|
في رحم الرزايا تتخلّق المزايا
ليندا كبرييل
الحوار المتمدن-العدد: 3884 - 2012 / 10 / 18 - 22:05
المحور:
الادب والفن
قدّم الطبيب عزاءه على ما نابني في لهجة حاسمة صارمة تشقّقتْ لها مصاريع الأبواب ، لتنفذ منها العفاريت وتقفز على أكتافي . كأنه قال لي : ( العمر لكم ) وهو يختم كلامه بعبارة : ممنوع اليأس . لحظ الدمعة في عيني فقال : ليس لعبارتي قوة آلامك ، لكن عليك تقبّل واقعك الصحي برضى ، فالعلّة سترافقكِ ما دمتِ غير مقتنعة بالعملية الجراحية في الفقرات . سيخفّف الدواء نوبات الألم ، إلا أنه لا يقضي على المشكلة ، والاستلقاء بلا حركة مفيد . استلقاء بلا حركة ؟! هنيئاً لك أيها السائر في الطريق ، هل تدري في أية نعمة أنت ؟ مربوطة إلى سريري منذ ثلاثة أيام ، إذ أصبحت أعصابي وثاقاً لكل عضلات الجسم . سريري بقلبه الواسع الذي كنت أنطرح وأفرد يديّ شوقاً إليه وأوسِع مخدتي الوثيرة عناقاً ، أنسطح عليه اليوم إعياءً . وليس أي إعياء .. إنه تهالك السجين الذي تعرّض إلى عملية تعذيب بشعة ! سريري الرائع هذا ، كرهته اليوم حتى النفور . اليوم هو الجمعة . وإن كان ( جمعة ) قد احتكر الأحداث العظمى في العالم ، لانفراده بصيت الثورات العربية والتسونامي والزلزال في اليابان وحرق القرآن ومظاهرات الاحتجاج ، فإنه اليوم على المستوى الشخصي كان جمعة – الآلام العظيمة – بامتياز . ظننتُ أن اليوم سيمرّ بأوجاع محمولة كما في اليومين السابقين عندما عاودتني الإصابة بآلام الانزلاق الغضروفي الحاد ، مقدِّرة أن سفاهة الوجع لها زمن ، مهما تشتدّ تعقلها العادة مع الأيام . وكنت قد جاملت الضربة واستضفتُها شهرين من الزمن قبل نصف عام ، وما إن تنفّست الصعداء من خلاصي من هذا الضيف الثقيل ، حتى عاد وداهمني قبل يومين . لا أحد غيري في البيت . خرج زوجي من الفجر في سفر وسيعود ظهر الغد . استلقيْتُ بعناء على السرير منتظرة أن يدور مفعول الدواء في جسمي . وكان النوم بدأ يداعب جفنيّ ، فقد سهرت طوال الليلة البارحة وأنا أقرأ رواية ( عزازيل ) البديعة . ابتسمت وأنا أذكر أن قلبي لم يحْتفِ ببطل قصة كما احتفى ب ( هيبا ) الذي فتنني بأدبه الرفيع وفكره . أخذت أستعيد بعض مواقف الرواية في مخيلتي وعيناي ترمقانها حيث أخذتْ مكانها على رفّ الكتب الأثيرة مقابل سريري . إلا أن خيبة الأمس القريب في الحصول على فرصة نافعة في العمل الجامعي طغتْ على مجريات قصة عزازيل المثيرة ، فوثبتْ الحادثة ولم أتمكّن من لجمها ، وطفتْ على سطح الذاكرة ، وكانت لا تزال ناشبةً في روحي تسيمني الحسرة والمرارة . الوغد .. ذلك المُتمشْيِخ ! نازعني على حقي في العمل ، وكدت أن أفوز بالفرصة بفضل إمكانياتي . سدّ نقصه الفظيع بقوة الشعارات الدينية وإغراء المال . عمل سامق لموظف قزم ، فشل في الإجابة على أربعة أسئلة من عشرة ، وتعثّر في آخرَيْن ، ولم ينجُ من التأتأة في البقية إلا سؤال واحد ! يللا ~ هذا حال الناس في المجتمع الذي لا يريد أن يخسر الدارَيْن . يلقى الله بقلبه ، ويعمل مع الدنيا بعقله ، ويضع مع الشيطان يده ، ويمشي مع الشيوخ برجله ، ويعود مع الجنّ إلى داره ! أمر غريب .. لم يسْرِ الخدر في أطرافي بعد ، مع أنه قد مضى أكثر من ساعة على تناول دواء الفجر ! حاولتُ النهوض ، فسرى ألم مزعج من منتصف الظهر إلى أسفل الرجل اليمنى . اِهدئي .. وجعكِ ليس مزاحاً ، اِنسيه وفكّري في عائلتك . لكني وجدت مشقة في تكلّف الهدوء والانصراف عن بصيص نار بدأت تستعر على مهل وتستنفر الوجع من مكامنه . انتابني توجّس ، شوّش على صورة ( هيبا ) وغطّى على فشل الأمس . حاولت أن أكبح جماح القلق ، فأغمضت عيني استجلاباً للنوم ، لكن الراحة أضربتْ عن إسباغ نعمتها عليّ . مرّتْ ساعتان . الوجع يشتدّ وأنا في قلق : هل دخل المخدّر في متاهة عروقي وداخ فيها ؟؟ رنّ جرس الموبايل . كان على الطاولة في منتصف الغرفة الموبايل ودوائي وكأس فيها جرعة ضئيلة من الماء . حاولتُ القيام فعجزت ، استغربت أمري . عاودت المحاولة ، فغلبني ألم قاسٍ كمنْ قرط أصابعه عند إغلاقه مصراع الباب عليها . واكتشفت تيبّس منطقة الوسط ، وجسمي تحوّل إلى خشبة مسطّحة . عجيب ! لم يحصل هذا معي من قبل ! رنّ الموبايل ثانية . وكررت محاولة النهوض ، فأصبح الوجع حاداً كشرارة الكهرباء تصعق كل جزء من جسمي . ورنّ الجرس ثالثة يعلن وصول ميل . كانت أية إشارة للنهوض ضرباً من العبث أمام تصلّب وسطي ولعلعة ألمٍ انقلب هذه المرة إلى وحش ضارٍ رابض ينتظر فتح باب الأسر لينقضّ عليّ . قلّبت رأسي على المخدة بعصبية وانفعال ، فبدا لي كأن حمى لحقت الكتب فأخذتْ تتراقص ، وأشياء الغرفة كالجنيات تتقافز ، لينتابني ما يشبه الدوار ، فهمدْت وأنفاسي تصطفق في صدري ، ومددتُ إلى الهاتف نظرة باردة لكنه برود الشرود الناعي الأمل الغائب . هذا هو الألم .. عندما يذوب الأمل أمام عينيك . وما أن خمدتُ حتى التفتَ القلق إلى المرتع في داخلي ليضطرم ويتمدّد ، إذ أن الألم يطلق العنان للوساوس حتى تستفحل جزعاً . وكزفرة شعاع من الشمس وسط السحب الثقيلة ، جاءني هاتف من أعماقي أني سأقوم بخير وأن الأمر لا يعدو أن يكون عرَضاً إلى زوال . هنا أثقلْتُ السكينة على جفنيّ مستسلمة ، فارتمتْ عليّ رحمة السماء وسرعان ما استدعتني إلى ملكوتها ، فابتسمتُ للملائكة ورحت في نوم .. { حلمت فيه أني عدت إلى عصر سحيق ، والتقيت في حدائق علاء الدين ب ( هيبا ) المصري و ( مرتا ) الدمشقية . كان هيبا يلقي على مرتا نظرة انطوتْ حولها كل معالم الكون . " قالت بعتاب هامس : سألتكَ فلم تجبني عن أي شيء وسألتني فأخبرتُكَ بكل شيء " ص . 319 رأيت هيبا وقد أخذ كفّ مرتا بين راحتيه وراح يحدث جميلته عن " أوكتافيا وهيباتيا وبطرس القارئ وأورشليم " . بدتْ شاردة وهي تقول : ليس هذا ما أسألك عنه . فاضطرب وقال لها إنه سيغادر هذه الأرض حيث ارتكب الشرور وبهت إيمانه ، وسيعود إلى بلده . فانتفضتْ مرتا وقالت : أتتركني يا هيبا ؟ فأجاب وهو يهرب من نظراتها : ليس من خيار آخر لي . رجتْه مستعطفة باكية أن ينقلها من الحلم السعيد إلى الواقع فيأخذها ليعيشا معاً وتكون مصر منصورة له ولها طيلة العمر . لكنه ردّ برفق : حبيبتي مرتا ، لا أستطيع أن أقدّم لك أكثر من حلم جميل مهراً لك ، زواجنا محظور } . انتزعني من الحلم الجميل رنين الموبايل رابعةً ونقلني إلى الواقع . بذلت جهدي للوصول إلى الهاتف .. مستحيل .. إنه الموت الأحمر . ما العمل ؟؟ أصبحنا في منتصف النهار ، والهواجس تلاطمني مع اقتراب انتهاء مفعول الدواء ، وحيث بدأ الوجع يتوحّش وفي قلبي ينبش وفي أعصابي ينهش . ماذا لو بقيت هكذا ؟ هل سيحتمل العقل أو الجسم هذا السكون الأخرس من الآن وإلى الغد ؟ هل سيقلق زوجي لعدم الرد على المكالمة ؟ أصبح رنين الموبايل جرس طلب النجدة الذي أتمسك به . أسئلة كالسلسلة ، وهمّ ينطح همّاً .. هل سأسقط طريحة الفراش ؟ كيف سألتقي بأهل بيتي وأنا على هذا البعد الشاسع عنهم ؟ أنا التي ملأت الحياة عملاً ونشاطاً هل سأنقطع عنها ؟ حتى الأمس كانت علاقتي متواصلة ( بالإنسان ) ، سألوني : كيف تخلقين كل يوم أملاً جديداً ؟ فأجبت : وهل يمكن للحياة أن تزهِر بدون هذا الساحر ؟ الحي وحده ولا شريك له . هذا ال هو بين عينيّ وعلى يميني ويساري كالآب والابن والروح القدس ، فضحكوا .. تابعتُ لأضحكهم أكثر : واحتلّ قلبي إلهاً واحداً ! هكذا ؟ فجأة ودون إنذار ؟ من وجود عامر إلى ركود ضامر ؟ لا لا .. هذا جحود سافر من الحياة التي أهبها الكثير ! كانت شمس الظهيرة حامية تسلّط أشعتها من الحائط الزجاجي إلى أعماق الغرفة ولا أستطيع ردّ الساتر على النافذة والرطوبة على أشدها . حتى الشمس ؟ كنتِ في الصباح كالأم الرؤوم ، تطلع بثغر باسم على أولادها وقد بدؤوا يشبّون عن الطوق ، فتهبهم النشاط وتلفّهم بحضنها الدافئ ، ما لك الآن ؟ هل قوي عودي فوجب أن تسلّطي العين عليّ ؟ أو تصليني بنار غضبك ؟ سحبتُ المخدة لأغطي بها وجهي ، فوقعت من يدي على الأرض ! مددت يدي لأطول اللحاف القابع في درج أسفل السرير ، فالجو حار وقلما استعملته . استطعت بعد جهد فتح الدرج وتحسسه ، أمسكت بطرفه فما تمكنت من سحبه ، كان ساقطاً إلى الخلف وعالقاً كما يبدو بالشريحة المعدنية الناتئة المثبّتة لزاوية السرير ، جذبته بكل قوتي فأخفقت . أنت أيضاً تضنّ بالرحمة علي .. يا لهذا اليوم التعيس . قررت أن أغامر ثانية وأحاول النهوض من السرير . قلبت على بطني ثم دفعت رجليّ معاً لأقف كلاً متصلباً كجذع شجرة كما ظننت ، ولكن .. ما أن لمست قدماي الأرض حتى كان القرص والعضّ والتقطيع بأوصالي ، فهويت على سريري وأنا أضربه بقبضتي وأبكي بحرقة . خذوا جهنّمكم والْبسوها برأسكم .. فأي جهنم بعد هذا السعير تهون !!! هكذا إذاً ؟ هذا ما يفعله الدهر بنا عندما يعبث . أخبريني .. كيف كيف ستصلين إلى المطبخ لإحضار الماء على الأقل لشرب الدواء على معدة فارغة من الطعام من الخامسة مساء أمس ؟؟ استفحل التوتر وحمّ في داخلي ، وبدأ العطب يأكل من تفكيري ويقذف بي إلى يأس بعد أن فتر حسّ المقاومة . التحمت نبضات القلب بنفضات العصب الممتد من الفقرات السفلية في الظهر إلى أخمص القدم ، وأخذتْ ترسل موجات متتالية هائجة من الألم المتصاعد . في تلك اللحظة ، كان ألمي ليس له مثيل ، وتعاستي ليس لها شبيه . احتواني الوجع تماماً حتى غابت عني مصائب الآخرين التي رأيت الكثير منها في حياتي وأنا متطوّعة لوجه ضميري في خدمة المعاقين على مدى أربعة عشر عاماً . رفعني الوجع إلى ذروة اللحظة المأساوية حتى ما عدت أعتقد أن إنساناً به ما بي ! تباً لزمن لا يعرف رد الجميل فيجود بالسفاهة علينا . سفيه وإلا ؟ هل خبرتَ سفيهاً في حياتكَ ؟ لا شك .. فالحياة لا تخلو من الحمقى . بل إنها لا تكمل بدونهم . قد يكون المرض تجاوزك .. أخطأك .. فإن شئت أن تعرف معنى المرض على حقيقته ، فانظرْ إلى السفيه الصفيق في الحياة وتأملْ التشابه ! السفيه إذا تحديتَه لاشتدّ عليك ، وسحب من صدرك روح التمرد وأطفأ في داخلك جمرة الحياة . لا تقع عينه إلا على النواقص في الجسد السليم ليُعمِل فيها شناعته بلا رحمة ، ولا يعرض يائساً .. يريد بسطوته وطغيانه أن تذعن كل أعضاء الجسم إلى حكمه الطائش في الصحة ، ولا يحقق وجوده إلا متمدداً فوق صدر الحياة . وأخطر ما في المرض – السفيه أنه يتبدّى لك صادراً عن نيّة صافية مخلصة غير مؤذية ، فإن تكبّرت عليه أو أهملته كشف قناع الخسة عن وجهه لاحتواء أسباب حيويتك وإرباكك . هناك من الأمراض ما يستجيب للدواء ، هذا داء سفيه لا أخلاق له ، عونطجي بلطجي ، فإذا أقبلتُ على الحياة ومباهجها لحقني من خلفي ، وإذا التفتُ إليه فرّ من أمامي ! أباعد جفوني في ضعف أرجو الأمل المضنون به تارة .. ثم أغيب في هذيان الوجع وحمّى الشمس . شعرت أني وقعت في بؤرة الهلوسة المظلمة . أتصبّب عرقاً . نشف حلقي . أريد ماء . جرعة ماء . نقطة ماء . أحملق في محتويات الغرفة ، أراها حيناً ثم تغيب فلا يبقى إلا صوت الساعة الرتيب وصوت الآذان الغريب . ثم تخايلتْ أمام عيني شكل كأس بها جرعة ماء فاشتهيتها ، مددتُ يدي إليها فلم تصل .. فتراجعتْ بقايا الوعي إلى زمن ماضٍ ، عندما سمعتُ في المستشفى صراخ طفل جارتنا يبكي من جوعه وأمه قد جاءها وجع طلق الولادة ، فحملتُه وأسقيتُه ماء وأطعمته ، ثم لاح لي بين طبقات الضباب المتلبّد وجه أمي ، ابتسمت وقالت : أنا ولا أنتِ يا بنتي ، ضعي صورة المسيح على هذا العمود . نظرتُ إلى العمود الفاصل بين الغرفتين فامتلأتْ عيناي بمشهد صديقنا عبد الحميد يتطلّع إليّ بنظراته الزائغة وتقاطيعه المشوهة من آثار التعذيب ، وكرباج الحاكم ينهال على ظهره ، ثم تركوه بلا ماء يوماً بأكمله . يومها قال لنا : العطش أفظع من ضرب الكرباج . وما أن انصبّت رائحة طعامٍ في أنفي ، حتى حملتْ معها ذكرى ( مينامي ) صديقتي تحمل لي طعاماً له نفس الرائحة ، قبل يومين من رحيلها غرقاً بالتسونامي .. بالماء . الهذيان والأحزان مرتعان خصبان لاستجلاب مآسي الحياة ويستنهضان كل الصور المزلزلة للوجدان . آ ... آاااه ~~ كمنْ أغلق على رجلي باب حديد ، هذا ألم لا يُطاق ، لا أتمناه حتى لعزازيل . عزازيل ؟ هل أتاكِ عزازيل ؟؟ منْ ؟ هيبا ! هيبا .. ألسْتَ هو ؟ بوسيدون ، يا إله البحر والماء .. أدركْني .. واجْعل الشمس برداً وسلاماً على رأسي .. هِبْني جرعة ماء .. بوسيدون يا كلمة وجودي .. المحبة تترفق .. اغِثْني ! هال هيبا أن يراني في شدة اليأس حيث انتظر لي شدة القلب ، فقال بدهشة واستنكار : هل ستبدئين بمحاسبة الدنيا على بلاويها وتندبين حظك على هذه الوقعة السوداء ؟ إذاً أحسن الله عزاءكِ في استقرار بالك وهدوء قلبك . أجبته بلهجة باكية : ولكن يا هيبا ، كان كل شيء يشتعل بإشارة من يدي ، أنا الآن عاجزة عن الحركة و.. قاطعني قائلاً : هل من سبيل إلى حقك في الحياة بلا معركة ؟ سدّد هيبا بصره علي وقال بحزم : المرض أحمق . اُطرديه إنه سفيه ، اِدفعي عنك السهام ، المرض حرب لا سلام ، المرض ظلام ، لا يغشى إلا مجتمع الأضواء ليستضيء بها وينفث هبابه الأسود ! رأيت هيبا يستعجل العودة ، أردت استبقاءه ، ناديته .. هيبا ، بوسيدون .. التفت وقال محذراً : أسوأ ما في الأمر أن يستغرقك عجزك وشللك عن تفقّد السخط والثورة عليه ! ظننتُه ذهب . وإذ به يصيح صيحة عظيمة أرعبتني : اِنهضي !!! استدعت مخيلتي مشهد الفتاة الفيتنامية وهي تجري عارية ، تبكي بتوجع مخيف من آلام النابالم القاسية . لا .. لن أذعن . نظري يشرئبّ خارج الحبس . ناديتُ شجاعتي ، لبّتني .. وما أن رأتْني في مهانتي غادرتني .. غضبتُ فذعرتْ وفرّتْ .. اِدّخرتُ لها قلبي مدفوعةً بإحساس منْ يريد أن ينقضّ على عنق اليأس كانقضاض العقاب على عنق فريسته . حاولتُ محاورة شجاعتي بالحسنى فوجدتها لا تسلِس قيادتها لي ، كدت أن أتراجع يائسة لولا إشارة قاطعة من إصبع هيبا أن : ثوريْ ! قبضتُ على شجاعتي . هبّتْ فثُرتُ .. أزاحتْ فكسحْتُ .. دافعتْني فدفعْتُ .. حتى بدأت تسكن رويداً رويداً .. فألبسْتُها ذاتي وتعشّقتُها قبل أن تنخلع عني لو استكنتُ لها ، ونفخت فيها من حرارة قلبي فذابت في عروقي ! انتزعت نفسي من الفراش كما ينزع الجندي مسمار الأمان من القنبلة . تفجّر الوجع ، تشظّى ، وأخذ ينشطر من أعلى ظهري ويقذف بمساميره الحارقة في أنحاء جسدي ، واشتعلت حلقات النار تحت قدمي وأنا أسحب رجْلاً معطوبة سحباً ، متمسكة بالحائط ، أعرج وقد انطويت على نفسي حاملة أثقال وجع فقدَ عقله . وصلتُ إلى البراد بشق النفس ، حملت عبوة ماء ، ولم تقع يدي إلا على كيس فيه طماطم ، واستدرت راجعة إلى خندقي أحتمي من اللهب المفزع .. عندما شعرتُ أن عينين ترقباني من وراء زجاج باب البلكون ! القطة ( بينا ) ؟ ما أن احتوتْ نظراتي نظرات بينا المتحدية حتى ماءت واعتلتْ بقائمتيها الباب ، وأخذت تخرمش بأظافرها الزجاج كأنها ترجوني أن أفتح لها . لكن الظرف لم يكن ليسمح لي بالتفكير والخيار ، فطفقت راجعة إلى غرفتي وأنا أضطرب من الألم ، ورأساً إلى الطاولة ، فدفعت بذراعي ما عليها إلى محبسي وارتميت على السرير ألهث .. أضحك .. في دقائق قليلة جداً حققت ما أقعدني أكثر من اثنتي عشرة ساعة . كان الماء أطيب ماء ، وكانت الطماطم أطيب طماطم ذقت في حياتي . شعرت بأني نسيت ألمي وما نسيته في الواقع ، ولكن الإنسان عندما ينتصر فإن كل ما عدا تلك اللحظة يتضاءل . نظرت إلى الموبايل فرأيت الرسالة الأخيرة من زوجي يعرب فيها عن قلقه ، ويرجوني أن أكتب له ليطمئن ، فكتبت له : وعلام القلق ؟ أنا بألف خير ! لكن خاطري لم يهدأ . كانت النظرات من خلف زجاج البلكون قد علقت بقلبي . ( بينا ) جائعة كما أنا أو عطشى . ولكن .. هل سأتنكب المشقة والعناء ثانية من أجلها ؟ كانت الشمس بدأت تميل ، فوضعت رأسي في مكان ينعكس فيه ظل من الحائط . أغمضت عيني من شدة الألم ، وتوغّلت في التناوم ، وتمسكت عبثاً بخيوط بعض الأفكار المشتتة ، لا أكاد أبدأ بفكرة حتى تنسخها التالية . ورغم إسدال الجفنين على النظر ، فإن شعوري ظل صاحياً ، ولم تنطلِ عليه حيلة التناوم ، واستطاع استخلاص الانفعال في داخلي وهو يحمل لي نظرات بينا المتمسكة بعيوني . مع كل وجعي وهيئتي الباعثة على الرثاء ، لم يفتني وأنا أمام البراد مشهدها وهي تقف على قائمتيها بعناد تطالب بإصرار بحقها في الحياة . هل سمعتِها كيف استنفد المواء قوتها حتى كاد صوتها يبحّ ؟ وهل تذكرين وسوسة خرمشتها فوق الزجاج وهي تتزحلق فتعاود هبّتها لتنشب أظافرها بعناد ؟ لعله ما فاتكِ أيضاً كيف خفت صوتها وتباعد مواؤها وهي تشيّعكِ بنظرات منكسرة ، ناعية أملها بك أن تنجديها ببعض الحليب ؟ سلمتُ للتثاؤب الذي حمل من الأوكسجين لمخي ما لم تعدْ تنفع معه أية محاولة مصطنعة للتناعس ، وسرعان ما انشدّ الجفنان إلى الأعلى ، ومواء ( بينا ) يعلو وتتضخّم أبعاده في السكون الأبكم حتى ملأ الجو عليّ . ( بينا ) ، القطة السوداء الرائعة ذات العينين الخضراوين والرأس والذيل المرقطين .. تسربتْ في يوم إلى بلكون بيتي وهي صغيرة ، فحنوتُ عليها ولم تعد تنسى كرمي معها ، تغيب ثم تعود إليّ ، ذكّرتني بالقرد ( وافي ) الذي كتبت عنه أيضاً فتعلقت بها . إن لم يتوفر لي منْ يسقيني أفلا أهبّ لإطعام حيوان مسكين ؟ أغمضت عيني كأني أحبس قوة تفكيري ، كانت عزيمتي أعلى بمراحل من شدة الألم . انتترتُ ثانية من رقدتي .. فشعرت بعظامي تتكسر على بعضها ، أغلقت ستارة النافذة ، نازعتني نفسي من شدة الألم للعودة إلى الفراش فما أقام ظهري المنطوي إلا صلابة النظرة الصادرة من عيني بينا وهي تستشعر حركتي وتراني من زاوية البلكون ! تحرك قلبي بالشفقة ، فهرعت أجرّ رجلي وفتحت لها الباب وحملتها وأنا منحنية على نفسي ، فقفزت على ظهري كأنها خافت أن أتركها للجوع والعطش . اتجهت إلى البراد ووضعت في صحنها بعض الحليب مع فتات الخبز ، فحلّتْ عني وأخذت تلتهم طعامها بشراهة . حملت معي بعض الخبز والجبن لي ورميتهم على سريري عندما اقتربت منه ، وباليد الأخرى حملت جهاز الكومبيوتر . لم يبق إلا خطوات معدودة .. عندما اصطدمتْ رجلي بحافة السرير ! ففقدت توازني ، وقبل أن أقع أرضاً دفعت بالجهاز إلى سريري وانقلبت على ظهري فارتطم رأسي بشدة بقائمة الطاولة . زحفت على بطني وتمسكت بحافة الفراش ، وسحبت جسدي للأعلى ثم ارتميت عليه . علقت بقلبي أوجاع المشهد وغلى الحزن وفاض ، فهاجمتني حرقة في عيوني ، وما هي إلا أن انهمرتْ دموعي ، وبكائي يتردد في صدري ، أشهق شهقات متتالية قطّعت صوتي تقطيعاً . آه ~ لو أنطلق من ضيق داخلي الأصغر إلى رحابة الخارج الأكبر . استسلمت لإغفاءة قصيرة . شعرت بملمس ناعم يداعب وجهي ، وكأن صوت هيبا جاءني بين الحلم واليقظة أن حان وقت الدواء الثاني . كانت بينا راقدة إلى جانبي بسلام . وضعت الكومبيوتر فوق صدري أنظر إلى الشاشة من فوق حافة لوحة المفاتيح . وفي اللحظة التي وصلني بالعالم ، انبسط الأمل الذي لا يعطي توقّده إلا لمنْ يخلص له !! انفتحت أبواب الجنائن والبساتين ، فصفّق الهواء ، وترنم القلب على صوت السيدة أم كلثوم في رائعة السنباطي حيرت قلبي معاك ، فانسكبتْ كالبلسم على الفؤاد ، وأنعشته وأنا أقرأ بحبور الرسائل والمقالات . تعبت من النظر إلى الشاشة ، فوضعت صندوق ( بينا ) على صدري ، وجهها في وجهي وأنا مسندة يدي إلى حافته المرتفعة أسجل اللحظات العصيبة التي مررت بها منذ فجر اليوم . كتبت أول جملة : آفة المرض الشريرة إن تحكّمت بدواخلنا وسيطرت عليها ، أنها دون كلل تعمل على تهديم كل جميل ينعش الحياة . شعرت بالنعاس ، تطلعت إلى الرف المقابل لسريري تتصدره ( عزازيل ) . بحثت عن ( هيبا ) ورجوتُ أن أراه قبل أن أغمض عيني ، لكني أدركت وأنا في الصحوة والوعي ، أنه كان حلماً وخيالاً . هيبا - بوسيدون .. يا إله البحر والماء .. كنتَ أجمل خيال قلّما يفوز الإنسان بمثله في الواقع . أغمضت عيني وأغنية الرائع بليغ حمدي ( بعيد عنك ) تنساب كالنبع الصافي .
#ليندا_كبرييل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معراج طريق الصعب يلزمه حذاء الشعب
-
رادونا ولّا ما رادونا فقد أصبحنا مارادونا
-
أنا ومنْ يعلموني السحر : جويْنَر ونادال وميسي .
-
وإن ذُكِرت الرياضة قلْ : ربّي يخلليها ويزيدنا فرفشة
-
كل هالدبكة والدعكة .. على هالكعكة !
-
كنتُ بطلة أوليمبية ذات يوم !!
-
صلواتهم ليست لوجه الله ، إنهم يلعبون
-
المسيحية ليست ( باراشوت ) نهبط بها فوق كنيسة
-
رسالة من الجحيم : إنْ لمْ تهُبّوا فهِبُوا
-
هل أتضرّع لطبيعة غبيّة لتنصرني على إلهٍ جبار ؟؟
-
رسالة إلى الجحيم : كل فمتو ثانية والبشرية بخير
-
رسالة إلى الدكتور جابر عصفور المحترم
-
رسالة إلى السيد جمال مبارك المحترم
-
عند عتبة الباب
-
حول مقال : في نقد علمانية الدكتورة وفاء سلطان
-
رثاء - وافي - قبل الرحيل
-
رأي في مقال السيدة مكارم ابراهيم
-
من أندونيسيا عليكم سلام أحمد
-
الأستاذ سيمون خوري : كنْ قوياً , لا تهادنْ !
-
وداعاً قارئة الحوار المتمدن
المزيد.....
-
فنان مصري: نتنياهو ينوي غزو مصر
-
بالصور| بيت المدى يقيم جلسة باسم المخرج الراحل -قيس الزبيدي-
...
-
نصوص في الذاكرة.. الرواية المقامة -حديث عيسى بن هشام-
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|