محمد عزيز الطويل
الحوار المتمدن-العدد: 3875 - 2012 / 10 / 9 - 19:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعتبر الأحزاب السياسية بالمفهوم الحديث ظاهرة حديثة النشوء ، غير أن نشأة الأحزاب السياسية بالعالم قديمة ، رغم اختلاف المفهوم الذي يتعدد باختلاف الفترة التاريخية وطبيعة المجتمع الذي نشأ فيه . لقد ظهرت الأحزاب السياسية بداية كمجموعات للتشاور ، أو كنوادي تناقش كل ما يهم مجتمع العشيرة أو القبيلة أو الأمة . ومع نضج الأفكار السياسية ، ووعي المجتمعات بالعلاقات التعاقدية التي ظهرت خلال عصر الأنوار ، تبلور مفهوم الحزب في علاقات الإنابة والتمثيل الذي بموجبه تقوم جماعة مختارة بالتسيير واختيار الأفضل لممن ينوبون عنه . ومهما تعددت التسميات يبقى الحزب السياسيي مجموعة منظمة واعية بأهدافها تعمل على الوصول إلى السلطة لخدمة وقضاء مصالح المنتخبين الذين اختاروها . إن ما يهمنا في هذا العرض هو الوقوف على التجربة الحزبية في المغرب من خلال رصد نشأتها وطبيعة وآليات عملها من أجل تكوين ثقافة حزبية واعية ، يمكننا من خلالها تفسير مآلات المشهد السياسي في الوقت الحاضر .
شهدت الأحزاب السياسية المغربية بداياتها الأولى منذ الربع الثاني من القرن العشرين . وتميزت فترة النشأة بزخم تاريخي استثنائي بحكم خضوع المغرب للحماية الفرنسية ، ولظهور وثائق دستورية مع بداية القرن العشرين ساهمت في بث الوعي السياسي ، إضافة إلى الحركات الاصلاحية السلفية والقومية التي تعد امتدادا للشرق . يجمع العديد من الباحثين على أزمة الأحزاب السياسية المغربية منذ نشأتها ، ويختلف الباحثون حول طبيعة هذه الأزمة ، فهناك قائل بوجود عوامل بنيوية ، وهناك طرف آخر يرى بأن الأزمة تتعلق بظروف مرحلية ، تزول بمرور المرحلة .
في تفسيره لأزمة الأحزاب السياسية المغربية ، يعتمد الباحث المغربي محمد ضريف ثلاث مقاربات ؛ المقاربة السوسيوتاريخية ، السوسيوسياسية ، السوسيوثقافية . تقول المقاربة السوسيوتاريخية ، بأن الأزمة الحزبية بالمغرب تعود إلى الأفكار التي ترسخت خلال فترة الحماية ، منذ تأسيس أول تنظيم سياسي مغربي " كتلة العمل الوطني سنة 1934 " . لقد قام هذا التنظيم وعلى غرار التنظيمات السياسية للشعوب المستعمرة آنذاك ، بتقديم نفسه كمعبر عن الشعب بأكمله ، وكممثل وحيد لإرادة الشعب المتمثلة في مطلب الاستقلال ، في حين أن الأحزاب التي تأسست في المجتمعات الليبرالية قامت واستمرت واكتسبت التأييد من خلال صناديق الاقتراع التي تعبر عن اختيار الشعب ، ويعبر محمد ضريف عن هذا الأمر ب " التضحية بالمشروعية الديمقراطية لفائدة المشروعية الوطنية " . إن الاختلاف بين الأحزاب المغربية ونظيرتها الأوربية طبيعية مادمت أن التجربة الحزبية الأوربية تشبعت بأفكار الأنوار ، وقامت بأجرأة الأفكار النظرية حول القانون والحق والعدل والتعاقد على أرض الواقع ، من خلال نصوص قانونية بسيطة وواضحة ، في حين أن المجتمع المغربي تطغى عليه عوامل دينية وقبلية مشروطة بالتبعية . لقد أدى هذا الأمر فيما بعد إلى تنميط المشهد السياسي وتخوين كل مخالف باعتباره خائنا للشرعية الوطنية ، واستمرت هذه الثقافة الحزبية إلى ما بعد الاستقلال ، فإذا وجد المخالف أثناء الاستعمار سمي عميلا ، أما إذا وجد ما بعد تحقيق الاستقلال سمي المخالف عميلا للسلطة السياسية القائمة . إن التخوين يبين بدون شك أن ثقافة الحزب تقوم على أساس مبدأ ( الإجماع ) هذا من حيث الظاهر ، أما من حيث الخط الإديولوجي الذي قام على أساس مقاومة السلطة السياسية القائمة فلم يتغير ، حيث أسس الحزب لنظرية تضمن استمراره لهذا اعتبر أن السلطة في فترة الاستقلال ما هي إلا مغربة للإستعمار .
يقوم كل حزب في جوهره على تبني إديولوجية وسياسة معينة ، هكذا تم اعتماد مبدأ التخوين والإجماع ، وتبني نظرية مقاومة السلطة السياسية القائمة ما هو إلا تعبير عن الحزب المهيمن الوحيد الذي يحتكر كل ما هو سياسي بالبلاد ، وبهذا نحكم بأن العمل الحزبي المغربي اقترف خطأ تاريخيا جسيما ، فبدل توجيه المقدرات النضالية نحو تدعيم الديمقراطية وحقوق الانسان وبناء المغرب الحديث ، انخرطت الزعامات في التخوين والتخوين المضاد ، وهو الأمر الذي ما زلنا ندفع ثمن تداعياته إلى الآن .
ترى المقاربة السوسيو سياسية ، بأن السلطة السياسية القائمة كان لها دور كبير في تعميق الأزمة الحزبية في سبيل سعيها إلى إحداث التوازنات التي من شأنها تقزيم جميع الفاعلين السياسيين واستمرار التطاحن والخصومة الجوفاء ، مما ميع المشهد الحزبي وحكم على الحياة السياسية بالسلبية . هكذا اعتمدت السلطة القائمة على آليتين : آلية خلق حزب الأغلبية من خلال العملية الانتخابية ( تأسيس التجمع الوطني للأحرار 1978 ، تأسيس الاتحاد الدستوري 1983 ) . وتكمن الآلية الثانية في إغراق الساحة السياسية بالأحزاب تحت غطاء التعددية الحزبية ، لقد كان من شأن هذا إفقاد العمل الحزبي مصداقيته ، والتحكم في الخريطة الانتخابية .
تقوم المقاربة السوسيوثقافية برصد السلوك السياسي للمواطن المغربي ، إن هذا السلوك يتحكم فيه عاملين ، عامل موضوعي يرجع إلى الفقر والأمية ، وعامل ذاتي يتعلق بضعف التأطير وغياب الثقة في جدوى التصويت ، بل حتى في ممثلي الحزب الذين يراهم كمستغلين للعملية الانتخابية للحصول على الامتيازات . لقد كان للأسباب السوسيوثقافية دورا مؤثرا في تحول الأحزاب السياسية إلى صالونات مغلقة بعيدة عن الشرائح الاجتماعية وهمومها اليومية ، ومازال هذا حاضرا إلى الآن ، مما خلق ظاهرة العزوف السياسي ؛ أي غياب الثقة بين المواطن والتنظيمات الحزبية . هكذا وللوقوف على أزمة الأحزاب السياسية الراهنة يجب استحضار المقاربات السابقة مجتمعة وذلك لتركيب أفضل للوحة الفسيفسائية للمشهد الحزبي بالمغرب .
إلى جانب المقاربات السابقة هناك عوامل أخرى مفسرة للأزمة الحزبية بالمغرب ، وتتمثل هذه العوامل في : الوظيفة ، البنية ، إدارة الاختلاف .
إن من أولى مهام الأحزاب القيام بوظيفتي التأطير والتمثيل ، ويقوم التأطير على أساس تغطية التراب الوطني من خلال الكتابات الجهوية والإقليمية والفروع المحلية . وينقسم التأطير إلى تأطير تنظيمي يتولى الاستقطاب وتفعيل العضوية ، وهناك تأطير إديولوجي يتولى الدفاع عن إديولوجية الحزب وإيصالها إلى العموم وكذلك شرح البرنامج السياسي ، للتقدم للانتخابات . وبالتالي فالتأطير الايديولوجي مرتبط ارتباطا وثيقا بمستوى التمثيل ، لأن التمثيل يكون عبر صناديق الاقتراع وفي جميع الأحوال يتم تمثيل إديولوجية الحزب وبرنامجه . ويرى الباحث محمد ضريف أن ضعف الأداء الحزبي لا يرجع إلى خلل في مهمة التأطير والتمثيل ، فهو يعتبر أن هاتين وظيفتين معلنتين ، فالمشكل الحقيقي يتجلى في الوظائف الغير معلنة التي تتمثل في إعادة إنتاج بنية النسق السياسي القائم ، من خلال آليتي التدبير التي تقوم على التعيين بدل الانتخاب ، ثم آلية التبرير التي تقوم على أساس المشروعية التاريخية الوطنية التي أشرنا إليها سابقا .
ترتبط الأزمة الحزبية بخلل في البنية وللوقوف على هذا من الضروري استحضار إشكالية الأنماط :
- نمط يرى الحزب كزاوية سياسية تكرس علاقة الشيخ بالمريد والزعيم بالتابع
- نمط ثاني يرى بأن الحزب ما هو إلا ثكنة سياسية يطغى عليها الانضباط الشبه عسكري الذي يميز بين الكبار والصغار والقدامى والجدد .
- نمط ثالث يتعلق بعلاقات الإكراه بين مالكي الرأسمال السياسي والمناضلين باعتبارهم أجراء سياسيين .
إن البنية تتشكل من خلال المقاربات التي عرضنا لها سابقا ، فهاته المقاربات مجتمعة هي التي بصمت البنية وأعطتها شكلها النهائي .
ما يعمق الأزمة الحزبية هو ضعف القدرة على إدارة الاختلاف ما بين التيارات السياسية داخل الحزب الواحد . إن عدم القدرة على احتواء النظريات الجديدة داخل الجسم الحزبي ، بل والذهاب إلى حد عدم الاعتراف بوجودها ، كان من أهم أسباب الانشقاق والانشطار الذي طال أحزاب اليمين واليسار .
لقد خلصت الدراسات إلى اعتبار الأزمة الحزبية بالمغرب ثابثا في المشهد السياسي المغربي ، أما المتغير فيتجلى في تغير منطق الاشتغال الذي كان يعتمد على الحركات الاجتماعية في تحقيق المشروع المجتمعي ، إلى الاشتغال بمنطق الحزب السياسي .
إن مثل هذا الكلام يدفعنا إلأ ضرورة الوقوف على مفهومي الحركة الاجتماعية والمشروع المجتمعي والتفريق بين وظيفتيهما التنظيرية والحاملة .
" المشروع المجتمعي ، هو نسق من التصورات والأفكار القابلة للتطبيق ، تحتضنه حركة اجتماعية بهدف إحداث تغيير جذري للنسق الاجتماعي القائم " . ويقوم المشروع المجتمعي على ثلاث مستويات ؛ مستوى الخصائص ، ثم مستوى القوى الحاملة له ، ومستوى التصريف . وتتجلى الخصائص في الشمولية والقابلية ، ويقصد بالشمولية " نسق من التصورات والأفكار تطال أكثر من مكون ، اقتصادي وسياسي وثقافي " . ولا يمكن إنجاح هذا النسق إلا بوجود وحدة مرجعية تضمن الانسجام والتماسك بينها . إن قابلية تطبيق المشروع المجتمعي تقتضي إمكانية التحقيق والتصريف الجزئي ، ولهذا يجب أخذ الحذر من اعتماد تصورات كبرى ترتبط بنظريات مستحيلة التطبيق لغياب شروط التحقيق . ويتمثل المستوى الثاني للمشروع المجتمعي في طبيعة القوى الحاملة للمشروع . إن الحديث عن المشروع المجتمعي يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن مفهوم الحركة الاجتماعية الحاملة له .
يجتمع ما هو موضوعي وذاتي في ظهور ونشأة الحركات الاجتماعية . لقد ظهر مصطلح الحركات الاجتماعية لأول مرة سنة 1850 على يد عالم الاجتماع الألماني (لورينز فون شتاين Lorenz von Stein ) وذلك بعد تأليفه لكتاب "تاريخ الحركة الاجتماعية الفرنسية من 1789 إلى الوقت الحاضر". وقد تم تأليف كتاب يرصد لظهور الحركات الاجتماعية بالعالم العربي ويقدم تعريفا لها " الحركات الاجتماعية هي الجهود المنظمة التي يبذلها عدد من الناس المؤثرين بهدف التغيير أو مقاومة التغيير في المجتمع " .
يفيد محمد ضريف أن المعطى الموضوعي يتمثل في سوء الأوضاع وعدم قدرة النسق الاجتماعي القائم على إشباع رغبات الأفراد والمجموعات . وهذه الرغبات ليست بالضرورة مادية ، بل تكون كذلك رغبات ثقافية وقيمية . أما المعطى الذاتي فيكمن في مدى استعداد الأفراد للانخراط في الفعل الجماعي الهادف إلى إحداث التغيير الشامل للنسق الاجتماعي القائم ، " هكذا تعتبر الحركة الاجتماعية فعلا جماعيا منظما وليس مجرد فعل احتجاجي ، من هنا تحتل المسألة التنظيمية مكانة كبرى بهدف تأطير ذلك الفعل الجماعي " .
أما المستوى الثالث فيرتبط بكيفية تصريف المشروع المجتمعي وطبيعة الأداة المستخدمة في ذلك . وتقوم الكيفية على نزع المشروعية من النسق الاجتماعي القائم والتصريف من خارق النسق . كما يجب توفر شروط في هذه الحركة الاجتماعية الحاملة للمشروع المجتمعي ، ومن بين أهم الشروط : التماسك التنظيمي ، الإيديولوجية المتماسكة ، الاستقلالية المالية . يتبقى لنا أخيرا الحديث عن كيفية تصريف المشروع المجتمعي سواء من حيث الكيفية أو الأداة . وتقوم الكيفية على نزع المشروعية من النسق الاجتماعي القائم والتصريف من خارجه . وفي تساؤلنا عن قدرة الحزب السياسي في حمل المشروع المجتمعي ، يجيب الباحث محمد ضريف بالنفي باعتبار أن الحزب السياسي يعمل على تصريف تصوراته من داخل النسق الاجتماعي القائم ، وكذلك عدم منازعة الحزب السياسي لثوابت النسق الاجتماعي القائم . إن هذين الاعتبارين يجعلان من الحزب ركيزة من ركائز النسق الاجتماعي سواء كان ذا نزعة محافظة أو نزعة إصلاحية . أما أداة التصريف فتتمثل من خلال النخبة والطليعة . فالنخبة تسعى دائما إلى الاشتغال من داخل النسق القائم ، لهذا يراها ضريف نخبة مساومة ، أما الطليعة فتسعى إلى إحداث تغيير شامل وجذري للنسق الاجتماعي القائم ، ولهذا تحكم على نفسها بالنزعة الثورية . إن هذه النزعة الثورية لها هدف واحد هو التغيير الجذري ، غير أن الوسيلة تختلف فهي لا تقوم دائما على ثورة شعبية ، بل قد ترتبط بانتخابات .
لقد حاولنا من خلال ما سبق ، رصد المشهد الحزبي المغربي من خلال اعتماد المقاربة التاريخية . وذلك من أجل تقديم أجوبة تفسر الواقع الحزبي المغربي المتأزم ، حيث ترجع جذور الأزمة إلى خلل في البنية والتصور والاديولوجية . وقد أبان الربيع العربي التشوهات التي تعاني منها الأحزاب السياسية بالوطن العربي ، والتي تنزع دائما إلى اتباع الإجماع ، وتكريس هيمنة الحزب الوحيد ، والذي بالضرورة يكون حزب الدولة والنظام القائم .
----------------------------------------
المراجع المعتمدة :
- ضريف محمد ( الأحزاب السياسية المغربية ) منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء 2001
- ضريف محمد " المغرب في مفترق الطرق ، قراءة في المشهد السياسي المغربي " منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي ، الدار البيضاء 1996
- ضريف محمد " ماذا يعني وجود تيارات داخل الأحزاب السياسية المغربية " الحدث 22 فبراير 2001
- مجموعة من الباحثين " الحركات الاجتماعية في العالم العربي " ، منشورات مركز البحوث العربية والافريقية ، القاهرة ، الطبعة الأولى 2006 .
- ضريف محمد " الإسلاميون المغاربة ، وحسابات السياسة في العمل الاسلامي 1969 - 1999 " المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي ، البيضاء 1999
#محمد_عزيز_الطويل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟