كريم مرزة الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 3916 - 2012 / 11 / 19 - 17:17
المحور:
الادب والفن
3 - ا - لمحات من مسيرة دعبل الوجه الآخر للشعر إمام المعارضين !!
يركل ولاية للرشيد وأخرى للمأمون إذ قابله مراراً , والمعتصم يعجز شراء ذمته, وابن الزيات يتلكأعن ردّه , يقبل يده المبرد العبقري الخالد , وابن الكلبي أكبر نسابة يقول :"دعبل خزاعة كلها !!" ويرثيه البحتري وزير إعلام المتوكل مع أستاذه أبي تمام ..!!
كريم مرزة الاسدي
المقدمة :
ولد دعبل بن علي الخزاعي بالحياة باكياً كبقية بني البشر من الأوائل والأواخر , لكنه أيضاً مات باكياً بعد حوالي قرن من الزمان , فينطبق عليه ما نقل الجواهري من حكمة للفيلسوف الصيني التي صدّر بها (ذكرياته ) ج1 : (ولدوا فتعذبوا فماتوا) , يقول ابن الرومي :
لِما تؤذن الدنيا استهل كأنـّه ***بما سوف يلقى من آذاها يهدّّّدُ
لم يتوسم الرجل الخير من أخلص خلصائه , وأقرب قربائه إلا ما ندر , والسبب موقفه المعارض من خلفاء عصره , وللمعارضة الصلبة ثمن , ففضل الموقف الصعب على الصديق المتذبذب التعب , أليس هو القائل ؟! :
كم منْ أخي ثقةٍ قد كنت أملهُ **** هبتُ عليهِ رياح الغدر ٍفانتفضا
أهملتهُ حينَ لم أملك مقادتـه **** ثم انقبضتٌ بودّي عنهُ وانقبضا
وقلت للنفس :عدّيهِ فتىِ نزحتْ*بهِ النوى أو من العصرالذي انقرضا
فما بكيت عليه حين فارقنـي**** ولا وجدتُ له بين الحشا مضضا (56)
ولد دعبل في الكوفة الحمراء (57) سنة (148هـ / 765م) (58) , وأصله منها , ولقبته دايته (ذعبلاً) لدعابة كانت فية , فقلبت الذال دالاً (59) للتخفيف , وعلى ما يبدو لنا استأنس صاحبنا وتماهى بهذا اللفب الفريد , فوجد فيه ما يرهب , وهذا ديدنه منذ الصغر تصنعاً أو ترهباً , فهو ليس بالرجل البسيط من حيث الجرأة والكرم والمهابة والعلاقات الأجتماعية , ودعبل الناقة الشارف , ويقال أيضا للشيء القديم (60) , والسيد دعبل غلب لقبه على اسمه كما أراد هو , لا كم أراد له مجتمعه , لذلك لم يُعرف له اسم محدد ( عبد الرحمن , الحسن , أو محمد) (61) , كناه أبو الفرج وابن عساكر والخطيب البغدادي (أبا علي ) , وهو الأشهر , كان فاره الطول , واسع المنكبين , جهور الصوت , و حسن الإلقاء ," كان دعبل بن علي أطروشاً , وكان في قفاه سلعة "(62) , والسلعة هي الغدة أو زيادة الوزن , وعلى أغلب الظن كانت في عنقفته , يقول دعبل : لما رأيتها في المرآ ة , ضحكت , قيل لي : من أي شيء تضحك ؟ قلت : تذكرت قول الفاجر أبي سعد (المخزومي) :
وسلعة ُ سوءٍ به سلعة ُ*** ظلمتُ أباهُ فلم ينتصرْ (63)
ويذر الشيخ الأميني في رواية بـ (غديره ) , والأصفهاني في (أغانيه) : إنه كان يحب الغناء ,وله غلامان ثقف وشغف كانا يعنيانه (64).
أولاً - من الولادة حتى الرشيد:
على ما يبدو لي مرت مرحلتا المهد والطفولة المبكرة بسلام عليه , ولكن على أغلب
الظن تولدت لديه عقدة نفسية في مرحلة الطفولته الوسطى أبان حكم الخليفة أبي جعفر المنصور , إذ فرض رقابة شديدة على الكوفة , وكتم أنفاس أهلها , وأعلن الحكم العرفي عليها , ومنع التجوال فيها عشية , لذلك شبهها الدكتور يوسف خليف بالطائر الحبيس عقبى ثوراتها المتكررة (65) , هذه العقدة كتبت في عقله لباطن , وتجلت في معارضته الشديدة للسلطة ورموزها وأركانها , إضافة لعقيدته الدينية والسياسية بحكم بيئته الكوفية العلوية , وتعمقت بعد ذلك لاجتهاده وتجاربه , فانعكست هذه على شكل شعر هجاء وسخرية للعباسيين على وجه من الوجوه , وشعر مديح ورثاء للعلويين على وحهها الآخر , ولا ننسى عائلته الكوفية الأدبية التي أثرت في تكوينه العضوي والفسيولوجي وبالتالي السلوكي والعقلي والفكري , فهو من صميم قبيلة خزاعةفـبيته (بيت رزين) بيت علم وفضل وأدب وإن خصه ابن رشيق في عمدته 2 ص 290 بالشعر، فإن فيهم محدثون وشعراء، وفيهم السؤدد والشرف، فجدهم الأعلى : بديل بن ورقاء , فهو من أخوال النبي (ص) , إذ باركه النبي وأولاد , ومؤسس شرفهم الباذخ : البطل العظيم عبد الله بن ورقاء (66) , بسند عن السائب ابن الكلبي , إذ سئل :
" إن دعبلاً قطعي فلو أخبرت الناس أنه ليس من خزاعة فقال لي
يا فاعل مثل دعبل تنفيه خزاعة والله لو كان من غيرها لرغبت فيه حتى تدعيه دعبل والله يا أخي خزاعة كله " (67) , فجده رزين وأبوه علي وأخواه رزين وعلي , وعمه عبد الله وابن عمه الملقب بآبي الشيص كلهم أدباء وشعراء , وتعمق هو نفسه بالشعر ومعانيه وعلم اللغة والأدب والنقد والعروض , دعونا عن علاقته بأستاذه صريع الغواني , وبشار وأبي نؤاس وأبي الشيض وأبي الشمقمق وحماد الراوية وابي العتاهية وخلف الأحمر وعيرهم .
أ- أبو نؤاس : فعلتموها أعجمية !! :
أصبح دعبلا! مشهورا بالنسبة للأكبر منه عمراً , ومقاماً , ويحسب لشعره حساباً , يروي ابن عبد ربه في ( عقده) , والعديد من المصادر ( تجدها في الهامش ) , بسند حدث دعبل قائلاً: اجتمع هو ومسلم وأبي الشيص وأبي نؤاس , فقال لهم أبو نؤاس : إن مجلسنا هذا قد شهر بإجتماعنا فيه , ولهذا اليوم ما بعده , فليأت كل واحد منكم بإحسن ما قال , فلينشده , فأستشعر أبو الشيص فقال :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي *** متأخرًً عنهُ ولا متقدمُ
أجدً الملامة َ في هــــــــواك لذيذةٌ ***حبّاً لذكرك فليلمني اللوّمُ
وأهنتني فأهنتت ْنفسي صاعراً **ما من يهون عليك ممن يكرمُ
اشبهت أعدائي فصرتُ أحبهم***إذ كان حظي منك حظي منهم
فجعل أبو نؤاس يعجب من حسن الشعر, حتى ما كاد ينقضي عجبه , ثم أنشد مسلم أبيات من شعره الذي يقول فيه :
فأقسم أنسى الداعيات إلى الصبا**وقد فاجأتها العين والستر واقعٌ
فغطت بأيديها ثمار بحورها *** كأيدي الأســــارى أثقلتها الجوامعُ
قالدعبل : فقال لي أبو نؤاس : هات أبا علي , وكأني بك قد جئتنا بأم القلادة , فقلت :
أين الشياب وأيّة سلكا ***أم أين يطلبُ ضلَّّ أم هلكا
(كذا) والأبيات مشهورة).
فأنشد أبو نؤاس :
لا تبكِ هنداً ولا تطرب إلى دعدِ***وأشرب~ على الوردِمن حمراء كالوردِ
كأساً إذا انحدرت في حلق صاحبها *** أوجدت َحمرتها في العينِ والخدِِ
فالخمرُ يـــــــاقوتة ٌ والكأسُ لؤلؤةٌ*** في كف ِّ جاريةٍ ممشوقة الــــــقدِ
تسقيكَ من عينها خمرأً ومن يدها*** خمراً فمــــا لك من سكرين من بــدِّ
لي نشوتان وللندمان واحدة ٌ ***شيءٌ خصصت ُبه من بينهم وحـــــــدي
فقال كلهم سجدوا له, فقال : أفعلتموها أعجمية , لا أكلمكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً, ثم قال تسعة أيام في هجر الأخوان كثير , وفي هجرة بعض يوم استصلاح للفساد...(68) قصيدة أبي نؤاس تناولها كثير من النفاد والروة والمؤرخون لروعتها في وصف الخمور والحبور , والجواري والغواني (69), أما قصيدة دعبل كانت مشهورة جداً وتغنى في المحافل والجلسات , , وعلاقة دعبل مع جميع شعراء عصرة ممتازة إلا أبا سعد المخزومي المحرك عليه من قبل السلطة , وكل هؤلاء أكبر منه سناً بكثير , وكان أبو نؤاس مشهورا جدا تتمنى الناس أن تكلمه لجودة شعره وحسن منظره ولطف كلامه وأريحية روحه , وعلاقته الموسعة مع كل علية القوم !!
ب - دعبل يروي عن بشار وأبي الشمقمق ! :
ومما يروى وحسب تقليبي للتواريخ واستنتاجي , عندما بلغ ثماني عشرة سنة (166 هـ / 782م) سافر دعبل للبصرة التقى ببشار بن برد , وأبي الشمقمق وروى عنهما هذا الخبر المضحك - وكان دعبل راوية أيضاً - " كان بشار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مائتي درهم , فأتاه أبو الشمقمق في بعض السنين , فقال هلـّم الجزية يا أبا معاذ , فقال ويحك أجزية هي ؟ قال : هو ما تسمع , فقال له بشار يمازحه : أنت أفصح مني , قال : لا , قال : فأ علم مني في مثالب الناس , قال : لا قال : فلِم أعطيك ؟ قال : لئلا أهجوك , قال إن هجوتني هجوتك , فقال له أبو الشمقمق :هكذا هو , قال : نعم , فقال أبو الشمقمق :
إني إذا ما شاعرٌ هجانيهْ ***ولجَّ في القول له لسانيهْ
أدخلته في أستِ أمهِ علانيهْ*** بشار يا بشار.........
وأراد أن يقول : يا بن الزانية , فوثب بشار فأمسك فاه , وقال : والله أراد أن يشتمني ثم دفع إليه مائتي درهم , ثم قال له :لا يسمعن هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق " (70) , أبو الشمقمق كان فقيراّ معدماً يفترش الساحات , وسقفه السحاب, وليس عنده مفتاح لأن بابه من الأرض إلى السماء , وجودي لا يهتم للهجاء بالرغم من شكله الدميم , ويخشى منه الصبيان , فيردعهم شكله والعينان , أما بشار المسكين الأعمى البصير , لا يدري من أين تأتيه الحجارة والقذف والولادان.
ثانياً -دعبل في قصر الرشيد !! :
شعر دعبل السالف ( أين الشباب) ,غناه المغنون , وتلاقفته الجواري والقينات حتى وصل إلى قصر الرشيد " فعني به بين يدي الرشيد, أما ابن جامع , أو ابن المكي , فطرب الرشيد , وسأل عن قائل الشعر . فقيل له دعبل بن علي , وهو غلام نشأ من خزاعة , فأمر بأحضار عشرة آلاف درهم (راتب سبع سنوات لموظف متوسط الحال) , وخلعة من ثيابه , فأحضر ذلك ودفعه مع مركب من مراكبه إلى خادم من خاصته ), وقال له أذهب بهذا إلى خزاعة , فأسل عن دعبل بن علي , فإذا دللت عليه فاعطه وقل له بالمسير إليه ليحضر إن شاء, وإن لم يجب ذلك فدعه, وأمر للمغني بجائزة , فسار الغلام إلى دعبل , وأعطاه الجائزة , وأشار عليه بالمسير إليه, فلما دخل عليه وسلم , أمره بالجلوس , واستنشده الشعر فأنشده إياه , فأستحسنه , وأمره بملازمته , وأجرى عليه رزقاً سنياً, فكان أول من حرضه على قول الِشعر" (71)
هذه الرواية أيضاً ينقلها صاحب (الأغاني) عن عبد الله بن طاهر بن الحسين , وهذا الطاهر فائد جيوش المأمون من دكّ بغداد وقطع رأس الأمين , وابنه عبد الله , يقول الذهبي عنه أصبح والياً لمصر وأفريقيا, ومن ثم تملك خرسان وأصبح السيدالآمر الناهي و الملك المطاع فيها (72) , ويعتبر مؤسس الدولة الطاهرية , سؤال بسيط : من متطلع على أسرار الخلافة أبو خالد العادي , أم عبد الله بن طاهر العالي , وهو من أكبر قادة الدولة العباسية ؟ , كلمته لا تصبح اثنين , لا أعرف كيف يوافق عقل الأصفهاني بنقل رواية أبي خاد الخزاعي المجهول الحقود أن دعبلاً كان قاتلاً سارقاً قاطعاً للطرق , ثم يجلّه أيما إجلال برواية أكبر قائد متنفذ في قصور الخلافة مع أبيه , وأين مخابرات الرشيد والعباسين (بريدهم) وشرطتهم ورجالهم الذين لم تعبر عليهم أي خافية في أقصى الأرض وأدناها أبيات بشار الأعمى البصير وبيت صالح بن عبد القدوس الحكيم تخفى عليهم جرائم دعبل كما يزعمون , وكيف أرسل إليه من مراكبه الخاصة ومن رجاله المخصوصيين وجعله من حاشيته الخاصة وأجرى عليه رزقاً سنياً , ثم عينه والياً سنة 174هـ / 790 م) وبعد ذلك رفض كل شيء لموففه وجرأته المتناهية , أنا لايهمنى دعبلاً فهو شاعر عربي جريء صاحب موقف مهما كان نوقفه , وهذه ضربة للرشيد قبل أن تكون لدعبل , هل يتفكر المتفكرون ؟ !! لكن الذي يهمني لماذا لا نغربل تاريخنا العربي من الخزعبلات ؟ والنقل دون تمحيص وتفكير وتعقل مهما يكن دين ومذهب وفومية رجال أمتنا , نحن تهمنا الحقيقة , لماذا وصلنا إلى هذا الحال المحال ؟! , وإليك بعض بيات من القصيدة الدعبلية للترفيه والأستأناس والروعة الإبداعية :
أينَ الشبابُ ؟ وأيّة ٌ سلكا*** لا , أين يُطلب؟ ضلّ بل هلكا
لا تعجبي يا سلمُ من رجل ٍ***ضحك المشيبُ برأسهِ فبكى
قد كان يضحكُ في شبيبتهِ*** فأتى المشيبُ فقلما ضحــكا
ياليت شعري كيف نومكما*** يا صاحبي إذا دمــي سفكا؟
لا تأخذا بظلامتي أحـداً***قلبي وطرفي في دمي اشتركا(73).
على أغلب الظن هذه الحادثة حدثت في سنة (171 هـ / 787م) , واشتغل في قصر الخلافة أوائل شبابه
أ - دعبل يروي عن ابراهيم الموصلي ويرثيه من بعد :
وأصبح دعبل عارفاً بأسرار القصر , وما يدور في كواليسه ودهاليزه , قيروي لنا بعض أخباره قائلا: لما ولي الرشيد الخلافة وجلس للشرب بعد فراغه من أحكام الأمور , ودخل عليه المغنون , كان أول من غناه ابراهيم الموصلي (74) بشعره فيه , وهو :
إذا ظلم البلاد فجللتنــا ****** فهارون الإمامُ لها ضياءُ
بهارون استقامَ العدلُ فينا**وغاض الجورُوانفسحَ الرجاءُ
فقال الخادم من خلف الستار : أحسنت يا ابراهيم في شعرك وغنائك , وأمر له بعشرين ألف درهم (74) , ومن العجيب ينقل هذا الخبر عن (القاتل السارق) نفسه الأصفهاني , ليس هدفي الدفاع عن دعبل , تاريخه يدافع عنه , وإنما كيف وصلت لنا الأخبار , وعند وفاة الموصلي في عهد الرشيد( 188هـ / 804م) رثاه دعبل بقصيدة مطلعها :
سيبكي البم من جزع ٍعليهِ***وتبكيه المثالث والمثاني
ولا تفوتك البم والمثالث والثواني من أوتار العود .
ب - دعبل ربما شاهد أستاذه ( الصريع) , وأنس بن أبي شيخ , والرشيد يحاكمهما:
وربما شاهد دعبلنا المشهد المريع في قصر الخلافة , لأستاذه وربيبه الصريع (مسلم بن الوليد) , إذ وقع تحت جبروت الحكم الرشيد , مع أنس بن أبي شيخ كاتب البرامكة بتهمة الولاء للعلويين , فتغير لون هذا (المسلم) عند رؤية الرشيد , فرق له الخليفة , فقال له ,ألست القائل ؟ ! :
أُنس الهوى ببني عليٍّ في الحشا***وأراه يطمح عن بني العباس ِ
قال بل أنا الذي يقول يا أمير المؤمنين :
أُنسى الهوى ببني العمومة في الحشا**متوحشاً من سائر الأناس ِ ِ
وإذا تكاملتْ الفضائل كنتـــــــمُ*****أولى بذلك يا بني العباس ِ
فتعجب الرشيد من بديهته , فاستبقاه بعد مشورة بعض جلسائه لشاعريته الفذة , إذ قال بعضهم : استبقه يا أمير المؤمنين، فإنه من أشعر الناس، وامتحنه فسترى منه عجباً؛ فقال له: قل شيئاً في أنس؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أفرخ روعي، أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك، فإني لم أدخل على خليفة قط، ثم أنشأ يقول:
تلمظ السيف من شوق إلى أنس ***فالموت يلحظ والأقدار تنتظرُ
فليس يبلغ منه ما يؤمله******* حتى يؤامر فيه رأيك القدرُ
قال: فأجلسه هارون وراء ظهره، لئلا يرى ما هم به، حتى إذا فرغ من قتل أنس، قال له: أنشدني أشعر شعر لك، فكلما فرغ من قصيدة، قال له: التي تقول فيها الوحل، فإني رويتها وأنا صغير، فأنشده شعره الذي أوله:
أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ***ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
حتى انتهى إلى قوله:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب *** تمشت به مشي المقيد في الوحل
فضحك هارون وقال: ويحك يا مسلم! أما رضيت أن قيدته، حتى جعلته يمشي في الوحل، ثم أمر له بجائزة وخلي سبيله. (76) .
وأصبح مسلم موالياً للعباسيين , نابذاً للعلويين , وواصل دعبل مسيرته العلوية حتى الموت , وخشى الأستاذ من الترهيب , راغباً بالترغيب, كعامة الناس العاديين , و بعد تسنمه منصباً رفيعاً , حدث الجفاء بينه وبين دعبل حتى امتد إلى الهجاء , وروى دعبل عن الإمام مالك بن أنس , ويرقض بعض علماء العامة هذا الزعم .
ج - دعبل وجارية القصر ووصف الخمر!!
وربما والرأي رأيي, عندما كان في قصر خلافة الرشيد وهو في شرخ الشباب , يتعرض بإحدى الجواري التي تشير إلى كرم الرشيد:
قالتْ وقد ذكرتها عهد الصبا***باليأس تقطع عادة المعتادِ
إلا الإمامَ فأنّ عادة َ جودهِ*** موصولة ٌ بزيادةِ المزداد (77).
وكان الرجل كما ذكرنا كريم النفس جداً , والكرم ملازم للجرأة , فهل تتوقع منه أن يجمع .المال , أقرأ ما يقول :
أبغض المال إذا جمّعتهُ ***إنّ بغض المال من حبِّ العلا (78)
هذا في عصر كان الشعراء من المحظوظين والطبقة الأرستقراطية , وربما في هذه الأجواء قبل الموقف الصارم من الخلافة , وإلقاء التائية الموقف , وسم الإمام الرضا من قبل المأمون كما يذهب الشيعة مؤكدين , أقول تأثر في هذه الأيام بأجواء القصر ولكن جزماًليس كأبي نؤاس ومجونه , وبشار وعبثه , والبحتري ومجالسه , وإنما تشير هاتان البيتان إلى تأثره مع جلسائه إلى الشرب , ووصف الخمر وبلغ القمة في الوصف :
شربت وصحبتي يوماً بغمر ٍ***شراباً كان من لطف هواءَ
وزنا الكأس فارغة ً وملأى*****ان الوزن بينهما سواءَ (79)
ما هذه الرقة الشفافة , وهذا الصفاء النقي , لقد وصف البحتري , وهو إمام الوصافين من بعده الخمر في مجلس المتوكل :
هل العيش إلا ماء كرم ٍمصفق ٍ*** يرقرقه في الكأس هاء غمام ِ(80)
لم يصل إلى شأو دعبل ووصفه لا من حيث رقته كالهواء , ولا من حيث وزنه , بالرغم من أن البحتري يقول " الشعر يغني عن صدقه كذبه " !!(81)
د - تبادل الهدايا والمطل :
ويرى تبادل الهديا تقرب بين النفوس وتشد أواصر المحبة والصداقة :
هدايا الناس بعضهمُ لبعضٍ *** تولــــد في قلوبهمُ الوصالا
وتزرعُ في الضميرهوىً وودّاً**وتكسوهمْ إذا حضروا جمالا(82)
لذلك دائماً يذمّ المطل , وتذبذب إرادة الجود والعطايا , ويبتلي من يتماطل معه , ويخلف ميعاده
في بعض المرات وعده أحدهم باهدائه (النعل) , في عصره كان لها قيمة , وخصوصاً بعد تخليه عن الولاية , فيعتبر وعد الحر ديناً عليه , وإذا تخلف عن إيفائه, فهذا من أصناف الغبن, ينقل لنا الثعالبي في (رسائله)عن حل لغز قول دعبل :
" وعدت النعل ثم صدفت عنها***كأنك تشتهي شتماً وقذفا
فإن لم تهدِ لي نعلاً فكنها ****إذا أعجمكَ بعد النون حرفا (83)
وعدتني أيدك الله النعل , وما أسعفت , بل صددت عن ذكرها وصدفت , فاستهدفت لسهام الذم والقذف , فإن أهديتها الآن وإلا لبست ثوب المغبون , وكنتها إذا أعجمت الحرف بعد النون , والحازم من يقي العرض بالعرض الأدنى ولا يعرضه للبلوى والسلام . " (84)
هـ - مدح الحميري المحظوظ :
ودعبل لم يقصر مدحه للأئمة ورثائهم فقط كما يتوهم البعض , بل مدح غيرهم , فهذا معاذ بن جبل بن سعيد الحميري , فنسبه يعود إلى حمير بن سبأ القحطاني (ولكن المبرد في كامله يذكره أنه من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه) , وهذا له دلالة قبلية يمانية , ودعبل لسانهم أمام النزارية , وكان المجتمع العربي على قسمين من الناحية القبلية في ذلك العصر , صحيح الخلفاء من النزاريين , ولكنهم يترفعون عن القبلية , ويعتبرون الجميع تحت سلطتهم الدينية والسياسية ,المهم دعبل إذا يمدح يمدح بإفتدار , إذا وجد فيه الكرم والجرأة والرجولة , إقرأ كيف يمدحه :
فإذا جالسته صدّرته ***وتنحيتَ له في الحاشيهْ
وإذا سايرته قدّمتــه*** وتأخرتَ مع المســتانيهْ
وإذا ياسرته صادفتهُ**سلسَ الخلق سليمَ الناحيهْ
وإذا عاسرتهُ ألفيتهْ *** شرسَ الرأي أبياً داهيهْْ
فاحمدِ الله على صحبتهِ*واسأل الرحمن منه العافيهْ (85)
كما قلنا (دعبل) إذا مدح مدح ,يأخذك من تلابيبك لنزعته القبلية حاصلاً فاصلاً, دون أن يستأذنك , ولم يدع لك مجالاً لمجادلته , تناول الموضوع من بحر (الرمل)السريع , تنقطع أنفاسه ولا يقف, لسهولة سير ألفاظه على طرف اللسان , وقافية ساكنة قاطعة غير قابلة للمساومة , وبطباقات إيجابية متتالية ترفعه وتخفضك , ويحتم الأمر أن تحمد الله على صحبته !! بربك هل هذا من سوء الخلق وخبث اللسان , وهذا لا من العلويين, وليتهم لا يحزنون !! والإيجاز والمساواة هنا تقصير , وليست دائماً بغية الشاعر المقتدر, وابن الرومي من بعده أفرط أي تفريط , يجعلك تموج في محيط , وأنا على العموم لست مع المبرد العظيم في قوله بـ (كامله) : وهذا المعنى قد جمله جرير في قوله :
بشرٌ أبو مروان إن عاشرته ***عسرٌ وعند يساره ميسورُ(86)
نعم على العموم البلاغة تختص بالمعاني , والفصاحة تختص بالألفاظ , والإيجاز يختص بهما , ويقول عبد الحميد الكاتب , وكان وزير محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية , وبه يضرب المثل في الكتابة والبلاغة : " البلاغة ما فهمته العامة , ورضيته الخاصة "(87)
بيت جرير يمتاز بالإيجاز , ربما ترضى به الخاصة كالمبرد , ولكن لا تفهمه العامة بشكل دقيق , ثم أن المعاني قي أبيات دعبل أوسع وأشمل , وأرفع , وأنغم , والمبرد صبها في قالب التعريف البلاغي البحت كعالم .
و- عضته أو شمامته من نكبة البرامكة :
ولما نكب الرشيد البرامكة وقتل جعفر بن يحيى البرمكي - وسجن أباه وأخاه - حتى الموت - كما يقول اليعقوبي في تاريخه - بدير العُمْر ( في صفر سنة 188 هـ (88)/ سنة 803م) , ورثاهم دعبل كما يذكر المسعودي ببيتين من الشعر يقول فيهما :
ألمْ تر صرف الدهر في آل برمك ٍ***وفي ابن نهيك والقرون التي تخلو
لقد غرسوا غرس النخيل تمكناً*** ومـــــــا حصدوا إلا كما حُصد البقلُ (89)
ولكن الأستاذ (عبد الصاحب الدجيلي ) جامع ومحقق الديوان الأول لدعبل ومقدم صاحبه(1962)يأبى أن يعتبرهما رثاءً , وإنما قالهما للعظة والاعتبار على الأكثر إقرأ ما يقول :" والمسعودي من المؤرخين الثقات زمن الذين يفقهون الأدب , فهل وقف على ما قاله دعبل في البرامكة حتى يسميه رثاء؟ وما يدرينا , فقد يكون هذا بعد موت الرشيد , وفد لا تكون رثاءًبل للعظة والاعتبار .."(90) , النقاط الأخيرة من الدجيلي , والفقرة انتهت .
ز - الرد على الأستاذ الدجيلي , ودعبل الموقف :
بادئ ذي المسعودي لم يعاصر الحدث , وإنما ولد بعد قرن من الحادثة , وتوفي (356 هـ / 967م), ولم يكن من الثقات الكبار , بدليل عبور البيتين عليه , وهنالك أدلة أخرى معروفة لدى المؤرخين ليست من موضوع بحثنا , المهم من المحال أن يرثيهم دعبل في عصر الرشيد أولاً , وإنما قالهما في عصره نعم , ولكن على سبيل التشفي والحنق من جبروتهم وطغيانهم واستغلالهم للآخرين أو للعظة والأعتبار كما ذكر الدجيلي أخيراً وهذا أضعف الإيمان , لأن الرجل عوّدنا من بعد على سخريته وهجائه لملوك المخرم (رجال أرقى منطقة في بغداد بعصره) , وآل وهب المتميزين ثراءً ومنزلة ً, والبرجوازيين والأرستقراطيين هذا عدا الخلفاء والوزراء والمسؤولين المتنفذين , و إذا رأيت دعبلا قد تساهل مع البرامكة , لأنّ الشاعر الثائر والمتمرد لم يتخذ موقفه الحاسم الجريء - وهذا اجتهادي - رغم تشيعه وكوفيته وقبيلته , ألا بعد تائيته الشهيرة التي ألقاها أمام الإمام الرضا (ع) , ومن ثم أمام المأمون سنة (201 هـ / 816م ) , وتشدد كثيرا وثارت تائرته بعد أن وصله إلى بغداد خبر سم الإمام وموته على يد المأمون كما يؤكد الشيعة (203 هـ - 818م ), علماً أن الخليفة المأمون بقى ثلاثة أيام حاسر الرأس , حافي القدمين , باكياًعليه , ودفنه إلى جنب أبيه هارون الرشيد , ولكنّ دعبلآ لم يقنع , واعتبر مظاهر الخليفة للتغطية ولدهائه , وهو يعرف المأمون جيدا وروى الأحاديث عنه , وكان دعبل في تلك الأيّام لاينافسه أحدُ أبدا,لا بشعره , ولا بشهرته , ولا بجرأته , وفيما أرى من تلك الأيام بدأ بهجومه اللاذع على الخلافة وأركانها , ومدح معارضيهم آل البيت , وبدأها بقصيدته الشهيرة (يا أمة السوء) , والعجيب أنّ المأمون عند رجوعه من خراسان إلى بغداد (204 هـ /819م) , طلب منه بإلحاح أن يقرأ القصيدة أمامه , وكان المأمون حليماً حكيماً بليغاً محنكاً شجاعاً كما يذكر معظم المؤرخين والرواة , وكان يحب شعره ويرويه , ورفض أي أحدٍ في عصره أن يمسه بسوء, وعصره بين (198 هـ - 218 هـ /813م - 833م) , والمأمون ولد قبل أخيه الأمين بستة أشهر سنة 170 هـ / 786م ) واسمه عبد الله , وأمه فارسية اسمها مراجل , و تقدم عليه أخوه محمد الأمين في الخلافة , لأن أمه هاشمية (زبيدة ) , وهو الحليفة العباسي الوحيد الذي ولد من أبوين هاشمييَن وحكم من موت الرشيد (193 هـ - 198 هـ / 808 - 813م) , أما قصيدة دعبل (يا أمة السوء) , كانت قاسية ضد العباسيين وبليغة جداً , لا تقل لي كيف وكان العصر ذهبياً؟! فالعصر بناسه كلهم الذين عاشوه , فالمعارض دعبل منهم والمأمون الحكيم الداهية منهم , تصفح كتب التاريخ تجد نصف عباقرة العرب والمسلمين من ذلك العصر , سنسلط الضوء على أبيات من قصيدة دعبل الشهيرة المذكورة سالفاً :
تأسفتْ جارتي لمّا رأتْ زَوَري***وعدّتِ الشيبَ ذنبـــاً غير مغتفر ِ
ترجو الصِّبا بعد أنْ شابتْ ذوائبُها**وقد جرتْ طلقاً في حلبة الكبر ِ
أجارتي! أنَّ شيبَ الرأس نفـّلني**ذكر الغواني وأرضاني من القدر ِ
لو كنتُ أركنُ للدنيـــا وزينتها*** إذنْ بكيتُ على الماضين من نفري
أخنى الزّمانُ على أهلي فصدّعهمْ*تصدعَ الشـّعْبِ لاقى صدمة الحجر ِ
أرى أمية معذورين إن قتلو ا*** ولا أرى لبني العبـــــاس ِ من عذر ِ
قبران في طوس خير الناس ِ كلـّهمْ*** وقبرُ شرّهمُ هذا مـــــن العبر ِ
ما ينفعُ الرجسُ من قبر الزكي ولا*على الزكيِّ بقرب الرجص من ضرر ِ
هيهات كلّ امرئٍ رهنٌ بما كسبتْ*** له يـــــــــداهٌ فخذْ ما شئتَ أو فذرِ ِ (91)
ينقل (المجلسي ) في (بحاره ) عن ابن أكثم، عن أبيه قال: أقدم المأمون دعبل بن علي الخزاعي رحمه الله ,وآمنه على نفسه فلما مثل بين يديه وكنت جالسا بين يدي المأمون، فقال: أنشدني قصيدتك الكبيرة فجحدها دعبل وأنكر معرفتها فقال له: لك الأمان عليها كما أمنتك على نفسك فأنشده.(92) , ويزيد الأصفهاني في (أعانيه) , وابن عساكر في (تاريخه ) ,والمفيد في (آماليه) :
"فضرب المأمون عمامته الأرض وقال: صدقت والله يا دعبل "
نقف عند هذا الحد من لمحات مسيرة دعبل الحياتية , والحلقات ستتواصل بصفته شاعر معارض كبير لسلطات العصرالعباسي الأول , ولكلّ عصر ٍدولة ٌ ورجالُ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#كريم_مرزة_الاسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟