الأيام الحرجة
يعتمد هذا المقال بصورة خاصة على الكتاب الهام الصادر في المانيا تحت عنوان" نادي القتلة" من قبل مايكل أوبر سكالسكي و كونهاندانان ناير عن دار نشر" لاموف" عام 1998، والصادر ايضا في العام نفسه من دار نشر" الطليعة الجديدة" في دمشق. وهذا الكتاب اضافة الى عرضه الموثق لجرائم وكالة الاسخبارات الامريكية في جميع انحاء العالم وتقويض انظمة حكم وطنية وازاحتها عن الواجهة لتقاطع مصالحها مع السياسات الامريكية وقتلها شخصيات معروفة امثال سلفادور اليندي، ومحمد مصدق، وتشي غيفارا، ومجيب الرحمن، والمهدي بن بركة، وعبد الناصر، وانديرا غاندي، وكريس هاني، والملك فيصل، وعبد الكريم قاسم، والجنرال ضياء الحق، وغيرهم الكثير، فإن هذا الكتاب يفضح السياسة الامريكية من خلال وثائق دامغة تكشف طبيعة مايسمى بالـ" النظام العالمي الجديد" الهادف الى الهيمنة على العالم وعدم السماح بظهور قوة منافسة في اوربا الغربية وآسيا أو في روسيا أو اي مكان في العالم.
سمات النظام العالمي الجديد
ويحدد الكتاب أهم معالم النظام العالمي الجديد والمخطط له بدقة منذ نهاية الحرب الباردة بالسمات التالية وباختصار شديد:
1 بعد ان فقدت القوى الامبريالية الرئيسة ـ الولايات المتحدة واليابان ـ عدوها المشترك المتمثل بالمعسكر الاشتراكي السابق، بدأ يشتد تنافسها السياسي والاقتصادي والعسكري فيما بينها بإطراد. وكان من نتيجة ذلك ظهور تقسيم" استعماري جديد" آخر للعالم، وخصوصا لمايسمى" العالم الثالث" والدول الاشتراكية السابقة واصبحت اوروبا تواجه نزعة عدوانية متنامية.
2 ان هذا التنافس والعدوانية ومحاولة فرض" النظام العالمي الجديد" يؤدي الى ازدياد خطر اندلاع حروب في كل اصقاع العالم.
3 ومن عناصر مايسمى" النظام العالمي الجديد" السعي الى تدمير اي بديل محتمل للهيمنة والتلاعب به.
التوجهات السرية
ويكشف الكاتبان في فصل مثير وثيقة سرية خطيرة وافق عليها وزير الدفاع الامريكي في شباط 1991 وفي عهد جورج بوش الاب بعنوان وثيقة" التوجهات السرية" ترسم ملامح السياسة الامريكية للسنوات القادمة وتوضح احدى الوثائق التي تتألف من 46 صفحة والتي كان يجري تداولها في ذاك الوقت على أرفع مستويات وزارة الدفاع الامريكية ان جزءا من المهمة الامريكية القادمة سينصب على مايلي:
1 " توجيه اصابع الاتهام وإصدار أحكام الادانة والتجريم بإتجاه المنافسين المحتملين.
2 وقد شرّعت هذه الوثائق السرية على قيام عالم تهيمن فيه قوة عظمى وحيدة على ان" تحرص على مصالح الدول الصناعية المتقدمة لثنيها عن تحدي قيادتنا، أو عن محاولة قلب النظام السياسي اُلمقام"..
3 وشددت وثيقة وزارة الدفاع على رفضها التام لمبدأ" الدولية الجماعية" اي العمل الدولي الجماعي، تلك الاستراتيجية التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
4 ومع أن هذه الوثيقة كانت داخلية وخاصة بوزارة الدفاع ولم يجر تقديمها الى مجلس الشيوخ إلا ان بياناتها وضعت بالتنسيق مع" مجلس الأمن القومي" وبالتشاور مع الرئيس بوش الاب وكبار مستشاريه لشؤون الأمن القومي.
5 وفي امكنة أخرى في الوثيقة وضعت خطط أخرى لوزارة الدفاع حول استخدام القوة العسكرية إن لزم الأمر لمنع انتشار الاسلحة النووية واسلحة الدمار الشامل في بلدان آسيا وأوروبا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة.
6 وخلت الوثيقة تماما من اية اشارة الى العمل الجماعي من خلال الامم المتحدة وتذكر تحديدا" علينا أن نتوقع قيام تحالفات مستقبلية على شكل تجمعات خاصة بالهدف المعني... وتكريس الاحساس العام ان الولايات المتحدة هي الداعمة في نهاية المطاف للنظام في العالم، وانه ينبغي أن تكون في موقع يسمح لها بالتصرف بشكل " مستقل" عند تعذر تنسيق عمل جماعي أو في حالة وقوع أزمات تتطلب ردا سريعا.
وتشير الوثيقة بوضوح على رد حتى نوايا الخصوم المحتملين" والابقاء على آليات ردع المنافسين السياسيين حتى عن الطموح لاداء دور أكبر اقليميا أو دوليا".
7 وتوضح الوثيقة على أن تفكيك الاتحاد السوفيتي قد قلل من احتمال قدرة اية قوة على شن حرب عالمية تقليدية، لكن الوثيقة تعود لتذكر" لا يمكننا نبذ الاخطار التي ستواجه الاستقرار في اوروبا والتي تأتي من نوازع وطنية في روسيا نفسها أو من محاولة اعادة الجمهوريات المستقلة الى احضان روسيا الام"..
8 وتركز الوثيقة على ان الاسلحة النووية الاستراتيجية الامريكية ستواصل استهداف الجوانب الحيوية للمؤسسة السوفيتية السابقة برغم التغيير الذي تم. ويرجع السبب المنطقي لسياسة الاستهداف هذه الى" مصادر القوة والقدرات التي تشكل قيمة كبيرة بالنسبة الى القادة الروس حاليا أو في المستقبل أو غيرهم من الخصوم النوويين بوصفها مصادر خطر تهدد وجودها"..
9 وفيما يتعلق بأوروبا تؤكد الوثيقة" إن التواجد الامريكي الحقيقي في اوروبا واستمرار التلاحم داخل التحالف الغربي سيبقيان مسألتين حيويتين" وتتابع الوثيقة" ينبغى ان نعمل على منع ظهور ترتيبات أمنية خاصة باوروبا فقط، مما قد يقوض حلف شمال الاطلسي، الناتو"...
10 وبالنسبة الى شرق آسيا تقول الوثيقة أنه باستطاعة الولايات المتحدة تخفيض قواتها في تلك المنطقة ولكن ينبغي عليها الاحتفاظ بموقعها بوصفها القوة العسكرية الاولى في المنطقة...، مما سيمكنها من مواصلة إسهامها في ضمان الامن والاستقرار الاقليمي وتمنع بروز الفراغ او ظهور قوة اقليمية مهيمنة"..
الديمقراطية منخفضة الحدة
ويشير المؤلفان الى مقالة الباحث والصحفي الامريكي وليم روبنسون " الديمقراطية منخفضة الحدة، الوجه الجديد للهيمنة الشاملة" والمنشورة في الفصلية الامريكية" العمل السري" في خريف 1994 ، يقول فيها عن هذه السياسة الامريكية قائلا" هؤلاء الذين يهللون لساسية" تعزيز الديمقراطية" ويعتبرونها تغيرا ايجابيا في السياسة الامريكية أو الذين يدينونها على انها اصطلاح ازدواجي جديد من مصطلحات سياسة التدخل الامريكية القديمة ذاتها، يخطئون في تحليلاتهم. فالمسألة هي تكيف إرتقائي في محاولة الولايات المتحدة فرض نموذج من الحكم والاقتصاد في العالم يخدم النخبة مافوق القومية" الشركات الكبرى " في الشمال الغني....، وهكذا فالمهمة الامريكية في تصدير" الديمقراطية" ماهي الا متابعة للاهداف الثابتة عبر طريق جديدة، أكثر منها نقلة نوعية نحو الأفضل".
ماهي ملامح مفهوم هذه الديمقراطية" منخفضة الحدة" الذي نشط في اوائل التسعينات؟ يذكر المؤلفان في كتابهما أبرز عنصر هذه الديمقراطية وبصورة مبكرة وقبل احداث 11 ايلول سنة2001 بعدة سنوات":
أولا: احداث تغيير وقائي في الدكتاتوريات الموالية للغرب والمغالية في قمعها وتحويلها الى" انظمة حكم ديمقراطية" موجهة ومضبوطة بحيث يكون من المقبول في بعض الحالات وجود فترة انتقالية مضبوطة تستمر خلالها عناصر من النظام القمعي" القديم" بالتواجد جنبا الى جنب مع عناصر من السلطة الجديدة، ومن خلال ممثلي" النخب" الوطنية.
ثانيا: في حال حدوث اضطرابات شعبية ضد الانظمة القمعية أو الانظمة المعزولة شعبيا والموالية للغرب، فإنه يمكن السيطرة على هذه الحركات بدمج اقسام واسعة منها ضمن آليات مضبوطة من التغيير" الديمقراطي" المحدود على أن يترافق ذلك مع اضعاف تأثير القوى الثورية أو الأكثر تطرفا داخل هذه الحركات عن طريق استهدافها بشكل مدروس بوسائل العنف المباشر أو بما يفضل تسميته العنف أو التضليل أو القمع ـ المباشر أو غير المباشر ـ الذي تمارسه" القوة الثالثة"، والمقصود وكالة المخابرات المركزية، وتلعب في هذا السياق وكالة المخابرات المركزية الامريكية بالتنسيق مع شركائها أو وكلائها الصغار فيما يسمى ببلدان" العالم الثالث" دورا حيويا في تنسيق وتوجيه وتنظيم" الالاعيب القذرة" و" العمليات السرية" المطلوبة.
ثالثا: إقامة آليات دستورية ومؤسساتية تقصر ممارسة" الديمقراطية" على النخبة الوطنية الحاكمة، بينما يجري اضعاف تأثير كل من المنظمات والحركات الشعبية أو النقابية من خلال دمج الحدود القيادية والدستورية فيما بينها. وتكمن الاهداف الاستراتيجية البعيدة المدى لهذه الاليات في ضمان" مجتمع السوق الحر، اي الرأسمالية" بالاضافة الى ايجاد آلية" للتحكم بالواقع الاجتماعي مع أقل استخدام ممكن لاسلوب الإكراه القسري".
وهكذا، يقول المؤلفان، ان" الديمقراطية منخفضة الحدة" لا تتعارض مع الديمقراطية الشعبية والتطورات الديمقراطية الوطنية فحسب، بل إنها مفهوم امبريالي يقف في احداث اي تغيير جذري في الواقع السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي" وكما أوضح وليم روبسنون في المقال المذكور بحق" فإن شكل التدخل السياسي الجديد هو اكثر تعقيدا من اشكال التدخل السابقة". ويضيف روبنسون في تحليل دقيق للمستقبل" هكذا يجري التدخل السياسي الجديد تحت غطاء واق وكامل من أدوات السياسة الخارجية الامريكية، من خلال المؤسسات ما فوق القومية أيضا والتي تقوم عبرها نخب الشمال مع شركائها الصغار في الجنوب بفرض ارادتها على العالم أجمع بوتيرة متنامية. وهذا ما يتجاوز بكثير كون المسألة مجرد سياسة التدخل القديمة ذاتها بوجه أكثر نعومة ولطفا"..ونكرر ان هذا المقال نشر في فصلية" العمل السري" الامريكية في خريف 1994، صفحة 40".
استنتاجات
في ختام هذا التحليل السياسي الموثق الدقيق كيف يمكن قراءة هذه القواعد والخطط الامريكية المعدة منذ سنوات في ضوء احتمالات شن الولايات المتحدة حربا ضد العراق، مع التأكيد القوي والقاطع على مسؤولية النظام الدموي في بغداد في الترويج لهذه السياسة الاستعمارية وخلق المبررات والذرائع لها للعمل مرة اخرى على جلب كوارث لشعبنا البريء؟
أولا: إن السياسة الامريكية المعلنة ليست هي في الواقع السياسة الحقيقية، والاهداف المعلنة ليست هي السرية. وأن التقاطع بين النظام العراقي والامريكي هو تقاطع في المصالح وليس صراعا حول الديمقراطية.
ثانيا: ان تكاليف سقوط النظام العراقي ستكون أكثر كلفة من تكاليف صعوده وهي في الحالتين باهظة الثمن، مع كل المخاوف المشروعة من احتمال حرب اهلية أو وقوع مجزرة بشرية لا يمكن حساب أو التحكم بنتائجها مسبقا، خاصة وان النظام العراقي يخوض" حربه الاخيرة" والمصيرية. ومع كل الأمل بزوال هذا الكابوس إلا ان الأمل شيء، والحرب بين قوى بربرية شيء آخر، وخاصة أن اي من طرفي الصراع الرئيسيين لن يضع في حساباته أرواح العراقيين الابرياء الذين سيكونون رهائن في الحرب القادمة لهذا الطرف أو ذاك.
ثالثا: ان سقوط النظام الافتراضي وحسب التفكير الامريكي بديمقراطية" منخفضة الحدة" سيؤدي الى قيام حكم النخبة القادرة على تحويل العراق الى" مجتمع سوق حر" واضعاف وتفتيت القوى الوطنية وتحديدا اليسار العراقي والقوى الاسلامية والتجمعات المستقلة تحت ذرائع التطرف والارهاب أو اية ذرائع اخرى تنمو مع الاحداث.
رابعا: ستحافظ "النخبة الحاكمة المقبلة" على الهيبة الشكلية وتتمتع بمرونة ظاهرية في الحكم وهو جزء من السيناريو السياسي في خلق" واجهات" مقبولة، لكن التحكم والضبط سيتم عبر ادارات سرية وخفية أمريكية ولوقت طويل.
خامسا: كما سيتم الاحتفاظ بعناصر من" النظام القديم" لمنع ولجم اي تغيير جوهري واندفاع الاحداث خارج التحكم الامريكي، أي سياسة قطع الرأس والمحافظة على النظام، وبهذا ستتلاقى المصالح السياسية والاقتصادية للنخب القادمة من الخارج مع مصالح نخب الحكم القديمة. وفي الحالتين ستجد التجمعات والاحزاب الوطنية العريقة والشخصيات المستقلة نفسها خارج لعبة الحكم في تهميش جديد، وسيتساوى في نظام الطوارئ الجديد اليسار واليمين تحت حجج انتظار الوقت المناسب لاجراء انتخابات عامة لن تتم إلا بعد مرور أكثر من خمس سنوات يكون المشهد السياسي العراقي قد تم ضبطه والتحكم فيه بصورة ملائمة.
وفي هذه الايام الحرجة من تاريخ العراق، يغيب مع الأسف الشديد، ومرة أخرى، وكما حدث في حقب سابقة، دور النخب الفكرية والادبية والثقافية، تاركة المشهد السياسي تحت رحمة ذات القوى التي شاركت في هذه المأساة هنا أو هناك، والتي بدأت تلعب الادوار الرئيسة كما هو معروف عنها من حنكة ومراوغة، في أكبر استخفاف بذاكرة العراقيين.
لا نملك في هذا الوضع إلا أن نصلي لموتى يركضون الان!
ــ*
7/ 10 / 2002