مجدى زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 3899 - 2012 / 11 / 2 - 20:48
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الامبراطور الرومانى قسطنطين هو بين الرجال القليلين الذين زين التاريخ اسماءهم بلقب " الكبير ". واضاف العالم المسيحى الالقاب " القديس " , " الرسول الثالث عشر " , " المقدس المساوى للرسل " , والمختار بواسطة العناية الالهية لينجز اكبر تحول فى العالم بأسره. ومن جهة اخرى, يصف البعض قسطنطين بأنه " ملطخ بالدم, موصوم بأعمال شائنة لا تحصى, ومملوء خداعا, . . . مستبد رهيب, مذنب بارتكاب جرائم مروعة ".
تعلم كثيرون من المدعين المسيحية ىان قسطنطين الكبير هو احد ابرز المحسنين الى المسيحية. وينسبون اليه انقاذ المسيحيين من بؤس الاضطهاد الرومان واعطاءهم الحرية الدينية. وعلاوة على ذلك, يعتقد على نطاق واسع انه كان تابعا امينا لخطوات يسوع المسيح ذا رغبة شديدة فى ترويج المسيحية. وقد اعلنت الكنيسة الارثوذكسية الشرقية والكنيسة القبطية كلا من قسطنطين وأمه هيلانه " قديسا ". ويحتفل بعيدهما اما فى 3 حزيران او 21 ايار, وذلك حسب التقويم الذى تستخدمه الكنيسة.
فمن كان حقا قسطنطين الكبير ؟ وماذا كان دوره فى تطور مسيحية ما بعد الرسل ؟ انه لأمر منور جدا ان ندع التاريخ والعلماء يجيبون عن هذين السؤالين.
قسطنطين التاريخى
ولد قسطنطين, ابن قسطنطيوس كلوروس, فى نايسس فى صربيا حوالى 275 ب.م وعندما صار والده امبراطور مقاطعات روما الغربية سنة 293 ب.م كان هو يحارب فى الدانوب بأمر من الامبراطور غاليريوس, وقد عاد قسطنطينالى جانب والده الذى كان يحتضر فى بريطانيا سنة 306 ب.م وبعيد موت والده, نادى الجند بقسطنطين امبراطورا.
وفى ذلك اللوقت, ادعى خمسة ىاشخاص اخرون ىانهم اغاسطة, وشهدت الفترة بين سنة 306 وسنة 324 التى صار بعدها قسطنطين الامبراطور الوحيد, حربا اهلية متواصلة, وانتصار قسطنطين فى حملتين ضمن له مكانا فى التاريخ الرومانى وجعله الحاكم الوحيد فى الامبراطورية الرومانية.
فى سنة 213 ب.م هزم قسطنطين خصمه الكستيوس فى معركة جسر ملفيان خارج روما. وقد ادعى الاباء المدافعون المسيحيون انه خلال هذه الحملة, ظهر صليب ملتهب تحت الشمس عليه الكلمات اللاتينية التى معناها " بهذه العلامة انتصر " ويعتقد ايضا انه طلب من قسطنطين فى حلم ان يرسم اول حرفين من اسم المسيح باليونانية على اتراس جنوده. لكن هذه الحكاية تحتوى على الكثير من المفارقات التاريخية. يذكر كتاب تاريخ المسيحية ك " هنالك تناقضات فى ما يتعلق بدقة زمان, مكان, وتفاصيل هذه الرؤيا ". وللترحيب بقسطنطين فى روما, منحه مجلس الشيوخ الوثنى لقب اوغسطس الاول والحبر الاعظم اى الكاهن الاكبر للديانة الوثنية فى الامبراطورية.
فى سنة 213 ب.م صنع قسطنطين اتفاقا مع الامبراطور ليسينيوسو حاكم المقاطعات الشرقية. وبموجب مرسوم ميلاتو منحا معا جميع الفرق الدينية حرية العبادة والمساواة فى الحقوق. لكن مؤرخين كثيرين يقللون من اهمية هذه الوثيقة, قائلين انها مجرد رسالة رسمية روتينية وليست وثيقة امبراطورية مهمة تشير الى تغيير فى سياسة التعامل مع المسيحية.
خلال السنوات العشر التالية هزم قسطنطين اخر منافس له ليسينوس. وصار حاكم العالم الرومانى دون منازع. وفى سنة 325 رغم انه لم يكن قد اعتمد بعد. ترأس المجمع المسكونى الكبير الاول للكنيسة المسيحية. التى دانت الاريوسية واعدت بيانا يحتوى على المعتقدات الاساسية يدعى دستور الايمان النيقاوى.
اصيب قسطنطين سنة 337 بمرض مميت. فاعتمد وهو على فراش الموت. وبعد موته جعله مجلس الشيوخ بين الهة الرومان.
دور الدين فى استراتيجية قسطنطين
يقول كتاب تاريخ الامة اليونانية مشيرا الى الانطباع العام الذى تركه الدين لدى الاباطرة الرومان فى القرنين الثالث والرابع : " حتى عندما لم تكن للذين تربعوا على العرش الامبراطورى ميول دينية عميقة. فقد استسلموا للجو السائد فى عصرهم, اذ وجدوا انه من الضرورى منح الدين مكانة مهمة ضمن نطاق خططهم السياسية, ليضفوا على الاقل مسحة دينية على اعمالهم .
لا شك ان قسطنطين كان رجلا جارى عصره. ففى بداية مسعاه احتاج الى رعاية " الهية " وهذا ما لم تكن الهة روما التى يضمحل تأثيرها قادرة على تزويده. وراحت الامبراطورية, ومن ضمنها الدين ومؤسسات اخرى تنهار, وكانت هنالك حاجة الى شئ جديد ومنشط لاعادتها الى ما كانت عليه. تقول دائرة المعارف اليونانية ايدريا : " كان قسطنطين مهتما بشكل خاص بالمسيحية لأنها لم تدعم انتصاره وحسب بل ودعمت ايضا اعادة تنظيم امبراطوريته. وصارت الكنائس المسيحية الموجودة فى كل مكان بمثابة دعم سياسى له . . . فأحاط نفسه بكبار اساقفة ذلك الزمان . . . وطلب منهم صون وحدتهم ".
شعر قسطنطين بأن المسيحىة - رغم تفشى الارتداد وكثير من الفساد فيها انذاك - يمكن ان يستخدمها بفعالية كقوة تمنح العزم فى سبيل تنفيذ خطته الكبيرة لكى تسود امبراطوريته. واذ تبنى اسس المسيحية المرتدة ليربح التأييد من اجل بلوغ اهدافه السياسية, قرر ان يوحد الناس تحت دين جامع او عالمى, واحد. فأعطيت العادات والاحتفالات الوثنية اسماء مسيحية. واعطى رجال الدين المسيحيون مراكز, ورواتب, ونفزذ الكهنة الوثنيين.
واذ كان قسطنطين يبحث عن الانسجام الدينى لاسباب سياسية, قضى بسرعة على جميع اصوات المعارضة. ليس على اساس العقائد الحقة بل على اساس ما تقبله الغالبية. والاختلافات العقائدية العميقة داخل الكنيسة المسيحية المقسمة كثيرا, اتاحت له فرصة التدخل بصفته وسيطا" مبعوثا من الله " ومن خلال تعاملاته مع الدوناطيين فى افريقيا الشمالية واتباع اريوس فى الجزء الشرقى من الامبراطورية, سرعان ما اكتشف ان الاقناع لم يكن كافيا لتشكيل دين صلب وموحد * وفى محاولة لحل النزاع الاريوسى دعا الى عقد اول مجمع مسكونى فى تاريخ الكنيسة ( شرح بعنوان قسطنطين ومجمع نيقية فى نهاية المقال )
يذكر المؤرخ بول جونسون عن قسطنطين : " قد يكون احد اسبابه الرئيسية للتسامح تجاه المسيحية هو ان ذلك اتاح له وللدولة فرصة السيطرة على سياسة الكنيسة بشأن المعتقفدات التقليدية ومعالجة الهرطقة ".
هل صار يوما مسيحيا ؟
يذكر جونسون : " لم يتخل قسطنطين قط عن عبادة الشمس التى ابقى صورتها على قطعه النقدية المعدنية ". وتعلق دائرة المعارف الكاثوليكية " اظهر قسطنطيم تأييدا متساويا لكلا الدينين. وبصفته الحبر الاعظم, سهر على العبادة الوثنية وحمى حقوقها ". وتذكر دائرة معارف ايدريا " لم يصر قسطنطين مسيحيا قط. يقول اوسابيوس من قيصرية الذى كتب رسيرة حياة قسطنطين, انه صار مسيحيا فى اللحظات الاخيرة من حياته. فقبل يوم قدم قسطنطين ذبيحة لزيوس لانه كان ايضا يحمل لقب الحبر الاعظم ".
وحتى يوم مماته سنة 337 بقى قسطنطين حاملا اللقب الوثنى الحبر الاعظم, الرأس الدينى الاسمى. وفى ما يتعلق بمعموديته, من المنطقى ان نسأل هل سبقتها توبة حقيقية ورجوع, كما هو مطلوب فى الاسفار المقدسة ؟ وهل كان تغطيسا كاملا فى الماء.
أهو قديس ؟
تذكر دائرة المعارف البريطانية " كان قسطنطين اهلا لأن يدعى الكبير نظرا الى ما فعله لا الى شخصيته. فلو قيم بحسب شخصيته لوجد فى عداد الاقل جدارة بين حاملى لقب الكبير فى الازمنة العصرية او القديمة ". ويخبرنا كتاب تاريخ المسيحية " كانت هنالك تقارير مبكرة عن طبعه العنيف وعن وحشيته عندما يغضب. . . لم يكن يحترم الحياة البشرية . . . وفى ما كان يتقدم فى السن صارت حيانه الخاصة رهيبة ".
من الواضح ان قسطنطين كان يعانى مشاكل خطيرة فى شخصيته. يذكر باحث تاريخى ان شخصيته المزاجية غالبا ما كانت سبب ارتكابه الجرائم. يؤكد المؤرخ ه. فيشر فى كتابه تاريخ اوروبا ان قسطنطين لم يتحل بالشخصية المسيحية. فلا تصنفه الوقائع بأنه مسيحى حقيقى.
حاول قسطنطين بصفته الحبر الاعظم الوثنى - وبالتالى رأس الامبراطورية الرومانية الدينى - ان يستميل اساقفة الكنيسة المرتدة. فقدم لهم مراكز سلطة, شهرة, وغنى كرسميين فى دين الدولة الرومانية. تعترف دائرة المعارف الكاثوليكية " بعض الاساقفة اذ بهرهم بهاء البلاط تمادوا جدا فى الاشادة بالامبراطور الى حد وصفه بأنه ملاك الله, كائن مقدس, حتى انهم تنبأوا بأنه كابن الله, سيحكم فى السماء .
واذ حازت المسيحية المرتدة رضى الحكومة السياسية, صارت اكثر فاكثر جزءا من هذا العالم, وانجرفت بعيدا عن تعاليم يسوع المسيح. ونتيجة لذلك, اندمجت المسيحية فى العقائد والممارسات الباطلة - الثالوث, خلود النفس, نار الهاوية المحرقة, المطهر, الصلوات من اجل الموتى, استعمال السبح, الايقونات, الصور والتماثيل.
وورثت الكنيسة ايضا عن قسطنطين الميل الى التسلط. يقول العالمان هندرسون وباك " افسدت بساطة الانجيل, وادخلت الشعائر والطقوس الرنانة. ومنحت الامتيازات العالمية والتعويضات لمعلمى المسيحية, وصارت مملكة المسيح الى حد بعيد مملكة لهذا العالم ".
اين المسيحية الحقة ؟
تظهر الوقائع التاريخية الحقيقة وراء عظمة قسطنطين. فالعالم المسيحى لم يؤسسه يسوع المسيح. بل كان جزئيا نتيجة المصالح السياسية والحيل الماكرة لامبراطور وثنى وبالصواب يسأل المؤرخ بول جونسون " هل استسلمت الامبراطورية للمسيحية, ام ان المسيحية زنت مع الامبراطورية ؟ ".
* كانت الدوناطية شيعة مسيحية فى القرن الرابع والخامس وادعى انصارها ان صحة اسرار الكنيسة تتوقف على موقف الخادم الادبى وعلى ان الكنيسة يجب ان تستثنى من عضويتها المذنبين بارتكاب خطايا خطيرة. وكانت الاريوسية حركة مسيحية فى القرن الرابع انكرت الوهية المسيح.
جرائم قتل فى السلالة الحاكمة
تحت هذا العنوان يصف كتاب تاريخ ىالامة اليونانية مايدعوه " الجرائم العائلية المريعة التى ارتكبها قسطنطين " فبعيد تأسيس سلالته الحاكمة اصبح مدركا للمخاطر التى تحيط به. شك اولا فى ابن اخته ليسيانوس - ابن لأوغسطس شريك كان قد اعدمه - معتبرا اياه منافسا محتملا. وتبع مقتله اعدام ابن قسطنطين البكر, كرسيس, بتحريض من زوجة ابيه فوستا اذ بدا انه عقبة فى طريق سلطة ابنها المطلقة.
وتصرف فوستا هذا ادى الى موتها المريع اخيرا. ويبدو انه كان لهيلانة التى ظلت تسيطر على ابنها قسطنطين حتى النهاية ضلع فى جريمة القتل هذه. وقد كانت الانفعالات غير المنطقية التى غالبا ما كانت تسيطر قسطنطين السبب فى كثير من عمليات الاعدام التى نفذها فى العديد من زملائه وعشراءه. ويستنتج كتاب تاريخ القرون الوسطى " ان جريمة قتل ابنه وزوجنه تظهر ان المسيحية لم تترك تأثير فيه ".
قسطنطين ومجمع نيقية
اى دور لعبه الامبراطور غير المعتمد فى مجمع نيقية ؟ تذكر دائرة المعارف البريطانية " قسطنطين نفسه اشرف موجها المناقشات بفعالية . . . واذ كانوا يرتاعون من الامبراطور فان الاساقفة باستثناء اثنين فقط, وقعوا الدستور, وكثيرون منهم ضد رغبتهم ".
بعد شهرين من الجدال الدينى العنيف تدخل هذا السياسى الوثنى واتخذ قرارا لمصلحة الذين قالوا ان المسيح هو الله. وكل مافهمه قسطنطين من المناقشالت ان الانشقاق الدينى يهدد امبراطوريته.
يعلق كتاب تاريخ الامة اليونانيبة بخصوص الوثيقة النهائية التى اعدت فى نيقية تحت رعاية قسطنطين " انها تظهر لامبالاة قسطنطيبن بالمسائل العقائدية, . . . اصراره العنيد فى محاولة رد الوحدة داخل الكنيسة بأى ثمن. واخيرا اقتناعه بأنه اذا كان هو اسقف الذين فى خارج الكنيسة فله الكلمة الاخيرة فى اية مسألة دينية. فهل من الممكن ان يكون روح الله وراء القرارات التى اتخذت فى هذا المجمع ؟
#مجدى_زكريا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟