|
جورج بونه: شاعر الطفولة والمودة والحنين
رابحة مجيد الناشئ
الحوار المتمدن-العدد: 3902 - 2012 / 11 / 5 - 16:46
المحور:
الادب والفن
جورج بونه: شاعر الطفولة والمودة والحنين ،Georges BONNET : Le poète de l’enfance .de la cordialité et de la tendresse خلاصة لكتابي القادم : أنتولوجي عن الشاعر الفرنسي جورج بونه باللغتين العربية والفرنسية ( مختارات من مؤلفاته الشعرية والروائية ) د. رابحة مجيد الناشئ
البطل السابق لكرة اليد في فرنسا، الشاعر والروائي الفرنسي جورج بونه، ولد سنة 1919 في مدينة ﭙونس( في إقليم شارونت ماريتيم )، إلا أنه منذ عقود يعيش في مدينة ﭘواتيه.
لأجل زيارة هذا الأديب، يجب اجتياز شوارع ضيقة مؤدية إلى زُقاق يشبه إلى حد كبير الأَزقة العراقية، في نهايته ينوجد منزل الشاعر. في وسط الحديقة المعطرة بأنواع الزهور، تهيمن شجرة صنوبر ضخمة، عَلِمنا أن الشاعر يحبها إلى حد العشق لكونها الشاهد الحقيقي لقصة حياته.
بعد اجتياز المدخل، نشاهد على الجدران في الصالة لوحات تجريدية جميلة تشهد على موهبة المُضيِّف في فن الرسم....ثم نأخذ السلالم من أجل الوصول إلى مكتبه.
في الرابعة والتسعين من عمرهِ، جورج بونه رشيقٌ أنيقٌ رقيقٌ، يستقبل الضيف بابتسامة مؤثرة في القلب وبحديثٍ عذبٍ متحدياً لتجاعيد الزمن.
بيت مُدهش يعيشُ فيه الأديب لوحدهِ بعد أن رحلت زوجته سوزان قبل عام: ‹‹ اشترينا هذا البيت عام 1955 وكان يحتوي على 15 غرفة، إلا أنه كان في وضع سيء جداً، ونحن رَممناه، ولأن راتبي كأستاذ جامعي لم يسمح لي بدفع كل شيء، بعنا الطابق الأرضي من الدار لامرأة أصبحت جارتنا وصديقتنا››.
مكتبة ضخمة عامرة وبلغات مُتعددة، وعلى رفٍ قريب من الشاعر تستقر دواوين شعرٍ لشعراء تأثر بهم وما زال يقرأهم: ‹‹ هناك شعراء تأثرتُ بأسلوبهم وابداعاتهم الأدبية، قرأت لهم كثيراً، وحاولتُ أن أُبسط كتاباتي قدرَ الإمكان، ومنهم جيل سيـﭘرﭬـيَّل - ( 1960 – 1884 ) Jules Supervielle، جان فولان - ( 1971 – 1903 )- Jean Follain ، ﭘول ألوارد - ( 1952 - 1895 ) - Paul Eluard ، غونه كادو- (1951- 1920 )- René Cadou ، وكذلك قرأت لويس آراگون - ( Louis Aragon- ( 1897-1982 ، وجاك ﭘريـﭬر - Jacques Préver- ( 1977- 1900)، وآخرين، وكنت أنظم الشعر وَلكنني لم أنشر إِلا في عام 1965 وكان عمري 45 عاماً››. ♦ دَرَسَ جورج بونه الفلسفة، فكيف أصبحَ فيلسوفنا رياضياً ثم شاعِراً وروائياً ؟ دون تردد يُجيب: ‹‹ مُنذ صغَري أعشق القراءة، والأدب يجذبني بقوة... أستاذي للفلسفة قدَمني للمسابقة العامة ، وهكذا درستُ الفلسفة إِلا أنني تركتُ دﭘلوم الفلسفة واقتحمتُ ميدان التربية الرياضية ثم أصبحتُ في الفريق الرياضي الفرنسي وأستاذاً للتربية البدنية في جامعة ﭘواتيه إلى حين التقاعد في عام 1979. ثم توجهتُ إلى ميدان الكتابة...الشعر والروايات والقصص، فهذا هو ميداني الحقيقي››.
لا يتأسف جورج بونه على ترك الميدان الفلسفي ويؤكد على أنه عاش حياتين بسعادة الواحدة كالأُخرى، الأُولى على أَرضية الملاعب وكأستاذ للتربية البدنية، والأُخرى على طاوِلة الكتابة.
’’ الرأسُ في حدائقه ‘‘، المجموعة الشعرية الأولى لجورج بونه وقد صدرت في عام 1965 وتتضمن 25 قصيدة، كلها نداوةً وعذوبة. هذه القصائد أَظهرت المواضيع التي تصدى لها جورج في طول وَعرض نتاجاته الأدبية: الطفولة - المدرسة – الأرض - الطبيعة، الحيوان والنبات الصداقة - الشيخوخة - الموت .....
وفيما يلي ترجمة لإحدى قَصائد هذا الديوان:
إِن دَخلَ العصفور الهابط في قلب حديقة لعينيك كما يدخِل مَنزله وقادَكَ مباشرةً إلى قلبكَ النابِض وإِن تَحوَّلَ الأرنب البري في ضوءِ مَصابيح سيارتك إِلى حِصان وأصبحت سُرعَة عَدوهِ دون مُباغته ضربات لقلبك إذاً أنتَ شاعِرٌ عصفورٌ أرنبٌ حِصان بعد هذا الديوان صمتَ الشاعر عن قول الشعر لمدة 18 عاماً‘ مُفضلاً تكريس وقته الحر لممارسة تعبير فني آخر" الرسم التجريدي " والذي أَبدَعَ فيه. وعندما يُسأَل جورج عن العلاقة ما بينَ الأَدب والرسم يقول: ‹‹ بين الرسم والأدب علاقات حميمية، وأنا أحب مزج الألوان، وأتمتع كثيراً بالرسم....إلا أَنني أُفضل أن أفشي أسراري دون أن أَكونَ خجلاً، لأن المرء لا يعرف قرائه ››.
بعد هذا الصمت، شعر جورح بأن ميدانه الحقيقي هو التحليق بالكلمات، وعلى الأخص بعد أن تقاعد عن العمل في عام 1979، حيث وجد نفسه متحرراً من الالتزامات، فواصَلَ الكتابة التي أَحدثت تحولاً جذرياً في حياته، على حد تعبيرهِ. وهكذا أَصدر ديوانه الشعري الثاني‹‹ حارس كوم الحصاد ›› في عام 1983، وهو ديوان غزير وقد كان بلغةٍ جديدةٍ غير مألوفة، مملوءة بالمجون والهزل والصور المضحِكة.
في هذا الديوان انغمس الشاعر في تخيلاته وكتبَ على هواه وبلهجة الفكاهة والدعابة:
- ‹‹ كاهن القرية باقة نعناع ›› - ‹‹ بطن رئيسة الدير لم يرَ الصيف يوماً ›› - ‹‹ الصباحات والمساءات تختفي تحتَ القبعة ››......
في ديوانه هذا بدى إيقاع كتاباته جامحاً مُطلق العنان...هذهِ القصائد " الهجائية " تضعنا ثانيةً في الذاكرة،
ذاكرة القرن الثالث عشر، كما تقول صديقة الشاعر، الشاعرة أوديل كاراديك – Odile Caradec .
ويبدو أنَ الشاعر استدرك ما أضاعه فعوضَ الزمن الضائع، 18 عاماً من الانقطاع عن الكتابة، فكتبَ الذي أراد أن يقولهُ. وانطلاقاً من هذهِ المجموعة الشعرية بدأ يتمسك بالشكل القصير للقصيدة ( 15 - 8 ) بيتاً من الشعر على الأكثر....القصيدة مُعراة وذاهبة نحو الأساسي وببعض الأَبيات يجد النص كماله. وفي مجموع أَعماله الشعرية جورج بونه لم يَخل بمبدأ الشكل المختصر، شعره يوقظ المشاعر من أول الكلمات ويصحب القارئ برشاقة من صورةٍ لأخرى. هذا الإيجاز ينسجم مع التأثير البلاغي من خلال الزهيد... فَشِعر جورج بونه ليس به حاجة لأن يكون طويلاً لكي يكون مؤثراً، فبكلمات قليلة يعبر عن الكثير ويجعل القارئ منبهراً ومنذهلاً مما يكتشفه عن هذا الشاعر، وفي نفس الوقت يجعله يشعر بأنَ هذهِ القصائد الرائعة بجمالها، واضحة جلية...لكن الواقع هو غير ذلك، فهذهِ البساطة الواضحة خادعة ومظللة، لأن قصائد جورج ذات زخارِف والتواءات... وفي هذا الأمر نتعرف على قربى ووشاجة مع قصائد الشاعر الفرنسي جان فولان - Jean Follain فيما يخص هذه البساطة الظاهرية. بعد هذا الديوان نشر جورج بونه 14 مجموعة شعرية منها:
- إلى ينابيع الصمت – 1986 - موت طفيف - 1988 - ذلِكَ الذي يقترب – 1991 - بِمَ يُصنع العالم – 1992 - في موسمٍ آخر – 1993 - صبر الأيام – 1994 - كل شيء موزون جيداً – 1996 - بين الأزمان - 1997 - العودة للحياة – 1999 - الخنافُس والصراصير( أَشعار للأَطفال ) – 2003 - بعيدون – 2005 - سماء على ارتفاع قامة الإنسان – 2006 جورج بونه روائياً
في سنة 2000، وهو في سن الواحد والثمانين، نشر جورج بونه روايته الأولى الرائعة ‹‹ ذات صيف جميل جداً ››، والتي لاقت نجاحاً كبيراً وحازت على جائزة الكِتاب في إقليم ﭘواتو شارونت، ونفدت سريعاً من الأسواق.
في اﻟ 81 سنة من عمرهِ، جورج بونه لم يكتب رواية مبتدئ...كل كلمة، كل جملة، موزونة بشكلٍ دقيق ومؤثرة في المشاعر. رواية فاتنة أَخاذة، بنصوص قصيرة عن الحياة الريفية. عالم فلاحي بكل بساطته وبكل تناقضاته...الرواية تتحدث عن أشياء حياتية صغيرة ولكنها حقيقية وإنسانية بعمق كبير.
فيما يلي ترجمة لأحد هذهِ النصوص:
(( بين مخزن وَعمارة من القرميد الأَحمر، وَعلى بُعد قليل عن المدينة يختبئ المبغى خلفَ بعض الأشجار. في الطريق إلى المدرسة، امرأة شقراء تبتَسِمُ لَهُ أَحياناً راسمةً إشارةً ودية رَقيقة. ضربات قلبه كانت تتسارع ويأخذه قلقٌ لذيذ. عِندَما اختفت في نهاية خريف، عَرَفَ حَسرة الحُب الأُولى )).
تبع هذهِ الرواية، رواية أُخرى في سنة 2004 بعنوان: ‹‹ لحظة خاطفة من السعادة ››، ثم رواية ثالثة في سنة 2006 ‹‹ عيون الكلاب ظمآى على الدوام ››.
بعد هذهِ الروايات، كتب جورج بونه قصصاً عديدة منها:
- ذات يوم سنغادر- 2008 - كل نظرة عين هي وداع – 2010 - بين كلمتين الليل – 2012
وفي كل هذهِ القصص والروايات، جورج بونه بقلمه الناعم الشهي يجعل القارئ يرتعش تأثراً وانفعالاً لقصص أبطاله، والتي قد تكون أحياناً قِصصاً عادية...فهو يعرف كيف يجعل من المساهمين بأمور بسيطة، الأكثر تشويقاً للقارئ، بل يستطيع أن يثير اهتمامه بصرير دولاب، بضوضاء أقدام على السلالِم، بوردةٍ مُزهرة بين تشققات الإسمنت، بقطرات ماء على المغسلة.... وفي كل مؤلفات جورج بونه الشعرية والروائية، نجد التواضع والبساطة في الكلمات المستخدمة لتدوين الحياة اليومية بتعريةٍ للذاكرة وعلى الأخص عندما يتعلق الأَمر بذكريات الطفولة واستحضار القرية والعائلة، الأدوات والحقول، بل حتى الحجارة. فهو الأديب الذي يعرفُ جيداً كيفية الإمساك باللحظة الهاربة من الذاكرة، وكل استذكار تحت ضوء هذهِ اللحظة يوقِظ رنيناً ويمزج به جورج فترات من حياته الحاضرة مع حياته الماضية. وبفعل هذهِ الخاصية لذاكرته يعيش الشاعر الروائي ثانيةً حدة وكثافة المشاعر لتلك اللحظات.
هذا الشاعر ابن فلاح وَحفيد لفلاح وَمطبوع بعمق بقريته ( سانتونجة )، وتبقى الطفولة التي عاشها البُنية لكل أشعارهِ وكتاباته وإِلهاماً يعود إليه دائماً كالعودة إلى ينبوع مُتدفق يغترف منه، ليصف لُباب الحياة.... انطلاقاً من طفولته ومن حياتِهِ الخاصة. فعندما نقرأ ما يكتبه جورج عن الأطفال والطفولة نشعر وكأننا نقرأ سيرة ذاتية لهذا الأديب. وحين يُسأل جورج عن ذلك يقول: ‹‹ نعم الطفولة موجودة دائماً في كتاباتي، هذهِ الطفولة القروية وَشمتني إلى الأبد. وفي غالبية أعمالي أتحدث أنا عن طفولتي... ففي روايتي الأولى ( ذات صيف جميل جداً ) ذكريات البطل هي ذكرياتي الشخصية وكذلك الأمر بالنسبة للبطل في (عيون الكلاب ظمآى على الدوام ) وفي ( لحظة خاطفة من السعادة ) وكذلك في المجاميع الشعرية والكتابات الأخرى. ثم يستطرد قائلاً: الإنسان الحقيقي هو من يحتفظ بطفولته أطول وقت ممكن ››.
إن هذا يُذكرنا بالشاعر والروائي الفرنسي الفريد دو موسيه - ( 1857 - 1810) - Alfred de Musset الذي اشتهر بكتابه المعنون: ‹‹ اعترافات طفل من العصر›› والذي يُعتبر سيرة ذاتيه حقيقية لهذا الشاعِر.
في ديوانه المعنون ( في موسم آخر )، يتحدث جورج عن هذه الطفولة التي لا تفارقه:
‹‹ هذهِ طفولتي لم تزل دافئة أَحتفِظُ بها سَجينة كَعصفورٍ تحتَ قميصي عِندَما أُحلِقُ بالكلمات ››
هذه التمتمة الطفولية لم تختفِ أبداً من لغة جورج بونه: ‹‹ في هذهِ المدرسة، شمسٌ بارِدة غَزَت الأطفال عندما كشف لهم المعلم وحشية القراصنة وبربريتهم تولَدَ لديهم في المساء خوفٌ منَ الضياع أقفرت الطرق من الغناء وَنِداءاتٌ من بعيد لِنُلَحِنَ مُوسيقى للانتظار والمنفى ›› هنا يتحدث جورج عن المشاعر التي عاشها قديماً في المدرسة القروية، وعن الوضعية النفسية لتلاميذ المدرسة حين قَصَ عليهم المعلم حكايات عن الحروب.
الخنافس والصراصير : ديوان شعر أهداه جورج بونه للأطفال وفيما يلي إحدى قصائد هذا الديوان:
لُعبة التخبئة
ينبغي أن نَعرِف بأنَ مَن يَلعَب الختيلة رُبما سيكون طي النسيان إن لم ينتزعه أحد من تجويف شجرة التفاح الشائخة ومن سَخام الدَغَل عليك أن تَصيح تَصرخ، تضرب الأرضَ بقدميك لِتَكُن مذكوراً وَمُقاداً في نهاية المطاف ليومٍ حَيوي في عالم الأحياء.
عشق أبدي للطبيعة وللأرض
جورج بونه على مَقربةٍ من أَصغر ارتجافات الطبيعة التي يحب أن يتقمصها أو حتى يتطابق معها، فعندما يتحدث جورج عن الأرض يجعلنا نشعر بأنه جزء منها...فالأرض بالنسبة له ثملة بالحب، وهي تسمع من خلال آذاننا ما يجري وما يحدث فوقها:
‹‹ نحنُ آذان الأرض تواصِلُ فينا مُحياها تَمتزِجُ بدمائنا ››
وفي قصيدة أُخرى يقول:
‹‹ بحلول المساء دَمُ العليق يمتزج بدمي ››
وحين يسمع كلمة أرض ينتفض جورج قائلاً: ‹‹ الأرض، النبات، الحيوان....طفولتي وصباي...أنا ابن فلاحين والأرض عشيقتي والعمل فيها مصدر إلهامي ››.
" الأَموات يعودون في حرارة الذاكرة والتماثيل أَرامل الزمن "
مُحباً للحياة وَمحتفلاً بها، لا ينسى شاعرنا أولئك الذين سبقونا ‹‹ الأموات ››، بدءً بأفراد عائلته، الأم، الأب، والعم...وحتى الأموات المجهولين الذين عملوا بأيديهم الأشياء التي نستعملها اليوم والتي يسميها جورج بونه ( عسل الأموات )، وهو يرى بأن هؤلاء الأموات يديرون مشهد الحياة لفترة طويلة ولهم اسلوبهم بأن يكونوا حاضرين بيننا:
‹‹ رائحة أَبي مُتعرقاً في مَجمعِ التبن تدفئ ظله من جديد ›› ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ‹‹ كل مساء عربة الأجداد تدور حول المنزل ››
جورج متأثر جداً بهؤلاء الأموات إلى درجة أنه كرسَ لهم ديوانه الموسوم: العودة للحياة.
أما بالنسبة لموته هو، فيبدو أنه لا يخافه...وصوره الشعرية تسير على رؤوس أصابع كلمات الرقة والنعومة من أجل أن تقول القاسي والثقيل...من أجل ان تقول الموت....إلى حد أنه أطلق على أحد دواوينه الشعرية اسم الموت الطفيف، وفي إحدى قصائده يقول: ‹‹ اسير بخطواتٍ بَطيئة نحو الاستسلام والغريب في الأمر قرير العين ›› أما شيخوخته فيصفها الشاعر كما يلي:
‹‹ الجسد سعيد الذاكرة تلتهبُ رويداً الذهنُ أَحياناً كدلتا النيل مُتموج بالقوافي ››
أما ذكر الأم فهو الأكثر تردداً في دواوينه الشعرية حتى لكأنها موجودة دائماً بجانبه: ‹‹ من الطبيعي أن تظهر أمي في أشعاري، كانت امرأة ذكية جداً، رائعة ومنفتحة على العالم، وقد أثرت على كل ميادين حياتي وبالذات في الميدان الشعري، وكان كل منا متعلق بالآخر...لقد كنت الأصغر في العائلة، 17 و18 سنة الفارق بيني وبين أخي وأختي...››. ثم يستطرد قائلاً: ‹‹ كنت أشعر بأن أمي لا ترغب في أن أكبر يوماً... للأسف توفيت في عام 1965 ولم تَرَ مجموعتي الشعرية الأولى التي ظهرت بعد وفاتها بشهر واحد ››.
وهذا مقطع من قصيدة في ديوانه المعنوّن ‹‹ زمن فريد ›› يُظهر حنينه إلى ذلك العهد: ‹‹ في ذلِكَ الوقت كُنتُ لَم أَزل أَعيشُ في عيون أُمي عِشتُ الابتهاج الذي تعرفه العصافير باقتراب الشمس ››.
والشاعر يقظٌ للعالم الذي يحيط به، وله إحساس مَسنون للمآسي التي تتعرض لها الشعوب، كما نلمس ذلك في القصيدة التالية من ديوانه ‹‹ صبر الأَيام ››:
تَخلى الإله عَن حَقِهِ في الكلام والنهار بلون الرماد
توفيَّ الخبازُ هذِه الليلة وَصمتت صَراصير الليل
أَلمٌ تَوَلَّدَ فجأَة، مَجاعاتٌ وحروبٌ تثير الغيظ في قاَراتٍ أُخَر
آلامٌ على الصُلبان وَفي العالم ما زال المسيحُ يَجُر صليبه
ويستمر جورج بونه بشعرهِ المِعطاء، وبشكل خاص إجلاله وَعبادته لمفهوم الصداقة التي يهدي إليها قصيدة جميلة جداً تبدأ بالمقطع التالي:
‹‹ حينَ تمتد الصداقة كالقنطرة ما بين الحدائق والمنازِل وفي الواجهات المتهامسة تأخذ الحياة مجراها بهدوء كل شيءٍ في مكانه وبرمزيته ››
‹‹ بين كلمتين الليل ››‘قصة صدرت حديثاً لجورج بونه، في حزيران 2012، وهي قصة مؤثرة جداً مستوحاة من الاختفاء البطيء لزوجته سوزان بَعدَ إصابتها بمرض الزايمهر ـــــــ La maladie d’Alzheimer وَرحيلها المؤلم بعد ستة عقود من الصحبةِ والمحبة. قصة كتبها هذا الزوج المحب الودود وهو في الثالثة والتسعين من عمره واصفاً التحول المخيف في شخصية هذه المرأة الرياضية العازفة على الكمان...المرأة الحبيبة التي أحبها ويحبها إلى الأبد. هذه القصة عبارة عن يوميات لهذا الرجل التسعيني يستحضر فيها الأشهر الأخيرة من حياة زوجته واصفاً المشاعر المؤلمة التي تنغرس في قلبه الرقيق حين يزورها يومياً في المصح ويبقى معها من الساعة الثانية حتى الساعة السادسة، حيث يقودها إلى صالة الطعام لتناول وجبة العشاء. كتب جورج بونة هذه القصة التي أهداها إلى حبيبته الراحلة، مستعرضاً فيها ما كان يراه ويشعر به حين يرى زوجته المريضة، واصفاً التغيّرات التي حدثت لها يوماً بيوم. وفيما يلي إحدى صفحات هذا الكتاب:
الأَيام والأَوقات السعيدة تعود، دائما عِندَما تتحَدَث أَيادينا لبعضها متعانقةً، جائِعةً، مُنتميةً للحياة. أَروي لها مَسار التعلم الطويل لسعادتنا، أُحدثها عن ليلةِ صيفٍ عِندَما غمِرَ القَمرُ المرُوج، وحينَ غَنَت صَراصيرُ الليل عُشقَها اللامتناهي للأرض. إِنها تعيشُ بينَ عالمين، وعلى حدود مُتَحيَّرة، تارةً غائبة بعيدة المنال، وطوراً متهيئة لاستقبال الكلماتِ والإيماءاتِ الودية. العينان مُغلَقتان، هي تَحلمُ، وَحلمها أكثر واقعيةً من الحقيقة. سائحة في داخل نفسها. أَيادينا مِن جديد. الواحِدة تصغي للأُخرى. أَيادينا لها ذاكرتها، وتتفاهم كلماتٌ تولدُ تحت الأَيادي. ♦ ‹‹ بين كلمتين الليل ››، لماذا هذا العنوان، وماذا يعني تحديداً ؟ يجيب جورج:‹‹ لأن الليل يأتي ببطء، الليل في رأس سوزان، فهي تريد أن تقول شيئاً إِلا أنها لا تجد الكلمات...يوجد فاصلة...فسحة كبيرة بين كل كلمة وهذه الليلة التي انتهت في رأسها ››.
هذا الكتاب، شهادة ونتاج أدبي رائع في آن واحد، وهو يصلح أن يكون رفيقاً لأَقارب المصابين بهذا المرض ولكل الذين يحيطون بهم في فترة مرضهم.
فقدان الأَحبة صعبٌ جداً، إِلا أن الحياة لا تتوقف وخصوصاً عِندَ أَمثال شاعرنا جورج بونه. في الرابعة والتسعين من عمرِه، محب للحياة، يقرأ ويكتب الأدب، يُنظّم ويدير حياته اليومية في داخل المنزل وخارجه...يَسيرُ يومياً أكثر من خمسة كيلومترات في شوارِع وأزقة مدينة ﭘواتيه وحدائقها العامة لأجل تحريك جسدهُ الرياضي ولآجل أن يسمح للكلمات أن تأتي إليه ليسطرها فيما بعد على أوراقه.
♦ ماذا يكتب جورج هذه الأيام ؟
‹‹ المرعب والمهول، إني لا أشعر بأني شيخ مُسِن، إلا أنَ الحقيقة هي هُنا...هناكَ حاجة ماسة للكتابة والاستفادة من الوقت، عيناي تتخليان عني...تُبطِئان عملي ولي مشاريع عديدة...››.
♦ وما هو المشروع القادم ؟ ‹‹ سوف يصدر لي كِتاب في آذار المقبل 2013 ››. ♦ قِصة، رواية، أم شعر ؟ ‹‹ نثر ››. ♦ وتحت أي عنوان ؟ ‹‹ من الضفة الأُخرى للزمن، لكن هذا العنوان ربما سيتغير ››. حَولَ أي شيء يتحدث هذا الكتاب ؟♦ أتحدث فيه عن الناس الموجودين في الحياة، وعن اختلافاتهم وتعايشهم بالرغم من تلك الاختلافات... ›› فالناس فيهم: - المرأة والرجل، الصغير والكبير، القصير والطويل، المتعلم والأمي، السعيد والتعيس، الرقيق والفظ، الخبيث وطيب القلب، العامل والعاطل....والكتابات عن هؤلاء ستكون كلها بصيغة الماضي ››. ♦ لماذا لا يضع جورج بونه عنواناً للغالبية من قصائده ؟ ‹‹ حينَ أَكتبُ قَصيدة، فأنا لا أَكتبها لي فقط، بل أكتبها كذلك للقُراء، لذا أُحبُ أَن أَترك الحرية لكل قارئ في وضع العنوان الذي يراهُ ملائماً للقصيدة››.
من الصعب جداً الحديث عن قامةٍ أَدبية كجورج بونه، شاعر الطفولة والمودة والحنين، ثم أن الترجمة من لغة إلى أخرى من الصعب أن تكون مطابقة للجوهر بشكل كامل ، إلا أن التواضع اللامتناهي لهذا الإنسان الرائع المعطاء هو أحد العوامل الرئيسية وراء هذهِ المغامرة في الحديث عن شعرهِ وأدبهِ الرفيع وعن مصداقية مَشاعره وأفكاره.
جورج بونه إن كان عليَّ أن أُعرِفَ بكَ، فانتَ الذي ينوجد دائماً على ارتفاع قامة إنسان.
#رابحة_مجيد_الناشئ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهرجان اللومانتيه في دورته السابعة والسبعين يزهو من جديد
-
نهرٌ منَ الحُبِ والتضامُن تدَفقَ في هولندا
-
سوق الشعر في باريس، رسالة حب وسلام
-
مهرجان دوافع العمل في مدينة ﭘواتيه الفرنسية - ديمقرا
...
-
الطفولةُ تَتَعمدُ برحابِ رَبيع الشُعراء في فَرنسا
-
يوم المرأة في فرنسا
-
المصور عباس علي عباس: مَدينٌ بعيني لبغدادَ وَمن فيها
-
الفنان العراقي كريم إبراهيم يُسجل احتجاجا في مهرجان اللومانت
...
-
مهرجان اللومانتيه، ربيع للابداع، وموعد للحب والتضمن الأممي.
...
-
عيد اللومانيتيه، إنتصار للديمقراطية وللتضامن ما بين الشعوب
-
الأول من أيّار في فرنسا عيد مزدوج: عيد العمال العالمي وعيد ز
...
-
ربيع الشعر مُهدى إلى المرأة في عيدها الأممي
-
ا ستغلال واضطهاد النساء عالمياً في عمقه التاريخي والجغرافي
...
-
8 آذار: في آذارها ...المرأة العراقية...صبر وصمود وطموح
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|