كريم مرزة الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 3893 - 2012 / 10 / 27 - 21:19
المحور:
الادب والفن
4 - مدخل لـ "لنشأة النحو العربي .."
سيطرة مدرسة الكوفة النحوية
كريم مرزة الاسدي
ذكرنا في الحلقة السابقة أنّ الكسائي في أواخر حياته قد أصابه الوضح ( البرص) في وجهه و بدنه , فكره الرشيد ملازمته أولاده , وأمره أن يرتاد لهم من ينوب عنه ممن يرتضي به , وقال له : "إنك قد كبرت ,ونحن نحب أن نريحك , ولا نقطع عنك جاريك " جاريك يعني به راتبك , مهما يكن من أمر , خشي الكسائي أن تفلتْ الأمور , وتخرج عن أيدي الكوفيين , طلب تلميذه علي بن المبارك الأحمر النحوي - واسمه في (معجم الأدباء) : علي بن الحسن - والأحمر في الأصل صفة للرجل الذي فيه الحمرة , وقال له : " هل فيك خير ؟ قال : نعم , قال : قد عزمت على أن استخلفك على أولاد الرشيد . ", فأخذ يلقنه ما يعلمهم , ونجح الأحمر في مهامه , وهو طبعاً من أهل الكوفة , وممن ضايق سيبويه زعيم البصريين النحويين عند دخوله قاعة انتظار الوزير يحيى البرمكي يوم المسألة الزنبورية التي مرّ ذكرها , وكان الأحمر جندياً من رجال النوبة على باب الرشيد فطناً ذكياً حتى أصبح مودباً لـ (الأمين) , قال الأحمر : " قعدت مع الأمين ساعة من نهار , فوصل إلي فيها ثلثمائة ألف درهم " ولك أن تعرف الراتب الشهري للجندي في تلك الأيام مائة درهم فقط , وعليك أن تقدر منزلة النحويين والشعراء والكتاب في ذلك العصر , وأن تتفهم لماذا الصراع والحرص على الغلبة ؟! ولعلمك - إن كنت لا تعلم - كان الخلفاء إذا أدخلوا مؤدباً إلى أولادهم , وجلس أول يوم , أمروا عند قيامه بحمل كل ما في المجلس إلى منزله مع ما يوصل به , ويوهب له , وأنت تعرف تماما ما في مجلس الخليفة وأبنائه , وهذا الأحمر ما كان لديه سوى غرفة صغيرة ضيقة في بعض الخانات , لذلك أ ُمِر بشراء دار ٍله وجارية تخدمه , ووهب له غلام , و حُمل على دابة (بمنزلة سيارة فارهة هذه الأيام), وأقيم له ولمن عنده جار ٍ, وكان متمولا ، متجملا ، فاخر البزة ، كأن داره دار ملك بالخدم والحشم (88) , صنف هذا الأحمر كتاب (التصريف), وتوفي في طريق مكة سنة (194 هـ / 809 م) , أي بعد وفاة الرشيد بسنة واحدة .
ويمضي زمن الأمين في صراع دام ٍ مع أخيه المأمون , وما أنْ تسلـّمَ المأمون زمام السلطة , وقدِم إلى بغداد , إلا وارتفع شأن الكوفي الآخر , ونعني به (الفرّاء) , وهو أبو زكريا يحيى بن زياد الديلمي , (144هـ / 762م - 207 هـ / 822م) , ولد في الكوفة , وهذا هو الثاني الذي وقف ندّاً قوياً أمام سيبويه , وأزاحه عن طريقه , وقيل في بعض الروايات أنـّه درس تفسير القرآن في مسجد الكوفة (89) , وها هو اليوم أبرع الكوفيين وأعلمهم حمل العربية على الألفاظ والمعاني فبرع بها , ويتبين ذلك من قوله : " كلّ مسألة وافق إعرابها معناها , ومعناها إعرابها فهو صحيح " (90) ,ولولاه " لما كانت اللغة , لأنه خلصها وضبطها " (91) كما يقول (ثعلب) , و زاد في نعته " لولا الفراء ما كانت عربية , لأنه حصنها وضبطها , ولولا الفراء لسقطت العربية , لأنها كانت تتنازع , ويدعيها كل من أراد " (92) , وهو الذي قال : " أموت وفي نفسي شيء من (حتى) , لأنها تخفض وتنصب وترفع " (93) , وكان يقال "الفراء أمير مؤمنين في النحو " (94) , وقد أصبح فيما بعد مؤدباً لولدي المأمون , ولمّا أراد يوماً أنْ ينهض إلى بعض حوائجه ابتدرا إلى نعله ليقدماها له , فتنازعا أيهما يقدمها له , ثم اصطلحا على أن يقدّم كل واحد منهما واحدة , فقدماها , فرفع الخبر إلى المأمون , فاستدعاه وقال له : " من أعز الناس ؟فقال الفراء : لا أعرف أحداًأعزُّ من أمير المؤمنين ! قال بلى ... من من إذا نهض تقاتل على تقديم نعله وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل واحد منهما أن يقدم له واحدة " . واعتبر المأمون هذا العمل من حسن الأدب " وما وضع ما فعلا من شرفهما , بل رفع من قدرهما وبيّن عن جوهرهما " وعوضهما المأمون مما فعلا عشرين ألف دينار , وللفراء عشرة آلآف درهم على حسن أدبه لهما . (95) , وهذا الخبر يدل على أمرين : أولهما حنكة المأمون وحكمته وبعد نظره وحسن أدبه , وثانيهما منزلة النحويين وأهمية اللغة لدى الخلفاء العباسيين في عصرهم الأول , بل أكثر من هذا , إنّ الخليفة المأمون أمر " الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو , وما سمع من العرب , وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار , ووكل به جواري وخدماً يضمن بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه , ولا تتشرف نفسه إلى شيء, حتى أنهم كانوا يؤذنون بأوقات الصلاة , وصيّر له الوراقين , وألزمه الأمناء و المنفقين , وكان يُملي و الوراقون يكتبون حتى صنف ( الحدود) في سنتين , وأمر المأمون بكتبه في الخزائن" (96) .
وكان الفرّاء أيصاً يجري على مجرى القياس كأصحابه الكوفيين , " يُروى عن بشر المريسي(97) , أنه قال للفراء : يا أبا زكريا ...أريدأن أسألك مسألة في الفقه ؟ فقال : سل ! فقال : ما تقول في رجل سها في سجدتي السهو ؟ قال : لا شيء عليه . قال : من أين قلت هذا ذلك ؟ قال : قسته على مذاهبنا في العربية , ذلك أن المصغر لا يصغر , وكذلك لا يُلتفت إلى السهو في السهو , فسكت ." (98) .
الحقيقة بعد المسألة الزنبورية سيطرت مدرسة الكوفة في النحو العربي على عاصمة الخلافة " وكان الفرّاء يتفلسف في تأليفاته وتصنيفاته حتى يسلك في ألفاظه كلام الفلاسفة , وكان أكثر مقامه ببغداد, وكان يجمع طوال دهره , فإذا كان آخر السنة خرج إلى الكوفة , فأقام بها أربعين يوماً في أهله , يفرق فيهم ما جمعه ويبرهم " (99) , ولكن مع ذلك حاول الفرّاء بفلسفته النحوية أن يعدل من مسيرته الكوفية لكي تفاوق مسيرة أهل البصرة إرضاءً لهم , وخصوصاً بعد المناظرة بينه وبين أبي عمر بن صالح بن إسحاق (الجرمي) البصري , وهو صاحب دين وإخاء وورع ,صاحب كتاب (المختصر في النحو ) (ت 225 هـ /840 م) , ينقلها إلينا ابن الأنباري في (نزهته) , وفي هامش (إنباه...) القفطي , ومجملها عند اجتماعهما قال " الفرّاء للجرمي : أخبرني عن قولهم (زيد منطلق) لِمً رفعوا (زيداً) , فقال له الجرمي بالأبتداء ! فقال له الفرّاء : وما معنى الأبتداء؟ قال : تعريته من العوامل , قال له الفراء : فأظهره . فقال الجرمي : هذا المعنى لا يظهر . قال له الفراء : فمثله . قال له الجرمي : لا يتمثل . قال الفراء : ما رأيت كاليوم عاملاً لا يظهر ولا يتمثل ! فقال الجرمي : أخبرني عن قولهم : (زيد ضربته) , لِمَ رفعت (زيداً) ؟ فقال : بالهاء العائدة على زيد ! قال الجرمي : الهاء اسم , فكيف يرفع الاسم ؟ قال الفراء : نحن لا نبالي من هذا , فإنما نجعل كلّ واحد من المبتدأوالخبر عاملاً في صاحبه في نحو (زيد منطلق). فقال له الجرمي : يجوز أن يكون كذلك في نحو ( زيد منطلق) , لأن كلّ واحد من الاسمين مرفوع في نفسه , فجاز أن يرفع الآخر , وأما الهاء في (ضربته) ففي محل النصب , فكيف ترفع الآسم ؟ فقال له الفرّاء فقال الفرّاء : لم نرفعه به وإنما رفعناه بالعائد ! فقال له الجرمي : وما العائد ؟ فقال له الفراء معنى , فقال له الجرمي : اظهره ؟ قال : لا يظهر , قال : مثله؟ قال : لا يتمثل ! فقال له الجرمي : لقد وقعت فيما فررت منه" (100) .
كان الجرمي يسير على خطى سيبويه إذ يرى العامل في المبتداهو الإبتداء , وأما الخبر فقيل يُرفع بالمبتدآ , وقيل بالابتداء أيضاً , في حين الفراءعلى مذهب الكوفيين , فيرى مثلهم أنّ عامل الرفع فيه الخبر وليس بالابتداء , ومثله الخبر عندهم يرتفع بالمبتدأ , المهم العامل فيها معنوي وليس لفظيا , والعوامل في النحو مائة , ليس منها سوى عاملين معنويين فقط , أولهما الإبتداء , وثانيهما الفعل المضارع عند وقوعه موقع الاسم نحو( زيد يضرب) في موقع (زيد ضارب ) .
لذلك قد خرج الفرّاء عن مدرسته الكوفية وأستاذه الكسائي في أمور أربعة وهي :اهتمامه بالمعنى واللفظ في الإعراب بينما الكسائي يهتم بالمعنى دون اللفظ , واعتماده على شعر المحدثين والاستشهاد به , فقد أجاز الرفع بعد (إلا)الأستثنائية في الموجب نحو ( قام القوم إلا زيدٌ), وردّه بعض القراءات وتقبيحها , وهو يلتقي بذلك مع البصريين , وتخطئته للعرب, وهو أيضاً يتفق في هذا الأتجاه مع البصريين , ولكن هذا لا يعني أنه بعد كثيراً عن مدرسته الكوفية , كلا فقد بقي مشدوداً إليها متعصباً لها وللكسائي , نابذاًلسيبويه (101).
واستمر الحال على هذا المنوال , إن الكسائي الكوفي قد أثر تأثيراً كبيراً على الأخفش الأوشط , بل جعله مؤدباً لأولاده , ولكن الجرمي البصري ما كان تأثيره على الفراء إلا قليلا , كما ذكرنا سابقاً , والنار كانت نستعر تحت الرماد , أنـّى مرّت رياح عليها برز مجدداً الخلاف , وأصبح على أشدّه في القرن الثالث الهجري , وكان الجدال عقيماً لا يراد منه غلآ دحض الرأي الآخر , وإثبات الحجة ,بالإكراه حتى وصل الأمر أن يتهكم بهم يزيد بن الحكم الثقفي , فقال على سبيل التهكم , وهجاء النحويين :
إذا اجتمعوا على ألفٍ وواو ٍ*** وياءٍثار بينهمُ جدالُ (102)
وكتب رفيع بن ابن سلمة المعروف بدماء قصيدة إلى شيخ البصرة أبي عثمان بكر بن محمد المازني (ت 236 هـ /850 م في عصر المتوكل ), أخذ عن الأخفش الأوسط, وروى عن بن عبيدة والأصمعي , وتعلم عليه المبر د الشهير البصؤي (الذي قبل يد دعبل) , والفضل اليزيدي وغيرهما , وكلهم بصريون عدا دعبلا فهو كوفي , وللمازني (التصريف) و (كتاب ما يلحن فيه العوام ) , أقول تبرم هذا الـ (رفيع) من رأي البصريين في نصب المضارع بـ (أنْ) المضمرة وجوباًبعد (الفاء والواو و أو) دون أعتبار هذة الأحرف ناصبة كما يقول أصحايه الكوفيون :
تفكرتُ في النحو حتى مللـ ***ـتُ وأتعبت نفسي به والبدنْ
أجيبوا لِمـــا قيل هذا كذا ***على النصب قالوا لإضمار أنْ
فقد خفتُ يابكرُ من طول ما***أفكرُ في أمــر (أنْ) أنْ أجنْ(103)
ولا يُخفى ( بكر) يعني الشاعر به (المازني) ,وتستمر الكوفة في نفوذها على بعداد وقصورها , بالرغم من أنّ المازني شيخ البصريين قد استدعي إلى بغداد , وحضر قصر الخليفة الواثق( ت 232هـ / 846م) حينما غنته جارية من البصرة , كان قد اشتراها بمئة ألف :
أظليمُ أنَّ مصابكمْ رجلاً*** أهدى السلام إليكمْ ظلمُ
فقال لها الواثق : قولي (رجلٌ) , فقالت :لا أقول إلا كما علمت , إذ أخذت الشعرمن أعلم الناس بالعربية , فقال لها : ومن هو ؟ فالت : بكر بن عثمان المازني , أمر الخليفة العباسي بإشخاصه , ولما جاء سأله , فأجابه , خبر (إنَّ) هو (ظلمُ) وليس (رجلاً) , لأنّ المعنى لا يستقيم , فأمر له بصلة , وأجرى عليه كل شهر مائة دينار , دينار ذلك العصر بمعنى راتب عشرة موظفين , ولكنه رجع إلى البصرة , ونحن سنرجع إليكم لمدخل الحلقة الفادمة , وفقكم الله , وتبقون على خير.
#كريم_مرزة_الاسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟