|
على نفسها جنت براقش ..امريكا تفقد القيادة
يعقوب بن افرات
الحوار المتمدن-العدد: 1 - 2001 / 12 / 9 - 01:40
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
نضع بين ايديكم هذا المقال المؤلف من تسعة فصول، وهو محاولة للتعاطي مع الجوانب المتعددة لاولى حروب هذا القرن التي اعلنها النظام الامريكي سعيا لاعادة سيطرته على العالم. في هذه الصفحات تحليل نقدي ومعلومات قيمة ومسهبة للظروف والاحداث والمصالح المتناقضة التي اوصلت العالم الى هذه المرحلة المصيرية والخطيرة.
يعقوب بن افرات
حرب امريكية على صنيع امريكي
فور وقوع الهجوم الانتحاري في واشنطن ونيويورك، أعلن الرئيس الامريكي، جورج بوش، الحرب على الارهاب مطلقا العنان لاول حروب القرن الحادي والعشرين. وسارعت اوروبا للانضمام لقافلة الحرب ملبيةً نداء البند الخامس في حلف الاطلسي الذي أُعلِن استخدامه للمرة الاولى في تاريخه. حسب هذا البند يعتبر الاعتداء على احد اعضاء الحلف اعتداءً على كل اعضائه، الامر الذي يلزم بقية الاعضاء بالتعاون على وقف الاعتداء. ولكن ما ان بدأت وطأة الضربة تخف، حتى تنبّه المؤتمرون في قاعة الحلف ببروكسل بكثير من الدهشة، الى ان البند الخامس المذكور غيّر الهدف الذي من اجله وُضع قبل 50 عاما، والذي كان المقصود منه ان تقوم الولايات المتحدة بدور الدفاع الرئيسي في حالة تعرض احدى الدول الاوروبية لهجوم من دول حلف وارسو الذي قاده الاتحاد السوفييتي. الاجتماع الاخير للحلف في 26 ايلول الذي تم بحضور نائب وزير الدفاع الامريكي بول ولفوفيتش، ووزير الدفاع الروسي سرغي ايفانوف، لم يساهم في التقليل من الشعور بالاستغراب. فقد كان الاجتماع مسبوقا باستعدادات عسكرية مكثفة اعادت للاذهان مشاهد من حرب الخليج، ونقلت الفضائيات التلفزيونية تحركات حاملات الطائرات الضخمة، الامر الذي دفع اعضاء الحلف لمطالبة الولايات المتحدة بكشف خططها الحربية واظهار الادلة التي تثبت تورط جماعة بن لادن بالهجوم الاخير. ولكن شيئا من هذا لم يحدث، مما حوّل الدهشة الى ارباك كبير. وأفادت "نيويورك تايمز" ان"عددا من الدول الاوروبية أصرّت، دون جدوى، على قبول ادلة دامغة تبرر الهجوم على شبكة تنظيم "القاعدة" التابع لاسامة بن لادن في افغانستان". اما نائب وزير الدفاع الامريكي ولفوفيتش فقد امتنع عن مطالبة الحلف بالانخراط الفعلي في اي عمل حربي، قائلا: "اذا احتجنا الى عمل جماعي فسنطلب ذلك. ولكننا في الوقت الحالي لا نتوقع ذلك".(1) وقد عبّر عدد من المخططين العسكريين الامريكيين عن احباطهم، ازاء عدم وجود خيارات عسكرية ملائمة في بلد مثل افغانستان الذي دُمّر تماما بسبب الحروب المتواصلة. فاضطر بوش لتعديل خططه للتخفيف من المخاوف المتزايدة من حملة عسكرية ضخمة لا يُعرف مداها ولا تُحمد عقباها. وتخشى الادارة الامريكية من التسبب في كارثة انسانية، خاصة ان ملايين اللاجئين الافغان نزحوا باتجاه باكستان والحرب لم تبدأ بعد. (2) ماذا الذي حدث بعد اسبوعين من وقوع الهجوم الذي زعزع العالم برمته وخلق هذا النوع من الارباك؟ الاسباب بطبيعة الحال كثيرة، ولكنا لا نكون مخطئين او متهورين اذا اكدنا قبل تبيان كل الحقائق ان امريكا هي المسؤولة الاولى والاخيرة عما حدث في 11 ايلول على اراضيها. قد تكون افغانستان اسما اسطوريا للكثيرين ولكنها معروفة جدا للامريكان، وهي مرتبطة باحداث مصيرية ساهمت في تقويض اركان الاتحاد السوفييتي وتفرد امريكا بحكم العالم. النظام العالمي الجديد بدأ في افغانستان ثم وصل اوجه في حرب الخليج الذي اعلنت فيه كافة الدول الاسلامية مبايعتها لامريكا. ولكن تبين، لسوء حظ الامريكان، ان هناك بين "المجاهدين" ضد الاتحاد السوفييتي من يرفض قبول العالم الامريكي الجديد. ورأت هذه المجموعة، الشاذة عن الاجماع، ان المنتصر الحقيقي والوحيد من سقوط الاتحاد السوفييتي ليس النظام الرأسمالي العالمي، بل الاسلام. بالنسبة لها لم يكن "المجاهدون" الافغان وسيلة بيد امريكا لدحر منافسها الشيوعي، بل بالعكس: كانت امريكا وسيلة بيد الاسلام لدحر "امبراطورية الكفر" و"السرطان الاحمر". ولكن "سوء التفاهم" هذا لم يثر مخاوف امريكا ومخابراتها لاكثر من سبب، اولها عدم التكافؤ بين الاطراف. اذ كيف لدولة عظمى ان تشغل نفسها بمواجهة مجموعة هامشية من بضعة مقاتلين متفرقين في كل انحاء العالم لا سلاح لهم سوى البندقية؟ ثم كيف كان بامكان امريكا ان تحدد ان عدوها هو نفسه حليفها الذي لا يزال يدعم مساعيها المستمرة لتمزيق الاتحاد اليوغسلافي في البوسنة والهرسك وكوسوفو، ويساعد شركاتها النفطية العملاقة في بسط سيطرتها على منابع النفط في بحر قزوين، من خلال افتعال الحرب في الشيشان ضد الاتحاد الروسي؟ المشكلة الاكبر التي وضعت غشاوة على العيون الامريكية انها لم تأخذ بالحسبان ان يكون عدوها هو نفسه الذي تموله وتسلحه من خلال اهم حلفائها في المنطقة: باكستان والسعودية وقطر والامارات. فحكومة طالبان الافغانية التي سيطرت على الحكم بالقوة، لم تحظ باعتراف سوى من ثلاث دول هي باكستان والسعودية والامارات، هذا بالاضافة الى انها تمتعت بتمثيل رسمي في نيويورك. السؤال الذي تجب مواجهته هو كيف واصلت هذه الدول دعم طالبان التي ترى في اسامة بن لادن قائدا دينيا لها، حتى بعد ان اعلن فتواه الشهيرة التي تدعو للجهاد ضد امريكا في شباط 1998؟ ولماذا استهترت امريكا بهذا التهديد غير المسبوق في تاريخها المعاصر؟ على من يجتهد لفهم جذور هذه الحرب وابعادها الخطيرة، ان يتعمق في اسبابها وطبيعة الاطراف المتنازعة. ولكن علينا الاشارة انه قد يكون اسامة بن لادن من فجّر الفتيل، الا ان افكاره المتطرفة غير نابعة من تفسير ديني سلفي طريف بل من واقع سياسي اجتماعي واقتصادي تواجهه كل شعوب العالم على اختلاف ديانتها واعراقها وقومياتها. فالتطرف ليس صفة اسلامية، بل هو ظاهرة منتشرة نجدها لدى الصرب والفاشيين في ايطاليا والنمسا، وفي المذابح القبلية في افريقيا، وفي العنصرية داخل الولايات المتحدة نفسها، الامر الذي يدل على اننا امام مرض اجتماعي عالمي يسببه النظام الرأسمالي الهمجي الذي تقوده الولايات المتحدة.
افغانستان - الدولة المنسية
بين الاعوام 1979-1989 انشغلت امريكا بافغانستان، وهي الفترة التي تواجدت فيها القوات السوفييتية في البلاد. وكان في الاجتياح السوفييتي للاراضي الافغانية تهديد على المحور الامريكي في المنطقة والذي ضم كلا من باكستان المجاورة وتركيا وايران. وما زاد المخاوف الامريكية اندلاع الثورة الاسلامية في ايران والاطاحة بنظام الشاه في نفس السنة، الامر الذي ادى لاختلال موازين القوى الاقليمية. ولم تطمئن امريكا لما يحدث في الشرق حتى بعد ان حققت مكسبا استراتيجيا هاما وكسبت مصر الى معسكرها بتوقيع معاهدة كامب ديفيد مع اسرائيل في نفس السنة (1979). الخطوة الاولى للتدخل الامريكي المضاد في افغانستان، استدعت اولا حصول تحولات سياسية داخلية عميقة في الولايات المتحدة وباكستان. ففي عام 1980 انتخب رونالد ريغان رئيسا للولايات المتحدة، وجاء هذا بعد ثلاثة اعوام من الانقلاب في باكستان الذي نفذه الجنرال ضياء الحق على حكومة ذو الفقار علي بوتو، وبدأ الغزل بين البلدين. فحال تسلمه الادارة الامريكية ازال ريغان عن باكستان العقوبات الاقتصادية التي كان الرئيس الاسبق كارتر قد فرضها على البلاد بسبب تسلحها النووي وانتهاكها لحقوق الانسان. وحظيت امريكا بثقة باكستان مقابل مساعدات مالية وعسكرية استمرت لمدة ست سنوات، تحولت فيها باكستان الى ثالث اكبر دولة تتلقى المساعدات الامريكية.(3) وقد اختار ضياء الحق تبني الفكر الاسلامي لاضفاء الشرعية على حكمه الذي تضعضع بسبب قمعه للاحزاب والحريات الديموقراطية (4). ولتثبيت هويته الجديدة لجأ الجيش لحركات دينية مثل "جماعة الاسلام" التي اسسها الملا مودودي عام 1941، ومنحها صلاحية التحكم بالجامعات وجهاز التعليم، كما افسح لها المجال للتأثير بقوة في وسائل الاعلام الحكومية. وامتد سيطرة هذه الجماعة لتصل كل مرافق الحياة بضمنها الحكومة والجيش، الامر الذي اقلق خصومه من الاحزاب الاخرى (5). وقد وصل الغزل بين الجيش والحركات الاسلامية الى درجة تبني الشريعة كقانون للدولة عام 1980، وكان الهدف من ذلك استقطاب الرأي العام الباكستاني. (6) ولم يؤثر هذا التحول نحو الاسلام على العلاقة بين امريكا وباكستان، بل بالعكس كان لها تأثير مصيري على السياسة الامريكية في افغانستان في الثمانينات. فقد قبلت وكالة الاستخبارات الامريكية CIA موقف المخابرات الباكستانية ISI التي رأت افضلية في الارتكان على الجماعات الاسلامية المتطرفة في افغانستان بدل الشرائح الليبرالية المثقفة. واختار ضياء الحق الحزب الاسلامي الذي ترأسه حكمتيار ليكون الحليف الاساسي والزعيم الرئيسي للمجاهدين الافغان المسلمين في مقاومة السوفييت. السبب في هذا الاختيار ان حكمتيار ينتمي لقبيلة الباشتون التي تقطن على جانبي الحدود الغربية مع باكستان، بينما انتمى زعماء آخرون، امثال الطاجيكيين برهان الدين رباني واحمد شاه مسعود، لاقليات اقل انصياعا لباكستان. (8) وقد وصل الدعم العسكري الامريكي للمجاهدين عام 1987 الى 700 مليون دولار، وفاق بكثير الدعم الذي حصلت عليه باكستان من واشنطن. وزوّد الCIA المقاتلين الافغان باحدث المعدات العسكرية من كل الاصناف عدا الامريكية وذلك لتمويه الوجود الامريكي في المنطقة (9). ولتسهيل الاجراءات المالية، زودت السعودية الافغان بالاموال من خلال حسابات سرية ادارتها الاستخبارات الامريكية. مع انسحاب القوات السوفييتية من افغانستان احتفلت الولايات المتحدة بانتصارها الكبير، وسحبت هي اهتمامها بمصير افغانستان نفسها. غداة الانسحاب السوفييتي تعرضت البلاد لويلات الحروب الاهلية بين القوى الاسلامية التي تناحرت على السلطة. ولم يتمكن حكمتيار من احكام سيطرته على العاصمة كابول رغم الدعم الكبير الذي حظي به من الحكومة الباكستانية. وبقيت افغانستان منقسمة بين القوتين الاساسيتين حكمتيار من جهة، وشاه مسعود من جهة اخرى، الامر الذي عرض البلاد لوضع دائم من الحرب والفوضى.
طالبان تُحكم سيطرتها على افغانستان
نشأت حركة طالبان في المدارس الدينية التي اسستها "جمعية علماء الاسلام" الباكستانية. وكانت هذه الجمعية حزبا معزولا في الساحة السياسية في باكستان حتى عام 1993، وعلا شأنه عندما دخل في الائتلاف الحكومي مع حزب الشعب الباكستاني برئاسة بنازير بوتو. واعتبر هذا الحزب الآلية الرئيسية لتجنيد طلاب المدارس الدينية في باكستان الى حركة طالبان الافغانية التي دُربت من قبل المخابرات الباكستانية. (10) لم يكن لحركة طالبان دور مستقل في الساحة الافغانية حتى شهر آب 1994، عندما قررت السلطة في باكستان استغلال هؤلاء الطلاب لاحكام سيطرتها على افغانستان، وذلك بعد ان تراجعت عن دعمها لحزب حكمتيار الذي اغضب السعودية بدعمه للعراق ابان حرب الخليج.(11) وتحضيرا لتغيير الحليف، قام رئيس جمعية علماء الاسلام الملا فضل الرحمن الذي ترأس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، بزيارات متكررة للسعودية حيث اقنع مدير المخابرات السعودي، تركي الفيصل، بزيارة مدينة قندهار الافغانية، معقل حركة طالبان. واثمرت هذه المساعي عن التزام سعودي بتمويل طالبان.(12) وكان للقرار السعودي بدعم الحركة اسباب اخرى عقائدية. فحزب "جمعية علماء الاسلام" منتمٍ الى مذهب اسلامي تأسس في عام 1867 في مدرسة دينية ببلدة ديوباند في الهند، ويتميز باجتهاده الخاص السلفي في تفسير الشريعة الاسلامية. وقد اكتسب هذا التيار اهمية في نظر السعوديين لقربه من المذهب الوهابي الذي تتبناه عائلة آل سعود. وهو الامر الذي دفع بالسعودية لتمويل شبكة من 4000 مدرسة دينية تتبنى المذهب نفسه، وتتخذ مقرا لها في منطقة بيشاور غربي باكستان المتاخمة لافغانستان. وتستوعب هذه المدارس طلابا من عائلات اللاجئين الافغان والعائلات الميسورة، يصل عددهم الى نحو نصف مليون طالب.(13) امريكا ايضا تجندت لدعم طالبان. فتشدد الحركة تجاه الشعب الافغاني لم يكن ابدا في اعتبارات امريكا التي نظرت الى ابعد من ذلك: الى نفط بحر قزوين. ولفرض سيطرتها على هذه الموارد النفطية تحتاج الدولة القوية في العالم الى قوى محلية تستند اليها، بالاضافة الى العربية السعودية. في نهاية عام 1997 تم التوقيع على اتفاق بين مجموعة من شركات الطاقة التي تضم شركة UNOCAL التي تتخذ من كاليفورنيا مقرا لها، وشركة DELTA OIL السعودية، وبين حكومة تركمانستان، لمد خط لانابيب الغاز طوله 790 كيلومترا يربط بين تركمانستان وباكستان ويقطع الاراضي الافغانية. وهنا جاء دور طالبان التي تعهدت للحكومة الباكستانية بالحفاظ على الامن في المنطقة التي ستمر منها الانابيب ليكون بالامكان تنفيذ المشروع.(14) البرهان على ذلك يوفره نائب مدير شركة UNOCAL كريس تغارت الذي صرّح لصحيفة "ترود" الروسية بانه "اذا تمكنت طالبان من فرض الاستقرار في افغانستان، ونجحت في الحصول على اعتراف دولي، فان الظروف لبناء خط الانابيب ستتحسن" (15). ولكن، تحت ضغط سياسي قوي، تزايد بعد تفجير السفارتين الامريكيتين في دار السلام ونيروبي اتهمت بها جماعة بن لادن النشطة في افغانستان، اعلنت الشركة الامريكية في كانون اول (ديسمبر) 1998عن انسحابها من المشروع.(16) "انتصارات" طالبان لم تأت اذن من قوة الهية، بل من المخابرات والجيش الباكستانيين، ومن الدعم المالي السعودي والامريكي. ولكن هذا الدعم الهائل ما كان ليمكّن طالبان من بسط سيطرتها على الجزء الاكبر من البلاد وبضمنها العاصمة كابول، لو ان الظروف التي تعيشها افغانستان لم تكن تعيسة ومتخلفة لابعد حدود. ان نظاما كطالبان لا يمكن ان يطبَّق الا في مجتمع تنقصه ادنى مقومات الدولة المعاصرة، وافغانستان هي البلد الامثل لحركة من هذا النوع، والامر الوحيد الذي تمكنت من جلبه هو بعض الاستقرار الامني الذي لم تشهده البلاد سنوات طويلة بسبب الحروب الاهلية. (17)
برنامج طوباوي لاعادة الخلافة
تزامنت عودة اسامة بن لادن الى افغانستان مع دخول قوات طالبان الى العاصمة كابول في 26 ايلول 1996. وقد وصل بن لادن لافغانستان في ايار من نفس السنة قادما من الخرطوم، بعد ان اضطرت الحكومة السودانية لطرده من البلاد اثر ضغط من السعودية ومصر، لاشتباهه بالتورط في محاولة اغتيال الرئيس المصري، محمد حسني مبارك، اثناء زيارته لاثيوبيا عام 1995. ولسنا هنا بصدد سرد تاريخ بن لادن وبطولاته، بل في شرح الابعاد السياسية لوجوده في افغانستان وعلاقته العضوية بحركة طالبان. بن لادن، كامريكا، لا يكترث كثيرا بمصير الشعب الافغاني. فهو لم يعمل على اعادة بناء البلد المدمر، بل رأى في الدمار ميزة تخدم هدفه تحويل البلد الى قاعدة خلفية ومركز لتدريب انصار الجهاد في كل انحاء العالم الاسلامي. حركة طالبان التي فرضت حكمها عام 1996 لم تحاول بناء جهاز دولة يحكم حسب المعايير العصرية خدمةً للشعب الافغاني، بل طبقت قوانين الاسلام الوهابي الصارم، وانشأت لغرض فرضه شرطة خاصة. فصارت الموسيقى والفن من المحرمات، ودفعت النساء الثمن الاكبر لهذه السياسة فقد حرمن من التعليم والعلاج الطبي. وقد تزامن هذا مع ازدياد الفقر والجوع بسبب الجفاف. اما باكستان فقد استفادت من هذا الترتيب الجديد الذي فرض نوعا من الاستقرار، ومنع تدفق المزيد من اللاجئين للاراضي الباكستانية. وكانت الفائدة الاهم ان افغانستان تحولت الى ساحة خلفية ذات اهمية استراتيجية لباكستان الموجودة في نزاعات اقليمية مستمرة تحديدا مع الهند. ولم يقتصر الامر على العمق الجغرافي، بل كان لطالبان وبن لادن مساهمة مهمة في الحرب التي اندلعت في اقليم كشمير على الحدود الهندية الباكستانية في ايار 1999. من هنا، يمكننا الاستنتاج ان افغانستان، هذا البلد المنكوب، تحولت الى ساحة مفتوحة تخدم مصالح خارجية على حساب شعبها. فبن لادن اعتبرها مجرد قاعدة خلفية لعملياته، وطالبان نظرت اليها كحقل لتنفيذ اجتهاد سلفي يدرَّس في المدارس الدينية التابعة لها، اما باكستان فجندتها لصراعها مع الهند. وقد اخضعت طالبان مصير افغانستان لمصير الامة الاسلامية برمتها، وضحّت بمستقبلها في سبيل مستقبل الامة ككل. ولكن قبل خدمة الاسلام، كان على طالبان ان تخدم امريكا، وتوظف بلادها لصالح صراعات اقليمية ودولية بدأت في الشيشان وانتقلت للبلقان ثم الفيليبين. يتسم برنامج بن لادن الاستراتيجي بالطوباوية. فهو يسعى لتوحيد كافة المسلمين تحت راية الخلافة الاسلامية، بمعنى اعادة العالم الى نظام القرون الوسطى. ويعتقد بن لادن ان هذا الهدف لن يتحقق الا بالقوة، ولطرد الوجود الاجنبي من بلاد المسلمين والغاء كل الحدود القومية، يجب اولا الاطاحة بكل الانظمة العربية. وقد شرح بن لادن نفسه في مقابلة لقناة "الجزيرة" ان "الجهاد" هو الفارق النوعي الذي يفصل بين موقفه وبين مواقف بقية التيارات الاسلامية التي تسعى هي الاخرى لاعادة الاسلام لما كان عليه في عهد الخلفاء الراشدين. بن لادن يريد ان يرى بام عينه النظام الحالي وهو ينهار، كما رأى انهيار البنايات الامريكية. وهو لتحقيق ذلك لا يريد الطريق الطويلة التي تتطلب بناء حزب والعمل الدؤوب لتنظيم الجماهير في اطاره وتوعيتها حتى تكون جاهزة للانقلاب على الانظمة الحاكمة. انه يفضل الطريق القصيرة، طريق الجهاد الذي سيؤدي في نظره الى ايقاظ الجماهير وتحميسها للقيام بالثورة على النظام. ما غاب عن ذهن بن لادن ان تعاطف الجماهير مع العمليات الارهابية نابع من احباطها ويأسها واستيائها العميق من سياسة امريكا ونظامها، وليس بمقدور اليأس ابدا ان ينقلب الى برنامج عمل للتغيير. رغم الاثر العالمي الرهيب وغير المسبوق الذي تركته العمليات التي خطط لها، الا ان بن لادن لم يأت في واقع الامر باستراتيجية جديدة. فقد سبقته مجموعة بادر ماينهوف في المانيا والكتائب الحمراء في ايطاليا وجماعة مونتونيروس في الارجنتين. هذه الجماعات وإن كانت شيوعية، الا انها كانت مثل جماعة بن لادن، قصيرة النفس، وسعت لاحداث التغيير السريع مستخدمة الارهاب للانقلاب على الانظمة. غير انها فشلت فشلا ذريعا وادت بالحكام لفرض حالة الطوارئ الامر الذي مهد للقضاء عليها نهائيا، وسدد في نفس الوقت ضربة للحركة الجماهيرية المعارضة وقلص من حقوقها. هذه الجماعات تبنت الماركسية كفكر، ولكنها اختلفت مع الاحزاب الشيوعية في اسلوب التطبيق، وفضلت "الجهاد" او الكفاح المسلح البحت، على تجنيد الجماهير من خلال النقابات والاحزاب السياسية. لقد كان حريا ببن لادن ان يتعلم شيئا من مصير هذه الجماعات "الجهادية" الماركسية المتطرفة، الا ان حقده على الطبقة العاملة والاشتراكية حال دون ذلك.
جبهة الجهاد الاسلامية العالمية
في شباط 1998 تم الاعلان عن تأسيس "الجبهة العالمية الاسلامية لجهاد اليهود والصليبيين". وبدأت الجماعات الاسلامية المختلفة المنضوية تحت هذه الجبهة، بقيادة اسامة بن لادن وقائد جماعة الجهاد المصرية ايمن الظواهري، بتحضير وتنفيذ عمليات ضد اهداف امريكية في المنطقة. جاءت هذه العمليات تنفيذا لفتوى اصدرتها هذه الجبهة مفادها: "ان حكم قتل الامريكان وحلفائهم، مدنيين او عسكريين، فرض عين على كل مسلم امكنه ذلك في كل بلد تيسر فيه، وذلك حتى يتحرر المسجد الاقصى والمسجد الحرام من قبضتهم، وحتى تخرج جيوشهم عن كل ارض الاسلام". (عن "القدس العربي"، شباط 1998) صدرت هذه الفتوى في ظل التراجع الكبير الذي اصاب الجماعات المجاهدة في الدول العربية. فبعد ان وضعت الحرب الافغانية ضد السوفييت اوزارها، تحول نحو عشرة آلاف عربي افغاني الى عاطلين عن العمل، فتجندوا للشبكة الواسعة التي يديرها بن لادن. الهدف الاول الذي وضعته هذه الجماعات نصب عينيها كان الجزائر حيث انقلب الجيش على جبهة الانقاذ الاسلامية التي فازت في الانتخابات عام 1991. وفي خريف 1996 أعلنت "الجماعة الاسلامية المسلحة" التابعة لبن لادن الجهاد على الجيش وعلى جماعات الدفاع القروية التي شكلها الجيش لردع المجاهدين. وادى هذا "الجهاد" ضد المسلمين، لقتل مئات آلاف الابرياء بايدي الجماعات "الجهادية" والجيش الجزائري معاً. واستمر المسلسل الدموي حتى خريف 1997 باعلان الجناح المسلح لجبهة الانقاذ الاسلامية وقف اطلاق النار، الامر الذي عزل جماعة بن لادن التي لم توافق على ذلك وواصلت المذابح وحدها.(18) ولم يكن مصير الجماعات الجهادية في مصر بافضل حالا. فقد فشلت كل محاولاتها لاسقاط النظام من خلال العمليات الارهابية التي استهدفت رموزا في السلطة، مثل وزير الداخلية حسن الالفي في آب 1993 ورئيس الوزراء عاطف صدقي في تشرين ثان من نفس السنة. ولكن هذا الفشل لم يثنها عن مواصلة اعتداءاتها، فاقترفت مذابح بحق السياح الاجانب في قلب القاهرة والاقصر اواسط التسعينات، مسببةً ضررا جسيما للاقتصاد المصري المعتمد على السياحة. ثم هاجمت تجمعات الاقباط المسيحيين، في محاولة لفرض نفوذها من خلال اثارة النزعات الطائفية. الا ان الجمهور المصري فضّل التيار الاسلامي المعتدل الذي اختار الحفاظ على صلته بالسلطة وامتنع عن المخاطرة بامتيازاته ومؤسساته، من الوظائف في الجامعات والمساجد وسلك التعليم، الى النقابات والمؤسسات الخيرية التي تعمل تحت انظار ورقابة السلطة. الضربة الموجعة الاخيرة تلقاها التيار الاسلامي الجهادي في السودان. ففي الانقلاب الذي وقع نهاية عام 99 وُضع حسن الترابي، اهم رجل دين والرجل الاول في حكومة عمر البشير العسكرية، في الاقامة الجبرية، وسمح في الوقت نفسه بفتح مكتب لوكالة الاستخبارات الامريكيةCIA على الاراضي السودانية. تجارب الحركات الجهادية في الدول العربية تشير الى ان وضع العالم العربي يختلف تماما عن الواقع المزري في افغانستان، الامر الذي يجعل محاولات فرض دكتاتورية اسلامية امرا مرفوضا على الجماهير الغفيرة من العمال والفلاحين والمثقفين الليبراليين. ولم تكن التجارب الجهادية خارج المنطقة العربية اكثر نجاحا. فالانجازات التي تحققت في منطقة البلقان (البوسنة والهرسك ثم كوسوفو) لم تكن بسبب الاستعدادات القتالية للجماعات المسلحة من "عرب الافغان"، بل لمجرد انها انسجمت مع المصالح الغربية التي سعت للتقليل من نفوذ روسيا في تلك المنطقة وتمزيق الاتحاد اليوغسلافي. وما يشير الى ذلك هو الخطوة "الانسانية" التي قامت بها اسرائيل بالتعاون مع الحركة الاسلامية فيها، باستيعاب بضعة عشرات من لاجئي البوسنة. البلقان نفسها التي لم يهتم احد لمصير شعوبها، لم تتحرر بل بالعكس، وقعت تحت سيطرة قوات حلف الاطلسي وتحت نفوذ الدول الاوروبية الكبرى. في الشيشان وداغستان لم يحصد المجاهدون سوى الفشل. فهناك لبى الجهاد نداء المصالح الامريكية التي تسعى للسيطرة على المنابع الغنية للنفط والغاز في بحر قزوين. ولكن، خلافا لما حدث في البلقان، لم يتمكن المجاهدون من التقدم رغم حصولهم على الدعم الامريكي. فقد دخل عنصر ثالث للساحة، وهو روسيا. روسيا، بقيادة يلتسن حليف الامريكي كلينتون، التي صمتت ازاء بتر نفوذها في البلقان وتمزيق حلفائها الصرب في يوغوسلافيا، لم تعد تستطيع السكوت على اقتطاع المزيد من اعضائها في منطقة القوقاز. واضطر يلتسن للاستقالة من منصبه بعد ان عجز عن تنفيذ المطلب الامريكي السماح بتدخل اجنبي في بلاده. وقد فاز الرئيس الجديد، فلاديمير بوتين، في الانتخابات بعد ان وعد الجمهور الروسي، الحانق على الامريكان، بسحق التمرد في الشيشان، وقد ازدادت شعبيته عندما احتل العاصمة غروزني وحوّلها ركام من الانقاض. اما عن المحاولة الاخيرة في كشمير التي بادر اليها الجيش الباكستاني بمساعدة طالبان والجماعات المجاهدة في ايار 1999، فانتهت بهزيمة ماحقة. سبب الهزيمة هذه المرة كان امريكا التي اختارت دعم الهند. وقد ادى القرار الامريكي الذي اغضب الجيش والشارع الباكستانيين، الى الاطاحة بحكومة نواز شريف الذي مال لمصالحة الهند وعارض مغامرة جيشه في كشمير. اذن، فجماعات بن لادن التي تتشدق بانتصاراتها، كانت على ارض الوقع تجرّ اذيال الهزيمة من موقع لآخر. من هنا يمكننا ان نستنتج ان الاعتداءات على امريكا كانت نابعة من وصول الجبهة الجهادية الى طريق مسدود، حاولت الخروج منه ب"ضربة معلم" تعيد لها بعض الهيبة التي تآكلت.
عملية يوم القيامة
صحيح ان الصحوة الاسلامية لم تتقدم كما اراد لها بن لادن، ولكنها لم تكن الوحيدة التي تراجعت. فقد تزامن ذلك مع تآكل كبير في هيبة الولايات المتحدة في انظار العرب والمسلمين. وكان للغضب الشعبي الذي خرج للشوارع في انحاء العالم العربي مع اندلاع انتفاضة الاقصى، وزن كبير في حسابات بن لادن الذي فهم ان هذا الغضب العارم لم يكن موجها ضد امريكا فحسب، بل ضد الانظمة العربية المتحالفة معها، وعلى رأسها مصر والسعودية. هذا الغضب الجماهيري الذي يلف كل الاقطار العربية وبضمنها الخليج والعرب الفلسطينيين داخل اسرائيل، والنابع من الوضع الاقتصادي الصعب الذي شاع فيه مرض البطالة، وجد له عنوانا. فتركز في ثلاثة محاور اساسية: الاول ضد انحياز امريكا لاسرائيل في الصراع مع الفلسطينيين، والثاني انحيازها للهند في النزاع مع باكستان، والثالث نظام العقوبات على العراق. في ظل هذا الوضع الشعبي المتفجر، اصبح من الصعب على الانظمة العربية الدفاع عن صداقتها لامريكا. فما كادت الانتفاضة الفلسطينية الثانية تنفجر وتعم الاقطار العربية حتى هرولت الانظمة التي تعرضت لانتقادات لاذعة، لعقد اول قمة عربية منذ حرب الخليج. وكانت هذه هي الخلفية للتغيير العلني الحاصل في سياسة الانظمة، وعلى رأسها مصر ودول الخليج: فمن داعمة متحمسة للتطبيع مع اسرائيل ومرحّبة بالاستسلام الفلسطيني، بدأت تحرض ضد الحكومة الاسرائيلية وامريكا لانقاذ جلدها وسلطانها. الحملة التحريضية التي استمرت عاما كاملا وشملت معظم الصحف والفضائيات العربية، ساهمت في اثارة المشاعر الشعبية والانطباع باننا امام حرب مفتوحة مع اليهود والصليبيين. وقد جاء هذا مسبوقا بالانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان تحت نيران حزب الله، ثم رافقتها العمليات الانتحارية داخل اسرائيل التي نفذتها التنظيمات الاسلامية الفلسطينية، الامر الذي زاد من الحس باننا قاب قوسين من لحظة الحسم، وان الاسلام هو العقيدة والطريق القادرة على دحر الاعداء، والتغلب على موازين القوى الحقيقية التي لا تزال لصالح امريكا وحلفائها في المنطقة. ولكن الواقع ان هناك فارق جوهري بين الاعتداءات في واشنطن ونيويورك، وبين عمليات حزب الله وحماس. فالحركتان الاخيرتان تحرصان على عدم المسّ بالمصالح الامريكية، وتنشطان ضمن اعتبارات سياسية محددة وواضحة. فحزب الله يعمل بالتنسيق الكامل مع سورية وايران وضمن اطار الشرعية الدولية، كما ان حماس لا تخرج عن الخطوط الحمراء التي تحددها السلطة الفلسطينية التي لم تتردد في الماضي في سجن انصار وقيادات الحركة اذا تجاوزت المسموح. السؤال هو ماذا عن بن لادن؟ هل يعمل بلا خطوط حمراء؟ وكيف تجرأ على تنفيذ هجوم استراتيجي من هذا النوع امتنعت عنه قوى عظمى في السابق، دون ان يكون له غطاء قانوني او دولي يحميه؟ الحقيقة ان بن لادن اخذ بالحسبان معطيات دقيقة فعلا، الا ان حساباته على المدى البعيد كانت خاطئة. فاذا قلنا ان افغانستان تحولت الى العمق الاستراتيجي لباكستان في صراعها مع الهند، فان باكستان تحولت في نظر بن لادن الى عمقه الاستراتيجي في جهاده ضد امريكا الصليبية. ان التجربة النووية التي نفّذتها باكستان في نهاية ايار 1998 اثرت بدرجة كبيرة جدا على الحركات الاصولية والدول الاسلامية في المنطقة. وتعتبر السعودية من اشد المتحمسين لما صار يعرف ب"القنبلة الاسلامية" الباكستانية، خاصة اذا اخذنا بعين الاعتبار ان منافستيها ايران والعراق تطوران سلاحا من هذا النوع. وقد انتظر بن لادن وجماعته الفرصة المناسبة لاطلاق السبيل للجهاد ضد امريكا، وكان الانقلاب الذي نفذه الجنرال برويز مشرف في باكستان في 12/10/99 اشارة اضافية لاقتراب ساعة الصفر. فقد دبر مشرف الاجتياح الباكستاني لاقليم كشمير دون علم نواز شريف الذي سعى لتسوية سلمية مع الهند حول الاقليم. فالجيش يعارض اية تسوية مع الهند خشية فقدانه مبرر وجوده في السلطة التي يحافظ عليها من خلال اثارة المشاعر الدينية العدائية تجاه الهند والكفر وامريكا. في 28 ايار من كل عام تحتفل باكستان بذكرى "يوم التكبير"، وهو اليوم التي تمت فيه التجربة النووية الاسلامية الاولى. في هذا الاحتفال (عام 2000) صرّح وزير العلوم الباكستاني، عطا الرحمن: "اننا ننحني امام الله القدير الذي اعاد لباكستان كبرياءها في 28 ايار 1998".(19) سميع الحق، زعيم حزب جمعية علماء الاسلام وعضو مجلس الشيوخ الباكستاني، اوضح الامور بطريقة افضل عندما افتى بتحليل الجهاد ضد الحكومة الباكستانية اذا هي وقّعت على معاهدة لمنع التجارب النووية. يشار الى ان سميع الحق هو مدير احدى المدارس الدينية في منطقة بيشاور، ويتبنى موقف اسامة بن لادن قولا وفعلا، وكثيرا ما ينخرط طلابه في صفوف طالبان. في هذا الصدد نقل تقرير لوكالة أ.ب. (AP، تشرين اول 1998) ان "كثيرا من النشيطين الاسلاميين يريدون ان تواصل باكستان تطوير الاسلحة النووية كدرع بعيد المدى ضد العدو الهندي، وكوسيلة للوصول لتوازن بين العالم الاسلامي والغرب".(20) ان الهجوم على امريكا لم يكن بهدف تحرير ارض ما او تحقيق هدف ما، بل من اجل احقاق هذا التوازن الاستراتيجي المطلوب بين "عالم الشرق الاسلامي وعالم الكفر الغربي". التجارب النووية في باكستان اكدت للاسلاميين ان الله منحهم القنبلة الذرية كي يستخدموها، ووضع بذلك حدا لمؤامرة الغرب الذي يسعى لحرمان المسلمين من الحصول على هذا النوع من الاسلحة التي تمتلكها كل الحضارات في آسيا واوروبا وامريكا. وقد كان على بن لادن ان ينتظر انحياز امريكا للهند في هذا الموضوع، الامر الذي قُرن بانحيازها لاسرائيل ضد الفلسطينيين، حتى يحظى بآذان صاغية في صفوف الجيش الباكستاني الامر الذي علاّ من شأنه وزاد شعبيته لدى الرأي العام العربي.
السعودية - الحلقة الضعيفة
لا يمكن فهم عجز الحكومة الامريكية عن مواجهة تهديدات بن لادن، دون التطرق للعلاقة المعقدة والوثيقة، في الوقت نفسه، التي تربط بين الولايات المتحدة والسعودية. وكنا قد ذكرنا الدور الاساسي الذي لعبته المملكة في تمويل المجاهدين الافغان بالتعاون مع الCIA، ولكن مع الوقت بدأت سياسة السعودية تتعارض مع السياسة الامريكية. تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" (8/2/99) الذي اعقب قصف امريكا لقواعد بن لادن في افغانستان ومصنع الادوية في السودان ردا على تفجير السفارتين الامريكيتين في افريقيا يشير الى بذور التباعد في مواقف الدولتين. فقد نقل التقرير المذكور تحذير جورج تينيت، رئيس CIA ، للكونغرس من امكانية قيام بن لادن بمهاجمة الولايات المتحدة "في كل لحظة". وربط التقرير بين هذا الموضوع وبين شعور وزارة الخارجية ومجلس الامن القومي الامريكيين والCIA بان "بن لادن يتمتع بدعم سياسي كبير في اوساط حلفاء امريكا في الخارج". وكيلا يقع التباس حددت الصحيفة الامريكية قصدها بالقول: "ان بن لادن يحصل على اموال ودعم سياسي من امراء العائلة المالكة السعودية، تلك التي تعهد بالاطاحة بملكها، ومن شخصيات ذات نفوذ ومن مؤسسات مالية في الكويت وقطر حيث الحضور العسكري الامريكي قوي، حسبما افاد مسؤولون امريكيون". (21) من هذا الربط الذي يعقده الامريكيون بين التواجد العسكري الامريكي في الخليج، وبين تصرف الانظمة الخليجية تجاه انصار بن لادن والاسلام المتطرف، يمكن الاستنتاج ان امريكا كانت على ادراك كامل لخطورة الوضع. وقد بدأت الشكوك الامريكية في تصرفات حليفتها السعودية منذ انفجار القاعدة الامريكية في مدينة الخبر بالسعودية في 25/6/96، والذي قتل فيه 19 جنديا امريكيا. فقد رفضت العائلة المالكة التعاون مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي، ولم تسمح له بالتحقيق في الحادث، بل عملت المستحيل لعرقلة حصوله على ادلة. بعد خمس سنوات على وقوع الحادث، بقيت القضية غامضة ولم يقدم فيها احد للمحاكمة. وقد قدم رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي، لويس فريه، نموذجا لعدم استعداد السعودية للتعاون قائلا انه "قد تم العثور على سيارة شيفروليت التي استخدمت في الهجوم وذلك في مطلع يوليو 1996، غير ان المحققين لم يتمكنوا من فحص السيارة الا بعد ستة اشهر وبتدخل من اعلى المستويات".(22) وقد حاولت السعودية جاهدة ان تثير الانطباع بان من قام بالعملية من الشيعة والمدعومين من ايران. غير ان هذا الادعاء لم يقنع الامريكان الذين منعوا من التحقق في الامر. في برنامج "اكثر من رأي" الذي بثته قناة "الجزيرة" في 6/7/2001، بمشاركة ممثلين عن السعودية وايران انكشفت بعض الحقائق الهامة وذلك في مداخلة هاتفية من الدكتور سعد الفقيه، رئيس "الحركة الاسلامية للاصلاح" في السعودية، الذي قال: "لنكن واضحين. فقد تم اعتقال مجموعة من المسلمين السنة بتهمة التورط في حادث الخبر، وقد ثبت تورطهم بالفعل. هؤلاء الستة وسابعهم من الاحساء (بلد في السعودية - ي.ب.)، لم يكونوا المعتقلين الوحيدين، بل اعتقل معهم المئات بعد عملية تمشيط كبيرة جدا للمنتسبين او للذين لهم علاقة او تجربة في افغانستان". وفسر الفقيه دوافع السعودية وراء منع الامريكيين من التحقيق، بقوله: "اذا ثبت تورط هذه الجماعة، او جماعة اخرى لها علاقة ببن لادن، في احداث التفجير في الرياض والخبر، فان هذا يعني اننا امام جماعة سنية محلية معارضة تهدد بان تهز النظام السعودي. وقد دفعت هذه الاشكالية الحكومة السعودية لالصاق التهمة بمجموعة شيعية معارضة". ولتأكيد هذا الاعتقاد، قال مقدم الحلقة سامي حداد لنائب رئيس تحرير صحيفة "الشرق الاوسط"، محمد العوام، انه "في اكتوبر 1998 نقلت وكالة الانباء الفرنسية F.P عن مسؤول في وزارة الداخلية السعودية قوله - "ان سبب طرد ممثل طالبان من المملكة العربية السعودية هو ايواء طالبان لمطلوبين سعوديين في قضية الخبر". ولم ينكر العوام هذه الحقيقة، بل عززها عندما اشار في قضية الهاربين من القضاء السعودي بالقول: "لماذا تستبعد ان يكون احد الهاربين الثلاثة موجود في افغانستان مثلا؟". كيف اثر حادث الخبر على العلاقة مع امريكا؟ الاجابة الامثل يمكننا ان نستقيها من الاعتراف الذي ادلى به مسؤول امريكي كبير حين قال: "ان السعودية اصبحت كيانا غير مفهوم لدرجة ان الCIA قرر القيام بتحقيق استثنائي من النوع الذي تُعامل به دول معادية مثل روسيا، الصين، ايران، العراق وكوريا الشمالية، وذلك للتأكد من المخاطر المحيقة بالنظام.(23) لا احد يعرف نتائج هذا الفحص الدقيق، ولكن يمكن التكهن ان امريكا اكتشفت ان وزن المعارضة السياسية للنظام آخذ بالازدياد، لدرجة تمنع تقديم المسؤولين عن عملية الخبر للمحاكمة، وان هناك معارضة واسعة النطاق لوجودهم العسكري على اراضي المملكة. ولو ان المحققين دققوا النظر في الاوضاع الاجتماعية، لامكنهم التأكد من ان المعارضة السياسية الخطيرة، نابعة من المشاكل الاقتصادية التي تمر بها المملكة نظرا لفساد البلاط الملكي الذي يعيش ببذخ مفرط في حين يعاني الشعب السعودي من البطالة والعوز. وإن كنا لا نعرف ما الذي فهمه الامريكان، فبامكاننا ان نرى ما الذي فعلوه: ببساطة قرروا السكوت. ويبدو من الوقائع ان المملكة توصلت مع طالبان وبن لادن الى تفاهم حسبه تتوقف هذه الحركة عن تنفيذ عمليات داخل المملكة، مقابل استمرار حصولها على الدعم المالي من السعودية من جهة وعلى عدم محاكمة افراد الحركة المتورطين بالعملية. ليست هناك ادلة على وجود هذه الصفقة، ولكن نتائجها ملموسة: فالعمليات توقفت، والنظام لا يزال مصرا على التكتم على حوادث التفجير. الاعتداءات على الولايات المتحدة كسرت التردد الامريكي. وطالبت افتتاحية "نيويورك تايمز" (25/9) الحكومة السعودية بان "تتعاون مع وكالات الاستخبارات الامريكية لاجتثاث الخلايا الارهابية وشبكاتها المالية التي تعمل داخل السعودية نفسها". في هذا المطلب الامريكي إقرار بما لم يعد بالامكان اخفاؤه، وهو ان السعودية تؤوي وتحتضن هذه الجماعات وتمتنع عن مواجهتها خوفا على سلامة النظام الهش. الامر الاخطر بالنسبة للنظام السعودي كان الكشف عن ان 12 من منفذي الاعتداءات في نيويورك وواشنطن هم من اصل سعودي. وقد حاول النظام مرة اخرى اخفاء الحقائق زاعما ان الاسماء غير دقيقة، كما منع صحافيين امريكيين من دخول المملكة للتأكد من الامر. ورغم محاولات الكتمان تبين ان معظم السعوديين الذين شاركوا في العملية هم من منطقة عسير المتاخمة لليمن حيث تعيش قبائل فقيرة معارضة للنظام.(24) مرة اخرى دخلت السعودية الى طريق مسدود مع الحركات الاسلامية، الامر الذي دفعها مؤخرا لاقالة مدير المخابرات، الامير تركي الفيصل، وهو الشخص الذي كان المهندس الرئيسي للعلاقات مع الاسلاميين منذ بناء التحالف الاول مع الافغان ضد السوفييت وحتى وصول هذه السياسة المدمرة للاعتداءات الرهيبة في امريكا.(25) صحيفة "ليموند ديبلوماتيك" نشرت في عددها الصادر في تشرين اول (اكتوبر) 1998 تحليلا حول هذا الموضوع اتسم بكثير من الدقة، وذلك عندما اكد، ثلاثة اعوام قبل الاعتداءات على امريكا، ان "النموذج السعودي المستند للتحالف بين الاصولية الاسلامية المحافظة وبين الغرب، قد اخفق. المشكلة بالنسبة لواشنطن انها لا تملك استراتيجية سياسية بديلة تجاه العالم الاسلامي. "اما بالنسبة للسعودية فاللغة المزدوجة التي يتحدث بها الامير تركي الذي يؤيد بشدة امريكا ويدعم من جهة اخرى الحركات السنية الراديكالية وكان مع طالبان حتى الربيع الجاري، وصلت الى نهايتها. الرياض تنفق مبالغ كبيرة لتمويل شبكات اسلامية تشعر عمليا بالاستياء من الامراء والبترودولارات، وتعتقد ان النظام الاسلامي في السعودية سيكون اكثر قربا من الاسلام دون سلالة آل سعود". (26)
امريكا دون خيارات كثيرة
فهم الخيارات الامريكية في افغانستان ليس سهلا، ربما لعدم وجود خيارات اصلا. هذا هو السبب الذي يؤجل الرد العسكري الامريكي على اعتداءات 11 ايلول، ويعيق امكانية تحديد الاهداف التي يمكن على اساسها تقييم نجاح او فشل هذا الرد. لا شك ان اعلان حرب وتحريك اساطيل بحرية كاملة لالقاء القبض على شخص واحد وبضعة مساعدين يختبئون في الجبال الوعرة، سيبدو غريبا وربما طريفا. المطلوب في الحقيقة هو حل "المشكلة الافغانية" التي بدأت قبل دخول الجيش الاحمر لافغانستان وتفاقمت بعد انسحابه منها مهزوما. لا بد من الاشارة الى ان الحرب التي نحن بصددها فُرضت على الولايات المتحدة فرضا، ولم تكن افغانستان وبن لادن على جدول الاعمال المستعجلة للولايات المتحدة. والدليل على ذلك ان المؤسسات والاشخاص الذين شملتهم امريكا في قائمة الارهابيين المستهدفين، معروفون للامريكان منذ مدة طويلة، وهم ينشطون في الولايات المتحدة وبريطانيا دون ازعاج من السلطات. ومن المعروف ايضا ان اشخاصا مقربين من بن لادن والذين حكمت عليهم مصر بالاعدام، حصلوا على لجوء سياسي في بريطانيا، ويقومون بنشاطات اعلامية ومالية واسعة النطاق. ان مقتل مئات آلاف الجزائريين وحتى السياح الاجانب في مصر بايدي هذه الجماعات المتطرفة، لم يكن ابدا مشكلة امريكية ولم ترتق حتى لتعتبر مشكلة حقوق انسان تستحق التدخل لحقن الدماء. وبامكان المتتبع للسياسة الخارجية الامريكية ان يلاحظ ان الجهود الامريكية في الفترة التي سبقت انهيار الابراج الامريكية، كانت موجهة ضد روسيا، القوة النووية العظمى، والتي تنافس امريكا على النفوذ في مناطق حيوية جدا للولايات المتحدة في مركز اوروبا والقوقاز والخليج العربي. ولم يكن بن لادن العدو الاول بل حددت امريكا ما يسمى بالدول الوحشية (Rogue States)، مثل ايران والعراق وكوريا الشمالية بحجة انها تهدد بشكل مباشر الامن الامريكي. ان المبادرة الاستراتيجية الاساسية في هذا الاتجاه كانت الغاء الرئيس الامريكي بوش لاتفاق تحديد انتشار الصواريخ بعيدة المدى وتكثيف المساعي لبناء جهاز دفاعي امريكي ضد الصواريخ لضمان التفوق الامريكي على روسيا. ولكن اتت الاعتداءات لتغير الخريطة السياسية. صحيفة "نيويورك تايمز" (27/9) كشفت جزءا، ولو يسيرا، مما نقول، فافادت: "ان روسيا التي اعلنت استعدادها لدعم الرد العسكري الامريكي في افغانستان، حصلت على تعويض. فقد اعلنت الولايات المتحدة للمرة الاولى ان شبكة "القاعدة" لعبت دورا في التحريض على التمرد الدموي في اقليم الشيشان الواقع داخل منطقة خاضعة للسيادة الروسية". ويعتبر هذا الموقف الجديد تغييرا حادا في اللهجة الامريكية تجاه روسيا، التي هددها بوش قبل اشهر قليلة، اثناء حملته الانتخابية، بقطع المساعدات المالية عنها بسبب هجومها على الشيشان. وكان في مقابلة تلفزيونية في شباط (فبراير) 2000 قد واصل تهديده عندما قال: "ان هذا الفتى بوتين الذي تحول الى رئيس مؤقت، وصل للحكم بسبب القضية الشيشانية وتعامل مع هذه القضية بطريقة غير مقبولة على الدول المسلمة".(27) ان هذا الاقتباس يكشف الكثير من الامور. لماذا تذكرت امريكا ان تعترف الآن فقط بدور بن لادن في احداث الشيشان الدموية؟ الجواب بسيط: لان بن لادن لم يكن عدو امريكا الرئيسي بل الثانوي بينما احتلت روسيا المكانة الاولى في قائمة الخصوم. وكما اسلفنا، فان الصراع في الشيشان وظف من خلال الامريكان لزعزعة النفوذ الروسي في منطقة القوقاز الغنية بالنفط. وكان دعم امريكا لطالبان نابعا من نفس النظرة الاستراتيجية. فقد كان دور طالبان ضمان موطئ قدم في الدول الاسلامية الثلاث الخاضعة للنفوذ الروسي وهي اوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان، القريبة من بحر قزوين الغني بالنفط. وقد اضطرت امريكا للاعتماد على طالبان لانصياعها التام لباكستان. البديل الآخر هو حلف الشمال بقيادة رباني الطاجيكي ودوستم الاوزبكستاني المدعومين من روسيا وايران. ورغم اعلانها الحرب على طالبان ترفض امريكا حتى الآن دعم الحلف الشمالي برئاسة برهان الدين رباني. فامريكا لا تريد اضعاف حليفتيها الحميمتين باكستان والسعودية. وقد ادى هذا الى انقلاب في موقف ايران التي صارت فجأة من اشد المعارضين للتدخل العسكري الامريكي في افغانستان، بعد ان كانت قد ايدت الموقف الامريكي الذي دعا للاطاحة بطالبان. الموقف الامريكي نفسه ثابت، وهو يستهدف القضاء على بن لادن وخلق نوع من الاستقرار في افغانستان، دون زعزعة التوازنات الاقليمية في المنطقة. فاذا تمت تصفية بن لادن ستتمكن امريكا من التفرغ لمواصلة حملتها الصليبية لتحرير منابع النفط "المقدسة" في بحر قزوين، وضم دول جديدة مثل جورجيا لتحالفاتها التي ستمكّنها من تحقيق هذه "الرسالة". في 11 ايلول دخلت امريكا الى تناقض بين الغضب والرغبة في الانتقام من جهة وبين الدفاع عن مصالحها النفطية والاستراتيجية. فامريكا منغمسة في منطقة شرق آسيا وغير متحمسة للتورط في حرب فاشلة.
الحرب تعمق الركود الاقتصادي العالمي
اولى حروب القرن الحادي والعشرين التي اعلنها الرئيس الامريكي بوش، لم تبدأ في 11 ايلول، بل هي امتداد للحرب التي شنتها امريكا اولا على العراق اوائل التسعينات، ثم على يوغوسلافيا عام 1998. فمنذ تفردها بقيادة العالم قادته الولايات المتحدة نحو سلسلة من الحروب استهدفت عواصم العالم من بغداد الى بلغراد ومن الخرطوم الى بيروت. لكل حرب من هذه الحروب اسبابها وخصوصياتها، الا ان لجميعها قاسما مشتركا واحدا، وهو ان الولايات المتحدة تديرها ضد دول عاجزة عسكريا واقتصاديا عن مقاومتها. كما انه صار واضحا ان هذه الحملات العسكرية التي تأتي تحت اسماء مختلفة مثل الدفاع عن حقوق الانسان ومن اجل انظمة اكثر ديمقراطية في تلك الدول، الا انها في الواقع تأتي لخدمة طرف رئيسي واحد هو الولايات المتحدة التي تسعى لفرض نظامها العالمي الجديد. النتيجة الاكيدة لهذه الحروب كانت اعدادا هائلة من الضحايا وخللا اساسيا في البنية الاقتصادية والسياسية للعالم. صحيفة "ليموند ديبلوماتيك" (حزيران 1999) فسرت هذا الخلل الكوني بالقول: "مع توقف الحرب الباردة لم تتوقف النزاعات الاهلية في الدول النامية بل تفاقمت. فمنذ سقوط سور برلين عام 1989 ظهرت اكثر من 23 حالة من النزاعات الاهلية شارك فيها اكثر من 50 مجموعة مسلحة". وادت هذه الحالة الى نشوء كيانات تسودها الفوضى الشاملة CHAOTIC ENTITIES، منها افغانستان ومناطق السلطة الفلسطينية التي دخلت الى هذا الوضع نتيجة اتفاق اوسلو الذي حاولت امريكا فرضه على الفلسطينيين. (28) ويعتبر هذا الخلل الكوني الخطير نتيجة لطبيعة النظام الاقتصادي العالمي الذي يخدم شركات الانتاج الكبرى واهمها شركات النفط العملاقة. ويمكن التحديد انه منذ عام 1997 دخل العالم الى ازمة اقتصادية حادة أضرّت بشكل خاص الدول ذات الاقتصاد المتوسط، مثل البرازيل والارجنتين ودول شرق آسيا (النمور) ومعظم الدول العربية وعلى رأسها مصر. ان الغضب الشعبي العارم الموجه ضد امريكا نابع اولا من الدمار الذي خلقه نظامها الجديد الذي استثنى ملايين الناس في شتى انحاء المعمورة وتركهم دون عمل ومستقبل. الحرب هي علامة ثابتة على ان النظام الرأسمالي العالمي يواجه حالة من الانهيار. الفوضى الشاملة في دول الاطراف كانت الاشارة الاولى، ولكن منذ عامين دخلت الازمة للمراكز الصناعية الكبيرة من اليابان واوروبا وامريكا نفسها التي تمر بحالة من الركود العميق. ان تفجير اهم المراكز الاقتصادية والامنية في امريكا كان الاعلان الملموس عن ان الفوضى الشاملة لم تبق محصورة في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية، بل اصابت الشريان الرئيسي للنظام. وتبين من ذلك انه لا مجال للهرب. فالفوضى، كمرض الايدز الذي اصاب معظم دول آسيا وافريقيا بسبب الفقر المدقع، لا تقبل الحدود. فالتكنولوجيا المعاصرة ووسائل النقل السريع التي يوفرها نظام العولمة ازالت الحدود ووحّدت العالم، وهي إن افادت الشركات الضخمة على حساب شعوب المعمورة، فقد كانت سيفا ذا حدين لانها مكّنت 19 متطرفا من اكتساب علم الطيران والوصول الى قلب القلعة الامريكية وضربها. ان احد الاستنتاجات المهمة من الهجوم على الولايات المتحدة هو ان العالم بقي دون قيادة، الامر الذي سيعمق وضع الفوضى الشاملة. وقد كان بالامكان رؤية بذور هذا الوضع في تصدع التحالف الدولي الذي انشئ لشن الحرب على العراق. فالدول الحليفة لم تعد تشارك امريكا في نظرية حل المشاكل بالقوة، وهي تخشى ان تتحول الى هدف توجه اليه البشرية غضبها، الامر الذي قد ينقل الفوضى الشاملة لاراضيها. الاستنتاج الثاني والنابع من الاول ان هذه الفوضى تشير الى اننا نتقدم بخطى ثابتة نحو حرب كونية، ولم تفعل الاعتداءات على امريكا سوى انها زادت وتيرة الانزلاق نحو الهاوية. لقد سارع بوش لاعلان الحرب وانصاع الاوروبيون للامر، ولكن العدو الماثل امامهم صعب المراس. فالعدو ليس بعض المقاتلين الافغان الذين تمردوا على الام الكبيرة امريكا، بل عدوهم الحقيقي هو الفوضى الشاملة التي خلقوها بايديهم، وهم على تمام الادراك بان اعلان حرب على الفوضى سيفاقم الفوضى. ان عالم القطب الواحد يقترب من نهايته، بعد الضربة القاصمة التي تعرضت لها هيبة امريكا العسكرية والاقتصادية. ولكن من جهة اخرى، فان غياب محور عالمي بديل يشير الى اننا امام وضع خطير لدرجة غير مسبوقة. ان الازمة الاقتصادية والفوضى الشاملة التي ترافقها تقود لا محالة لتضارب في المصالح بين الدول الكبرى. فالحرب الحقيقية ليست تلك الدائرة بين جماعة بن لادن وامريكا وذلك لعدم تكافؤ القوى. ويكمن الخطر في الدول التي طورت اسلحة دمار شامل، مثل الصين وتايوان او الهند وباكستان، والاهم هو امريكا روسيا، واوروبا التي تتقدم ببطء، ولكنها تتقدم، باتجاه الفاشية التي وصل ممثلوها في ايطاليا والنمسا الى سدة الحكم. لقد فقد عالمنا البوصلة منذ زمن، وجاء بن لادن ليذكرنا بمدى فداحة الوضع. لا، العالم ليس موحدا، والارهاب ليس مشكلته الاساسية. ان القضاء على الارهاب ممكن، ولكن تُفتقد اليوم الوسائل والبرنامج وحتى النية، لحل اكبر مرض عرفته الانسانية منذ وجودها: طاعون الفقر النابع من السعي المفرط لتحقيق الارباح على حساب البشر.
خاتمة
بعد اسبوع من وقوع العملية الانتحارية الرهيبة، نشرت اسبوعية "نيو ستيتمان"، القريبة من حزب العمال البريطاني الحاكم، استنتاجاتها من الاحداث، وذلك في مقال افتتاحي على جانب كبير من الاهمية، ومما جاء فيه: "مع انهيار الكتلة الاشتراكية في التسعينات تغير نهج الرأسمالية، فراحت دولها الصناعية تصدر الجزء الاكبر من مآسي نظامها الى الخارج. في عالم تنفرد بحكمه دولة عظمى واحدة، تجد الدول الفقيرة نفسها محرومة من السند الذي كان من شأنه ان يحسن وضعها: وجود دولة واحدة قلص الخيارات، وحرم الدول من امكانية التوجه لطرف آخر في حال رفض الطرف الاول اسعافها". ويستنتج المقال ما يلي: "كونوا على يقين انه لو كان الاتحاد السوفييتي موجودا كقوة ردع، لما كانت هناك ازمة ديون في اكثر من 50 دولة… ان موت الاتحاد السوفييتي حرم فقراء العالم من امر اكثر ملموسا: ليس الامل بل الشعور بوجود بديل وخيار آخر".(29) واضح انه ليس بمقدور اسامة بن لادن وجماعته فهم هذا الاستنتاج او حتى التفكير به. فهو عندما دعا المسلمين للجهاد ضد القوات الامريكية المرابطة على الاراضي السعودية، وضد الحصار المفروض على العراق وضد محاولات قمع الشعب الفلسطيني، نسي انه واصحابه يتحملون المسؤولية الاولى والمباشرة عن هذا الوضع وعن الوجود الامريكي في الخليج. وإن لم يكن هذا هو الحال، فكيف يمكن ان نفسر حقيقة ان الاقدام الامريكية لم تطأ ارض المنطقة طيلة ال40 عاما التي سبقت انهيار الاتحاد السوفييتي؟ وكيف نفسر انه طيلة تلك المدة لم تُقصَف العواصم بالصواريخ البعيدة المدى؟ وكيف نجيب عن السؤال: لماذا اضطر الشعب الفلسطيني القبول بالهزيمة؟ وكيف اختارت الدول العربية دعم امريكا في حربها ضد العراق، في حين اسقطوا من ايديهم ورقة الحرب ضد اسرائيل نهائيا؟ الجواب انه بينما قاتل الشعب الفلسطيني في بيروت بدعم من الاتحاد السوفييتي، كان بن لادن مشغولا في افغانستان بتسديد ضربة قاضية لحليف الشعوب المضطهدة، بدعم من السعودية وخدمةً لامريكا. وبينما تولت جماعة بن لادن الجبهة الروسية، حارب صدام حسين على الجبهة الايرانية خدمة للاهداف الامريكية نفسها. لو كانت الشهادة مراد الافغان العرب حقا، لبحثوا عنها في بيروت المحاصرة، والتي كانت بامس الحاجة للتضامن العربي. ولكنهم فهموا ان بيروت حرب ضد الاستعمار الامريكي، ومواجهة امريكا لم تكن في حسبانهم. لقد "انتصر" بن لادن على الشيوعية، ولكنه كان انتصارا مكلفا فتح عهد النظام العالمي الجديد الذي كان الشعب الفلسطيني اول ضحاياه. شعوب العالم كلها، وليس الشعب الفلسطيني فحسب، تدفع ثمن سقوط ارقى انجاز حققته الانسانية منذ نشوئها. ولكن المفارقة ان النظام الرأسمالي دفع هو الآخر ثمن هذا السقوط. فبانهيار النظام الذي ضمن الاستقرار والاقتصاد في دول كثيرة في العالم، اصبح على الولايات المتحدة ان تتولى المسؤولية عن كل العالم، الامر الذي فاقم مشاكلها الداخلية وافقدها السيطرة. ولكن، مشكلة العالم الاساسية لا تنحصر في وجود دولة عظمى وحيدة تتحكم بمصيره لمصالحها، بل في غياب معارضة سياسية جادة داخل هذه الدولة. ان الولايات المتحدة التي توحي بانها مصدر الديمقراطية، تعيش عمليا تحت حكم استبدادي يسيطر على الاعلام والثقافة ويعمل دون رقابة حقيقية. ان النتيجة المباشرة لغياب هذه المعارضة السياسية والشعبية كان تفاقم ظاهرة التطرف في العالم. ففي حين انغلق المجتمع الامريكي على نفسه وتمتع ببحبوحة العيش، تدهور الوضع في بقية العالم. لذا فلم يكن من المستغرب ان أضمر فقراء العالم، وضمنهم الشعوب الاسلامية، الكره والحقد تجاه الشعب الامريكي بسبب لا مبالاته ازاء مصائب الشعوب الاخرى، واطلاقه العنان لحكامه لفعل ما يشاؤون في العالم طالما انهم ضمنوا لهم مستوى معيشة مرتفعا. لقد تحولت امريكا الى بؤرة الصراع المركزية، وفي هذا الحال صار على شعبها ان يتخذ موقفا ويتحمل المسؤولية العليا عن طرح بديل للنظام الظالم. ان الحركة المناهضة للعولمة التي انطلقت في سياتل عام 1999، كانت بلا شك بادرة ايجابية جدا في هذا الاتجاه. ولكن العملية الانتحارية الاخيرة كشفت عن عدم نضوجها الذي يتمثل في افتقارها لبرنامج سياسي واضح يطرح بديلا للنظام الرأسمالي القائم. ان امام الحركة الجماهيرية في الدول الصناعية، وتحديدا في امريكا، فرصة ذهبية لاعادة السياسة الى جدول اعمال الجمهور الامريكي الواسع وتحديدا العمال والنقابات الكفاحية. في هذه المرحلة يصبح من الضروري وضع طرح جديد لقطع الطريق على الاجتهادات السلفية التي لا تقود الا لتعميق الفوضى الشاملة التي بدأت تتفشى كالطاعون. اننا كماركسيين نجتهد لفهم تناقضات ومصالح النظام الرأسمالي ونكافح في سبيل اسقاطه. ولكنا لا نرى في العمليات المغامرة او الانتحارية برنامجا لتحقيق هذا الهدف الصعب. الطريق التي اخترناها هي الطريق الطويلة التي تحتاج للنفس الطويل وللعمل الدؤوب من اجل اقناع الجماهير بطريقنا وتأطيرها في احزاب سياسية، حتى تتمكن من ممارسة حقها الديموقراطي في ان تحكم نفسها بنفسها. على السياسة ان تعود لجدول الاعمال الشعبي ليس كهدف بل كوسيلة لاعادة الثروة الاجتماعية لايدي المجتمع وتقسيم الخيرات والموارد بشكل متساوي على كل الشعوب حتى يشعر كل انسان بانتمائه للمجتمع الدولي. إن لم نفعل ذلك فمناظر 11 ايلول 2001 لن تكون اكثر من مقدمة لكارثة انسانية ليس من الاكيد ان ينجو منها العالم. بين الاشتراكية والبربرية لا خيار ثالث، وعلى العالم ان يقرر إن كان يريد الحياة.
1. U.S. Says Military Strikes Are Just a Part of Big Plan, by James Dau with Patrick E. Tyler. The New York Times, Septrember 27, 2001. 2. U.S. Says Military Strikes Are Just a Part of Big Plan, by James Dau with Patrick E. Tyler. The New York Times, Septrember 27, 2001. 3. Afghanistan: The Making of US Policy (1973-1990) The National Security Archive, USA 200 4. Pakistan And Islam: Ethnicity and Ideology, by Hamza Alavi. State and Ideology in the Middle East and Pakistan, London & New York, 1988. 5. Pakistan And Islam, by Hamza Alavi 6. Pakistan And Islam, by Hamza Alavi 7. Fundamentalists without a common cause, Le Monde Diplomatique, October 1998. 8. Regional implications and impact on Pakistans polity. Uma Singh in Afghanistan Factor in Central and South Asian Politics. Trans Asia Informatics - New Delhi, India. www.kashmir-information.com 9. Afghanistan: The Making of US Policy (1973-1990) The National Security Archive, USA 2001 10. Taliban stir up regional instability. Ahmed Rashid. Le Monde Diplomatique, November 1999 11. Fundamentalists without a common cause, Le Monde Diplomatique, October 1998 12. Foreign arms sustain Afghan civil war. Philip Hiro . www.ips.org. October 1988 13. Taliban stir up regional instability. Ahmed Rashid. Le Monde Diplomatique, November 1999 14. Wirhdrawal of Unocal: Turkmen gas pipeline project in jeopardy. by Ihtashamul Haque. The DAWN Group of Newspaper, 23 December, 1998. 15.At Play in the Oil Fields of Central Asia, by Jeff Lumpkin. http://dpts.washington.edu/reecas. Spring 1997 16. Unocal statement on withdrawal from the proposed Central Asia Gas (CentGas) pipeline project 12.10.98. 17. The Afghan Taliban: Like It Or Not, It Occupies Two-Thirds of Afghanistan and Shows No Sign of Weakening, By Musa M. Maroofi. April, 1998. p. 47. American Educational Trust. 1995. 18. Election Shrouded in Confusion, Algeria accepts the unacceptible. Le Monde Diplomatique, March 99. 19. Jamiat Ulema-i-Islam, Sami-ul-Haq faction or JUI/S. Diario El Pais, S.L., Madrid, Spain. 16.9.2001 20. Strict religious schools maintain hold on Pakistan society. Associated Press.October 12, 1998 21. In Islamic World, Bin Ladens Esteem Rises. by Tim Weiner. The New York Times, February 1999. 22. The unsolved mystery of a Saudi bomb attack, Le Monde Diplpmatique. September 1997 23. The unsolved mystery of a Saudi bomb attack, Le Monde Diplpmatique. September 1997 24. Some Light Shed on Saudi Suspects, by Caryle Murphy and David B. Ottaway. Washington PostSeptember 25, 2001. 25. Saudis Feeling the Pain of Giving Support to U.S., by Patrick E. Tyler. The Nwew York TimesSeptember 24, 2001. 26. Fundamentalists without a common cause, Le Monde Diplomatique, October 1998 27. U.S. Says Military Strikes Are Just a Part of Big Plan, by James Dau with Patrick E. Tyler. The New York Times, Septrember 27, 2001 28. The economics of future chaos, States in Ruin, Conflicts Without End. Le Monde Diplomatique June 1999. 29. New Statesmen, London, 17 September 2001
#يعقوب_بن_افرات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|