نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1127 - 2005 / 3 / 4 - 10:39
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
عندما تورطت الأحزاب المعارضة في مصر في إعلان تفهمها لأن يكون تعديل الدستور بعد انتخابات الرئاسة القادمة, و عندما ساد صمت ثقيل على القاهرة بعد إعلان الرئيس ان الدعوة لتعديل الدستور باطلة, وعندما لاح للجميع مدى الشراسة التي تنتهجها السلطة في وجه حركة كفاية, و عندما ساد اليأس من حدوث أي شيء و الاطمئنان إلى ما هو كائن فعلاً, أعلن الرئيس مبارك "أما صاحبي فلا أخلعه ابداً" . هي حيلة قديمة: أن تورط أعدائك في الالتزام بقواعد لعبتك لكي تكون أنت الوحيد الذي ينقلب على هذه القواعد, قواعدك أنت, بينما اعدائك قد التزموا بها. هكذا يتم تأمين عملية قلب للأدوار سهلة و مريحة, و هكذا نرى الصحف الحكومية تدافع بشدة عن قرار تعديل الدستور لأنه قرار تاريخي, مما لا يعني إلا أن هذه الصحف نفسها كانت تعد تعديل الدستور مطلباً أساسيا لها, و هو غير الصحيح بالطبع بل و الهزلي.
شيء آخر يجمع بين المشهدين التاريخيين (مشهد التحكيم بين عمرو بن العاص و ابي موسى الأشعري و مشهد الحوار الوطني بين أحزاب المعارضة و الحزب الوطني) هو قبول الأشعري بطلب عمرو بن العاص تولية عبد الله بن عمر قبولاً طوعياً, أي أن القبول قد تم بناء على الحوار و الاقناع (ظاهرياً على الأقل) و ليس عن طريق السيف, و كذلك وافقت أحزاب المعارضة على تأجيل تعديل الدستور لما بعد انتخابات الرئاسة قبولاً طوعياً, لم يفرض عليها احد هذا سوى قراراتهم "الحرة" , هذا في الواقع ما يحفظ للعبة حرافتها حتى مشهدها النهائي: خروج عمرو بن العاص ليعلن انه لن يخلع صاحبه معاوية و خروج مبارك ليعلن طلبه من مجلسي الشعب و الشورى تعديل المادة 76 من الدستور. ثم سمة اخرى تجمع بين المشهدين, هي كون التحكيم و الحوار الوطني قد ابتعدا عن الناس, و إنما تما بين ممثلين عنهم فقط, لم تدر نقاشات واسعة في الصحف مثلا و لا على التليفزيون بين فريقي أ و ب, إنما تم اختيار ممثل من كل فريق ليدلي بدلوه. يختزل الفريق الواحد في شخص هو المعبر عنه, من يكون هذا الشخص سوى أبي موسى الشعري أو رفعت السعيد, الملائمان جداً لطموحات الفريق المضاد, من حيث قلة حيلة الأول و انتهازية الثاني كانتا واضحتين منذ البداية.
هنا نصل إلى الاختلاف الرئيسي بين المشهدين, فبينما هدف الخروج المدوى لعمرو بن العاص على الناس إلى ترسيخ اللبنة الأولى في الديكتاتورية الأموية هدف الخروج المدوي لمبارك إلى ترسيخ اللبنة الأولى في "مرحلة جديدة" من الديكتاتورية القديمة. يساعدنا الفيلسوف الفرنسي الرحل جاك دريدا على فهم هذا الطلب من مبارك لمجلسي الشعب و الشورى بتعديل المادة اياها من الدستور, حيث يتحدث في حواره عن 11 سبتمبر و الذي أجري بعد خمسة أسابيع من "الحدث" العظيم, في الكتاب الصادر من المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة (ما الذي حدث في "حدث" 11 سبتمبر), يتحدث عن تقنية الحصانة الذاتية التي تلجأ إليها الكائنات الحية و التي تنهمك في التدمير الذاتي لمناعتها الطبيعية من حيث تتوهم انها تقوم بتحصينها ذاتها اكثر. هكذا بينما تساعد أمريكا بن لادن على مهاجمة العدو الأحمر فإنها تنهمك في التدمير المستقبلي لذاتها, و الذي تمثل في هجوم الإرهابيين عليها, هي الممثلة في برجي مركز التجارة العالمي. لماذا لم يتساءل أحد عن مدى شرعية طلب مبارك هذا بتعديل الدستور؟ أي هل يحق لمبارك أن يطلب طلباً كهذا؟ و هل كان ليطلبه لو لم يملك صلاحيات مطلقة كتلك بموجب الدستور نفسه الذي يطالب بتعديله؟ أي أن طلب مبارك "الديمقراطي" إنما ولد من رحم دكتاتوريته. و هكذا يترسخ الاقتناع بأن الديمقراطية ما كانت لتأتي لولا تعطف مبارك, لا شعب و لا بطيخ (خلا طلب الرئيس من أي إشارة إلى اية ضغوط عليه سواء من حركات شعبية ككفاية أو من أحزاب معارضة أو حتى من الخارج). و هنا نصل إلى المظهر المعكوس لمجاز دريدا, حيث يسهم مبارك في ترسيخ سلطته من حيث يوهم الناس أنه يسعى لتدميرها, لأن القرار الديمقراطي المولود من رحم الدكتاتورية لن يفعل شيئاً سوى إضفاء الشرعية على الدكتاتورية, باعتبار أنه لولاها لما تم تعديل الدستور (لم يحدث أن كانت لمبارك شعبية في السنوات الأخيرة مثلما كانت له هذه الأيام هذه سواء بين الحكوميين او المعارضين الرسميين). هنا أيضا يساعدنا دريدا على فهم هذه النتيجة العكسية حينما يتحدث عن قيمة التسامح "فالتسامح يأتي دائماً من جانب "الأقوى حجة" و هو يعد بمثابة دليل إضافي على السيادة.. سأتغاضى عنك و أتركك تعيش, سأحتمل وجودك و سأفسح لك مكاناً في بيتي و لكن لا تنس انني في بيتي" . يعلم الجميع ان هذا التعديل لن يفيد بشيء طالما ظل انتخاب الرئيس لمدد مفتوحة و طالما ظل قانون الطوارئ سارياً, (ما الذي يمنع من اعتقال جميع المرشحين بين يوم و ليلة بموجب هذا القانون, حالة أيمن نور حاضرة في الأذهان), و طالما ظلت السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية. ما الذي أضافه إذن هذا الطلب إلى الساحة السياسية, بمشهديته الدرامية للغاية (و هي المشهدية التي لا يمكن مقارنتها إلا بمبادرة السادات للذهاب إلى إسرائيل)؟ الإجابة: إظهار أن مصر تسير في الإصلاح بخطى واثقة (في الخطاب الرسمي) , أو أن المعارضة انتصرت أخيراً (المعارضة التي أعلنت أنها تتفهم تأجيل تعديل الدستور!!), في الخطاب المعارض, و هذا كله كذب طبعاً.
و لكن اللعبة حريفة جداً, ولا يمكن إلا أن نشهد ببراعة لاعبيها الأساسيين (للدقة, لاعبها الأساسي), فبينما يمكن أن يلوح إعفاء رؤساء الأحزاب من شرط الحصول على تأييد أي عدد من النواب و أعضاء المجالس المحلية على انه تجل عظيم للعطف و الحنو الرئاسيين, فإن شرط الاسثناء من القانون يؤدي وظيفة أخرى (غير إظهار التسامح المفرط) غاية من الأهمية, و هي التعريض بمن استثني من القانون (تذكروا أن القلم لم يرفع إلا عن المجنون و النائم و الصبي) أي أن القانون لا يطبق إلا على الجديرين بأن يطبق عليهم, أي الجديرين بمواطنة كاملة. وردت في النص الذي استثنى قيادات الأحزاب من تطبيق القانون الكلمات التالية لأحمد فتحي سرور: "حيث لوحظ أن الأحزاب السياسية ليس لديها أغلبية أعضاء بالبرلمان أو المجالس المحلية"., لا يمكن أن يفهم هذا الاستثناء المتعطف من القانون إذن إلا على انه نوع من المعايرة و القطع بعدم أهلية الأحزاب القاصرة لأن يطبق القانون عليها, و بالتالي ترسيخ حضور الحزب الحاكم في المشهد. هذا شيء يشابه العطية التي يقدمها المحسن الكبير, الأب أو الباشا, الرئيس مبارك.
بكلمات مشابهة يصف حزب الوفد (المعارض!!) طلب الرئيسبتعديل الدستور "الوفد يحذر ترزية القانون من العبث بهدية الرئيس إلى الشعب", هكذا لا يتحول فحسب الرئيس إلى أب حان يقدم هدايا لأطفاله, و إنما إلى ما يشبه الرب أو النبي, فعبر كلمات مثل "ترزية القانون" و "إفراغ القانون من محتواه" يلعب القانون (الصادر بشكل غير قانوني, لا يجب أن ننسى) دور النص المقدس, أما الحكوميون (المنتسبون إلى الحكومة) فهم من يسيئون فهمه و يطبقونه في غير أغراضه التي أنزل لها, أي أن دور الشرير (ليس شريراً هو للدقة, بل مجرد مسيء فهم) يؤديه الحكوميون أما الرئيس نفسه فهو من يؤدي دور الناطق بالنص المقدس الغامض الذي إذا فهم على غير وجهه فهو ما سيؤدي إلى النقيض منه (كذلك لا احد يتجرأ على قول : النقيض منه, الجميع يقولون أنه مع أقصى إساءة فهم للنص المقدس سوف يبقى الحال على ما هو عليه: لن نتقدم, و بالتأكيد لن نتأخر كذلك). أيضاً تؤدي مصطلحات مثل "ترزية القانون" و "إفراغ القانون من مضمونه" وظيفة أخرى, هي الإعفاء المطلق للرئيس مما سيتلو ذلك من احداث, فالرئيس قد أدى دوره مشكوراً ألف شكر, و أي فساد بعد ذلك إنما سيكون من الترزية, بهذا تتوقى الأحزاب السياسية لنفسها بخطاب غير يوتوبي مثل الرسمي, "قد يكون هناك فساد بعد القانون", يحفظ لها ماء وجهها أمام الشارع, غير أنها, و في نفس الوقت, تبعد أي احتمال للفساد عن قرار الرئيس مبارك التاريخي "سيأتي الفساد, إن أتى, من الترزية وحدهم", لكي تحافظ على وجودها أمام وحوش الحكومة, بالضبط مثل شخص يسرف في تحصين ذاته أمام أي خطر قادم من أي اتجاه, و بشكل مهووس أحياناً, غير أنه يجد نفسه في النهاية و قد دمر نفسه بنفسه, كبرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟