حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 1126 - 2005 / 3 / 3 - 10:45
المحور:
الادب والفن
المعري ...... و بيداغوجيا المريدين الفاشلين
"محمد منذر لطفي و ياسر الأطرش نموذجان"
د.حمزة رستناوي
" إن اختلاق الإرث هو منهج لاستخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي , و ذلك بطمس بعضها , و إبراز بعضها الآخر , بأسلوب توظيفي , بكل ما في الكلمة من معنى , و من هنا ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصلية بل هي على الأصح ذاكرة نفعية " (1)
في هذه الدراسة سأقوم بمقاربة نقدية لنصين يستلهمان الإرث و الماضي القومي عبر آلية انتقائية تخدم الراهن , النص الأول هو قصيدة " مع المعري على مشارف القرن الحادي و العشرين " (2) لمحمد منذر لطفي , و النص الثاني هو قصيدة " المعري ... فصل من سيرة النهر " (3) لياسر الأطرش .
و لكن ما هو الخطاب الشعري المقدم في القصيدتين ؟
أولاً : هو خطاب راهن تمليه ظروف اجتماعية و سياسية خارج شعرية مناسباتية " مهرجان أبي العلاء المعري "
ثانياً : إن ظروف انتاج الخطاب في هذه الحالة تحدد البنية الداخلية للقصيدتين , إنهما قصيدتان منبريتان عاموديتان , تحملان إيقاعاً طاغياً و تتحدثان عن قضايا جماهيرية ذات مساحة تلقٍ واسعة , كواقع الهزيمة العربية و استعباد الإنسان و الانقطاع التاريخي عند ياسر الأطرش , أو قضايا ضياع الشعر الحقيقي و الفكر الأصيل و التغني بالحسان عند محمد منذر لطفي .
ثالثاً : إن عملية تحويل النص الكتابي إلى خطاب شفوي هي عملية قيصرية في كلا القصيدتين , لأن النص كتب لكي يكون خطاباً , و بالتالي نحن أمام إبانة نصية مستعادة و هذا ما يفسر لنا الطول النسبي للقصيدتين " قصيدة منذر لطفي اثنان و ستون بيتاً و قصيدة الأطرش ستة و أربعون بيتاً ", و لا مركزية القصيدتين أيضاً رغم أن العنوان في القصيدتين يفترض شيئاً من هذا , و كذلك اهتمام " الشاعرين " بعملية الإفهام أي إيصال الخطاب الشعري , و ليس بالفهم و الحدس و التخيل أي إنتاج خطاب شعري حقيقي يملك شروطه الإبداعية الخاصة به .
رابعاً : إنه خطاب تقليدي يضحي بذات الشاعر في سبيل الحكمة و الواقع و تقديس النمط , و سنتبين معالم ذلك في العرض الموجز للقصيدتين .
" مع المعري على مشارف القرن الحادي و العشرين " لمحمد منذر لطفي
هناك مقدمة للقصيدة تقول " إلى الشاعر العربي الخالد أبو العلاء المعري شاعر الماضي و الحاضر و المستقبل " لي تعليق بسيط على هذه المقدمة , فهي تقليد شعري ممجوج شاع عند الكلاسيكيين و الرومانسيين في بداية القرن العشرين , كقول بعضهم " بينما أنا في السينما رأيت حسناء جميلة فكتبت هذه القصيدة " أو " تزوج صديقي فلان فأهديته هذه القصيدة " أو " حدث زلزال في بلاد الواق الواق فحزنت و كتبت هذه القصيدة " أو " إلى الفارس و الشاعر العربي أسامة بن منقذ الذي أسهم بشكل بطولي مشرف في الدفاع عن الأرض العربية كافة ضد الغزاة الفرنجة الذين أشعلوا نار الحروب الصليبية في الشرق بمناسبة مرور 900 عام على ميلاده " (4) فالهوامش و المقدمات مهمة بمقدار ما تخدم , و توظف ضمن سياق القصيدة , و لكن عندما تتحول إلى عبء على القصيدة فهذا يدخل في لزوم مالا يلزم , بل في إطار اللغو , فالمعري هو شاعر عربي و ليس أعجمي بالبداهة , و هو شاعر خالد و ليس من داع لذكر ذلك , فهذا شبه اجماع , و إن كل خطاب شعري مبدع هو خطاب يتجاوز الزمان بالضرورة , و الخالد يشمل " الماضي و الحاضر و المستقبل " في الحقيقة نحن أمام صدمة شعرية و إهداء لا شعري إطلاقاً .
تتألف القصيدة من سبعة مقاطع مرقمة , و هناك خطأ مطبعي في الترقيم كان مسؤولاً عن غياب المقطع السابع من القصيدة ؟! هل يتحمل مسؤوليته الشاعر أم المدقق اللغوي أم المؤسسة الثقافية المنتجة للكتاب المنشور و هي إتحاد الكتاب العرب في هذه الحالة ؟ !
على كل حال المقطع الأول و الثاني عبارة عن محاورة بين منذر لطفي و روح المعري تدخل في إطار المديح و السلامات و مشاعر الحب و الإجلال و الوفاء للمعري .
ماذا أحدث عن علم و عن أدب و عــن محيط من الأفكار يحتدمُ
أقام بالشعر دنيانا و أقــــــعدها و أطلق الفكر و هو الثائر العرمُ
أما المقطع الثالث : فيقوم على تناصّات شعرية مع المعري . فيقول
و ليلة .... كعروس الزنج فاتنة قد زفها المسكران الحسن و النسمُ
المحالة إلى نص المعري
ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان
و قوله : في الــلاذقية أصوت مؤرقة و في الحشا ألف صوت راح يضطرمُ
كل يعزز دعواه و ما عرفوا أن الــــعقيدة للباري و مـــا عــــــلموا
المحالة إلى نص المعري :
في اللاذقية ضجة ما بين أحمد و المسيح
هــــــــذا بنا قوس يدق و ذا بمئذنة يصيح
كل يـــعزز دينه يا ليت شعري ما الصحيح
و قوله : و رحلة في جنان الخلد رائعة قد زفها الفاتحان ..... الشعر و الحلم ُ
المحالة إلى رحلة ابن القارح بطل رسالة الغفران في الجنة .
و في المقطع الرابع يتباكى منذر لطفي على الشعر الأصيل و على المعري و زمن المعري
أبا العلاء و أيـــن الشعر أين مضى و أين فرسانه الأبطال .....أين همو؟
ماذا أرى .... ما أقول اليوم في أدب أردى البيان و في شـــــعر هو العدمُ
فمنذر لطفي ينظر إلى الحداثة الشعرية من خندقه عبر رؤية مؤدلجة رافضة لها
ماذا أحدث عن شعر مضى زمناً يهجو الأصيل أتنسى مجدها الأممُ
و هذه موجة رائجة عن شعراء الكلاسيكيين في سوريا , أي التعامل مع الحداثة عبر لغة الهجاء , حيث ينظرون إلى الحداثة الشعرية نظرتهم إلى الكذب و الخيانة و الميوعة و الغزاة , و هذا لا ينفي مسؤولية الشعراء و النقاد كافة و بكل مذاهبهم عن تدهور المشهد الشعري , فمقولات منذر لطفي النظمية الهجائية هذه ينطبق عليها قول " يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم "
و في المقطع السادس : يسدي منذر لطفي نصائحه إلى المعري , و يلوم المعري على موقفه من المرأة : ما ذنب حواء حتى رحت تبغضها و هي الحياة هي الفردوس و النعمُ
إن فرطت خالة يـــــوماً بحبك في بنت لـــــــــــها فتمهل أيها الــــحكمُ
في البيت الثاني إشارة إلى الرواية التي تقول أن أبا العلاء أحب في مطلع شبابه ابنة خالته الجميلة و جاء يطلبها من أمها ذات يوم , و قبل أن يدخل سمع أمها تقول : لن أرضى لابنتي أن تقضي حياتها خادمة لذلك الأعمى .
و يختار منذر لطفي طريقه المعاكس للمعري فهو يحب الحياة و يعشق الحسان و يستميح عذراً من المعري في ذلك : فالحسن أغنيتي العذراء أعرفها و الغيد ألحانها و الزهر و النسمُ
و في المقطع السابع يتابع منذر لطفي تحسره على العقل و فرسانه الأبطال
أبا العلاء و أين الفكر أين مضى ؟ و أين فرسانه الأبطال أين همو
و كذلك تحسره على حكمة المعري مدافعاً عنه ضد دعاوي الزندقة و المزاج المتشائم , فالمعري صوفي حكيم متسامح ........إلخ
وفي المقطع الثامن و الأخير : تتعالى السلامات من الشاعر البار
أبا العلاء سلاماًَ أيها العلم يا من أضاء الدنى فكراً لمن قدموا
لا ينسى الشاعر البار لازم مديح الوطن .
كرَّمت فيك ذرى الأمجاد في الوطن يهوى الذرى فهو الأمجاد و القممُ
ينفي الزمان و يبقى صوت شاعره يزفه الخالدان الشعر و القيمُ
" المعري .... فضل من سيرة نهر" لياسر الأطرش
تتألف قصيدة الأطرش من ثلاثة مقاطع ،
المقطع الأول : نجد فيه فرزاً حاداً يظهر من خلال ثنائية " أنت – هم "
أنت : المعري – قيمة ايجابية – الخلود.
هم : غير معيّنين - قيمة سلبية – الزوال .
و نقف وقفة قصيرة عند البيت السابع
كأن عماك مركز كل ضوءٍ فمن طين العمى صنع الهداةُ
فالعمى يشع ضؤاً ، و المعري يتربع في مركز الضوء ، و كأنه الشمس في صيغة الطين
و في المقطع الثاني : نجد ثنائية الاتصال و الانفصال ، ووحدة التناقض
فبعضك مؤمن و البعض كفر و فبك الله و الأخرى مناة .
و يحاول اسباغ ذوات الحاضرين على المعري قائلاً .
نحاول أن نراك كما أردنا لأنــك فــــي حقيقتـك انفــلات
فيلبسك اليسار رداء بوذا و ترفع في اليمين لك الصلاة .
أما في المقطع الثالث : و هو الأطول يصل الأطرش إلى مقصده حيث يقيم حلقة للوصل بين المعري موضوع القصيدة و بين الزيف السياسي موضوع الشاعر
قتلت الموت حين منعت خلقاً كما قتل الحياة بنا الطغاة .
و يمكن اختزال الفكرة العامة لما تبقى من القصيدة بعد هذا البيت ، أي بحدود ثلاثة أرباع القصيدة " 36 بيت " بـ هجاء الطغاة و الولاة و العروش و أصحاب السمو و ملوك التيه و المقايضة الجائرة بين الإنسان العربي " نحن " و الحاكم العربي .
نقاتل نحن ثم نموت ذوداً و أصحاب السمو هم الحماة .
ثم يدين الأطرش الإنسان العربي و موقفة الذي يكتفي بالقول اللغوي و الشتائم و تفريغ شحنات القهر .
نولول كلما قصفت بلاد و تضحك في السماء الطائرات .
و لكن بماذا يختلف القول الشعري " هجاء الطغاة " عن الولوله ، و عن الهتافات .
التي يدينها القول الشعري ؟ !
فالولوله و الهتافات وجهان لعملة واحدة ، هذه العملة هي الإنسان العربي المقموع ، هذا الكائن " البياني " حسب محمد عبد الجابري ، هذا الإنسان الفصامي الذي ترتضي بالقول بديلاً عن العمل ، و يرتضي الانفعال بديلاً عن الوعي . و الخطاب الشعري عند الأطرش هو بيان ذو بعد انفعالي موجّه إلى حشد " جماهير " مكبوت .
وهو بذلك يقيم مساحة تلقٍ واسعة ترطبط بالخطاب عن طريق روابط نفسيه ، مستثمرة إعلامياً من قبل الفاعل الاجتماعي ، و المقصود بالفاعل الاجتماعي هنا هو الشاعر . يعرج الشاعر الأطرش على فلسطين و أطفال الحجارة و تحديات الغزاة و يعتذر من المعري " الذي قد مات فينا " لأننا " لا نستحي "
فعذراً يا أبي قد مت فينا وكل من استحوا – في الأرض – ماتوا
و يقفل قصيدته بإحكام عبر نفس ساخر و إبدال لغوي جميل " هطل العزاة "
و ما هطلت علي و لا بأرضي سحائب إنما هطل الغراة .
إن التركيز على نص ما أو قصيدة ما أو شاعر ما أو مجموعة شعرية ما لا يكفي , فالمطلوب
" نقد آلية انتاج هذه النصوص و شروط إنتاجها و أنظمة القراءة , فلا يمكن عزل القراءة عن تفاعلاتها الواقعية و الثقافية " (5) و هذه الدراسة ليست سوى محاولة لنقد اللغة و الأفكار الشعرية المتداخلة ضمن القصيدة الواحدة , أو المتخارجة عنها و التي تعمل بصفتها نسقاً . إن المنتجين الثقافيين للقصيدتين ينتميان زمنياً إلى جيلين مختلفين , فمنذر لطفي من جيل الستينات , و ياسر الأطرش من جيل التسعينات , و لإن كانت قصيدة الأطرش متفوقة فنياً و أغنى صوراً من قصيدة منذر لطفي , إلا أن القصيدتين تنتميان إلى نسق واحد هو النسق التقليدي " لا أقصد هنا الشكل العامودي فقط بل المقصود بالتقليدية هو النظر إلى الإنسان و الحياة و العالم من زاوية واحده وصولاً إلى حقيقة واحدة عبر شكل واحد " إنه نسق أخذ يزدهر في العقد الأخير , انسجاماً مع حالة الانحطاط الحضاري التي يعيشها عرب اليوم ، وهذا لا يعني أن الحداثويين العرب أفضل حالاً بكثير , فالجميع يتحمل وزر الانحطاط و من ثم النهوض الحضاري المأمول .
يورد الناقد يوسف سامي يوسف في كتابه " الشعر العظيم " هذا البيت للمعري .
أما اليقين فلا يقين و إنما أقصى اجتهادي أن أظن و أحدسا
فأين تكون هاتان القصيدتان على السلم الشعري ؟ !!!!!
إذا أخذنا بالاعتبار أن الخطاب الشعري في كلا القصيدتين هو خطاب يقيني و حاسم في نفس الوقت ؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : الاختلاق ، الذاكرة و المكان . د . إدوارد سعيد ص 19
(2) : قصائد للوطن و الحب و الإنسان – شعر – محمد منذر لطفي - إتحاد كتاب العرب ص 216 – دمشق 2003
(3) : رؤى ثقافية العدد 11 – ص 8 - و القصيدة ألقيت في مهرجان المعري الثقافي الثامن
(4) : المرجع رقم 2 ص 16 من مقدمة قصيدته " وسام على صدر الفارس الشاعر
(5) : النقد الثقافي – د . عبد الله الغذامي ص 34
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟