|
المواطنة فى مجتمعات أوروبية وإسلامية (٢-٣)
جمال البنا
الحوار المتمدن-العدد: 3897 - 2012 / 10 / 31 - 09:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ليس من شأن الإسلام أن يمتدح المواطنة أو ينقدها لأنها موضوع يدخل فيه تفاصيل عديدة تؤثر على الحكم عليه، ولكن الإسلام قدم ما هو أهم من هذا لدعم قضية المواطنة وتيسير إقامتها وتأكيد حقها فى الوجود المستقل فى آيات عديدة جدًا أطلق فيها الحديث على النصارى واليهود والمشركين والمجوس، وعُنى بوجه خاص بالتنويه إليها، بحيث لا تكون هناك صعوبة فى أن يتقبل الإسلام مجتمعًا متعدد الألوان والأديان واللغات، وسنعرض فى بيان بعضًا من هذه الآيات باختصار:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (البقرة:٦٢).
«وَقَالَت الْيَهُودُ لَيْسَت النَّصَارَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَت النَّصَارَى لَيْسَت الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (البقرة:١١٣).
«قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (آل عمران:٨٤).
«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ الله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (سبأ: ٢٤، ٢٥).
وتحدث القرآن الكريم عن اليهود والنصارى حديثاً منصفًا، يمثل الحياد والنزاهة التامة وما يمكن أن يُعد درسًا فى الموضوعية والإنصاف، ففى الوقت الذى ندد فيه بتعصب وإصرار اليهود، فإنه اعترف بما لدى البعض منهم من فضائل، فقال:
«وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (آل عمران:٧٥).
«لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَالله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» (آل عمران:١١٣ - ١١٥).
واستغرب القرآن أن يدعو اليهود الرسول ليحكم بينهم، فقال:
«وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُم التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ» (المائدة:٤٣).
وتحدث عن الإنجيل:
«فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِن التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (المائدة:٤٦).
«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (المائدة:٤٧).
وكان توجيه القرآن للحكم على الآخرين: أن يترك ذلك لله، وأنها أمم «قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ»، «وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».
ووجه الحديث إلى المؤمنين فيه:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (المائدة:١٠٥).
«تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (البقرة:١٣٤).
«أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى» (عبس:٥-٧).
«فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية:٢١، ٢٢).
وتقدم الآيتان التاليتان المبدأ الرئيسى الذى يحكم العلاقة ما بين المسلمين وغيرهم:
«لا يَنْهَاكُمُ الله عَن الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ» (الممتحنة: ٨ ، ٩).
سابقة فريدة .. «صحيفة المدينة»:
على كل حال، إننا نجد سابقة فريدة من نوعها، فعندما أدت الظروف لأن يؤسس المسلمون «دولة» فى المدينة كان بها ثلاث مجموعات مختلفة:
أ - أهل المدينة الأصليون الذين ينتظمون فى قبيلتى الأوس والخزرج، ويطلق عليهم تعبير «الأنصار».
ب - اليهود الذين استوطنوا المدينة وسيطروا على التجارة فيها وبنوا الأطام «الحصون»، وبقوا مع الأنصار فى محالفات.
جـ - المهاجرون وهم عرب مكة الذين آمنوا بالإسلام وهاجروا إلى المدينة فرارًا من اضطهاد المكيين.
وضع الرسول صحيفة يُطلق عليها «صحيفة المدينة» أو «دستور المدينة»، وفى بعض الروايات القديمة «صحيفة الموادعة».
والصحيفة تبدأ بـ:
هذا كتاب من محمد النبى رسول الله من المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم .. أنهم أمة واحدة من دون الناس.
ثم تذكر الصحيفة المهاجرين من قريش، وتذكر الخزرج والأوس واحدة واحدة، وتقيم الصحيفة بينهم علاقات تعاون وتكافل، ثم تقول «وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم».
ثم تذكر الصحيفة فئات اليهود على وجه التحديد فتقول:
وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وأن ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بنى جشم مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بنى ثعلبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وأن ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
العنصر البارز هنا هو أن هذه الصحيفة ربطت ما بين المواطنة والمكان «المدينة»، وكما قال الدكتور محمد سليم العوا: «ومن ثم أصبح عنصر الإقليم هو الذى يعطى الحق فى المواطنة، أى فى عضوية المجتمع» (كتاب «فى النظام السياسى للدولة الإسلامية»، ص ٣٢).
إن صحيفة المدينة تقدم لنا مثالاً فريدًا لإعطاء حق المواطنة لكل الذين يعيشون على بقعة واحدة أو من هاجر إليهم مع تعدد دياناتهم وأعراقهم.
#جمال_البنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المواطنة فى مجتمعات أوروبية وإسلامية (١-٣)
-
حتى لا تكون سيناء «يمناً» ثانياً
-
ملك اليمين «٣-٣»
-
ملك اليمين «٢-٣»
-
ملك اليمين (١)
-
إذا بدأنا بالقروض فلا فائدة..!
-
أحسنت..!
-
شرذمة الإصلاحات الإسلامية ما مصيرها؟ (٣٣)
-
شرذمة الإصلاحات الإسلامية ما مصيرها؟ «١- ٣»
-
الأصول الأربعة (٤ - ٤)
-
الأصول الأربعة (٣-٤)
-
الأصول الأربعة ( ٢ ٤)
-
الأصول الأربعة «١-٤»
-
«لو» كان الرئيس الفريق شفيق
-
هذا الترويع التشريعى
-
هل أحكام القضاء أكثر قداسة من القرآن؟
-
شفيق أهه
-
مثال عن تطبيق الشريعة
-
موقع الشريعة الإسلامية فى الدستور الجديد (٢ ٢)
-
موقع الشريعة الإسلامية فى الدستور الجديد «١ ٢»
المزيد.....
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|