
      "إني أقصد بالادب البروليتاري أدبا ينظر الى العالم بعيون الطليعة" إلخ، الخ. هذا ما يقوله الرفيق ليلييفيتش. وإنه لتعريف ممتاز، ونحن على استعداد لتبنيه. لكن لا يكفي أن يقدم لنا تعريف، بل ينبغي أن يقدم لنا أدب أيضا. أين هو؟ دلونا عليه!
      ليلييفيتش – "كومسوموليا". إنه خير عمل أدبي في الأزمنة الاخيرة.
      تروتسكي – أي ازمنة؟
      صوت – السنة الاخيرة.
      تروتسكي – حسنا. السنة الاخيرة. ليس في نيتي البتة المماحكة. وان لي في أعمال بيزيمنسكي رأيا لا يمكن البتة وصفه، على ما آمل، بالسلبية. لقد أطريت أطراء بالغا كومسوموليا التي قرأتها حين كانت لا تزال مخطوطة. لكن بصرف النظر عن مسألة معرفة ما اذا كان بالامكان الكلام، بهذه المناسبة، عن ولادة أدب بروليتاري، سأقول ببساطة أن بيزيمنسكي ما كان ليرى النور كفنان لو لم يكن لدينا في الوقت الراهن ماياكوفسكي وباسترناك وحتى بلنياك.
      صوت – هذا لا يبرهن على شيء.
      تروتسكي – بلى، هذا يبرهن، على الأقل، على أن الابداع الفني للعصر الحاضر أشبه ما يكون بنسيج بالغ التعقيد، لا تتم حياكته آليا، بواسطة الاجتماعات والحلقات والندوات، وإنما يتكون تدريجيا، من خلال صلات معقدة بمختلف جماعات رفاق الدرب في المقام الأول. لا يمكن التهرب من هذه الحقيقة. وبيزيمنسكي لا يحاول الهرب، وإنه لعلى صواب. بل إن تأثير "رفاق الدرب" على بعض كتاباته واضح وبارز للعيان أكثر مما ينبغي. بيد أن هذه شائبة محتمة من شوائب الشباب والنمو. والحال أن الرفيق ليبيدنسكي، عدو "رفاق الدرب"، يقلد بلنياك، بل حتى بييلي. أجل، أجل. إنني ارجو معذرة الرفيق آفرباخ الذي يهز رأسه أن "لا"، وإن لم يكن عن اقتناع كبير. إن رواية ليبيدنسكي الاخيرة، "غدا"، هي قطر متوازي أضلاع يتألف ضلعاه من بوريس بنياك وأندريه بييلي. وهذا ليس عيبا في حد ذاته؛ اذ ما كان يمكن لليبيدنسكي ان يولد من ارض "نابوستو" كاتبا مكتملا.
      صوت – ارض ماحلة بالاحرى!(44)
      تروتسكي – سبق أن تكلمت عن ليبيدنسكي عند صدور كتابه "الأسبوع". وأنتم تذكرون بلا ريب أن بوخارين، بما عرف به من طبع صريح وطيبة مفرطة، قد أشاد في حينه بالكتاب اشادة أفزعتني الى حد ما. إني أجد نفسي مكرها على أن ألاحط عمق تبعية ليبيدنسكي لكتاب – من رفاق الدرب وأشباه رفاق الدرب – يصب عليهم، هو وأصدقاؤه في "نابوستو"، اللعنات. هأنتمذا ترون، هنا أيضا، أن الفن والسياسة ليسا مقدودين على الدوام من صخر واحد! ليس في نيتي هنا البتة أن أصدر حكما على الرفيق ليبيدنسكي. ويخيل الي أنه من الواضح لنا جميعا أن واجبنا هو أن نعير أكبر قدر ممكن من الانتباه لكل موهبة غضة قريبة إلينا فكريا، ولاسيما أذا كان الأمر يتعلق برفيق نضال. والشرط الأول لهذا الانتباه والاعتناء هو ألا نكيل مدائح سابقة لاوانها وألا نخنق النقد الذاتي. أما الشرط الثاني فهو ألا نصدر حكما نهائيا أذا ما كبا الكاتب. إن الرفيق ليبيدنسكي لا يزال صغير السن. ولا يزال عليه أن يتعلم ويتقدم. وبلنياك أيضا ضروري.
      صوت – لمن؟ لليبيدنسكي أو لنا؟
      تروتسكي – قبل كل شيء لليبيدنسكي.
      ليبيدنسكي – هذا يعني أنني أقلد بلنياك؟
      تروتسكي – المؤسف أن الجسم البشري لا يمكن أن يتغذى الا أذا سمم نفسه بنفسه وأنمى في داخله مضادات سمومه في آن واحد. هذه هي الحياة. أما إذا جففوك كما يجفف سمك الرنكة، فلن يكون هناك تسمم، ولكن لن يكون هناك أيضا غذاء، وبوجه عام لن يكون هناك شيء البتة (ضحك).
      لقد هاجمني الرفيق بلتنيف، هنا بالذات، مستشهدا بفلاديمير إيليتش، ليدافع عن تصوراته المجردة عن الثقافة البروليتارية وعن الأدب البروليتاري كجزء من هذه الثقافة. حقا، لقد ضيق الخناق عليّ! ولا بد من التوقف هنا قليلا. لقد صدر مؤخرا كتاب كامل لبلتنيف وتريتياكوف وسيزون يذودون فيه عن الثقافة البروليتارية ضد تروتسكي بشواهد من لينين. إن مثل هذه الأساليب رائجة كثيرا اليوم. وفي وسع فاردين أن يكتب حول الموضوع أطروحة كاملة. بيد أنك تعلم حق العلم، يا رفيق بلتنيف، حقيقة الأمر ما دمت قد جئت بنفسك إليّ لتحتمي من سورة غضب فلاديمير إيليتش الذي كان يتهيأ، على ما كنت تتصور، فيما يتعلق ب"الثقافة البروليتارية" لالغاء "البرولتكولت" على أساس شروط محددة. وقلت لك أيضا أنني ضدك وضد حاميك بوخارين مئة بالمئة فيما يخص تجريدات بوغدانوف حول الثقافة البروليتارية.
      إن الرفيق فاردين، الذي ما عاد يتكلم الآن الا بوصفه تجسيد تقاليد الحزب بالذات، لا يخشى أن يدوس بقدميه بصورة لامتناهية الفظاظة ما كتبه لينين عن الثقافة البروليتارية. إن الرياء في هذا العالم ليس بنادر كما هو معروف: فثمة من يستشهد بلينين في كل آن، ويعظ بالضبط بالعكس. لقد أذان لينين بلا هوادة، في كلمات لا تقبل أي ضرب من التأويل، "الثرثرات بصدد الثقافة البروليتارية". ومع ذلك، ليس أسهل من التخلص من هذه الشهادة المحرجة كأن يقول القائلون: صحيح أن لينين أدان الثرثرات بصدد الثقافة البروليتارية، لكنه أدان على وجه التحديد الثرثرات، ونحن لا نثرثر، بل نتناول الأمور بجد، بل نعقد الايدي حول الخواصر ... بيد أنهم ينسون أن لينين كان يدين بأقصى الصرامة أولئك الذين يستشهدون به في كل آن على وجه التحديد. إن الرياء، أكرر ذلك، موفور: يستشهدون بلينين، ويفعلون العكس.
      إن الرفاق الذين يتكلمون هنا تحت يافطة الثقافة البروليتارية يستقبلون هذه الفكرة أو تلك استقبالا متباينا بحسب موقف واضعي هذه الأفكار من حلقات "البرولتكولت". إنني أنطق عن خبرة شخصية. فكتابي عن الادب، الذي أثار قلقا شديدا لدى بعض الرفاق، ظهر أولا، كما قد يذكر بعضهم، في شكل مقالات في البرافدا. وقد كتبت ذلك الكتاب في عامين أثناء عطلة الصيف. وهذا الظرف، كما نرى الان، له بعض الأهمية فيما يخص المسألة التي تعنينا هنا. فحين ظهر القسم الأول من الكتاب مسلسلا، وهو القسم الذي يعالج أدب "ما قبل أكتوبر" و"رفاق الدرب" و"أصدقاء الموجيك"، والذي أماط اللثام عن الطابع المحدود والمتناقض لموقف رفاق الدرب الإيديولوجي والفني، بادر أنصار "نابوستو" الى تمجيدي، فصرتم تجدون في كل مكان شواهد من مقالاتي عن رفاق الدرب. وقد نؤت، لبعض الوقت، بحمل ذلك الى حد الاعياء (ضحك). كان نقدي ل"رفاق الدرب" – أكرر ذلك – يٌعد معصوما عن كل مأخد تقريبا: حتى فاردين لم يتفوه بكلمة ضده.
      فاردين – الان أيضا ليس عندي شيء ضده.
      تروتسكي – هذا بالضبط ما أقوله. لكن اشرح لي، والحالة هذه، لماذا تكتفي الان بجدال غير مباشر، بكلمات مكناة، مع "رفاق الدرب"؟ ما حقيقة القصد، في خاتمة المطاف؟ قد يبدو للوهلة الأولى غير مفهوم. لكن من السهل تخمينه: ليس خطئي أنني قدمت تعريفا غير دقيق للطبيعة الاجتماعية ل"رفاق الدرب" أو لأهميتهم الفنية – فحتى هذه اللحظة ليس لدى الرفيق فاردين، كما قال لنا لتوه، شيء ضده – وانما خطئي أنني لم أخر على ركبتي راكعا أمام بيانات "أكتوبر" أو "كوزنتسا"، لم أتعرف في هذه المشاريع التمثيل الوحيد للمصالح الفنية للبروليتاريا، وبكلمة واحدة، لم أقم مماثلة بين المصالح الثقافية والتاريخية للطبقة العاملة ومهامها وبين نيات بعض الحلقات الأدبية الصغيرة ومشاريعها وادعاءاتها. ذلك هو خطئي. وحين انكشف أمره تعالت جلبة، متأخرة الى حد يبعث على الدهشة: تروتسكي مع "رفاق الدرب" البورجوازيين الصعار! أأنا مع "رفاق الدرب" أم ضدهم؟ بأي معنى مع، وبأي معنى ضد؟ إنكم تدرون الجواب على هذا كله منذ زهاء عامين، من خلال مقالاتي عن "رفاق الدرب". لكنكم كنتم موافقين يومئذ، فما كان ينضب معين لاطرائكم وشواهدكم وتصفيقكم. لكن حين اتضح بعد سنة من الزمن أن نقدي ل"رفاق الدرب" لا يفصح البتة عن نيتي في التمجيد والإشادة بهذه الحلقة الحاضرة أو تلك من حلقات المبتدئين الأدبيين(45)، أسرع الكتاب والمحامون عن هذه الحلقة، أو بالاحرى عن هذه الحلقات، يزيحون النقاب عن "أخطاء" في أحكامي على "رفاق الدرب". يا لها من استراتيجية! ليست جريمتي أنني أصدرت حكما خاطئا على بلنياك أو ماياكوفسكي – فأعضاء "نابوستو" لم يضيفوا شيئا بل اكتفوا بتكرار ما قلته وإن بمزيد من الإبتذال – وانما جريمتي أنني وجهت الإهانة الى معملهم الأدبي. أقول: معملهم الأدبي، وأنا أعني ما أقول! فليس في كل نقدهم الشرس قلامة ظفر من وجهة نظر طبقية. هناك فقط وجهة نظر المزاحمة بين الحلقات الأدبية، ولا شيء سوى ذلك.
      لقد أتيت بذكر "أصدقاء الموجيك"، ولقد سمعنا هنا أعضاء "نا بوستو" يعربون عن موافقتهم على هذا الفصل بوجه خاص. لكن الموافقة وحدها لا تكفي، بل ينبغي أيضا الفهم. ما كنه القضية؟ كنهها أن رفاق الدرب من "أصدقاء الموجيك" لا يشكلون البتة ظاهرة عارضة، مؤقتة، عديمة الدلالة. تنازلوا فتذكروا أن دكتاتورية البروليتاريا قائمة عندنا في بلد يسكنه في جله الموجيك. وبين هذه الطبقتين تجد الانتلجانسيا نفسها وكأنها مطحونة بين حجري رحى، لكنها تعاود الولادة ولا يمكن طحنها الى النهاية، أي أنها ستحافظ على وجودها ك"انتلجانسيا" لحقبة طويلة من الزمن أيضا، الى أن تدرك الاشتراكية ملء تطورها والى أن تنهض نهوضا حاسما ثقافة مجمل سكان البلاد. إن الانتلجانسيا تعمل في خدمة الدولة العمالية والفلاحية، تنصاع للبروليتاريا عن خوف من جانب وعن وعي من جانب آخر، تتردد وستتردد بحسب سير الأحداث، وتبحث لترددها عن نقطة استناد ايديولوجية في صفوف الفلاحين. من هنا كان أدب "أصدقاء الشعب" السوفياتي. ما منظوراته؟ أهو مناوئ لنا جذريا؟ هل الطريق الذي يسلكه يفضي إلينا أم يتناءى عنا؟ هذا رهن بالصورة العامة التي ستتطور بها الأمور. إن مهمة البروليتاريا، فضلا عن محافظتها في جميع الميادين على هيمنتها على الفلاحين، أن تقود هؤلاء الى الاشتراكية. وإذا منينا بفشل على هذا الطريق، أي إذا حدثت قطيعة بين البروليتاريا والفلاحين، فستصطف الانتلجانسيا صديقة الموجيك، أو بالاحرى 99 بالمئة من الانتلجانسيا بأسرها، في المعسكر المناوئ للبروليتاريا. لكن مثل هذا المآل ليس جبريا. بل عل العكس، فنحن نوجه الأمور بصورة نقود معها الفلاحين، بإمرة البروليتاريا، الى الاشتراكية. سوف يكون الدرب طويلا، طويلا للغاية. وخلال هذه المسيرة، ستلد كل من البروليتاريا والطبقة الفلاحية انتلجانسيا جديدة. ولا يجوز أن نتصور أن الانتلجانسيا التي ستكوّنها البروليتاريا ستكون بحكم ذلك إنتلجانسيا بروليتارية مئة بالمئة. فاضطرار البروليتاريا الى أن تفرز من ذاتها فئة خاصة من "شغيلة الثقافة" يفضي في حد ذاته  بالضرورة الى طلاق حاد بقدر أو بآخر بين الطبقة المتأخرة في جملتها وبين الانتلجانسيا التي تبوئها المقدمة. وهذا أكثر انطباقا على الانتلجانسيا الفلاحية. فطريق الفلاحين الى الاشتراكية ليس بتاتا عين طريق البروليتاريا. وكلما تضاءلت مقدرة الانتلجانسيا – ولو كانت ألف مرة ومرة سوفياتية – على دمج طريقها بطريق الطليعة البروليتارية، اشتد ميلها الى البحث عن نقطة استناد سياسية وايديولوجية وفنية لدى الموجيك – الواقعي أو الخيالي. وهذا في الأدب أصح منه في أي مجال آخر، بالنظر الى وجود تقاليد شعبوية قديمة. هل سيكون في ذلك نفع لنا أو ضرر؟ أكرر فأقول: الجواب رهن بتمامه بالتطور المقبل للأحداث. فاذا أخذنا بيد الفلاحين تحت قيادة البرليتاريا الى الاشتراكية – ونحن على يقين قاطع بأننا سنقودهم اليها – فإن عمل "أصدقاء الموجيك" سينصهر، عبر طرق متفاوتة تعقيدا والتواء، في بوتقة واحدة والفن الاشتراكي المقبل. هذا الجانب المركًّب، لكن الواقعي والعيني تماما، للأمور هو ما لم يفهمه بصورة من الصور أعضاء "نا بوستو"، وسواهم أيضا. هنا يكمن خطؤهم الجوهري. فمن يتكلم عن "رفاق الدرب" من دون أن يأخذ بعين الاعتبار الأساس والمنظورات الاجتماعية للمسألة، يكن كمن يتكلم لكي لا يقول شيئا.
      اسمحوا لي، أيها الرفاق، بأن أضيف بعض الكلمات بصدد تكتيك الرفيق فاردين في مضمار الأدب، بالرجوع على الأقل إلى مقاله الأخير في ال "نا بوستو". ليس الأمر في نظري تكتيكا، وإنما فضيحة ! نبرة مترفعة إلى دون ما حد، مشبعة صلفا وعجرفة، ولكن عدم أهلية دامغ من منظار الأفكار والمعارف. فهو ليس عنده أي مفهوم عن الفن كفن، أي كمجال خاص، نوعي، من مجالات النشاط الانساني. ولا أي تصور ماركسي عن شروط تطور الفن وسبله. وبدلا من ذلك يتلاعب بخفة المشعوذ وبطريقة شائنة بشواهد منتزعة من صحف المهاجرين البيض الذين هنؤوا – تصوروا ! – الرفيق فورونسكي على نشره مؤلفات بلنياك، أو الذين كان ينبغي أن يهنئوه، أو الذين قالوا شيئا ما موجها بصورة لا تخفى عن العين ضد فاردين، وبالتالي لصالح فورونسكي، وهكذا دواليك – علما بأن الهدف من هذا الأسلوب في التلميح والتورية هو تغطية الإنعدام التام في المعارف والتفهم. إن المقال الاخير للرفيق فاردين مكرس بتمامه لفكرة أن صحيفة الحرس الأبيض قد أيدت فورونسكي ضد فاردين حين كتبت ان كل المعركة تأتت من كون فورونسكي قد نظر الى الأدب من وجهة نظر أدبية. إليكم كيف يعبر فاردين عن فكرته: "لقد استحققت، أيها الرفيق فورونسكي، بمسلكك السياسي، تمام الإستحقاق تلك القبلة من الحرس الأبيض". وهذا تعريض ودس، وليس بصورة من الصور تحليلا للقضية! فلئن ارتبك فاردين وأخطأ أثناء قيامه بعملية ضرب، ولئن قام فورونسكي بعملية الضرب هذه نفسها فوجد النتيجة الصحيحة، متفقا في ذلك مع عضو في الحرس الأبيض يعرف الحساب، فلست أرى الضرر الذي قد يلحق بنتيجة ذلك بسمعة فورونسكي السياسية. أجل، ينبغي أن نتناول الفن كفن، والأدب كأدب، أي كمضمار نوعي تماما من مضامير النشاط الإنساني. صحيح أننا نملك معيارا طبقيا قابلا للتطبيق في مضمار الفن أيضا، لكن هذا المعيار الطبقي محتم عليه هنا أن يصاب بضرب من انكسار الأشعة الفني، أي لابد أن يكون منسجما مع الطابع النوعي المحض لدائرة النشاط التي نطبقه عليها. إن البورجوازية تعرف ذلك عل أحسن ما تكون المعرفة: إنها تنظر، هي الأخرى، الى الفن من وجهة نظرها الطبقية، وتعرف كيف تستخلص من الفن كل ما هي بحاجة اليه منه، ولكن ذلك على وجه التحديد لأنها تعامل الفن كفن. فهل ثمة ما يدعو الى الدهشة، والحالة هذه، إذا دلل بورجوازي مثقف على عدم احترام حيال فاردين حين يلفاه يعالج المسألة بواسطة تلميحات وتعريضات سياسية بدلا من أن ينظر الى الفن من منظار معيار فني طبقي؟ واذا كان عليّ أن أشعر هنا بالخجل من شيء ما، فليس هو الخجل من اتفاقي من حيث الشكل مع عضو من الحرس الأبيض يتمتع بمعارف فنية، وإنما من اضطراري الى أن أشرح، تحت سمع هذه الحرس الأبيض نفسه وبصره، ال"الباء + ألف = با" فيما يتعلق بالمشكلات الفنية لصحفي عضو في الحزب البلشفي عنده رغبة في مناقشة هذه المشكلات. انه لأمر يدعو للرثاء حقا أن نستغني عن تحليل ماركسي للمسألة بشواهد من "بايرو" أو "دني"(46) مقرونة بلمامة من التلميح والتعريض وفلتات اللسان!
      من المتعذر أن يُتناول الفن متناول السياسة. لا لأن الإبداع الفني طقس ديني وتصوف، كما قال أحدهم هنا ساخرا، وإنما لأن له قواعده وطرائقه وقوانينه الذاتية في التطور، وعلى الأخص لأن الإبداع الفني تلعب فيه دورا هاما العمليات اللاشعورية – التي هي أبطأ وأكسل وأشد استعصاء على الرقابة والتوجيه، على وجه التحديد لأنها لا شعورية. لقد قيل هنا أن مؤلفات بلنياك القريبة الى الشيوعية أضعف من أعماله الأنأى عنا سياسيا. ما علة ذلك؟ علته على وجه التحديد أن بلنياك العقلاني النزعة يتجاوز ويخلف وراءه بلنياك الفنان. فأن يدور الفنان عن عمد حول محوره، ولو لبضع درجات، أمر بالغ المشقة بالنسبة اليه، ومرتبط بوجه عام بأزمة عميقة، وأحيانا مميتة. والحال أننا مطالَـبون هنا بالقيام بانعطاف فني يستأثر لا باهتمام فرد أو حلقة صغيرة وإنما باهتمام طبقة اجتماعية بكاملها. وهذا يعني أن المسألة مسألة سيرورة بالغة الطول والتعقيد. حين نتكلم عن الأدب البروليتاري، لا بمعنى بعض أقاصيص وأشعار حائزة على قدر أو آخر من النجاح، وإنما بمعنى أوسع وأكثر جدية بما لا يقاس، بالمعنى الذي نتكلم به عن الأدب البورجوازي، فليس من حقنا أن ننسى ولو لحظة واحدة التخلف الثقافي الهائل للغالبية الساحقة من البروليتاريا. إن الفن يٌبدع على أساس تفاعل دائم بين الطبقة وفنانيها، على أصعدة الحياة اليومية والثقافة والإيديولوجيا. لم يحدث قط من قطيعة على صعيد الحياة اليومية بين الارستقراطية أو البورجوازية وبين فنانيها. فقد كان الفنانون ولا يزالون يعيشون في مناخ بورجوازي، يستنشقون هواء الصالونات الأدبية، وتتغلغل فيهم يوميا، الى لحمهم ودمهم، ايحاءات طبقتهم. ذلكم هو القوت الذي تتغدى به العمليات اللاشعورية المتحكمة بنشاطهم الإبداعي. فهل تشكل البروليتاريا المعاصرة وسطا ثقافيا وايديولوجياً يتيح للفنان الجديد، من دون أن يخرج من الحياة اليومية لهذا الوسط، امكانية تلقي جميع الايحاءات الضرورية والتمكن في الوقت نفسه من فنه؟ كلا. إن الجماهير العمالية في غاية التأخر من وجهة النظر الثقافية ؛ وتنتصب هنا عقبة كأداء بحكم كون غالبية العمال أميين أو انصاف أميين. ناهيك عن أن البروليتاريا مرغمة، ما دامت على وضعها، على استهلاك زبدة قواها في النضال السياسي وفي سبيل ايقاف الاقتصاد على قدميه وتلبية الحاجات الثقافية الأولية: النضال ضد الأمية، ضد المرض والهوام، ضد الزهري، الخ. صحيح أنه في الإمكان إطلاق اسم الثقافة البروليتارية على الطرائق السياسية والممارسة الثورية للبروليتاريا، لكن هذه ثقافة مقيض لها على كل حال أن تزول وتضمحل طردا مع تطور ثقافة جديدة، أصيلة. وهذه الثقافة الجديدة ستستحق أكثر فأكثر إسم الثقافة كلما كفت البروليتاريا عن أن تكون هي البروليتاريا، وبعبارة أخرى، كلما أدرك المجتمع الاشتراكي المزيد من التطور الكامل.
      لقد كتب ماياكوفسكي شيئا قويا للغاية، أسماه "الرسل الثلاثة عشر"، ومحتواه الثوري كان لا يزال في منتهى الإبهام والضبابية. لكن حين عقد ماياكوفسكي هذا نفسه العزم على القيام بانعطاف كي يتبع خط البروليتاريا فكتب ال"150 مليونا"، كابد من أمرّ الفشل وأقسى الخيبة على صعيد النزعة العقلانية. وهذا يعني أنه تخطى، في مرتبة العقل، امكانياته المبدعة العميقة. وقد سبق أن لاحظنا لدى بلنياك هذا التفاوت بين النيات الواعية والعمليات المبدعة اللاشعورية. بيد أنه ينبغي أن نضيف الى هذا أن الأصل البروليتاري القح عاجز بحد ذاته، في الشروط الراهنة، عن أن يعطي الكاتب نوعا من ضمانة بأن أعماله ستكون مرتبطة عضويا بطبقته. كما لا تستطيع أي حلقة من حلقات الكتاب البروليتاريين أن  تعطي مثل هذه الضمانة، على وجه التحديد لأن الحلقة التي تنذر نفسها لنشاط فني مرغمة من هنا بالذات، في الشروط الراهنة، على الانفصال عن طبقتها وعلى تنشق نفس الهواء الذي يتنشقه "رفاق الدرب" في خاتمة المطاف. انها تصبح حلقة أدبية بين حلقات أخرى مماثلة.
      لقد كان بودي أيضا أن أقول بعض كلمات عما أتفق على تسميته ب"المنظورات"، لكن الوقت المحدد لي للكلام قد انتهى منذ زمن طويل.
      أصوات – تابع، تابع.
      تروتسكي – يعترض عليّ المعترضون بقولهم: "أعطنا على الأقل منظورات". ما معنى ذلك؟ إن "نا بوستو" والحلقات المتحالفة معها تتشبث بأدب بروليتاري يتم انشاؤه في حلقات صغيرة، بطرائق مخبرية. هذا منظور أرفضه رفضا قاطعا. وإني لأكرر ذلك مرة اخرى: لا يمكن بتاتا أن نضع على مستوى تاريخي واحد الأدب الإقطاعي والأدب البورجوازي والأدب البروليتاري. فمثل هذا التصنيف التاريخي فاسد من جذوره. لقد قلت ذلك في كتابي، ولقد بدت لي جميع الاعتراضات على ما قلت بعيدة عن الجد أو بعيدة عن الإقناع. فأولئك الذين يتكلمون بجد عن ثقافة بروليتارية ومن منظور مرحلة طويلة، والذين يجعلون من الثقافة البروليتارية برنامج عمل، يفكرون بهذه المسألة بالقياس الشكلي على الثقافة البورجوازية. فالبورجوازية وضعت يدها على السلطة وأبدعت ثقافتها الخاصة بها، وسوف تبدع البروليتاريا بدورها، بعد أن تضع يدها على السلطة، ثقافة بروليتارية. لكن البورجوازية طبقة غنية، وبالتالي مثقفة. ولقد كانت الثقافة البورجوازية قائمة حتى قبل أن تستولي البورجوازية على السلطة رسميا. وإذا كانت البورجوازية استولت على السلطة، فهذا تدعيما وتأييدا لهيمنتها. أما البروليتاريا في المجتمع البورجوازي فطبقة محرومة، لا تملك شيئا، وليست بالتالي في وضع يؤهلها لإبداع ثقافتها الخاصة بها. وباستيلائها على السلطة تتاح لها فقط، لأول مرة، امكانية ادراك مدى تأخرها الثقافي المخيف. وحتى تتغلب على هذا التأخر، لا بد لها أولا من إزالة الشروط التي تحكم عليها بأن تبقى طبقة. وسيكون في المستطاع الكلام عن ثقافة جديدة بقدر ما يتضاءل ويضمحل أكثر فأكثر طابعها الطبقي. هذا هو لب المسألة، والخلاف الرئيسي عند الكلام عن المنظورات. يشط بعضهم عن الموقف المبدئي بصدد الثقافة البروليتارية ويقولون: إن ما نضعه نصب أعيننا هو فقط مرحلة الإنتقال الى الإشتراكية، تلك الأعوام العشرون أو الثلاثون أو الخمسون التي ستكون ضرورية لهدم العالم البورجوازي وبناء عالم جديد. هل يمكننا أن نسمي أدبا بروليتاريا الأدب الذي سيجري إبداعه إبان تلك الحقبة، برسم البروليتاريا ولصالحها؟ على كل حال، نحن نعطي هنا مصطلح "الأدب البروليتاري" معنى مغايرا تماما للمعنى الذي كان له في تصورنا الأول. بيد أن جوهر المسألة لا يكمن هنا. فالسمة الأساسية لمرحلة الانتقال الى الاشتراكية ستكون، على الصعيد العالمي، صراعا حادا بين الطبقات. والسنوات العشرون أو الخمسون التي نتحدث عنها ستكون قبل كل شيء مرحلة حرب أهلية سافرة. بيد أن الحرب الأهلية اذا كانت تعد العدة لثقافة المستقبل العظيمة، فإنها بالمقابل تلحق أفدح الضرر بالثقافة الراهنة. ولقد كانت واحدة من النتائج المباشرة لأكتوبر موت الأدب. فقد صمت الشعراء والفنانون. أهي مصادفة؟ كلا. فقد قالها القائلون منذ زمن طويل: حين يقصف المدفع تخرس ربات الفن. ولم يكن هناك بد من استرداد قليل من أنفاسنا حتى يعاود الأدب الولادة. وقد بدأ الأدب يعود الى الحياة مع السياسة الإقتصادية الجديدة. لكنه سرعان ما تسربل بالألوان التي أسبغها عليه رفاق الدرب. لا سبيل الى عدم أخذ الوقائع بعين الإعتبار. فأوقات التوتر الحاد، أي الاوقات التي يجد فيها عصرنا الثوري سامي تعبيره، غير موائمة للأدب وللإبداع الفني بوجه عام. واذا اندلعت شرارة الثورة غدا في ألمانيا أو في أوروبا، فهل ستتمخض بالنسبة الينا عن ازدهار فوري للأدب البروليتاري؟ مؤكد أن لا. فهي بدلا من أن تطور الإبداع الفني، ستخمد أنفاسه وستسحقه، أذ أنه سيتوجب علينا أن نستنفر قوانا من جديد وأن نتسلح ونهب هبة رجل واحد. وحين يقصف المدفع، تخرس ربات الفن.
      أصوات – دميان لم يخرس!
      تروتسكي – دميان، ودميان أيضا ! كفانا دميان ! إنكم لتبدؤون، أول ما تبدؤون، بالإعلان عن عصر جديد في الأدب البروليتاري، وتنشئون لهذا الغرض حلقات وجماعات وجمعيات، وحين يُطلب منكم بيان أكثر عيانية بهذا الأدب البروليتاري، تنهالون علينا بدميانكم. والحال أن دميان نتاج الأدب القديم لما قبل أوكتوبر. إنه لم يؤسس أي مدرسة. لقد تتلمذ على كريلوف وغوغول ونكراسوف. وهو، بهذا المعنى، تابع ثوري لأدبنا القديم. وترتيبا عليه، انكم برجوعكم اليه تنكرون أنفسكم بأنفسكم...
      ما المنظورات إذن؟ المنظور الرئيسي هو تقدم التعليم والقضاء على الأمية، ومضاعفة عدد المراسلين العماليين، وتطوير السينما، والتحويل التدريجي للحياة اليومية وللأخلاق، ونهوض المستوى الثقافي في المستقبل. هذه هي السيرورة الأساسية التي ستتخللها تفاقمات جديدة للحرب الأهلية، ولكن على النطاق الأوروبي، بله العالمي، هذه المرة. وعلى هذا الأساس سيكون خط الإبداع الأدبي الصرف شديد التعرج. إن "كوزنتسا" و"أوكتوبر" وما شابههما من الروابط ليست بحال من الأحوال مقدمات نشاط البروليتاريا الثقافي الطبقي، وإنما هي مجرد ظواهر عارضة لا تهم سوى حلقات ضيقة لبعض الشخصيات. وإذا خرّجت هذه الجماعات بعض شعراء أو بعض كتاب موهوبين من الشباب، فلن يكون الأدب البروليتاري قد رأى النور، ولكن ذلك سيكون مفيدا على كل حال. بيد أنكم إذا أفرغتم جهدكم في تحويل "رابطة كتاب موسكو البروليتاريين" أو "رابطة كتاب الإتحاد السوفياتي البروليتاريين" الى معامل للأدب البروليتاري، فمآلكم الى فشل بالتأكيد، مثلما كان مآلكم الى فشل حتى الآن. إن العضو في رابطة من هذا القبيل يعد نفسه إما ممثلا للبروليتاريا في الفن، وإما ممثلا للفن في البروليتاريا. يبدو اذن أن الإنتماء الى "رابطة كتاب الإتحاد السوفياتي البروليتاريين" يقلد المنتمي لقبا معينا. قد يعترض عليّ معترض بقوله أن "رابطة كتاب الإتحاد السوفياتي البروليتاريين" هي مجرد وسط شيوعي، يوصل الى الشاعر الشاب الإيحاءات الضرورية، الخ. حسنا، ولكن ماذا عن الحزب الشيوعي في هذه الحال؟ إذا كان ذلك الشاعر الشاب شاعرا فعلا وشيوعيا أصيلا، فإن حزب روسيا الشيوعي سيقدم اليه، بعمله كله، قدرا من الإيحاءات أكبر بما لا يقاس مما تقدمه له "رابطة كتاب موسكو البروليتاريين" أو "رابطة كتاب الإتحاد السوفياتي البروليتاريين". مؤكد أن الحزب ملزم – وهو سيفعل ذلك – بأن يحيط بأكبر قدر من العناية والرعاية كل موهبة فتية قريبة اليه وتربطها به وشيجة الأفكار. لكن مهمته الرئيسية في ميدان الأدب والثقافية تبقى تطوير التعليم – سواء التعليم بحصر معنى الكلمة أو التربية السياسية والعلمية – لصالح الجماهير العمالية، ومن ثم إرساء أسس فن جديد.
      أعرف تماما أن هذا المنظور لا يشفي غلتكم. وأنه لا يبدو لكم على درجة كافية من العيانية. لماذا؟ لأنكم تتصورون تطور الثقافة في المستقبل تصورا مبالغا في منهجيته، على أساس أن المسيرة مقدرة ومتوقعة مسبقا، فأنتم تقولون أن البذور الحالية للأدب البروليتاري ستنمو وستكبر، وستغتني باستمرار، وسيأتي اليوم الذي يتكون فيه أدب بروليتاري حقيقي لا يلبث أن يذوب وينصهر في تيار الأدب الإشتراكي العظيم. كلا، لن تسير الأمور على هذا المنوال. فبعد المرحلة الراهنة، مرحلة استرداد الأنفاس التي نرى فيها – ليس في الحزب وإنما في الدولة – ولادة أدب موسوم بقوة بميسم "رفاق الدرب"، ستأتي مرحلة تتخللها تشنجات عنيفة جديدة، مرحلة جديدة من الحرب الأهلية. ولن يكون لنا خيار في الإمتناع عن خوضها. ومن المرجح في هذه الحالة أن يتحفنا شعراء ثوريون بقصائد كفاحية جيدة، لكن التطور العام للأدب سيجد نفسه بالرغم من ذلك وقد كبح بفظاظة وقسوة. فالقوى جميعا سيقذف بها الى المعركة. ترى هل ستتاح لنا بعدئذ مرحلة استرداد أنفاس جديدة؟ أجهل ذلك. لكن تلك المرحلة الجديدة من الحرب الأهلية، التي ستكون أوسع نطاقا وأشد ضراوة، سيكون من نتيجتها – في حال انتصارنا – تدعيم الأسس الإشتراكية لاقتصادنا تدعيما متينا ونهائيا. سوف تتوفر لنا تقنية جديدة ووسائط جديدة على صعيد التنظيم. وسوف يأخذ تطورنا وتيرة مختلفة تماما. وإنما على هذا الأساس الجديد، وبعد تقلبات الحرب الأهلية وتعرجاتها وهزاتها، سنشرع ببناء حقيقي للثقافة، وبالتالي بإبداع أدب جديد. هذه الثقافة ستكون فعلا ثقافة اشتراكية، قائمة على أساس تبادل متصل بين الفنان وبين الجماهير المدركة درجة رفيعة من التطور الثقافي، ومعززة بروابط التضامن بين الطرفين. أنتم لا تضعون هذا المنظور نصب أعينكم، وإنما تحلون محله منظوركم، منظور حلقاتكم. أنتم تريدون أن يعترف الحزب رسميا بمعملكم الفني الصغير باسم الطبقة العاملة وتتصورون أنكم، بزرعكم حبة فاصولياء في أصيص أزهار، ستمتلكون المقدرة على إنماء شجرة الأدب البروليتاري. لكن لن تولد أبدا أية شجرة من حبة فاصولياء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الهوامش
 
 
1- نوع من طعام روسي مصنوع من حساء الحنطة السوداء. –م-
2-  البرافدا، 10 شباط 1923.
3-  " البوق" المجلد 8.
4-  منظمة التثقيف البروليتاري. –م-
5- ليف هو الإسم المختصر ل"جبهة الفنون اليسارية" ، وهو إسم مجلة مستقبلية الإتجاه كان رئيس تحريرها ماياكوفسكي وصدرت في بتروغراد في آذار 1923 ، وكذلك هو إسم الجماعة التي كانت تصدر هذه المجلة . –م-
6-  جماعة أدبية من "رفاق طريق الثورة " ، نسبت نفسها إلى الراهب سيرابيون، بطل قصة لهوفمان. –م-
7-  من سقى الفولاذ. –م-
8-  دميان بييدني. –م-
9-  أثناء الثورة كان كثير من الفلاحين يسافرون ومعهم كيس " ميشوك" في عربات السكك الحديدية المخصصة لنقل الحيوانات، يشترون ويبيعون مختلف صنوف البضائع، وعلى رأسها القوت. –م-
10- كراسنايا نوف ( الأرض البور الحمراء ) : مجلة أدبية تأسست في عام 1921 ، ونشرت في عام 1923 مؤلف تروتسكي الذي بين أيدينا. وقد أشرف عليها في بادئ الأمر أ.فورونسكي ، وهو ناقد موهوب إشتهر بصوره القلمية للكتاب. وقد أقصي عنها في عام 1927 بتهمة " الإنحراف الإيديولوجي". –م-
11- بيوتر أركادييفيتش ستوليبين ( 1862-1911)، رجل دولة روسي، شغل منصب وزير الداخلية (1904) ، ثم منصب رئيس الوزارة (1906)، وتولى قمع ثورة 1905 وتصفية آثارها. قتل على يد أحد الثوريين. –م-
12- أي مدرسة ليون تولستوي الذي كان يقيم في ياسنايا- بوليانا. –م-
13- أو المدرسة ما قبل الرمزية. –م-
14- "الليل" : مسرحية للشاعر الفرنسي الشيوعي مرسيل مارتينيه كان تروتسكي يعجب بها أشد الإعجاب. وقد كتب عنها في مقال خاص يقول أن موضوعها هو " العمل الثوري للجماهير الرازحة تحت الإضطهاد ... والأشخاص فيها يعيشون، ولكن في كل مرحلة من مراحل حياتهم الفردية تتكشف حياة طبقتهم ، حياة الإنسانية المعاصرة". –م-
15- ثلاث كوميديات روسية، الأولى لفونفيزين (1742-1792) ، و الثانية لغريبوئيدوف (1793-1829) ، والثالثة لغوغول (1809-1852). –م-
16- لم نجد أحسن من هذه الكلمة مقابل Monumental ، وهي تعني ما هو فخم، ضخم، نصبي، تذكاري. –م-
17- الأسرار هنا تمثيليات دينية كانت تقدم في العصور الوسطى، يدخل فيها اللآلهة و القديسون والشياطين. –م-
18- كان بابوف يتسمى بإسم غراكوس. وغراكوس إسم لأخوين من مشاهير خطباء روما ونقيبا عامة في القرن الثاني قبل الميلاد، قتل كلاهما غيلة بعد أن حاولا، عن طريق اقتراح قوانين زراعية جديدة، وضع حد لشره الأرستقراطية الرومانية التي استولت على القسم الأكبر من أراضي البلاد المفتوحة . وقد اتخد عدد من الأدباء من حياتهما موضوعا لتراجيدياتهم. –م-
19- المدمة آلة ذات أسنان تدم أي تسوى بها الأرض. –م-
20- التدارج نوع من الطيور، والأحفاش نوع من الأسماك. –م-
21- بيريدونوف، شخصية منافقة، شريرة، شهوانية، بطل رواية تيودور سولوغوب (1863-1927)، "الشيطان البائس" التي صدرت قبيل الحرب العالمية الأولى. –م-
22- نظرية جمالية ظهرت في 1920 مطالبة باستبدال النحت التقليدي بنحت مفرغ تتشابك فيه الخطوط و السطوح. –م-
23- شاعرة روسية رمزية، ولدت في 1867 وتوفيت في باريس في 1945. –م-
24- يقصد بالمعطيات الوزن والقافية. –م-
25- الميكرومتر : مقياس الجزيئات أو المسافات الدقيقة. –م-
26- تحت إسم "سميينا فييخ" (إشارات منقولة) ظهرت جماعة أدبية إرتأت، بعد الإعلان عن البدء بالسياسة الإقتصادية الجديدة، أن النظام البلشفي يمكن أن يساهم في إعادة بناء القوة القومية وتعمير روسيا وغيرت من ثم اتجاهها، و أصدرت في برلين صحيفة مؤيدة للبلاشفة، ومن هنا كان إسمها. –م-
27- الجبل الأبيض أعلى قمم الألب، وإيلبروز أعلى قمم القفقاس. –م-
28- توماس وودرو ويلسون (1856-1924)، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من 1913 إلى 1924. –م-
29- روائي أمريكي (1878-1968) ، وضع العديد من الروايات الإجتماعية. –م-
30- الزأزأة : لفظ الجيم زايا. –م-
31- بطل من أبطال الأغاني الروسية القديمة. –م-
32- ميخائيل سالتيكوف (1826-1889)، كاتب روسي، وضع عددا من الروايات الواقعية ( من أشهرها " أسرة غولوفيوف"، 1880). –م-
33- "الذهاب إلى الشعب" كان الشعار الذي أطلقته هرزن، رائد الشعبوية، برسم المثقفين الروس. –م-
34- آنا أخماتوفا (1889-1966)، شاعرة روسية، لم تهاجر ولكن لم تتصالح مع النظام. بين 1923 و 1940 اختارت الصمت، ولم تعد إلى الكتابة إلا أثناء الحرب. وكانت أولى ضحايا الجدانوفية في 1948. ثم لزمت الصمت من جديد حتى وفاة ستالين. –م-
35- ماريا زفيتاييفا (1892-1942)، هاجرت إلى باريس عام 1922، وعادت إلى روسيا في 1940، وانتحرت شنقا في 1942. –م-
36- أنصار الأوج أو الذروة. –م-
37- رواية شعرية لبوشكين وضعها بين 1823 و 1830 . –م-
38- اسكندر نيقولاييفيتش اوستروفسكي (1823-1886)، من مشاهير المؤلفين المسرحيين الروس. –م-
39- "بريدنا" . –م-
40- كان راسكولنيكوف قد عاد من بعثة دبلوماسية إلى أفغانستان. –م-
41- شاعر من أواخر القرن الثامن عشر، قبل بوشكين. –م-
42- "الكلمة الجديدة". –م-
43- "التثقيف". –م-
44- جناس غير قابل للترجمة.
45- أي بعد سنة من البدء بنشر مقالات " الأدب والثورة" مسلسلة في البرافدا، وبالتالي عند انتقال تروتسكي من معالجة أدب ما قبل أوكتوبر إلى معالجة أدب ما بعد أوكتوبر. –م-
46- "المقود" و "الأيام" من " صحف الحرس الأبيض. –م-
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفهــــرس
 
 
 
 
 
الثقافة البروليتارية والفن البروليتاري                                                                  3
سياسة الحزب في الفن                                                                                   17
الفن الثوري والفن الاشتراكي                                                                          22
المستقبلية                                                                                                  35
درسة الشعرالشكلية والماركسية                                                                      51
الحزب والفنانون                                                                                        61
الهوامش                                                                                                  73
        
     
 
 
 
هذا الكتاب
 
 
 
إذا كان لكل طبقة في التاريخ ثقافتها وفنها الخاصان بها فإن البروليتاريا تشذ عن هذه القاعدة بكونها لا تطمح إلى بناء ثقافة بروليتارية و فن بروليتاري.
هذه هي الأطروحة المركزية لتروتسكي في هذا الكتاب الذي يعد من أجرأ الإقتحامات الماركسية لعالم الأدب و الفن انطلاقا من المبدأ الذي حدده على صفحات "البرافدا" في سنة 1923 – يوم كان قائدا للجيش الأحمر – المبدأ القائل : ليس بالسياسة وحدها يحيا الإنسان.
" الأدب و الثورة " كان منذ صدوره قبل نصف قرن و مايزال نصا عبقريا ورؤيويًا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
دار الطليعة للطباعة و النشر
       بيروت



#ليون_تروتسكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جاك لندن، فنان ثوري
- الأسباب التاريخية للستالينية
- تاريخ الثورة الروسية : الجزء الأول : فبراير
- بيان: نحو فن ثوري حر
- الغاية تبرر الوسيلة
- أخلاقهم وأخلاقنا : وجهتا النظر الماركسية والليبرالية في المث ...
- دفاعا عن الثورة الروسية
- مكسيم غوركي
- النقابات في عصر الانحطاط الإمبريالي
- السوفيات والحرب في الثورة البروليتارية
- حول شعار الجمعية التأسيسية في الصين
- المجالس العمالية والجمعية التأسيسية
- نصوص حول تجذر الجماهير
- المركزية الديمقراطية بضع كلمات حول نظام الحزب
- نقاط حول العمل السري في المانيا النازية
- الوسطية والأممية الرابعة
- تسعون سنة من البيان الشيوعي
- نتائج وتوقعات
- روزا لوكسمبورغ والأممية الرابعة
- دروس ثورة أكتوبر


المزيد.....




- الدفاع التركية: تحييد 14 عنصرا من -حزب العمال الكردستاني- شم ...
- -حل العمال الكردستاني مقابل حرية أوجلان-.. محادثات سلام مرتق ...
- عفو «رئاسي» عن 54 «من متظاهري حق العودة» بسيناء
- تجديد حبس المهندس المعارض «يحيى حسين» 45 يومًا
- «نريد حقوق المسيحيين» تظاهرات في سوريا بعد إحراق «شجرة كريسم ...
- متضامنون مع المناضل محمد عادل
- «الصيادون الممنوعون» في انتظار قرار مجلس الوزراء.. بشأن مخرج ...
- تيار البديل الجذري المغربي// في خدمة الرجعية يفصل التضامن م ...
- جريدة النهج الديمقراطي العدد 585
- أحكام ظالمة ضد مناهضي التطبيع مع الكيان الصهيوني والجبهة تند ...


المزيد.....

- مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس / حسين علوان حسين
- العصبوية والوسطية والأممية الرابعة / ليون تروتسكي
- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - ليون تروتسكي - الأدَبُ وَالثورَة