مجدى زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 3916 - 2012 / 11 / 19 - 15:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تقع " الارض الذهبية " بين مجموعة من السلاسل الجبلية التى تشكل حدودا طبيعية بينها وبين البلدان الاسيوية المجاورة. تغسل امواج خليج البنغال وبحر أندمان ساحلها الواقع فى جنوبها الغربى والبالغ طوله اكثر من 2,000 كيلومتر, تحدها من الغرب بنغلاديش والهند, ومن الشمال الصين, ومن الشرق لاوس وتايلاند, انها اكبر من مدغشقر بقليل وأصغر من ولاية تكساس بأميركا. ما اسم هذه الارض ؟ اسمها ميانمار, بورما سابقا.
دعاها المستوطنون الاوائل الارض الذهبية بسبب غناها بالثروات الطبيعية : النفط والغاز, النحاس, والقصدير, الفضة, ومعادن اخرى, بالاضافة الى الحجارة الكريمة كالسفير, الزمرد, الياقوت, واليشم, وتشمل الثروات الاخرى الغابات المطيرة المدارية ذات الخشب النادر كالساج, الوردى, والبدوك. والغابات هى ايضا موطن الكثير من الحيوانات البرية - كالسعادين, الببور, الدببة, جواميس الماء, والفيلة, هذا اذا ذكرنا القليل. لكن الثروة الحقيقية للارض الذهبية هى شعبها.
شعب ميانمار لطيف وهادئ عادة, كما انه مهذب ومضياف, فهو يعامل الزوار باحترام وكرامة. وعموما يخاطب الاولاد الرجال والنساء الاكبر سنا بالتعبير عمى وعمتى.
غالبا مايعلق زوار ميانمار على البشرة الناعمة للاكبر سنا, وكما تقول النساء, ان احد اسباب هذه البشرة النضرة هو مستحضر للوجه شائع لونه ذهبى باهت - ثناكا - يؤخذ من شجرة الثناكا (تفاح الفيل). تقوم النساء بسحق جزء من غصن بواسطة حجر صلب ومسطح واضافة القليل من الماء فيصنعن عجينة ناعمة يضعنها على وجههن بأشكال فنية. بالاضافة الى الثناكا لها مفعول قابض ومبرد فى البشرة, فهى تحميها من الشمس المدارية القاسية.
ان اللباس النموذجى للرجال والنساء فى ميانمار هو اللونجى, وصنع هذا اللباس سهل اذ تخيط قطعة قماش, طولها نحو مترين, عند طرفيها لتشكيل دائرة. وبعد ان تلبسها المرأة, تلفها حول وسطها, كتنورة, وتثنى الطرف الطليق الى الداخل وتثبته عند خصرها. ومن ناحية اخرى, يأخذ الرجل الطرفين ويربطهما ربطة رخوة فى الامام عند الخصر. ولأن اللونجى محتشم وفضفاض, فهو ملائم خصوصا للمنطقة المدارية.
تظهر زيارة الاسواق ان شعب ميانمار موهوب جدا, ماهر فى نسج الحرير وصناعة الحلى يدويا ونحت الخشب. فخشب الساج والبدوك والانواع الاخرى يحول الى تماثيل اخاذة للبشر, الببور, الاحصنة, جواميس الماء, والفيلة. حتى الاشياء المستعملة يوميا كالطاولات, الفواصل بين بين الغرف, والكراسى تزخرف بنقوش معقدة. ولكن اذا كنتم تريدون شراء شئ فاستعدوا للمساومة.
شعب ميانمار بارع ايضا فى صنع الاوانى المطلية باللك المزخرفة بشكل جميل - طاسات الخمر, الاطباق الكبيرة, والصناديق ذات الاغطية. لكن ما يجعل اوانيهم فريدة هو تصاميمها غير المقيدة بقواعد معينةورسومها المنقوشة. يبدأ الشكل الاساسى بشبكة منسوجة من شرائط خيزرانية رفيعة. (الانواع الاجود تبدأ بنسيج من الخيزران وشعر الفرس معا) ويضيف الحرفى الى هذا الهيكل سبع طبقات من طلاء اللك المصنوع بمزج زيت الثيتساى, او شجرة اللك, بالعظم الحيوانى المطحون ناعما والمحروق.
عندما يجف طلاء اللك, ينقش الحرفى تصميما على سطح الاناء بأداة رفيعة من الفولاذ. ثم بعد القليل من التلوين والتلميع, لا تنتج فقط قطعة فنية جميلة بل ايضا قطعة نافعة للبيت.
ان نحو 85 فى المئة من شعب ميانمار بوذيون, والبقية فى معظمهم مسلمون ومسيحيون. وكما فى انحاء كثيرة من جنوب شرق اسيا, يلعب الدين دورا مهما فى حياة معظم الشعب فى ميانمار. لكن بعض العادات الدينية ليس مألوفا لزائرين كثيرين.
مثلا, يقسم الرهبان البوذيون الا يمسوا امرأة. لذلك تنتبه النساء بدافع الاحترام لئلا يقتربن كثيرا من الرهبان. حتى ان العادات الدينية لها تأثير فى التنقل بالباص, فالذى يأتى من البلاد الغربية قد تحيره لافتة فى الباص تقول : " من فضلكم لا تسألوا السائق متى يتوقع ان نصل ". فهل السائقون مرهقون من اسئلة العمال غير الصبورين الذين يركبون الباص كل يوم الى عملهم ومنه ؟ كلا فهناك يؤمن البوذيون ان الارواح تنزعج من هذا السؤال وقد تؤخر الباص.
ان تاريخ ميانمار الابكر غامض, لكن يبدو ان عدة فرق قبلية هاجرت اليها من البلدان المجاورة. وعلى مايظهر, اعطى شعب المون هذه الارض الاسم ثوونابومى - الذى يعنى الارض الذهبية. اتى التيبتيون البورميون من جبال الهيمالايا الشرقية والطاييون مما هو الان جنوبى عربى الصين. وارض ميانمار الوعرة ابقت القبائل منعزلة, لذلك توجد فرق قبلية ولغوية عديدة.
فى اوائل القرن ال19, ابتدأ البريطانيون يأتون الى ميانمار من الهند المستعمرة حديثا. فى البداية استوطنوا الاقليم الجنوبى لكن اخيرا احتلوا البلد بكامله. وبحلول سنة 1886 كانت بورما كما دعيت ميانمار انذاك, قد ضمت الى الهند البريطانية.
اثناء الحرب العالمبة الثانية, صارت هذه الارض مركزا لمعارك عنيفة : وفى اشهر قليلة مرت بسرعة فى سنة 1942, اجبرت الجيوش اليابانية البريطانيين على الانسحاب, وفى ما بعد, بنيت " سكة الموت الحديدية " الرديئة السمعة. مر خط السكة الحديدية هذا البالغ طوله 400 كيلومتر عبر دغل ماحل وارض جبلية لوصل ثانفيوزيات فى بورما, بنونغ بلادوك فى تايلاند. وبسبب النقص فى المعادن, جلب معظم خط السكة الحديدية فى مالايو الوسطى (الان ماليزيا), وقد صار لاحقا جزء صغير من هذا المشروع - هو بناء جسر فوق نهر كواى - الاساس لفيلم سينمائى مشهور.
بمساعدة 400 فيل, بنى السكة الحديدية اكثر من 300,000 رجل - اسرى الحرب ومدنيون من الهند وبورما, وقد مات عشرات الالاف وهم يقومون بهذا العمل. استعمل خط السكة الحديدية هذا قليلا لأن الحلفاء قذفوه تكرارا بالقنابل واخيرا هجر. ولاحقا نزعت غالبية خطوط هذه السكة الحديدية واستعملت فى مكان اخر.
اخيرا, خاض البريطانيون معارك ضارية ونجحوا فى استعادة البلد من اليابانيين سنة 1945, لكن الحكم البريطانى لم يدم طويلا لأن بورما حصلت على استقلالها من بريطانيا فى 4 كانون الثانى 1948. تبنت الامم المتحدة اسم البلد الجديد, ميانمار.
على مر القرون كانت لميانمار عواصم كثيرة, مثلا, فى وسط ميانمار تقع مدينة منلاى, التى يدعوها معظم الناس المدينة الذهبية. كانت هذه المدينة البالغ عدد سكانها 500,000 نسمة العاصمة الاخيرة قبل الاحتلال البريطانى, وفيها تنتشر مئات الباغودات من كل العصور. لقد منح الملك مايندون مدينة مندلاى صفة ملكية سنة 1857 عندما بنى فيها قصرا كبيرا له ولملكاته. تقع المدينة القديمة البالغ مساحتها 4 كيلومترات مربعة داخل جدران علوها 8 امتار وثخانتها عند القاعدة 3 امتار, وبمحاذاة الجدران يمتد خندق مائى عرضه 70 مترا.
فى سنة 1885, نفى البريطانيون خلف مايندون الملك نيباو, الى الهند دون ان يمسوا القصر. اما الحرب العالمية الثانية ففعلت العكس وسوت النيران القصر بالارض. لكن شعب ميانمار بنوا بشجاعة نسخة مطابقة ممتازة للقصر بالاضافة اتلى مبانيه الخشبية الحمراء والذهبية الفخمة فى موقعه الاصلى. وهو مفتوح ليراه الزوار.
على بعد 200 كيلومتر فى اتجاه مجرى النهر من مندلاى تقع باغان. انها عاصمة سابقة اخرى وقد اسست خلال الالف الاول من العصر الميلادى وبلغت اوج عظمتها فى القرن ال11. لكنها هجرت بعد 200 سنة فقط. ورغم ذلك, تنتشر بين بعض القرى الصغيرة وحولها فى هذا الموقع مئات الهياكل والباغودات المتهدمة - اصداء مجد غابر.
والعاصمة اليوم, يانغون, هى مدينة ناشطة يبلغ عدد سكانها اكثر من ثلاثة ملايين شخص وتعج بوسائل النقل البواقة من سيارات وباصات وتاكسيات مفتوحة الجانبين. ورغم ان الكثير من الابنية القديمة, المذكرة بزمن الاستعمار البريطانى, تصطف على جانبى شوارع بانغون العريضة والمشجرة, تظهر الان فى افق المدينة الفنادق ومبانى المكاتب الشاهقة العصرية.
يظهر ايضا فى هذا الافق برج الباغودا شوى داغون المطلى بالذهب الذى يصل ارتفاعه الى 98 مترا. يصل عمر هذا الباغودا 2,500 سنة وهو يكشف عن الغنى والعبقرية فى الهندسة المعمارية للازمنة الباكرة. وكما يزعم, تحيط نحو 7,000 ألماسة وغيرها من الاحجار الكريمة بالبرج. ويتوج رأسه بألماسة واحدة وزنها 76 قيراطا. وكما حدث للكثير من المبانى القديمة فى ميانمار, انزلت به الزلازل والحروب اضرارا جسيمة, وقد رمم جزء كبيرا منه.
لكن البعض يدعون ان الباغودا سولاى الذهبى هو حقا اجمل ما فى يانغون. فبارتفاع يبلغ 46 مترا يشكل هذا الباغودا البالغ عمره 200 سنة جزيرة مرور كبيرة وذهبية عند ملتقى اربعة شوارع رئيسية للمدينة, ويحيط به عقد من المتاجر.
هذه هى ميانمار التى سمعنا عنها كثيرا فى الايام الاخيرة.
#مجدى_زكريا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟