|
هدية من عامل إلى معلمه
محمد أيوب
الحوار المتمدن-العدد: 1130 - 2005 / 3 / 7 - 09:46
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة يوم كيبور " 1 " .. كل كيبور وأنتم بخير ، هذا الكيبور ، هذا الألم المتكرر كل عام .. المناهيل " 2 " .. المتاناه " 3 " .. في كل مرة يرفض المتاناه .. المتاناه والمعلم والكيبور وجوه متعددة لشيء واحد . يوم كيبور غداً السبت .. الكيبور السادس مذ جاءوا إلينا ، في كل كيبور يرفض المتاناه ، ينظر إلى الزجاجات باشمئزاز ، لطالما أغراه المعلم بأن يأخذ الزجاجات ، كان يخشى أن تغضب أمه ، على الرغم من أنه في قرارة نفسه كان يشعر أن أمه مستباحة ، وأن له أكثر من أب وأكثر من أخ . وحيد . . وحيد في هذه الدنيا أنا .. أنا وحيد يا أمي المستباحة .. أتـوه وأخوتي يملأون الأرض، والكل يدعي أنه في مكانة والدي ، ومع ذلك فأنا مضيع، ضائع أتوه بين لقمة العيش والآباء والأخوة ، والأم المستباحة ، وزجاجات المتاناه والمناهيل.. ملعونة كل أعيادكم.. ملعون ذلك اليوم الذي عرفتكم فيه، في كل عيد ينتصب بين ضلوعي مأتم ، وما أكثر أعيادكم !! اليوم .. الكيبور السادس .. يقف المعلم إلى جانب علب كرتونية ملأى بالزجاجات ، ينظر نحوه مشجعاً ، يبتسم .. يتنحنح ، ثم يسكت فترة ، ويعود فيبتسم من جديد ، وتنفرج شفتاه : - ها .. ها .. أعتقد أنك ستأخذ الزجاجات هذه المرة ، كلهم ترددوا قبل أن يأخذوها ، وعندما عرفوها ... أطلق ضحكة عالية ثم أردف : - شيء عظيم .. سوف أعطيـك ست زجاجات هذه المـرة ، لقد حرمت نفسك كثيراً . عض على شفته السفلى .. ملعون أبوك على أبو الكيبور .. ابتسم بلا تردد .. سآخذها .. سأجرب طعمها .. كل كيبور وأنت بخير .. صمت .. لا أعاده الله عليك سالماً .. ماية ليرة أفضل من هذه الزجاجات .. ولكني سأسكر .. سأسكر .. سأغيب عن الوعي ولو مرة واحدة .. أهـرب من نظرات أمي .. من المأتم الذي ينتصب بين ضلوعي من الكيبور ويوم الكيبور ، فقد طالت سنوات الانتظار .. أن أغيب عن الوعي يعني أن أنسى.. أرتاح من عار أمي المستباحة . . أنسى سماجة كل من يتبناني تقرباً من أمي .. أنسى أخوتي ومشاكلهم ، وما أكثرها ! يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذي يعود فيه مبكراً ، كل أيام الأسبـوع شقاء في شقاء ، في الساعة الثانية ليلاً يرسل سائق سيارة الشحن نفير سيارته في نوبة صحيان ، يبدأ بفرك عينيه ، ويتثاءب ، يسب ويلعن ، منذ أكثر من خمـسة أعوام وهو يعمل هناك ، يستيقظ في الثانية صباحاً .. يتسلل خلال أزقة المعسكر الضيقة ، وفي الوقت ذاته تتسلل أشباح آدميين من مناطق مختلفة نحو نقاط تجمع السيارات . يسعل سعلة قصيرة ثم يبصق .. خمسة أعوام مضت وهو يبـصق في الصباح وفي المساء.. أخوتي يحاولون منعي من العمل هناك .. أنا أدرك أن العمل هناك يسبب الغثيان.. يثير الرغبة في القيء، المعلم يحرص عليّ وعلى بقية العمال حرصه على آلات مصنعه .. خمسة أعوام وهو يغريني أن آخذ الزجاجات .. إنه يكاد يرى الغثيان في داخلي .. يشعر بذلك كلما حاول أن يمد يده لي مصافحاً . واليوم قرر أن يأخذ الزجاجات .. أن ينسى أمـه ويوم الكيبور والآبـاء والأخوة والمناهيل والساعة الثانية صبـاحاً ، والعودة المتأخرة .. ولما وصل إلى البيت شهقت أمه مستنكرة : - ما هذا ؟ منكر ؟! رحم الله والدك ، كان يلعن بائعها وشاربها وحاملها . - وهؤلاء الذين يدعون أبوتي تحت سمعك وبصرك ، أليسوا منكراً ، وصراع أخوتي واكتفاء أبي بصب اللعنات على ما لا يرضيه ، أليس منكراً ؟! وحالتك يا أمي .. إنني أموت كل يوم .. أريد أن أنسى .. بصقت باشمئزاز : - كنت أتوقع أن يثيرك ما حولك .. أن يستفزك .. لا أن يدفعك للهرب .. للبحث عن وسيلة للنسيان . - اسكتي يا امرأة .. اسكتي .ز كفاني أنني أصارع من أجل لقمة العيش من أجل أن نبقى أحياء . - ولكن لقمة العيش لا تنفصل عن الكرامة . أشاح بوجهه بعيداً عن أمه ، نظر إلى الصغار من حوله ، شعت عيناه ببريق متفائل .. أن يبقى هؤلاء الصغار على قيد الحياة شيء عظيم حقاً، ربما خلصوني مما أنا فيه عندما يكبرون . انتحى جانباً ، فتح الزجاجة ، وضع فوهتها على فمه وشرب ، ما أسوأ طعمها ، رفع الزجاجة .. بصق ، ثم أعاد الزجاجة إلى شفتيه .. بدأ دفء غريب يشع في جوفه .. شرايينه أخذت ترق .. شرب وشرب .. دارت الدنيا .. ضحك بصوت مرتفع .. تحول الأطفال رجالاً .. أظافرهم طالت .. أصبحت مخالب .. سكاكين ومناجل .. عيونهم ترسل شرراً .. حاول الأطفال الرجال أن يمزقوا أولئك الذين يدعون أبوته .. ضحك .. بكى .. عاد طفلاً .. كان يجري .. يجري فوق الرمال .. أمه تجره بعنف .. أبوه يصرخ .. يقع مغشياً عليه .. ينزف دمه غزيراً .. يتدفق نهراً .. أمه تولول .. أصوات مرعبة نلف المكان .. أمه تجره مذعورة : - لتبتعد يا ولدي ، اجر بسرعة . هتف : وأبي ، كيف نتركه ؟ - أبوك ما عاد أبوك .. أبوك أصبح نهراً يتدفق دماً .. أصبح نبعاً لا ينضب .. أبوك النبع والنهر والمصب ، من دم أبيك ستخضر هذه الرمال ، عندها سنعود إلى أبيك . بكى ، أجهشت أمه بالبكاء ، شاركته بكاءه ، نهنهت أمه : - ماذا بك يا ولدي ؟ ألم أقل لك ؟ ملعون بائعها وشاربها وحاملها ، ألم أقل لك يا ولدي ؟ هدهدته أمه .. مدت يدها ، لامست خصلات شعره .. يا ولدي الحبيب .. يا ولدي الحبيب .. هدأت روحه .. صغيراً عاد .. وضع رأسه في حضن أمه .. نام ، ذهب في نوم عميق ، بقيت أمه يقظة متيقظة تتحسس وجهه ورقبته بأناملها ، تتأمل وجهه الهادئ . لم تطل فترة نومه ، استيقظ ، نظر بعينين زائغتين ، الزجاجات في مكانها لم تزل . - أمي .. أمي .. لماذا لا تريدين لي أن أعرف ؟ لا تريدين أن أتذكر أبي النبع والنهر والمصب . بكت أمه : - الصغار يا ولدي .. الصغار يجب أن يكبروا .. عندها ستعرف وسيعرفون .. عندها ستتخلص من كل أدعياء الأبوة .. ستتخلص من العار الذي تحسه في داخلك يا ولدي .. تعتقد أنني مستباحة .. تعتقد أنني أقدم نفسي طائعة لكل من يرغب .. تأكد يا بني أنني كما كنت في زمن أبيك ، كان نـهراً يتدفق وكنت له المصب ، وسأبقى إلى أن تخضر الرمال ، فلا تخجل ، لا تسئ الظن بي . - ولكني عرفت أشياء كنت أجهلها . - ما كان يجب أن تعرف في لحظة سكر .. لا أريدك أن تبكي . - ولكني سأشرب حتى أعرف المزيد . - أن تعرف وأنت بوعيك أفضل .. ستكون معرفتك ناضجة .. ستأتي في أوانها .. ستعرف أنهم استباحوا اسمي وسمعتي ، ولم يستبيحوا جسدي ، ستعرف أنهم أرادوا أن يسرقوا منك كل شيء ، حتى جسدي .. عاد فنام من جديد .. رأى نفسه في حديقة واسعة وسط الرمال .. نهر يتدفق .. أبوه ينتصب في وسط الحديقة .. قدماه في الماء ورأسه يطاول الغيوم ، والعمال يؤدون أعمالهم بجد ونشاط ، لم ير المناهيل ولا زجاجات المتاناه ، ومن بين العمال شاهد أطفاله رجالاً يقلمون بعض الأشجار .. صاحت الديوك في الصباح .. استيقظ مبكراً كعادته : - صباح الخير يا أمي . ثم أردف : أمي .. أعدك ألا أسكر ثانية .. سأشرب دون أن أسكر . علت الدهشة وجه أمه : - وكيف يكون شرب بلا سكر ؟! لم يجب ، سكت ، رنا ببصره نحو الأفق ، اليوم السبت ، لن أخرج من البيت ، سأشرب ، أحضر كأساً ، ثم تناول زجاجة ، سكب في الكأس بعضاً من المشروب، صب الكأس في جوفه ، ثم صب كأساً ثانية فثالثة ، أحس بالنشوة ، جسمه يشف تدريجياً ، أحس أنه خفيف ، .. رأسه يتسامى ، صب الكأس الرابعة ، إنه الآن في قمة النشوة ، يقف عند الحد لفاصل بين الوعي واللاوعي ، بين اليقظة والسكر ، لن يتجاوز هذا الحد الفاصل ، أدار مفتاح الراديو ، سمع بعض الأغاني .. هنا دار الإذاعة الإسرائيلية ، تساءل في عجب : لماذا تبث الإذاعة الإسرئيلية في يوم كيبور ؟! فاجأه المذيع بقوله : - قامت القوات المصرية بعبور قناة السويس شرقاً . - أدار مفتاح الراديو بسرعة .. هنا القاهرة .. بلاغ عسكري رقم واحد .. قامت قوة عسكرية إسرائيلية بعبور القناة غرباً ، وتقوم قواتنا بالتصدي لها، فرك أذنيه .. ما هذا ؟ المصريون يعبرون .. الإسرائيليون يعبرون ، وأنا بين الوعي واللاوعي لا أستطيع العبـور .. أقف على الخط الفاصل بينـهما ، وبين الوعي واللاوعي تختلط الأمور . أحضر مذياعاً آخر ، أبقى مؤشر أحدهما على القاهرة والآخر على دار الإذاعـة الإسرائيلية ، واستمرت الحرب بين الوعي واللاوعي ، ظل يتابعها .. إنني أحوج ما أكون إلى الوعي الآن .. ملعـون أبو المتاناه .. ملعون أبو المناهيل .. أهـلاً بأجمل كيبور ، تذكر المناهيل ، وتذكر ما تمناه له : لا أعاده الله عليك سالماً .. طرق بابه صديق : - التلفزيون يبث أخبار الحرب ، تعال نشاهده ، لن يكون هناك عمل غداً ولا بعد غد ، ربما وصلنا المصريون ، وربما أصبحت أنت المناهيل غداً ، ربما.. بصق : - لا أريد أن أكون مناهيلاً ، لا أحب أن أنظر للعمال وللآلات بالمنظار نفسه ، أنا والآلة سيان في نظر المناهيل، لعله الآن في سيناء ، وربما عاد ، وربما لن يعود. خرج مع صديقه .. جابا الشوارع .. لم يشاهدا أية حركة ، كانت المدينة مسبية تنتظر الخلاص.. معشوقة تنتظر فارس أحلامها .. فرض الناس ولأول مرة على أنفسهم حظر التجول الإرادي ، سمع أن التلفزيـون سيعرض بعض الأسرى الإسرائيليين..أفي حلم أنا أم في يقظة؟ وأمام شاشة التلفزيون جلس يراقب الأحداث ..طابور من الأسرى تقربهم عدسة التلفزيون وتبعدهم، تعرضهم في صف طولي، ثم تستعرضهم فرداً فرداً وأيديهم فوق رءوسهم .. وبلا وعي منه وجد نفسه يبصق على شاشة التلفزيون، فقد شاهد المناهيل بملابس عسكرية .. يداه فوق رأسه وسط الطابور الطويل .. تذكر أيام ساقوه ويداه فوق رأسه وطلقات الرصاص تئز فوق الرءوس .. الكل يركض بلا توقف نحو المدرسة ، المحشر ، تمتم : ذهب يقاتل دفاعاً عن مصنعه وعبوديتي ، وأنا أرغب في الخلاص ، والطريق طويل طويل ، لن أسكر بعد اليوم . فكر في أن يحطم الزجاجات ، ولكن تحطيم الزجاجات لن يجدي ، هل يعيد الزجاجات المتبقية إلى المناهيل ، لكن المناهيل يقبع فوق شاشات التلفزيون ويداه فوق رأسه ، بالتأكيد سيأتي مناهيل غيره وغيره وغيره ، ولكنه استقر على رأي، لا بد وأن يرسل المتاناه إلى بيت معلمه، المناهيل ، هدية تنتظره حين يعود، هدية من عامل إلى معلمه في يوم كيبور . ___________________ 1 – الغفران . 2 – المشرف على العمل . 3 – الهدية .
#محمد_أيوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البذرة تتمرد
-
لمصلحة من هذا الاستقطاب داخل حركة فتح ؟
-
من المسئول عن بط ء الإجراءات في وزارة العدل والمحاكم الفلسطي
...
-
خالد
-
عذابات نورس
-
وانتصر الحب
-
شجرة الزيتون
-
الموت المجاني
-
حركة فتح على مفترق طرق
-
أين وزارة المالية الفسطينية مما جرى في حي الأمل
-
نعم لسيادة القانون في فلسطين
-
القراءة في المجتمع الفلسطيني بين العوائق وعوامل التشجيع
-
أمنيات مواطن فلسطيني غلبان
-
الزمان والمكان في القصة القصيرة
-
البرامج الانتخابية لمرشحي الرئاسة بين التشابه والاختلاف
-
من دفتر الاجتياح
-
جدار السلام هو الضمانة الأكيدة للسلام
-
قراءة نقدية في ديوان - تأملات الولد الصعلوك - للشاعر : باسم
...
-
العناصر الفنية في القصة القصيرة
-
ملاحظات حول القانون رقم 5 / 96الخاص بانتخابات المجالس المحلي
...
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|