أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان















المزيد.....



حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3887 - 2012 / 10 / 21 - 09:54
المحور: الادب والفن
    


حول الأسلوب فى السينما
عن فيلم "الأمل"،
إخراج: أندريه مالرو، وهو مقتبس من روايته "الأمل"
بقلم: أندريه بازان فى كتابه
Le Cinéma Français de Libération à la Nouvelle Vague (1945-1958)
[السينما الفرنسيّة من التحرير إلى الموجة الجديدة (1945-1958)]
و المقال منشور فى الأصل فى
(Poésie 45, no 26/27, août-septembre 1945)

ترجمة وتقديم: خليل كلفت
(تقديم نُشِر فى: مجلة القاهرة، 15 أكتوبر 1986)

تدور الدراسة التالية حول تجربة أدبيّة-سينمائية فريدة: قيام الأديب الفرنسى المعاصر أندريه مالرو André Malraux بإخراج روايته الشهيرة "الأمل" L Espoir فى السينما.
و أندريه مالرو (1901-1976) روائى عظيم (رواياته: الغزاة، الطريق الملكى، قدر الإنسان، عصر الاحتقار، الأمل، أشجار الجوز فى آلتنبورج)؛ ومؤلف أعمال جماليّة (أربعة كتب عن الفنون التشكيليّة بعنوان مشترك هو "أصوات الصمت"، بين أعمال أخرى)؛ وهو أيضا كاتب اللامذكرات الشهيرة، وكان وزيرًا للشؤون الثقافيّة فى فرنسا من 1959 إلى 1969.
ولا تقتصر علاقة مالرو بالسينما على هذه التجربة، فهو مؤلف كتاب "سيكولوچيا السينما" الذى يصف مؤلف هذه الدراسة - بفضله - مالرو بأنه "الكاتب المعاصر الذى كان أفضل من تحدّث عن السينما" وهو لا يرى ذلك من قبيل المصادفة لأن مالرو فى نظره "كانت توجد صلات عميقة بين أسلوبه وبين لغة الشاشة".
أمّا أندريه بازان André Bazīn (1918-1958) فيوصف بأنه أشهر ناقد سينمائى فرنسى فى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، وقد مات فى ريعان شبابه، فى الأربعين من عمره، ويُعَدُّ بازان الأب الروحى "للموجة الجديدة" التى انتشرت وازدهرت بعد وفاته مباشرة فى فرنسا، وقد أسّس مع زميله دونيول فالكروز مجلة الثقافة السينمائيّة الشهيرة "كراسات السينما" Cahiers du Cinéma. (تقديم أحمد بدرخان لكتاب: ما هى السينما؟ تأليف: أندريه بازان، ترجمة: الدكتور ريمون فرنسيس، مكتبة الأنجلو المصرية 1969، الجزء الأول).
وﻟ أندريه بازان مؤلفات عديدة منها: چان رينوار، أورسون ويلز، تشارلى تشاپلن، سينما القسوة، سينما الاحتلال والمقاومة، ما هى السينما؟ (وقد نُقل الجزءان الأول والثانى من هذا الأخير إلى اللغة العربية - الطبعة المذكورة أعلاه - ويتألف كتاب: ما هى السينما؟ من أربعة أجزاء: الأول عن نشأة السينما ولغتها والثانى عن السينما وعلاقتها بالفنون الأخرى، والثالث عن علاقات السينما بالمجتمع والرابع عن الواقعيّة الجديدة). أمّا الكتاب الذى نقلنا عنه هذه الدراسة فهو كتاب: السينما الفرنسيّة من التحرير إلى الموجة الجديدة Le Cinéma Français de Libération à la Nouvelle Vague (1945-1958)، ويدور حول نشاط المخرجين الفرنسيّين البارزين فى هذه الحقبة، وهو من منشورات "كراسات السينما" (مطبوعات l Étoile)، عام 1983.
ونقف قليلا عند تجربة فيلم "الأمل".
فى كتابه "أندريه مالرو: شاعر الغربة والنضال" - دار المعارف بمصر (1971) يتحدّث مؤلفه فؤاد كامل (وهو أيضا مترجم روايتيه "قدر الإنسان" و"الأمل" إلى لغتنا) عن رواية "الأمل" التى صدرت فى عام 1937 فيقول: "ويروى فيها الأحداث التى تعاقبت فى الشهور التسعة الأولى من الصراع الإسپانى (الحرب الأهليّة الإسپانيّة). وقد احتفل بعيد ميلاده الثامن والثلاثين بإخراج هذه الرواية فيلمًا اشترك معه فى تصويره فى برشلونة المصوّر الفرنسى لوى پاچ Louis Page. بيْد أنّ الحكومة الفرنسيّة فرضت حظرًا على عرض هذا الفيلم، فأعاد دنيس ماريون إخراجه مرة أخرى عام 1938" (ص 27/28).
والواقع أن فيلم "الأمل" ظلّ الفيلم الوحيد الذى أخرجه أندريه مالرو طوال حياته، على عكس ما تمنىّ عليه أندريه بازان من مبادرة إلى تصوير رائعته الروائيّة الأخرى: "قدر الإنسان"، لكنْ بصورة تتفق تمامًا مع إحساسه العميق بأن هذا الفيلم يظلّ فيلمًا عبقريًّا يتيمًا من أفلام الهواية.
وفى مقدمته المعنونة "أسلوب أندريه بازان" لكتاب "السينما الفرنسية من التحرير إلى الموجة الجديدة"، يشير چان ناربونى Jean Narboni إلى أن بازان هو مبتكر مفهوم "سينما غير خالصة" فى مقاله الشهير "نحو سينما غير خالصة" الذى حمل أيضا عنوانا فرعيا هو "الدفاع عن الاقتباس". ويؤكد ناربونى أن بازان لا يكتفى بتسجيل أمر واقع جديد فى مجال السينما الفرنسية فى فترة ما بعد الحرب (كثرة "الاقتباسات" السينماتوجرافية) بل يربط هذا الواقع بالحركة التطورية للسينما بمجملها. وإذا نظرنا إلى فيلم "الأمل" من منظور مفهوم بازان فلن يكون سوى "سينما غير خالصة"، سوى "اقتباس". غير أن هذا ليس كل ما فى الأمر فمؤلف الرواية هو أيضا مخرج الفيلم.
وهكذا تتجاوز تجربة "الأمل" حدود الاقتباس، ويقول بازان: "يعبر مالرو عن نفسه أكمل تعبير فى فيلمه وفى كتابه، دون أسبقيَّة لأحدهما على الآخر. وليست المسألة بالنسبة له مسألة اقتباس بل هى مسألة إبداعيْن يرتبطان به على قدم المساواة. كما أن أوجه الشبه التى شدَّدْنا عليها تمثل بالأحرى تناظُرا بالنسبة إلى محورٍ للإبداع يتشعب أسلوب مالرو عنده بطريقة مماثلة إلى شكلين مختلفين للتعبير". فالفيلم، إذن، ليس اقتباسا بل هو "أصيل أصالة رواية أو لوحة" كما يقول بازان أيضا. على أن بازان يتساءل فى مقاله المعنون "نحو سينما خالصة" عن التأثير العكسى للسينما على أدب كُتّاب مثل دوس باسوس، أو كالدويل، أو هيمنجواى، أو مالرو، ويعلِّق قائلا: "إن طرافة فيلم مثل "الأمل" الذى كتبه مالرو، هى أنه يُظْهِر لنا كيف تصبح السينما إنْ هى استوحت موضوعاتها من القصص "التى أثَّرت فيها السينما" (ما هى السينما؟ الجزء الثانى، الترجمة العربية ص ص 11-12)!
وتدور الدراسة بكاملها حول الأسلوب فى السينما. ومن خلال المقارنة بين أسلوب مالرو فى الأدب وأسلوبه فى السينما تناقش الدراسة دور الحذف فى السينما (وفى الرواية المعاصرة) ثم تنتقل إلى دور المقارنة (والمقابلة) وتقف أخيرا عند أهمية الرواية التى كانت تشهد تصفيتها على أيدى السينما التجارية (الأمريكية والعالمية). والواقع أن الهواية قدَّمت للشاشة البيضاء أعمالا عبقرية لم تكن (الهواية) تظهر فيها "من خلال فقر الوسائل التقنية أو نقص الخبرة، بل من خلال صلة بعينها بين العمل الفنى ومؤلفه".
وكان فيلم "الأمل" – فى رأى بازان من أروع إنجازات الهواية – فهو كما يشعر بازان فيلم عبقرى من أفلام الهواية "مع أنه قد تم تصويره فى الإستوديو، بممثلين ومدير تصوير محترف".
ويشهد أندريه بازان لتجربة "الأمل" بالنجاح الباهر على مستوى الفن (وكان الفيلم نصف ساقط من الناحية التجارية) ويقول: "رغم بعض التحفظات، يظل فيلم "الأمل" عملا فنيا ذا أصالة هائلة تُضارع أصالة الكتاب". أما رأى أندريه مالرو فى دراسة بازان فهو أنها تمثل "أبرع وأرهف دراسة خُصِّصتُ لهذا الفيلم".
المترجم
حول الأسلوب فى السينما
عن فيلم "الأمل"،
بقلم: أندريه بازان
شدَّد كثير من النقد المكتوب عنه حتى الآن، وبكل حق، على صلة القرابة بين الكِتاب والفيلم وتناول جوهر العمل ذاته، قيمته الأصلية والتجديد الذى منحه طابعُ المعاصرة إيّاه، وهى أحكام قلَّما كان بوسعى، وقد أتيتُ متأخرا قليلا، إلا أن أكررها. غير أن "الأمل" عمل ذو قيمة كافية للصمود أمام الفحص التفصيلى. ولهذا فإننى سوف أنظر كأمر مفروغ منه إلى الترحيب شبه الإجماعى الذى أحاط بظهوره فى ماكس ليندر Max-Linder وسوف أكتفى بإبداء بعض الملاحظات الأسلوبية التى لا بد، فيما أعتقد، أن تصل بنا إلى نتائج مهمة.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون مالرو هو الكاتب المعاصر الذى كان أفضل مَنْ تحدَّث عن السينما. ذلك أنه كانت توجد صلات عميقة بين أسلوبه وبين لغة الشاشة. وأعتقد أنه كان أول مَنْ لفت الأنظار إلى دور الحذف ellipse فى السينما والمكانة المتعاظمة لهذا الشكل فى الرواية المعاصرة (ولا سيَّما فى رواياته). غير أن هذه الصلة تكشف فى التجربة عن خلط لم يخطر قط على بال أحد من قبل بصورة قبْلية a priori. وربما كان الحذف فى فيلم مالرو لا يتضمَّن تأثيرا ومحتوى جماليا أقلّ مما فى الكتاب غير أنه لا يؤثِّر فى الصورة تأثيرا عميقا دون تأويلها تأويلا تعسُّفيا. وأعتقد أن هذه المقاومة غير المتوقعة من جانب التعبير السينمائى لنَقْل فنٍّ يقوم على الحذف (= حَذْفِىّ) elliptique قد تنير لنا السبيل فيما يتعلق بناحية مهمة من نواحى الأسلوب الأدبى والسينمائى. وقد حلَّل كلود-إدموند مانْيِى Claude-Edmonde Magny تحليلا عميقا هنا أيضا مغزى الحذف فى الأدب المعاصر: تحطيم إمكانية وجود معنى، إدخال العدم بين الأشياء واللحظات. ولا شك فى أن ميتافيزيقا الحذف ليست نفس الشيء عند مالرو، وعند كامو Camus وعند فوكنر Faulkner على سبيل المثال. غير أنه يبقى أن جميع الروائيِّين المعاصرين يرغبون فى أن يُدْخِلوا فى السرد، بواسطة الحذف، نوعا من الانقطاع الزمانى والمكانى فى آن معا من شأنه أن يمنع عقلنا من أن يُنظِّم الواقع بصورة أوتوماتيكية وفقا لمنطق معين للظواهر، يمنعه من أن يعطيه معنى. وأكثر من جميع الآخرين، يصدر علم جمال مالرو عن اختيار متقطع للَّحظات. وينقطع تسلسل الرواية عن قصد. ولا تدلّ الحلقات المحطمة من السلسلة إلا على مرور حدث لا ينجح القارئ، حتى اليقِظ، فى إعادة بنائه بصورة كاملة، أبدا. غير أنه كثيرا ما يبدو أن السينما لا تعانى الانقطاع. فرغم بنائها المقسَّم إلى "لقطات" plans يميل الوصف السينمائى ميلا متعاظما إلى أن يُجَنِّبنا الانقطاعات. والواقع أن تعبير "التقطيع" découpage (ديكوپاچ) المستعمل فى لغة المهنة للدلالة على تتابُع اللقطات المنصوص عليها قبل الإخراج تعبير لامنطقى. ويستخدم الأمريكيون بدقَّة أكثر كثيرا تعبير "الاستمرار" continuité. زدْ على ذلك أننا نلقى الحاجة إلى التلاحق السلس وبلا انقطاع للقطة وراء أخرى فى فكرة "الوصل" raccord. غير أن الحذف الأدبى يُدْخِل فى الواقع فجوة يملؤها القارئ عقليا لكنها مؤلمة فى عقل المُشاهد. وأرى لذلك سببيْن واضحين على الأقل: وَضْعُنا السلبى إزاء الصورة، نفورنا الطبيعى من الجهد العقلى أمام الشاشة، ومن التتابع الرتيب للصُّوَر. ذلك أن الصورة هى التى ينبغى أن تحرِّك خيالنا، وليس الوساطة غير المباشرة للذكاء. فهذا الأخير، مهما يكن استعداد أو شجاعة المُشاهد، يجد نفسه مع ذلك مُعاقا من الناحية العملية بالاتجاه الواحد للمشهد. حيث تجرى مراجعة جملة صعبة فتضيع بصورة نهائية سلسلة متتالية من اللقطات تقوم بصورة مفرطة على الحذف السينمائى ويبدو حقا أن الحذف السينمائى ينبغى، كىْ لا يستدعى إلا خيالنا، أن يظل مجسَّدا مكانيا أكثر منه زمانيا. ويمكن التعبير فى السينما عن اغتيال إنسان بواسطة يدٍ ترتخى قبضتها على سماعة تليفون. وتظل هذه الإيماءة-الإشارة ذات صلة مباشرة وعصرية بالحدث الذى توحى به، فهى لا تقطع عنه الاستمرارية. والواقع أن الفجوات الحقيقية فى النص السينمائى نادرا ما تكون محسوسة بوصفها حذوفا.
يهبط رجل من عربة ويجتاز عتبة بابه. وتُرينا اللقطة التالية هذا الرجل داخلا حجرته. والواقع أن صعود السلَّم، واجتياز البهو، إلخ..، تكون فى نظر المُشاهد المعاصر عبئا ثقيلا لا طائل تحته. وإذا كان منطق الدراما يقتضيه فإن المخرج يمكنه، مع ذلك، أن يستخدم بصورة قصدية هذا الوصف الموضوعى كحشو مثير للعواطف (إذا عرفنا مثلا أن الرجل سوف يجد زوجته قتيلة فى مسكنه). وعندما يسأل الطيَّار المشوه، فى الفيلم، مانيان Magnin عما إذا كانت لديه مرآة، نرى الكاپتن يفتح حقيبته كأنما ليبحث عنها، ويُخرج منها برشاقة مرآة صغيرة مستديرة، ونراه يعيدها إلى الحقيبة من جديد ويجيب قائلا: "لا". وندرك تماما، فى هذا المثل، النشاط الضرورى للذكاء الذى ينبغى أن يُعيد بناء الدوافع الأخلاقية، والذى لا يترجمه شيء بصورة مجسَّدة. حقا إن الحذف هنا، مهما كان عقليا، يظل مع ذلك مفهوما بسهولة، غير أنه فى حالات أخرى يجرى اجتياز حدّ الانتباه. ويعزو نقاد الفيلم وحتى منفِّذوه غموضه إلى ظروف خارجية: لقطات عديدة لم يكن بالمستطاع تصويرها. ولا شك فى أن المسألة ليست مسألة أن تعرف ما إذا كان الفيلم يصبح أكثر وضوحا إذا أمكنه أن يلتزم بالسيناريو بكل دقة. وأعتقد أحيانا أن الفجوات، حتى العرضية منها، تلعب آخر الأمر، وعلى وجه التحديد، نفس الدور الذى تلعبه الحذوف المحسوبة. والواقع أن كل فيلم آخر فى هذه الشروط كان سينتهى إلى السقوط، أما هنا فقد أسهمت هذه الشروط، على العكس من ذلك، فى وحدة الأسلوب، واقتربت بالفيلم من الكتاب، الذى لا يوجد فيه، فى الواقع، أدنى غموض. ولأنها تستدعى الذكاء أكثر مما تستدعى الخيال فإن حذوف مالرو مفهومة بصورة بالغة التفاوت من جهة أخرى. وقد شاهدتُ عدة مرات عرض الفيلم أمام جمهور مثقف نسبيا، وكان يصدمنى دائما واقع أن مَشاهد بعينها تبدو واضحة وغامضة، دون أسباب ظاهرة.
وعلى سبيل المثال، كان مقتل صاحب الحانة الفاشى على يد الفلاح مفهوما من جانب البعض وظل ملغزا بالنسبة للآخرين. ولا شك فى أن أولئك الذين كانوا لا يفهمون كانوا أغبى من الآخرين، بل ربما كان ذلك لأن سرعة انتباههم السيكولوچية المحددة لإدراكهم، لم تسمح لهم بتدخّل حىّ بما فيه الكفاية من جانب ذكائهم. وقد جرى توجيه كثير من النقد إلى المَشاهد "الإيضاحية" التى تصاحب الفيلم فى الوقت الحاضر، بزعم أنها تفسِّر الحدث دون جدوى ولا توضِّح شيئا على الإطلاق. غير أن هذا النص كان قد قام بصياغته دينى ماريون Denis Marion على أساس الأبحاث التى أمكنه أن يقوم بها بعد أن كان قد عرض الفيلم عدَّة مرات على مُشاهدين يُوصفون بأنهم "مثقفون". وكان من المحتم ألَّا تُرضى هذه الشروح أحدا، ذلك أن "غموض" اللقطات فى هذه الشروط يكون ذاتيا للغاية ومرتبطا بسيكولوچيا كل شخص على حدة. ولم يكن بوسع أىّ مذكّرة إيضاحية أن تُزيل هذا الغموض.
هذا هو السبب فى أن فيلم مالرو يظل أدبيا للغاية، ليس بسبب ثراء أو أسلوب حواره، بل ليس بسبب السيناريو أو سيكولوچيا الشخصيات، بل بشكل متناقض لأنه كان يلزمه أن يمتلك مزيدا من فن التصوير السينمائى: استعمال حذف بصرى يحتفظ معه فى الواقع بالبنية العقلية للحذف الأدبى. زدْ على ذلك أن هذا التأكيد ليس بالضرورة عذرا. ولا جدال فى أن هذا الخرق لقوانين السينما له مُقابل إيجابى فالحصر المفروض على ذهننا، ونوع السادية أو القوة اللتين ينطوى عليهما هذا النضال ضدّ الخيال، وحتى الغموض الماثل فى فقرات متعددة، تُضفى على هذا العمل هالة، باهرة أحيانا. غير أن تلك مباهج ربما كانت عقلية، مشروعة بلا شك، لكنها ليست داخل الخط المستقيم للفن السينمائى المفهوم على أنه شعبى "بالضرورة". أما التجّار الذين كانوا يرفضون الفيلم فكان يمكنهم أن يجدوا عذرا فى ذلك لو أنهم لم يجهلوا فى الوقت ذاته عنصر نجاح فى ذلك، غير أنهم لم يعودوا حتى يلحظونه: السموّ والأصالة. لكننى وعدتُ بألّا أتحدث إلا عن الأسلوب!
والواقع أن الحذف لا يكفى لتعريف مالرو وأسلوبه. وينبغى أن نضيف إلى ذلك، على الأقل المقارنة. ويمكن لإحصاء سريع عن مفرداته النحوية أن يُبَيِّن الاستعمال المتواتر للرابطة "comme" (مثل، ك..) أو مجرد المقابلة، التى لا تمثل سوى حذف هذه الرابطة. ولغة مالرو لغة مجازية بصفة خاصة. وأوصافه مقارنات دائمة تقريبا. وإليك عبارتين من فقرة قصيرة مأخوذة من مشهد مهاجمة المدافع من جانب عربة پويج Puig. "من خلفه وبين عويل لاهث للأبواق والكلاكسات، وصلت سيارتا كاديلاك بالخط المتعرج المعفر لأفلام العصابات... بقايا سوداء وسط بُقع من الدم، ذبابة مسحوقة على الجدار". "كان رجال الميليشيا ينسحبون وهم يرشحون عَرَقا، فى جو غرفة المراجل، جذوعهم العارية المرصَّعة ببقع من الضوء مثل الفهود المرقَّطة ببُقع سوداء".
على أن تحليل مغزى المقارنة عند مالرو من شأنه أن يقودنا إلى أن ندرس فى نفس الوقت ما يمكننا أن ندعوه بتعبير مبهم للغاية "بالمقابلة". فالمقارنة نفسها ليست سوى مقابلة بين الواقعى والخيالى ترتكز على التشابه. لكنْ بالنسبة للعقل، ألا ينطوى التضاد ذاته على تشابه ذاتىّ؟ يستخدم مالرو الصور، الواقعية والخيالية، كديكور يُقْصَدُ به أن يُضفى على الحدث أو الموضوع الموصوف من وجهة نظره الجمالية أو الميتافيزيقية. وعندما يقول لنا إن رجال الميليشيا – فى الهجوم المفتوح على إحدى الساحات – سقطوا "مثل" صَيْد، أو يشير إلى رجال الميليشيا هؤلاء... وهم يطلقون أمامهم سربا من الحمام، والبشر والطيور يغطون الأرض، مُصابين بنفس رصاص الرشاشات فإن المقابلة، بالتشابه الخيالى أو المنتمى إلى الواقع، تتمتع فى نظر الكاتب بنفس المغزى العميق. ويكتب مالرو فى مؤلَّفه "سيكولوچيا السينما" Psychologie du cinéma: "يمكن تحليل إخراج روائى عظيم، سواء كان موضوعه عرض الأحداث، أو التصوير، أو تحليل الشخصيات، بل حتى تساؤلات عن معنى الحياة، وسواء كانت موهبته تميل إلى شيء من التوالد، مثل موهبة پروست Proust، أو إلى شيء من التبلور، مثل موهبة همنجواى Hemigway، فهو مدفوع إلى أن يصف – أىْ إلى أن يلخِّص وإلى أن يُخْرِج – أىْ إلى أن يردّ إلى الحاضر. وأنا أدعو الإخراج الذى يقوم به أحد الروائيِّين الاختيار الغريزى أو المتعمد للَّحظات التى يرتبط بها وللوسائل التى يستخدمها ليعطيها أهمية خاصة". والواقع أن الردّ إلى الحاضر وإعطاء معنى لا يمكنهما، لدى الفنان، إلا أن يكونا نفس الشيء الواحد حيث ُإن الحاضر ليس مبرَّرا إلا على أساس المعنى الذى يمنحه إياه. غير أن هذا المعنى، عند مالرو، الكاتب، يوضع تحت الضوء بطريقتين رئيسيتين: إحداهما منطقية، الأحاديث والحوارات التى تنهمك فيها الشخصيات، والأخرى التى سأدعوها جمالية، المعنى الذى يتولد بصورة ضمنية من المقارنات والمقابلات. وسواء كانت هذه الأخيرة خيالية أو واقعية، تظل قيمتها نفس الشيء فهو يكتب مثلا "وخلف جارثيا Garcia وعلى الذراع الممدود لأحد الوعّاظ، كانت لفافات المدفع الرشاش تجف كما تجف البياضات. علَّق سترته الجلدية على السبابة الممدودة" (L Espoir, p. 95 "الأمل"). والواقع أن المقارنة الخيالية والمتناقضة فى الجملة الأولى تلعب فى "الإخراج نفس الدور الذى تلعبه المقابلة المتناقضة كذلك لكنْ الواقعية فى الجملة الثانية".
ماذا يمكن أن يكون العرض البصرى على الشاشة لهذا الإخراج الأدبى؟ هناك ملاحظة أولى تفرض نفسها: لا تعرف السينما إلا ما هو واقعى مادامت الصور تصير فيها واقعية بصورة موضوعية. والوسائل التى تستخدمها للتعبير عما هو خيالى مختزلة للغاية وذات قيمة جمالية مشكوك فيها: فالمزج التركيبى surimpression أو الحركة البطيئة le ralenti أو المخزون السالب la pellicule négative أو الخِدَع البصرية trucages optiques ليست مقبولة إلا فى أحوال نادرة للغاية، ولا يمكن طرح مسألة استخدامها فى عمل من هذا النوع. أما الرواية فهى على العكس من ذلك ولا تعالج إلا ما هو خيالى مادامت الأحداث الحقيقية أو المتخيلة تُنقل إلينا بواسطة كلمات. وينجم عن ذلك أن المقارنة بالمعنى الشكلى والكلاسيكى سمة أدبية بصفة خاصة وأن الرابطة "مثل" comme قلَّما يكون لها ما يناظرها فى علم نحو الفن السينمائى la syntaxe cinématographique (1).
وتزعم دعوى قديمة من دعاوى مَنْ يزدرون السينما أنها تَدَع خيالنا سلبيا، مادامت مُجْبَرة على أن تقول كل شيء. ولن يجد القارئ هنا، إذا كانت لا تزال هناك حاجة إلى ذلك، دحضا إضافيا لهذه الدعوى. وفى غياب القدرة على تشكيل الصورة التى توحى فى حد ذاتها بالموضوع الذى تصوِّره بدقة متناهية، يضطر الفنان إلى أن يترك للمُشاهد أمر العناية بالاهتداء إلى هذه القدرة. لكنْ ما هى الضمانة التى يملكها بأن المُشاهد سوف يهتدى إليها حتى بأن يتنبه إلى البحث عنها بكل بساطة؟ هنا أيضا تُوَجِّه التقنية ونتائجها السيكولوچية ما هو جمالى. فالمُشاهد لا يملك الوقت فى السينما للتوقُّف للتفكير مليًّا. كما أن الصورة لا يمكنها أن تستدعى الذكاء الإرادى. وهى لا ينبغى أن تثير سوى العضلات الراكدة للوعى. ويكون السينمائى قد حقق هدفه عندما يثير التصوير الفوتوجرافى فينا بصورة تلقائية التداعيات المأمولة. وأنا أقول التداعيات لأن الصورة فى أغلب الأحيان لا تزال أكثر ارتباطا بالواقع من أن تكون متَّهمة بأىّ تعدد مجازى فى المعانى. ومع ذلك فنحن لا نختار فى أكثر الأحيان بين الصور الممكنة، فهى لا تصل حتى إلى إدراكنا غير أنه يجرى الإحساس بصورة مبهمة بواقعيتها، وهذه الأخيرة هى التى تمنح الصورة كثافتها الجمالية. وبالقصة، تكون السينما فنًّا للحذف، غير أنه بقدر ما هى نقل مجسَّد للواقع، تكون السينما فنًّا للمجاز الحقيقى.
غير أنه إذا كانت المقارنة الأدبية محظورة على الشاشة فإن مقابلة واقعيْن حقيقييْن، يستمدان أهميتهما من وضعهما متجاوريْن، تُعَدَ على العكس من ذلك شكلا مفضَّلا فى السينما. وشأنه فى ذلك شأن الكِتاب، بفيض الفيلم بهذه التداعيات الحسية. الصمت الذى يقطعه نداء حشرات زيز الحصاد فى أعقاب صخب الطيران، ورحيل الطيور المهاجرة قبل هجوم الطائرات المعادية، ولاسيما هذه النملة النادرة المثال والتى لا تُنْسَى وهى تدب فوق جهاز تصويب المدفع الرشاش. بل يمكن أن نقول إن الوسائل السينمائية تخدم مالرو هنا أفضل من الأدب، بدليل الاختيار المتعمد لمقابلاته. وكثيرا ما يجرى عند الرجوع من الإنسان إلى الطبيعة، إلى النباتات، إلى الحيوانات، وكثيرا جدا ما يكون هذا الرجوع چيولوچيًّا أو فلكيا. ولا شك مطلقا بالتالى فى أن الإيحاء الأدبى يظل متخلفا عن العرض الحسى. إنها موضوعات يظل فيها الخيال بحكم الضرورة تقريبا أدنى مرتبة من الإدراك الحسى (الأفلام التسجيلية الخاصة بالحرب برهنت لنا ذلك بوفرة). ومنها الطِّباق (كونتربوا) le contrepoint اللاإنسانى (بوسعنا أن نقول الكونى) والذى يمزج به مالرو دائما الحدث الإنسانى؛ لقد وجد فى السينما ذروة تعبيره وقوة تأثيره الفنية.
على أنه تبقى هنا وهناك مقارنات ضمنية ربما كانت تتعلق بالتعبير الأدبى أكثر مما تتعلق بالتجسيد. وهى لا تُلحق ضررا بفيلم ولن أنظر إليها إلا بوصفها أمثلة يمكن للمرء أن يلمس فيها حقا ازدواج مالرو الكاتب والمخرج السينمائى. فعندما يُجرح أحد حملة مدافع الطيران الرشاشة يطلب منه رفيقه أن يصنع لنفسه رباطا ويقذف له بعلبة التضميد، "مثل قطعة من الحجر" كما يقول الكتاب. غير أنه، فى الفيلم، استحوذت هذه المقارنة بوضوح على مالرو. فعلبة الأدوية مسطحة، ويقذف بها الممثل بشكل أفقى. ومن المستحيل على المُشاهد الذى قرأ الكتاب قراءة متأنية ألَّا يُكمل قائلا فى سره "مثل قطعة من الحجر". ومن المحتمل أن مخرجا سينمائيا آخر يتصدى لتنفيذ هذه السلسلة من اللقطات، لم يكن ليحتفظ من المشهد إلا بقيمته الدرامية ولم يكن ليقيِّد نفسه باحترام صورة لا ينبغى أن تصطدم بالمُشاهد غير المنتبه. ويمكن أن نلقى أحيانا فى تمثيل الممثلين مقاصد تتبع حرفيا توجيهات الكِتاب، غير أنها تظل ألطف من أن تخرق الشاشة.
لا ينبغى، مع ذلك، أن نعتقد أن هذا الفيلم يستحق اللوم على كونه "أدبيا" بالمعنى المعتاد والازدرائى بوجه عام للكلمة. فالارتباط والتلازم الوثيق بين العملين الفنييْن ينضمان فى أكثر الأحيان إلى مآثر الفيلم. والحقيقة أن تأثير الأدب على السينما ليس بالشيء الجدير بالاستنكار إلا عندما يكون على حساب التعبير السينمائى. وهكذا فعندما يحلّ الحوار محل التعبير المجسد، يفضل المخرج الكلام على إيحاء الشخصيات من خلال الحدث والاستغلال المعبِّر للديكور وللأشياء. زدْ على ذلك أن بعض الروائيِّين ليس لديهم ما يكسبون من الاقتباس السينمائى لأعمالهم، بالقدر الذى لا تنفصل قيمتها عن الكلام. ذلك أن سيكولوچيا الشخصيات التى تُبدعها تلك الأعمال، ومأساتها، والعالم الذى تعيش فيه، تحددها وسائل التحليل التى تتيحها الكتابة للفنان. وهذا جلىّ واضح فيما يتعلق برواية تحليل واستبطان التقاليد الفرنسية. ومن جهة أخرى، غالبا ما يُساء فهم القيمة السينمائية لهذه الرواية أو تلك: كان لا بد من نصف دزينة من الأفلام لإدراك أن مؤلفا مثل چورچ سيمنون George Simenon لم يكن من السهل اقتباسه بقدر ما كان يعتقد من قبل. وهناك موضوعات بعينها أدبية فى حد ذاتها وسوف تجعلنا الأفلام التى يمكن اقتباسها منها نأسف دائما على الأصل. وليس هذا حال فيلم مالرو. فرغم تقيُّدٍ بالكِتاب لا يمكن أن يُنسب حتى لمقتبسى روايات إينرى بوردو Henri Bordeaux، يظل فيلم "الأمل"، رغم بعض التحفظات، عملا فنيا ذا أصالة هائلة تضارع أصالة الكِتاب. ولا شك فى أن هذا يعود إلى ذات فن مالرو، إلى إخراجه لكاتب يميل – بعيدا عن المونولوجات الطويلة، المحذوفة من الشاشة بطبيعة الحال – إلى رصد مشبوب العاطفة للناس والأشياء، وإلى نوع من الموضوعية المتحيِّزة والدرامية، ويلائمه التعبير البصرى، غير أننى أرى السبب الأكثر عُمقا وراء ذلك فى الصلة التى يحافظ عليها الفنان هنا مع أثره الأدبى. ويعبِّر مالرو عن نفسه أكمل تعبير فى فيلمه وفى كِتابه، دون أدنى أسبقية لأحدهما على الآخر. وليست المسألة له مسألة اقتباس بل مسألة إبداعيْن يرتبطان به على قدم المساواة، كما أن أوجه الشبه التى شددنا عليها تمثل بالأحرى تناظُرا بالنسبة إلى محور للإبداع يتشعب أسلوب مالرو عنده بطريقة مماثلة إلى شكلين مختلفين للتعبير. ولا شك فى أن خبرة ومزاج الكاتب مالرو وهما ماثلان أصلا فى الشخصيات، قابلان للجدال من وجهة النظر السينمائية، وبحذوفه، وببعض الرموز، بل حتى بأخطائه ذاتها، يعطى هذا الفيلم انطباعا بأنه إبداع مباشر، أصيل أصالة رواية أو لوحة. والمقصود بكل معنى الكلمة عمل فنى وأسلوب.
والأسلوب سمة أكثر ندرة فى السينما منه منه فى الفنون الأخرى لأنه التعبير الأكثر صميميّة (بعد الخطاطة la graphologie) عن شخصية المبدع؛ ويتوسط تعقيد التقنيات والمساعَدات المتعددة اللازمة أيضا بين المخرج والعمل الفنى. والدليل على ذلك هو النزاع الذى لا ينتهى من جانب مؤلف الفيلم. وقد يكون لعمل فنى جماعى "نوع من" الأسلوب غير أن من المستحيل تقريبا أن ينجح المخرج الرئيسى فى أن يفرض نفسه بصورة كافية على الفريق حتى يتوصل العمل الفنى إلى أسلوب "واحد" شخصى كما هو الحال فى الفنون الفردية. وليس بالأمر النادر أن يكون فيلم الهاوى هو الذى يصل، ومن المفارقات أن ذلك بفضل فقر وسائله، إلى حرية فى التعبير لا تسمح بها الماكينة الثقيلة للفيلم التجارى، وكان هذا أيضا حال الفيلم الصامت، الأقل خضوعا للتقنية وحيث كان المونتاچ (وهو لحظة فردية تماما من لحظات الإبداع) يلعب دورا أكبر. غير أنه كان يبقى فى كثير من الأفلام الصامتة شيء من الهواية. وسوف نرى ذلك بوضوح فى عمل ڤيجو Vigo(2) ولنا أن نتساءل عما إذا كانت أزمة النمو الحاسم للمخرج الحديث، تلك التى تقرر صحته المقبلة، لا تكمن فى التخلص من فيلم الهاوى عبر الفيلم التجارى.
جريميُّون Grémillon، من فيلم Tour au Large إلى فيلم Remorques؛ كارنيه Carné، من فيلم Eldorado du Dimanche إلى فيلم Jour se lève؛ رونيه كلير René Clair، من فيلم Entreacte وفيلم La Tour إلى فيلم 14 Jouillet؛ ڤيجو، من فيلم A propos de Nice إلى فيلم L Atalante. ولا يظهر هذا التحول الحاسم، والشاق فى أغلب الأحيان، بتسلسل زمنى كما يُعتقد؛ فهو يتجدد مع كل فيلم أما المخرج الذى ستُحسب له (لا عليه) عدة أفلام تجارية فسوف يتضح فى الحال أن يلاحقه عمل الهاوى فى شبابه. ويمكن على سبيل المثال أن نتساءل عما إذا كان السقوط التجارى لأفلام ممتازة مثل "جريمة السيد لانج" Le Crime de M. Lange أو قاعدة اللعبة La Règle du jeu لن يجد فى ذلك تفسيرا. على أن الهواية لا تظهر هنا من خلال فقر الوسائل التقنية أو نقص الخبرة، بل من خلال صلة بعينها بين العمل الفنى ومؤلفه. وفى حين أنه فى العمل التجارى لا ينبغى للمخرج أن يفكر إلا فى الجمهور، يبقى، فى أفضل أفلام رينوار Renoir، قدر هائل من الابتهاج بالاستخدام الداخلى، ومن مشاركة رفاق يصنعون فيلما بأكمله فى سبيل متعتهم. كما أن فيلم "قاعدة اللعبة" لم ينجح فى الخروج من النوادى التى لا تحبسه فيها الرقابة وحدها.
ويسير التطور الحالى للسينما الأمريكية التى تميل إلى استبعاد الأسلوب الفردى لحساب دراسة للأساليب ذات طابع محايد بصورة متعاظمة فى نفس الاتجاه: استبعاد كل أثر للهواية.
وتتمثل المشكلة التى يمكن أن تطرح نفسها فيما يتعلق ﺑ مالرو فى مشكلة معرفة إلى أىّ حد يظل فيلم الأمل فيلما عبقريا من أفلام الهواية، مع أنه قد تم تصويره فى الإستوديو بممثلين ومدير تصوير محترف. وإلى أىّ حد لا يرتبط الشك فى نجاحه التجارى بذلك. وهل سيُخْرِج مالرو أفلاما أخرى؟ وماذا سيعطى عندما يصبح خاضعا لكافة ضرورات مادة سينمائية سيطر عليها وقهرها حتى الآن، بحدس خارق لأغلب قوانينها العميقة، ماذا يمكن، بكلمات أخرى، أن يعطى مالرو لهوليوود، حيث لا يزال يشتغل فوكنر و هيمنجواى وآخرون بالسينما. ولا نود أن تمضى بنا التجربة بعيدا جدا، غير أننا نتطلع بفضول مشبوب إلى أن يصور مالرو فى پاريس، بكل وسائل التكنيك، بدون أعطال الكهرباء، وبدون قصف، [روايته] "قَدَر الإنسان".
إشارتان
1: قد يحتاج هذا التأكيد إلى بعض التمييزات الدقيقة. فليس من المستحيل تماما أن تُنْقَل المقارنة إلى السينما. فهى تكثر على سبيل المثال فى أفلام أبيل جانس Abel Gance. وفى فيلم "الغضب" Fury يتبع فريتس لانج Fritz Lang لقطة امرأة ثرثارة بلقطة دواجن فى الحظيرة، والمزج le fondu enchaîné الذى يربط بين اللقطتين هو المعادل الدقيق للرابطة؛ غير أنه لا يبدو أن الصورة الحقيقية تتلاءم بسهولة مع هذا الاستعمال. وتُسلِّم أذهاننا عفويا بموضوعية الصورة البصرية. والانتقال إلى ما هو خيالىّ مطموس، مُثقلا بالحضور المادى للموضوع. ولا تمضى المقارنة أبدا دون مغالاة، وفى أكثر الأحيان يسلبها بطءٌ فظٌّ كلّ قيمة جمالية.
2: بعد أن ظل ممنوعا منذ 1933، حصل فيلم Zéro de Conduite على ترخيصه من الرقابة فى 1945 ولم يتم عرضه فى الپانتيون Panthéon مع "الأمل"، فى نوڤمبر. وفى ذلك الوقت على الأرجح اكتشف بازان عمل ڤيجو (ملاحظة فرانسوا تروفُّو François Truffaut فى (Le Cinéma de l Occupation et de la Résistance).

رسالة من أندريه مالرو
فى 8 مارس،
سيدى،
تلقيت الدراسة التى خصصتموها لفيلمى فى لحظة جميلة من لحظات التوهان وكنت أودّ أن أجيبك بطريقة جادة، لا أن أشكرك وحسب، وهذا ما جعلنى لا أجيبك مطلقا – إلى يومنا هذا.
ما تقوله عن الحذف ليس بارعا وحسب، بل صحيح. والأجزاء غير المصوَّرة (نصف الفيلم) ليست هناك عبثا. وفيما عدا الحذف الكبير من الوسط (بين مفجِّرى الديناميت والطيارين)، فإننى لم أكفّ عن تعديل السيناريو والحوار، وفقا للكارثة التى تقترب. وقد تم تصوير مَشاهدنا الأخيرة ومدافع فرانكو على الجانب الآخر من التل، غير أنها كانت المَشاهد الأخيرة التى لا غنًى عنها. وتنقصه سلاسل اللقطات؛ وإذا تحدثنا بدقة، لا توجد فجوات فى سلاسل اللقطات. وتنبع النتيجة التى تحدثتم عنها من الأسلوب، وقد أدركتم هذا بوضوح بالغ.
وفيما يتعلق بردّ فعل الجمهور (كان الفيلم، من الناحية التجارية، نصف ساقط)، فمن الصعب أن تحدده بدقة، ببساطة لأننى رفضتُ الدوبلاچ، ولأنه أمر نادر نسبيا أن يكسب فيلم مترجَم جمهورا واسعا جدا – وفى هذه الحالة، يبدو الأمر غامضا فى أغلب الأحيان، غير أن المشاهدين أمام عمل أحد المحترفين، ناجز بوضوح من ناحية أخرى، قلَّما يجرؤون على إعلان سخطهم. وأنت تتحدث عن جمهور "مختار"، وكان رد فعل [الجمهور] الآخر مماثلا.
كما أن ما تقوله عن استخدامى للصورة ("لإضفاء وجهة نظر ميتافيزيقية على الحدث") قد استرعى اهتمامى أيضا. وهناك، فى هذا المجال، شيء بين السينما والرواية: المسرح. ويُلْحِق شكسپير، بدوره، المجال فوق الشعرى (ولنقلْ الميتافيزيقى على سبيل التبسيط) بوجهة نظر.
لقد أدركتَ بوضوح بالغ، وأنت الوحيد، فيما أعتقد، بين النقاد على الأقل، أن القدرة الإيجابية لقطرة الماء، بعد رحيل مفجِّرى الديناميت، تنبع من التماثل المبهم بين القنينة وساعة رملية. لكنْ انتبهْ إلى أن الشعر يعتمد، بدوره على هذه المعطيات، وتلعب مقابلاته بين الأصوات "اللامعقولة" الدور الذى تلعبه هنا المقابلة بين الأشكال.
أما الصلة (وأنا أتابع مقالك) بين المقارنة فى الكتاب والمقارنة فى الفيلم ("مثل قطعة من الحجر") فهى لا تأتى من تأثير الكتاب، بل من الهاجس، وقوة الذكرى، فى كلا الحالتين. ثم من نوع من الخضوع لهذه الذكرى، برغبة فى تصوير (وكتابة) الأشياء الصحيحة فى مجال الحرب، مادام المقصود هو الأشياء التى شهدتُها. لقد هبط الفيلم التسجيلى الحربى بقيمة كل ذلك تماما. لكنْ فكِّرْ فى أن هذا الفيلم كان يعرض لأول مرة طائرة من داخلها، ولأول مرة الساحات العديدة للقتال الدائر.
"لا يتقدم المخرج على خط مستقيم، بل حلزونى، ويعود هذا إلى أسلوب الهاوى لأيام ’شبابه‘". صحيح تماما، غير أنه ليس هناك سوى المخرج....
وأنا أترك موضوع مقالك، والذى يمكن أن يمضى بنا إلى أبعد مما ينبغى والذى سنتحدث عنه إذا التقينا ذات يوم. وأرجو ألَّا ترى فى هذه المناقشة(؟) السريعة، أو هذه القطعة من الحوار، سوى الرغبة فى أن أشكرك على أبرع وأرهف دراسة خُصِّصَتْ لهذا الفيلم، وكُنْ على ثقة من مودّتى.
أندريه مالرو
*****
على أننى أودّ أن أضيف ما يلى: ما أقرّ لك به هو أنك أول مَنْ بيَّن أن ما يهمنى فى السينما هو وسيلة الربط، فنيا، بين الإنسان والعالم (بقدر ما هو كوْن) بوسيلة أخرى غير الكلام. فهذه الصلة ماثلة، فى المسرح الشكسپيرى، بواسطة الغنائية lyrisme، وفى الرواية بواسطة وصف عنصر خارجى على الشخصية (ذكريات تولستوى Tolstoï، بعد معركة آوسترليتس Austerlitz، فوق الأمير أندريه الجريح). ويمكن دائما نقل الكاميرا صوب السُّحُب، وقد ابتذل الروس هذا الشيء؛ غير أن هناك وسائل أكثر براعة وحدَّة. وإذا قُدِّر لى أن أُخْرِج فيلما آخر، فلا بد أن تكون الصور الأساسية فيه من نوع النملة التى تجرى فوق جهاز تصويب المدفع الرشاش – تلك النملة التى رفعتَ أنت شأنها.
(رسالة منشورة بإذن كريم من السيدة فلورنس مالرو Madame Florence Malraux).



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
- إلا الرسول الكريم
- هل انتصرت الثورة المضادة فى مصر؟
- حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة
- بورخيس - كاتب على الحافة
- عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثالث- فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثاني - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور
- بدلا من صَوْمَلَة سيناء
- طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس
- سوريا: الطريق إلى الجحيم
- حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة ال ...
- قبل تشكيل حكومة هشام قنديل
- أثبتت فحوصى الطبية الأخيرة خلوّ جسمى من سرطان الكبد (لطمأنة ...
- احتمالات الصراع الحالى بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإ ...
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول
- هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
- الانقلاب العسكرى المكمِّل


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان