|
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 3-3
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3891 - 2012 / 10 / 25 - 17:53
المحور:
الادب والفن
حالما تخرج الزوجة الطفلة خلف واويها ، يدخل شاب رياضي القوام ، يتبعه رجل هرم طويل القامة يرتدي دشداشة مكوية و ناصعة البياض ، و نظارات سميكة ، مع حذاء شركس من الكتان ، و يعتمر الشماغ المرقط و العقال المرعزي . يلاحظ الطبيب أن الوقار و الهيبة تئز من أعطافه . - السلام عليكم ، دكتور . يسلم الشاب . - و عليكم السلام . تقضل إستريح . يلاحظ الطبيب أن الهرم الوقور لم يسلم . فيوجه كلامه للشاب . - شبيه شايبنا ؟ - دكتور ما يحچي ! - صحيح ؟ شـگد صار له ما يحچي ؟ - ثمن تشهر . - ما ينطق أبداً و لا أي كلمة ؟ - و لا نص كلمة ! - دِ نيِّمه ، إبني ، على السرير ، حتى أفحصه . يمد الشاب يده للهرم برفق شديد ، و يؤشر له باتجاه سرير فحص المرضى . يمتنع الهرم من التحرك نحو السرير ، و يبقى واقفاً في مكانه برزانة . يلاحظ الطبيب ردة فعل المريض الهرم ، فيخاطب الشاب : - عيفه براحته ؛ خليه يستريح هناك على الكرسي الثاني ، مقابيلي . يتحرك الهرم نحو الكرسي البعيد أمام منضدة الطبيب و يجلس ، فيما يضع الشاب رقم المراجعة و ورقة العيادة أمام الطبيب ، و يجلس على الكرسي الكائن جنب مكتب الطبيب . يقرأ الطبيب المعلومات المثبتة على ورقة المراجعة : الإسم : أبو وطن ، العمر 81 سنة . ينتبه الطبيب إلى أن الرجل الهرم قد تحرك بنفسه نحو الكرسي دون توجيه من مرافقه الشاب و ذلك استجابة منه لكلامه . إذن فهو يسمع و يفهم الكلام . و لكن لماذا هو صامت ؟ و لماذا لا يقبل الاضطجاع على سرير المرضى ؟ هل بسبب اعتقاده بأنه غير مريض ؟ أم أن كبرياءه تمنعه من إدراك فداحة وضعه ؟ لم يسبق له أن عاين حالة مماثلة ، على الأقل لدى كبار السن . لاحظ أن إسم المريض "أبو وطن" مكتوب بخط الثلث الفائق التناسق و الدقة ، كما أن العمر مدون بالأرقام العربية و ليست الهندية الشائعة . لا يمكن لياوره الشاب الأعزب الغندور – و الذي لا يجيد غير إبتزاز المرضى و إغتنام كل فرصة متاحة للتحرش بالإناث منهن و الفوز بأرقام هواتفهن النقالة – أن يكون هو الذي حرر هذه الكلمات و الأرقام . - منو إللي كتب إسم السيد و تاريخ ميلاده على ورقة العيادة ؟ - الدكتور "أبو وطن" ، هو اللي كتب ، دكتور . - ليش هو الأستاذ أبو وطن طبيب ؟ - لا ، دكتور . عمي أبو وطن : دكتوراه و أستاذ جامعي متقاعد . - شنو اختصاصه ؟ - الفيزياء النووية . - منين ماخذ شهادته ؟ - من معهد الأم – آي – تي ، بمساتشوستس في أمريكا . - و إنت شتصير منّه ؟ - إبن أخوه . أي ستراتيجية ينبغي له إتباعها مع هذا العملاق كي "يفتح له نفسه" ، و يقتنع بكفاءته طبيباً نفسياً . أفضل خيار متاح هو التواضع و قياس ردود أفعاله . - الله بالخير ، أستاذنا الفاضل . يوجه الطبيب كلامه لأبي وطن . يومئ المريض برأسه لحظة مثل سياسي ياباني . - شلونك ؟ يهز المريض يده اليمنى قليلاً تعبيراً عن استهزائه بالسؤال . هل يمكن أن يكون سبب صمته مرض عضوي في الدماغ أم الأعصاب أم الأنف و الإذن و الحنجرة ؟ يمسك الطبيب مصباح الفحص ، و يتوجه نحو المريض . - أستاذ ممكن تتفضل تفتح فمك ؟ يرفع المريض إصبع السبابة من يده اليمنى المستقرة على مسند الكرسي تعبيراً عن الرفض ، كمن يقول لمخاطبه : مكانك قف ! يتوقف الطبيب و هو متعجب من صرامة تصرفات مريضه . كيف يتسنى له تشخيص مرضه دون فحص و دون سؤال و جواب ؟ عاد الطبيب إلى مكتبه و جلس على الكرسي . العراق بلد عجيب غريب رهيب : غالبية أمراضه النفسية غير مدونة في كتب التطبيب السريري العالمية ، و كل الأشياء و المقاييس فيه بالمقلوب ! أغلب المجانين من رجاله الجهلة الوصوليين يؤمنون إيماناً أبدياً بعبقرياتهم الفذة ، و يستنكفون لمعاليهم مراجعة العيادات النفسية لكونهم مشغولين بكراسي الحكم و النهب و السلب و تسقيط أقوى منافسيهم حسب القانون : المادة أربعة إرهاب للسني ؛ و قانون مفوضية النزاهة للكردي و الشيعي . أما الذين يراجعون العيادات النفسية منهم : فإما يرفضون الكلام الفصيح الصريح ، أو لا يفصحون عن دواخل نفوسهم بنزاهة و لا يبتغون من زيارته سوى الأدوية المخدرة الممنوعة . أما المريضات من النساء ، فهناك إيمان متجذر عند ذويهن بكونهن "كشّي مابيهن" على حد قول واوي ، عفواً : السيد واوي المحترم . ما العمل ؟ ليسأل المرافق الشاب . - شصار ، أستاذ ، قبل ثمن تشهر للدكتور الفاضل عمك ؟ - دكتور ، مات إبنه الوحيد : "وطن" . - و شلون مات ؟ - دكتور ، فرد واحد إنتحاري چِفَتْ بسيارته المفخخة بنص مدرسة الروضة بوقت الإصطفاف الصبح ، و طحن ثمانين طفل ويّا معلماتهم طحن . - لعنة الله على الظالمين ! - البقاء في حياتكم دكتور . وجّه الطبيب كلامه للمريض العجوز . إرتجف ثغر العجوز المريض لحظة ، و لم يجب . - شـگد چان عمر إبنه المرحوم ؟ - خمس سنين . - گتلي هو إبنه الوحيد ؟ - نعم ! - شنو هوا متأخر بالزواج ؟ - لا ، دكتور . زوجته الأولى ، الله يرحمها ، چان ما يصير عدها أطفال . هيّا چانت دكتوراه كيمياء عضوية . چانو واحد يحب اللاخ من الزغر حيل ، و عمي ما تزوج عليها ، و عاشوا سوا بسعادة خمسين سنة . بعد وفاتها ، ضغط أبويا عليه كلش هوايا ، و خلاه يتزوج مرة اللخ . فاتزوج "أم وطن" ، و جابتله إبنهم "وطن" . - لا حول ولا قوة إلا بالله . و هسّا "أم وطن" شلونها ؟ - دكتور ، ماتت ! - الله أكبر . البقاء في حياتك ، إبني ! - و أنت الباقي . - و شلون ماتت "أم وطن" ؟ - جابولها إبنها بالتابوت ؛ فتحته للتابوت ، فشافت أبنها الأحمر الأصفر ما باقي منه غير بس الرأس الصاير قطعة مشوهة من المكورات وخيوط اللحم الدامي ، و باقي جسمة مطشر ؛ فصرخت ، و ماتت بمكانها . - الله أكبر ! أرخص شي بالعراق هم البشر ! و منو يطيح بيها ؟ بس الأبرياء ولد الخايبة ! - إنا لله و إنا إليه راجعون ! - و هسّا منو يداريه لعمك ؟ - آني ، دكتور . - و أنت شنو شغلك ؟ - دكتوراه حاسبات . دز عليا أبويا من ألمانيا ، فأخذت إجازة من الجامعة اللي أدرّس بيها ، و تركت عائلتي هناك ، و إجيت حتى أداري عمي اللي آني چنت رابي ببيته من الطفولة . - و شوكت طلعت لألمانيا ؟ - سنة 1979 ، أثناء الحملة الأمية لمحو الوطنية . - ههها ! و وين ساكن هسّا هناك ؟ - مدينة توبنـگن . - وين صايرة هاي ؟ - توبنـگن ، دكتور ، هي مدينة جامعية عُشر سكانها من الطلبة ؛ صايرة بجنوب ألمانيا ، يم جبال الألب اللي تبعد حوالي عشرين كيلومتر ليجوا ، و بنصها نهر يفوعر أسمه "نيكار" ، و جامعتها اللي أشتغل بيها صايرة بنص الغابة الأليزية الجميلة . عيني دكتور : يجوز الحزن من الخضوع للغة هوّا اللي دا يخلي عمي ما ينطق لكون النطق بالكلام نفسه يولد حزناً إضافياً ؟ - هذا التفسير لطيف . شوف ، عيني دكتور : من الواضح أن عمك كل مرضه و مشكلته هي العراق ؛ و عليه فأحسن علاج إله هو أن تاخذه ويّاك للخارج حتى يبتعد عن هذي البالوعة. هناك هم راح يبدِّل جو ، و هم تـگدر تسويله فحوصات كاملة و متطورة ما موجودة هنا ، و آني أضمن لك أن حالته مؤقته ، و راح يصير زين مثل الورد ، و يرجع له لسانه و يـگوم يغرد مثل البلبل . شنو رأيك ؟ - خوش حل ، بس كون عمي يقبل يترك العراق . تدري هوّا يموت على العراق ؟ و الله يموت عليه ! عند سماعه إسم العراق ، يقف العجوز المريض ، يستعد ، و يؤدي التحية . ثم يجلس . - الله أكبر ! يقول الطبيب . تدمع عيون الطبيب و إبن الأخ ، ثم يبدأ الشاب بالنشيج . يقف عمه المريض ، و يتوجه نحوه ، و يقبله على رأسه ، فيعانقه أبن أخيه و هو يهم بالوقوف . يرفع عمه إصبعه ، فيكف إبن الأخ عن النحيب ، و يعود العجوز المريض إلى كرسيه . يكفكف أبن الأخ دموعه بعد تعديل جلسته ، و يخاطب الطبيب ، الذي يمسح عينيه بمنديله . - تدري فريق العلماء اللي چان عمي يشتغل ويّاهم بأمريكا ، و عافهم و رجع على مود يخدم وطنه العراق ، حصلوا بعدين على جائزة نوبل ؟ - صحيح ! العراق كلش ينحب . عجيب هذا الوطن شـگد ينحب ! شنسوي : و داوني بالتي كانت هي الداء ! گاعدين هنا ، و مستسلمين تماماً للموت اللي يمكن أن يطب علينا غفل بكل لحظة ، و أمرنا لله ! - صدگ و الله دكتور : العراق ينحب ! - طيب ! آني ما راح أوصف لعمك هسا غير دوا واحد بس : فلوكستين . - و شنو من دوا هذا ، دكتور ؟ - هذا أحسن مضاد للإكئتاب بالعالم معروف بإسم "بروزاك" . أحسن صنف متوفر عدنا بالصيدليات هنا هو التركي ، وأسمه التجاري "ديبريكس" . و إذا لـگيت الأسترالي - و إسمه لوﭬان - فبعد أحسن ، و لو هوّا شويّا غالي . كبسولتين باليوم : وحدة بالليل ، و وحدة الصبح بعد الأكل . بعد تسليمه لورقة الوصفة ، يودع الطبيب العم و أبن الأخ موصلاً لهما حتى الباب . ما أن يخرجا حتى يدخل واوي ، حاملاً ورقة الفحص و هو يقول لاهثاً : - دكتور سوينا فحص سونار ، و طلعت مرتي حامل بتوم ولد . - عظيم تهانينا ، سيد واوي ، بس أهم شي بعد ما تاخذ حبوب فاليوم ، مفهوم ؟ - دكتور ، شوف بخت ربك شلون : تدري طلعوا التوم إثنيناتهم خارج الرحم !
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 2-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 1-3
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 12
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 11
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 10
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 9
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 8
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 6
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 5
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 3
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
-
السيد و العمامة
-
يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
-
كلاب أولاد كلب
-
بغداد : 6./ 6. /6.
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
-
قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|