|
ميلاد الفجر في غزة ...
مهند صلاحات
الحوار المتمدن-العدد: 1130 - 2005 / 3 / 7 - 09:49
المحور:
الادب والفن
( ملاحظة قبل أن نبدأ ... هذه اليوميات لم تكتب لزمن محدد ولا لمكان بحد ذاته ... إنما قمت بصياغتها لتعطي الهوية المفقودة للإنسان أولاً قبل أحجار المدينة المرصوفة كالقبور)
البداية :
( صباح الخير يا حلوة ... صباح الخير من أنت !
أنا الأرض ... أنا غزة )
هكذا, وبهذا النشيد الإنساني المليئ برائحة الأرض الثملة .. بالندى والعشب الأخضر ... كان الفتيان يزيحون الستار في الفجر عن نهار جديد في معسكر الحلم الذي عشته تجربة, ومرحلة ...
يصطف الفتيان حول سارية العلم ... يتقدم فتى بملء النفس عزة ... يلقي التحية على العلم النائم في الفجر ... يتناول خيوطه المعلقة على السارية ... يداعب بيده العلم حتى يصحو من غفوته ... ويذكْره بموعد إرتقائه إلى مكانه الطبيعي ... ومن حوله الفتيان الذين يشكلون دائرة متكاملة، يهتفون مع صعود العلم إلى بإتجاه السماء ( يحيا الوطن ) .
هذا الصوت العالي الذي يعلن فيه جميع من في المعسكر بعد مسافة من الركض والرياضة الصباحية بدء نهار أخر في معسكر الحلم ... ليس حلما بمعنى كونه لحظات من مشهد درامي تحضرنا حين تنعس عيوننا وتغفو ... وليست مشاهد متتالية في لحظة صحو ... لكن الحُلم كان الاسم الذي اختاره الرجال الذين أخذوا على عاتقهم خوض التجربة في ترجمة الحلم، الحلم الذي نسعى إليه ولا يأتينا فقط بمجرد نومنا متكاسلين.
في أثناء هذا الإصطفاف اليومي حول العلم ... كنت أسافر بعيداً مجتازاً مئات الأميال التي تفصلني عن غزة ... لأصل بحرها الأسطوري وأقول لها :
صباح الخير يا غزة ... صباح للفجر الباسم ... صباح لم يزل غضاً ... مثل نبوءة طفل حالم ...
صباح الخير يا بحر ... صباح الخير يا موجة ... صباحك زعتر ونرجس ...
تصحو سمكة من بين الأمواج في بحر غزة ... تسمي نفسها ابتسامة ... وترسم لي أيضا ابتسامة ... تسألني :
لماذا تأخرت يا غالي ... ولماذا لم تزل ناعس العينين ...
كأني لم أعد أعرفك كما العهد السابق ، وربما أحاول الوصول إلى مبرر لكل تلك التغييرات السريعة التى أحدثتها في حياتي ... كأننى ما عدت أفهمك ... لماذا فجأة أدرت لي ظهرك ... على الرغم من أننى ما زلت أمد يدي إليك ... حتى تلك اللحظة تقتلني تساؤلاتى ... ويقتنلى إحساس بوجع يئن داخل قلبي ... لماذ تغيب عن قلبي ... كم كان موجعا حديث السمكة ... وكم أحسست بنقص في داخلي تجاه واجبي اليومي مع غزة ... فجئت من أخر المسافات التي لم تُقطع ... وقلت لها بملء الفم شوقاً وعشقاً :
صباح الخير يا غزة ... يا دير البلح التي تلد في كل لحظة غيمة حبلى، يا ديروم (1) القديس هيلاريوس الذي خط فيها كلماته (أن خطـيئة الآخـرين تسقـطـنا نحن فى هـذه الخطـيئة: أن نُعَـرّض الأسرار إلى متناقضات " قصـور" لغـة البشر, بينما هـى وجـدت لنخـدمها فى سكون قلوبنا"...)... هكذا كانت تقاسيم دير البلح ترتسم في داخلي (2) ... يا خان يونس التي جاءت من أعالي السماء بالحيتان التي حضنت الأنبياء ... يا رفح التي تصافح البلدان فجراً, ويختبئ في جوف خنادقها الثوار والفرسان ... يا بيت حانون يا وجه البرتقال والليمون ... يا أيتها الأرض التي تكتسي بلون الفراولة في المواصي ....
يا جباليا الغالية كما القلوب التي لا تموت ... يا نصيرات (3) يا أم الشهداء والعشاق والباكين والعائدين والقادمين من الفجر باتجاه التحرير حاملين على أكتافهم الزنبق البري من الشاطئ ...
أيها القادمون من حيث عجز الرجال من الوصول، قفوا قليلاً لتستريحوا تحت سدرة المغازي (4) وتشربوا معنا القهوة الغزاوية السمراء بلون الأرض التي تلونت من جراح الشمس ...
أجلس بعيداً حيث لا يراني أحد في غرفة كما وصفها لي أحد أصدقائي الذين شاركوني الحلم في المعسكر قائلاً: دموعي ودموعك ... هل تذكرها !! وهل تذكر تلك الحجرة الممتلئة بالكتب المبعثرة كغرفة مثقف ضوضائي ملأتها رائحة الأصدقاء الذين جمعهم الهم والحلم والإبتسامة ... أنا أذكرها ... فلا تنساها ...
هكذا كانت تلك الحجرة التي كنت أجلس فيها ... أعبق دخان سيجارتي إلى داخل صدري وأطلق سراحه من جديد ليملأ فضاء الحجرة ... يرسم وجوهاً أعرفها ... وجهاً لأمي البعيدة خلف بعض الخطوات عن الحجرة وبعض الأسلاك الشائكة وبعض الحالمين بإجتيازها ... أنفث الدخان ليرسم الوجوه التي أحبها ملء عشقي ورغبتي في معانقة أصحابها ... ولكنها خيوط دخان غير قابلة للعناق ...
أعود مرة أخرى لاستكمال ما بدأت به من التحية الصباحية الخالصة لغزة ... وللواقفين على المعابر المغلقة ... للنخل الشامخ يرسم وطناً ... للجبال الواقفة بوجه التاريخ ... للرحيل ... للصهيل ... للأرض التي تحبل كل لحظة بمقاتل ... وللشمس التي تلد من بين كلمات معين بسيسو على المتراس ثائر ....
صباحك يا غزة هاشم ...
هذه الأرض التي تتجسد على صورة زعتر وحنون ونخيل ومقاتلين وبحر ... تكمل بقية اللوحة الفنية بمخيماتها وبأشخاصها الذين يحملون سمة ليست في غيرهم ... بأنهم في فلسطين السمراء ... فلسطين الغزاوية ... أو غزة الفلسطينية ....
موقنون أن العالم كما رأه الشهيد ناجي العلي في داخل مخيم فلسطيني .
حالمين بعودة من الوطن إلى الوطن ... قارئين بكل وعي متكامل بالعشق ما قاله الشهيد الأديب غساني كنفاني حين قال :
رأيت طفلاً فلسطينيا رث الثياب يقول بالقرب من أطفال فقراء بالنبطية : مساكين ... ليس لهم فلسطين ليعودوا إليها ...
لكن الغزاويين لهم فلسطين التي يحيون داخلها ... ولهم بحر ... ولهم بر ... ولهم فجر ... ولهم قمر ... ولهم زنبق الشاطئ ... ولهم برتقال بيت حانون ... ولهم سدرة المغازي ... ولهم ميماس و هيلاريوس ... وعندهم غزاة شهدوا على مدى التاريخ أن غزة لم تركع يوما للطغيان ... وشهد الطغاة بهزيمتهم على أبوابها ...
هذه صورة الأرض التي تتجسد ... تكتمل المشاهد في تداخلها ... تهب هؤلاء الناس القدرة على حمل بقايا العالم في كيس نفايات أسود ... ويلقونه بالبحر.
هذا الصباح هو غزة : طفل يقف على الشاطئ يعقد يديه خلف ظهره يراقب صعود الشمس فوق الأمواج ... وبائع متجول يسير بعربته فوق الرمال ... وساتر ترابي ... وبعض جنود من الغزاة يبحثون عن موتهم المدفون بالرمال الباردة ... وعجوز تقف على الحاجز بانتظار دورها للمرور إلى الجهة الأخرى من غزة .... وبقايا دبابة دمرها الغزاويون ... وغزة هي لوحة من صورة منتصف دائرة الشمس مرسومة على البحر عند الغروب ... ووخصلات من شعر الشمس الذهبي المنثور في الأجواء الرمادية لحظات الغروب ...
هذا الصباح هو غزة ... وهذه غزة هي ذات الغزة التي ذاقها الغزاة منذ أكثر من خمسين ستة من المعارك ... وأكثر من ثلاثين من الأوطان والكآبة ...
( فلسطينية كانت ولم تزل )(5) غزة، وغزاوي كانت ولم تزل شمسها ... ولميلاد النهار فيها طعم فلسطيني .... ورائحة تفوح بالبحر والسمك ... وسماء غير كل السماوات ... سماء مرصعة بالصدف والحناء ورسوم أطفال المدارس على كراسات الحياة ووجه فارس عودة والدبابة الخائفة ...
للسماء فيها دخان معارك في الصباح ... وتجدد دائم للقتال على جبهات لم تسقط حتى هذه اللحظة ... تنتصر فيها الشمس على الغيوم الملبدة ... تشتتها وتشرق منتصرة على الرمادية والبلادة ...
أهلها يتعلمون كل يوم ويشهدون المعركة ... لذلك كان من الطبيعي جداً بل ومن البديهي كما يقول المفكرون وكما يقتبس عنهم الأدباء والرواة : أن ينتحر الموت فيها وتتوحد فيها شعائر الموت والولادة .
غزة العصية عن وصف بحرها وسمائها المموجة بالألوان بين أحمر الشمس وزرقة البحر وبياض الغيوم المهزومة ... يجعل منها طروادة المدينة الزيتية .
ولأنها المدينة المدنية، البسيطة، النخلية، البرية، البحرية، السمكية، الصدفية، الليلية، صارت قصيدة إنتحر شاعرها عند صورتها المعلقة على الجدار دون أن يكتب حتى وصيته .
مسكين بالفعل، من ليس له غزة ليعود إليها ذات يوم ... وحزين حد الكآبة المطلقة من يفيق الصبح بغير غزة .
ممزوج بالحيرة من ليس له بحر غزاوي تفاتحه في الفجر هموم العمال، وشقاء الفلاحيين ... مسكين ... مسكين ... من ليس له غزة .
لأجل كل ذلك جاءتني غزة إلى معسكر الحلم فأبيت أن تذهب دون أن أكتب لها ما بداخلي من شوق لعناقها ...
مهند صلاحات * عضو تجمع الكتاب والأدباء الفلسطينيين معسكر الحلم
30/1/2005 الأحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دير البلح : تلك المنطقة الجغرافية التي تضم كلاً من دير البلح والنصيرات والمغازي والبريج، سميت بهذا الإسم نسبة إلى مدينة دير البلح التي تعتبر المركز الإداري للمنطقة الوسطى بقطاع غزة والتي تضم المدن المذكورة سابقاً, وسميت أيضا بالبلح لكثرة أشجار النخيل التي تحيط بها وكانت في القديم تعرف باسم (داروم) وهي كلمة سامية بمعنى الجنوب، وما زال مدخل غزة الجنوبي يعرف باسم باب الداروم (2) ويعود أصل تسمية دير البلح بهذا الاسم لإقامة أول دير في فلسطين على أراضيها حيث أقامه القديس (هيلاريوس) المدفون في الحي الشرقي من المدينة. (3) النصيرات: تقع إلى الجنوب من مدينة غزة وقد أطلق عليها النصيرات نسبة لأحد أولاد الشيخ احمد الأنصاري واسمه نصر وهم بطن من الأنصار من الأفراد القحطانية من القبائل التي نزلت هذه الديار قبل الفتح الإسلامي (4) المغازي: تقع قرية المغازي جنوب غزة وقد أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى مجاهد اسمه المغزا وله ضريح أسفل سدرة وبجواره عمود رخامي (5) عاشق من فلسطين ( محمود درويش )
#مهند_صلاحات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحلام المجانين ... ليلة صيف
-
أتى عيد العشاق... سيدتي
-
هل تحولت السلطة الفلسطينية إلى مركز أمني جديد في المنطقة الع
...
-
محاكمة الذات بالمعايير المبدأية
-
لا بد أن يسقط القمر
-
وصايا الشهداء
-
شعارات / قصة قصيرة
-
قررت الزواج ببحر غزة
-
الخطأ في شمولية الحكم على الفكرة / ردا على مقالة محمد الموجي
...
-
محاولة لترجمة النهى في ليلة راس السنة
-
من يحسن قراءة الوطن على أعتاب السنة الجديدة ؟
-
المُخٌلِّص
-
التكفير سلاح الجاهل ... ردا على الأستاذ محمد الموجي حول كفر
...
-
علمانية الفرد العربي ... الحقيقة المرفوضة
-
الأندلس الجديدة ... والطاغوت على أبواب المدينة
-
لماذا أبو مازن مرشح الإجماع الفتحاوي
-
الحوار المتمدن ... ويكفي أن نقول هو المكان السليم للحوار الم
...
-
ذاكرة الزمن المستعار 1
-
الجريمة ... حين تحاول أن تكون ثقافة لشعب مقاوم ...
-
نبوءات الشهداء
المزيد.....
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|