|
- اللاعنف-: هل هو منتج غربي؟
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3876 - 2012 / 10 / 10 - 06:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في أوضاعنا الراهنة، وحيث يسود العنف لدرجة يكاد يطبع حياتنا قد يبدو الانشغال بأفكار اللاعنف، وكأنه نوع من التعالي على الواقع بتعقيداته ومشكلاته وهمومه، لكن مثل هذا الاهتمام له ما يبرره، خصوصاً وأن العنف لم يترك جانباً الاّ ويهمن عليه، وقام بتدميره. ومع ذلك فثقافة العنف لا تزال سائدة، الأمر الذي يحتاج إلى شجاعة استثنائية لاختيار اللاعنف طريقا واعياً للتصدّي لمشاكل المجتمع. لعلّ أبسط ما يمكن أن تواجهه أفكار اللاعنف هو ردود فعل ستتراوح بين السخرية والخيانة، ففي الأولى سيقال أنها أفكار مثالية وغير واقعية، الأمر الذي سيظهر دعاتها أقرب إلى اليوتوبيا، أما في الثانية فسيثير البعض حولها الكثير من الارتياب والشكوك، بل وسيعتبرها دليلاً للاستسلام والانهزامية، امتثالاً أو تواطؤاً مع ما تريده القوى الاستكبارية الغربية! لكن مثل ردود الفعل تلك ستكون قد حرّكت ما هو ساكن لدرجة التحجّر أحياناً، لاسيما وقد أخذ التجاوب مع الخيارات اللاعنفية يشمل قطاعات غير قليلة، في حين ظلّ التردد سمة غالبة لآخرين تتقلّب بين خيارات اللاعنف وخيارات العنف، وأحياناً تستبدل الأولى بالثانية وربما يحصل العكس. ولأن مجتمعاتنا تعاني من طغيان العنف، فإن الحاجة كبيرة جداً ليس لتعميم ثقافة اللاعنف تعويضاً عن استمرار فعل العنف، خصوصاً وأن الجميع يعاني منه، بل لجعل مثل هذا الخيار أمراً واقعاً ومقبولاً يمكن الركون إليه، وهدفاً ممكناً وقابلاً للتحقيق ويمكن الوصول إليه. ولأن العنف فشل فشلاً ذريعاً في أن يكون الحل للمعضلات القائمة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتاريخية والنفسية، فإن الكثير من دعاته انتقلوا إلى التبشير والدعوة لفكرة اللاعنف، بل أن بعضهم نبذ العنف وأسدل الستار على مرحلة كاملة من حياته استخدم فيها العنف أو أيّد استخدامه، خصوصاً عندما اعتبره وسيلة لا غنى عنها لحل المشكلات، لاسيما بإرغام الآخر وإجباره على التسليم والخنوع. من الطبيعي أن يميل الطغاة، من كل حدب وصوب وفي كل زمان ومكان إلى اعتبار العنف وسيلة فعّالة لتحقيق أهدافهم، وبواسطته يمكن استعمار الشعوب ونهب ثراواتها، ووفقاً له يمكن للحكام تطويع شعوبهم وهضم حقوقها، وبالوسائل العنفية بالدرجة الأساسية يمكن كسر إرادتها سياسياً واجتماعياً ونفسياً. وللأسف فحتى بعض الثورات الشعبية بما فيها التي انطلقت فيما سمّي بموجة الربيع العربي فقد تم تلويثها بالعنف. ولعل العنف قادر على تلويث أية قضية نبيلة، حيث يقوم بتشويه طابعها الانساني، وهكذا تتحوّل المسيحية بحكم العنف إلى محاكم تفتيش وحروب صليبية والإسلام إلى تكفير وتأثيم وإلغاء للآخر والاشتراكية إلى استبداد وطغيان والتحرير من الاحتلال الخارجي، إلى احتلال داخلي، وكل ذلك تجاوزاً على أفكار العدالة والحق والخير والجمال والسلام، غاية كل عمل شريف وإنساني. العنف يجعل الغاية تبرّر الوسيلة، بل إنهما يتداخلان، فلا يمكن لغاية شريفة الاّ استخدام وسائل تشبهها ولا تخالفها في المحتوى والجوهر، وبهذا المعنى لا يكون الهدف شريفاً وعادلاً وإنسانياً إذا استخدمت وسائل غير أخلاقية وغير شريفة وغير عادلة للوصول إليه. وقد انزلق العديد من الحركات السياسية والاجتماعية لتبرير العنف بحجة الغاية الشريفة، بل سوّغت أحياناً استخدام وسائل غير أخلاقية للوصول إلى هدف شريف. ولكن هل العنف مدان بالمطلق؟ وماذا لو حصل العنف كرد فعل بسبب الغضب أو حالات من اليأس والقنوط، على نحو عفوي وفردي ضد محاولات القهر والإذلال والاستلاب؟ وبقدر تفهّم الأمر إنسانياً، وهو ما يحصل باستمرار ولا يمكن الحؤول دونه، فهذا شيء، أما محاولة تبريره أو أدلجته فهذا شيء آخر، إذ أن تمجيد العنف أو تبرير استخدامه لتحقيق الغايات حتى وإن كانت شريفة، فالأمر مختلف تماماً. وكان فكرنا السائد وثقافتنا المعاصرة تزخر بتمجيد العنف بمصطلحات مثل: " العنف الثوري" و"العنف العادل" و"العنف الدفاعي" و"العنف الطبقي" و"العنف التحريري" و"العنف الإنساني". ولعلّ من يصل إلى السلطة بالعنف سيحكم بالعنف، وتلك عبرة التاريخ، والحصيلة هي هزيمة العدل والحق والسلام، وكان ميكافيلي هو من أدلج فكرة " الغاية تبرر الوسيلة" في كتابه الأمير. أما غاندي فقد كان نقيضه حيث دعا إلى توحّد الغاية مع الوسيلة حين قال "الغاية هي الشجرة والوسيلة هي البذرة. إن الغاية موجودة في الوسيلة، كما أن الشجرة موجودة في البذرة". لعل مناسبة موضوع هذا الحديث هو حوار ونقاش جدي، مع مسؤولين رسميين في إقليم كردستان العراق بينهم وزراء التعليم العالي والتربية والعدل والداخلية والمعهد القضائي الأعلى ونخب فكرية وثقافية وسياسية كردية وعربية عراقية بينها رئيس جامعة صلاح الدين ورئيس جامعة كردستان وعميدي كلية القانون والسياسة (إربيل) وكلية الآداب لجامعة بابل (الحلّة)، خلال زيارة وفد جامعة اللاعنف. وكان الصديق جان ماري مولير الفيلسوف الفرنسي الذي رفض الخدمة العسكرية في الجزائر ودخل السجن بسببها كثيراً ما يردد في حواراته وفي محاضراته وآخرها في دار آراس بأربيل: إذا كنّا لا نستطيع التحكّم بالغايات، فبإمكاننا التحكّم بالوسائل، وهذا سيعني التحكّم بالغاية من خلال الوسيلة، فالغاية هي مجردة، أما الوسيلة فهي ملموسة، وفي حين تُعنى الغاية بالمستقبل، فإن الوسيلة تُعنى بالحاضر. أما المفكر العربي اللاعنفي وليد صليبي، ففي كتابه التأصيلي لفكرة اللاعنف" نعم للمقاومة، لا للعنف" فإنه يعتبر الوسيلة هي المعيار الأساس لشرف الغاية، حيث يقول: تبدو الغايات جميلة وكأنها متشابهة، لكن الفرق يكمن في الوسائل، فهي المقياس الوحيد لتقويم الأفكار والغايات التي تسعى إلى تحقيقها. وبهذا المعنى سيكون هناك تلازماً عضوياً بين الغاية والوسيلة، وتلك مسألة جوهرية وأساسية وليست عابرة أو ثانوية، فالسياسة بدون أخلاق ستغدو بشعة وكريهة، لهذا بات من الضروري أن تكون السياسة أخلاقية لتكون فاعلة، لأن فاعليتها تُقاس بمدى تحقيق غاياتها النبيلة، ولعل إسقاط الخصم أو الاطاحة به ليس انتصاراً، إن لم يؤدِ إلى تحقيق الغايات الشريفة. العنف يحتاج الى بديل ولا بديل سوى اللاعنف والتسامح والتعايش والتواصل الحضاري والتفاعل الثقافي. ولكن ذلك لا يأتي بين عشية وضحاها، إنه يحتاج إلى عمل تراكمي، تدرّجي وتواصلي، أي عمل دون انقطاع لنشر فكرة اللاعنف، باعتبارها الطريق القويم لتنمية المجتمعات. ولكن هل يعني خيار اللاعنف، تخفيض خيار المقاومة، أم استبدال وسائلها العنفية بوسائل لا عنفية؟ وانطلاقاً من تجربة انتفاضة الحجارة التي اندلعت في أواخر العام 1987 ضد الاحتلال الإسرائيلي واستمرت بضعة سنوات، فقد أنجزت عملاً كبيراً لم يكن من الممكن إنجازه باستخدام العنف، وتلك إحدى تجارب المقاومة الناجحة. وثمة سؤال قد يحتاج القارئ إلى استجلائه بصورة واضحة، فالكثير من الحساسيات وردود الفعل تأتي إذا كانت الأفكار والفلسفات قد جاءت من الغرب، وإنْ كان ليس للفكر جغرافية أو جنسية أو دين أو قومية أو لغة، ومع ذلك فإن بعض التيارات المتطرفة والمتعصبة تبدي تحفظات عليه، بل وتعتبر المنجز الغربي مريباً، و"كل غريب مريب" حسب وجهات نظرها. ولكن ماذا بشأن اللاعنف!؟ يقول جان ماري مولير الفيلسوف الفرنسي المعاصر لفلسفة اللاعنف: لقد تعملت اللاعنف من الشرق، من مفكر ومناضل آسيوي إسمه غاندي الذي استطاع بفعل مقاومته اللاعنفية الانتصار على أكبر دولة استعمارية في وقتها " بريطانيا العظمى". فغاندي بحكم فلسفته ونضاله استطاع أن يكون جسراً بين الشرق والغرب، بما حققه من إنجاز فكري وعملي، حين جمع أفضل ما في الحضارتين الغربية والشرقية لتحقيق منجز اللاعنف. وإذا كنّا قد قرأنا الكثير من الفلسفات المعاصرة، الليبرالية والرأسمالية والاشتراكية، فإننا لم نقرأ فلسفات الشرق لاسيما فلسفة اللاعنف التي جاء بها غاندي، الأمر الذي نحتاج أن ندخله في مناهجنا العلمية والتربوية وفي جامعاتنا ومدارسنا، خصوصاً والتربية معمل لإنتاج العنف أو اللاعنف، علماً بأن الثقافة السائدة لا تزال تمجّد العنف دليلاً على القوة والجبروت وقهر الآخر، وبقدر ما يكون العنف سلبياً هادماً فإن اللاعنف إيجابياً بنّاءً. ولعلّ الانسان بطبيعته لديه طاقات عنفية مثلما لديه طاقات لا عنفية، وإذا ما استطاع تخطّي ضعفه واللجوء إلى خيار اللاعنف، سيكون قد تجاوز في الآن ذاته الواقع الذي يزخر بالعنف، منتصراً بذلك لا على الآخر حسب، بل على ذاته أيضاً. هكذا آمن قادة غربيون بأفكار الشرق اللاعنفية التي بلورها وطبّقها بشكل مبدع وخلاّق غاندي وعنه أخذ مارتن لوثر كنغ قوة المحبة من أجل الحقوق المدنية واكتسب نضال نيلسون مانديلا طعماً جديداً من خلال التسامح والمصالحة. اللاعنف إذاّ منتج حضاري ومدني وعصري، والفكر منجز إنساني وهو القاسم المشترك الأعظم.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأقليات في الدول الإسلامية المعاصرة - المسيحيون والصابئة ال
...
-
الصندوق الأسود!
-
عن فيتو الفقهاء في العراق!
-
حوار باريس 3
-
بين قلم الأديب وحبر السياسة!*
-
رياح التغيير: الوعي والسياسة
-
الطريق الوعر إلى الحرية: أوروبا الشرقية نموذجاً
-
الثورة وسؤال اللاعنف!
-
قبل وبعد الربيع العربي - الجيوبوليتيك ومفترق الطرق
-
الاستيطان
-
بغداد- أربيل : البيشمركة والجيش العراقي حدود الوصل والفصل
-
أوباما ورومني . . ونحن
-
جدارية الخلود وحضرة الغياب
-
بعض أوهامنا وصخرة الواقع
-
مشروع الدولة الكردية المستقلة
-
ويخلق من الشبه «البعثي» اثنين
-
التعذيب والإفلات من العقاب
-
سلطة الاعلام
-
المشروعان الإيراني والتركي في العراق
-
الطائفية: مقاربة قانونية وأكاديمية
المزيد.....
-
الكشف عن هوية -قيصر-: فريد المذهان يتحدث لأول مرة عن رحلته ف
...
-
فرنسا.. جلسة قضائية حامية في دعوى تمويل ساركوزي من قبل الزعي
...
-
سفير روسي يعلق على طلب زيلينسكي إرسال 200 ألف جندي حفظ سلام
...
-
نحو 20 ألف لاجئ سوري يعودون من الأردن
-
برلماني مصري يكشف عن عرض مالي فلكي قدمه ترامب للسيسي مقابل ص
...
-
بغداد: عقوبات ترامب لطهران تضر بنا
-
هزات بجزيرة سانتوريني اليونانية تحير العلماء ومخاوف من زلزال
...
-
-قيصر- يكشف عن هويته الحقيقية ويروي لأول مرة تفاصيل عن قيامه
...
-
أمريكا: أي استراتيجية عربية حيال ترامب؟
-
اليونان: جزيرة سانتوريني في بحر إيجه تتعرض لسلسلة هزات أرضية
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|