|
مع علم الانسان التاريخي وضد المادية التاريخية : نحو منظور علمي و انساني جديد
بيرم ناجي
الحوار المتمدن-العدد: 3871 - 2012 / 10 / 5 - 21:45
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
(موضوعات /فرضيات بحث)
تمهيد
في خاتمة عملنا المنشور في "الحوار المتمدن" و المعنون "نقد الأصولية الحمراء : نحو تجاوز مادي و جدلي للماركسية" كنا قد كتبنا ما يلي: "كان من الممكن أن نقدم فيما يلي معارضة (بالمعنى الشعري العربي ولكنها نثرية طبعا) لمقدمة ماركس "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" حتى نحاول تلمس الخيط الرابط و المنطق الناظم لما ذكرنا في هذه المحاولة و خاصة لادعاء تأسيس فلسفة جدلية جديدة أو علم اجتماع جدلي تاريخي جديد أو غيره. اننا لن نفعل ذلك لأننا وان كنا نحاول الدفع الى التفكير المنظم الا اننا لا ندعي القدرة على تقديم مثل هذه الانجازات. .." و لكننا الآن نقدم مسودة لعرض ما يمكن أن يعتبر مقدمة أولى في تنسيق أفكار تهدف الى تقديم تصور في "علم الانسان الاجتماعي التاريخي" فهل تراجعنا عما كتبناه بسرعة؟
قبل الاجابة عن السؤال نريد التذكير بما يلي. قال لوسيان غولدمان: "... لهذا فان واحدا من الواجبات الأكثر أهمية لكل باحث جدي يكمن بالنسبة لنا في المجهود الذي يبذله لمعرفة القيم الذاتية التي تقوده و لاخبار الآخرين بها و ذلك باظهارها صراحة ، هذا المجهود الذي سيساعده في الوصول الى أقصى قدر من الموضوعية القابلة للتحقيق ذاتيا، في الوقت الذي يكتب فيه ، وخاصة في مساعدة باحثين آخرين يعملون في أفق أكثر تقدما ، و يتمكننون من فهم أفضل للواقع ، من استعمال و تجاوز ابحاثه الخاصة." LUCIEN GOLDMAN, épistémologie et philosophie politique ; pour une théorie de la liberté, Denoël /Gonthier, paris, 1978, p 28. اننا نعترف ، عملا بما كتبه غولدمان ، اننا لا نبحث فقط عن طريقة جديدة في فهم العالم الاجتماعي بل و في تغييره ايضا. و اننا نعترف اننا علمانيون يساريون مرجعنا النظري هو العلم لا غيره . كما اننا نعترف اننا اشتراكيون ديمقراطيون انسانيون ولا نعتقد في ان الراسمالية تمثل نهاية التاريخ الحتمية أو المرجوة. اننا بهذا الاعتراف المزدوج نضع صراحة أمام الباحث العلمي و المناضل السياسي العربيين قيمنا الذاتية التي قد تؤثر على ما بين أيدي القارئ و نطلب منه المساعدة للوصول الى أقصى قدر من الموضوعية العلمية و من السعادة البشرية في نفس الوقت. نعود الى السؤال و الاجابة . فهل تراجعنا عما كتبناه وبسرعة اذن؟ لا و نعم في نفس الوقت. *** لا، اننا لا نزعم تقديم نظرية علمية أو فلسفية جاهزة نكرر اننا غير قادرين عليها فعليا ليس من باب التواضع المصطنع بل من باب الشعور الحقيقي بالعجز.ان الماركسية بتوجهها النسقي الفلسفي المغلق في ماديته قد حنطت المعرفة البشرية الفلسفية و العلمية في قالب صلب جعل البحث الفلسفي و العلمي يتمردان عليها ، وعلى غيرها ،الى درجة المبالغة العكسية في المناهج الفينومينولوجية والتفهمية و التأويلية و التفكيكية و غيرها بحيث يمكن تكرار ما قاله ماركس نفسه في أطروحته الأولى حول فورباخ انه نتيجة للتطرف المادي"..نجم عن ذلك أن الجانب العملي ، بخلاف المادية ، إنما طورته المثالية ، ولكن فقط بشكل تجريدي ، لأن المثالية لا تعرف ، بطبيعة الحال ، النشاط الواقعي الحسي كما هو في الأصل." ان من مظاهر "الغباء" الأصولي الماركسي التوقف عند "التأليف الماركسي" بين هيغل و فورباخ لأنه تأليف عدمي في بعض وجوهه أقصى بعض أعلام الفكر البشري الكبار لعل من أهمهم كانط الذي يختصر الماركسيون فلسفته في عبارة" الشيء في ذاته" ناسين أنه أحد الآباء الحقيقيين للعقلانية و العلمانية الحديثة. ان تاريخ الفلسفة الحديثة و المعاصرة تميز بما يسمى نهاية "الفلسفات الكبرى" مع و خاصة بعد سارتر و لكن ما قدمته الفلسفة الحديثة و المعاصرة خاصة مع فلاسفة مثل هابرماس و فوكو و دولوز و دريدا و نيغري و غيرهم عظيم . لا بد الآن من الاستفادة من كل هذه المناهج و المدارس الفلسفية ايجابيا لاعادة صياغة التصور الفلسفي العلمي الجديد المطلوب عبر الاستفادة خاصة من مفاهيم مثل الشواش و التعقيد و اللاحتمية و الديالوجية و التفاعلية وغيرها و لكن ذلك يتجاوز قدراتنا الشخصية فنكتفي بالدعوة الى القيام به لا غير. كما ان ما قدمته العلوم الانسانية منذ نهاية القرن التاسع عشر الى اليوم هو جبار و يسمح بمساءلة كل ما احتوته "المادية التاريخية" .و لكن من الوهم الادعاء، بالنسبة الينا، اننا قادرون على استيعاب كل التطورات المعرفية الانسانية و تقديم علم انساني جديد مكتمل وجاهز للتطبيق. ان الاستفادة الايجابية من الفيبرية و المدرسة الدوركهايمية ثم من النظريات الللاحقة كالبنيوية و الوظيفية و مدارس الفعل الاجتماعي و مناهج التبادلية الرمزية و الأثنومنهجية و من السوسيولوجيا الدينامية و نظرية الحقول البورديوزية و غيرها أمرصعب جدا ،رغم انه حيوي الآن .
***
نعم ،
كل هذا الذي ذكرناه لا يمنع من المحاولة على الأقل من باب طرح مسودات لفرضيات بحث في شكل أطروحات مختصرة حتى لا يكون النقد هداما وسلبيا بل ايجابيا بناءا يساعد على التوجيه ، على الأقل ، نحو طرق البحث عن البدائل و ليس نحو البدائل نفسها ، و كثيرا ما يقال ان طريق البحث عن الحقيقة هام بمقدار الحقيقة نفسها.
اننا سنحاول تقديم فرضيات بحث متكاملة و متناسقة تغطي باختصار ، شديد و مخل مع الأسف، ما غطته الماركسية من قضايا دون ادعاء القدرة لا على الاستفادة مما راكمته الفلسفة عموما و لا العلوم الانسانية في هذا الصدد و لا على الاجابة الكافية عن الأسئلة التي نطرحها على القارئ و على أنفسنا أحيانا. ان ما نريده هو ، فقط و حصريا، طرح فرضيات للبحث استفدنا فيها من اطلاعنا المقبول عموما على الماركسية و لكن المحدود على انتاجات العلوم الانسانية المختلفة ولذلك نعترف اننا اعملنا فيها ما يسميه رايت ميلز "الخيال السوسيولوجي" أكثر من استعمالنا البحث و التوثيق العلميين الصارمين.
انه عمل هواة و محبين و ليس عمل محترفين عقلانيين باردين ان شئنا. و اننا نعترف ان دوافع شخصية دفعتنا لذلك هي تعزيز الانفصال الشخصي الايجابي عن الماركسية و دفع العملية عند الآخرين ايمانا بان الباحثين العلميين الماركسيين الحقيقيين و المناضلين السياسيين الماركسيين الصادقين يمكنهم المساهمة بصورة هامة جدا في الجهد العلمي و السياسي المطلوبين عربيا الآن. ***
ان ما نقترحه يمكن توصيفه كما يلي: - انه ليس علما تأليفيا موسوعيا لعلوم الطبيعة و المجتمع مثل ما قدمه ماركس و ما يقدمه ادغار موران مثلا فنحن نكتفي بالانسان و نترك الطبيعة تماما. - انها ليست نظرية بل مجرد فرضيات للبحث لا غير. - انه ليس فرضيات ل "علم اناسة " –انتروبولوجيا- خاص بل فرضيات للبحث في علم للانسان يستفيد من "المادية التاريخية" ومن العلوم الانسانية بما فيها الأنتروبولوجيا التي تبقى علما فرعيا قائما بذاته لا نزعم معرفته الجيدة و لا تجاوزه أو الغاءه. - انه ليس "علم اجتماع تاريخي" بل فرضيات فلسفية علمية انسانية يبقى علم الاجتماع ، بوصفه علما خاصا، جزءا منها قائم الذات و نحن لا نزعم لا الاحاطة التامة بنظرياته و لا القدرة على نقدها جميعا أو تجاوزها. - انه بحث يحاول الاستفادة من الجدل و من العلوم الانسانية ليقترح "خارطة طريق" فرضياتية لا غير،عسى أن نساهم في ورشة التفكير العلمية ا ليسارية العربية التي يجب أن تفتح الآن انقاذا لما يمكن انقاذه. ***
توضيحا للطريقة التي بدأنا بها في التفكير هنا نقول ما يلي باختصار شديد: - فكرنا أولا في اللغة كخزان للتفكير العلمي وقررنا الذهاب مباشرة لفكرة الكونيات الألسنية الانسانية كمساعد في البحث عما يمكن ان يكون العام المشترك بين البشر و الذي عبرت عنه اللغات المختلفة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فوجدنا ان وجود الفعل و الفاعل و الضمائر و غيرها تدل كلها على ان أفضل طريقة لدراسة الانسان هي من منظور الفعل الاجتماعي ،أو الممارسة الاجتماعية ،مع التنبيه ان دراسات الفعل الاجتماعي في العلو م الانسانية و الاجتماعية مالت كثيرا أحيانا اما الى نزعة فردية و اما الى نزعة عقلانية ربما باستثناء محاولة عالم الاجتماع الفرنسي آلان توران .
- و لكن بما ان المسألة ليست لغوية بل فلسفية وعلمية و تجنبا للتصورات الوظيفية التي سبق وأن استلهمت من التحليل الألسني، ذهبنا الى معاجم العلوم الاجتماعية و الانسانية (...) و قررنا الاستنجاد بهل لتساعدنا في تصور عام جدا لما يمكن ان يكون فرضيات نظرية عامة في الاجتماع الانساني فأعدنا الاطلاع السريع على اشكاليات العلوم الانسانية المختلفة من خلال أهم المصطلحات و المفاهيم و المدارس الموجودة و قسمنا تمشينا المنهجي بما يسمح من الاستفادة من ذلك و لو بمجرد الاشارة و الايحاء.
- وبما اننا نكتب ونحن ننقد ماركس و الماركسية أساسا فاننا خططنا التحرير "على منوال" "مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" التي كتبها ماركس سنة 1859 و لكن قدمنا عليها ملاحظة مرتبطة بتعريف الانسان من ماركس و أنجلز في نفس الوقت.
وقبل أن نقدم، في ما يلي، نتائج عملنا المختصرة والمؤقتة نذكر انه اذا كانت للغة وظيفة "ميتالغوية" ،حسب جاكوبسون، فانه من الواجب الاعتراف انها بالتالي مقصرة في القدرة على "البيان والتبيين" ، خاصة اذا كان صاحبها يعترف بذلك من تلقاء نفسه وخاصة اذا كان يعترف أيضا بأنه يقدم " معرضة" نثرية لنص موجود يعرف الجميع انه " مثل القصيدة المعارضة" يبقى سجين "غرض ووزن" ما يعارضه.
***
-1- الانسان ابن فريد من نوعه للطبيعة في تطورها التاريخي. وهو نفسه كائن طبيعي تاريخي . انه ، كما تؤكد ذلك العلوم الحديثة (علم الأحياء و الجينات والتشريح و ووظائف الأعضاء و الايطولوجيا،الخ) ليس مخلوقا فجئيا مكتملا خلق بتدخل من الله في اليوم السادس من ايام الخلق. بل هو حصيلة تطور تاريخي لكائنات شبيهة بالقردة العليا التي تحولت بحركة الأنسنة الأولى(homonisation) من كائن واقف الى عامل الى عاقل...و بمجرد و جوده النوعي المتميز ظهر شكل جديد من الحياة الطبيعية الاجتماعية التاريخية. في المقابل لو سألنا ماركسيا أصوليا عمن يعتقده فسر علميا كيفية نشأة الانسان لنفى ان يكون ذلك عمل داروين و قال ان أنجلز هو الذي قدم الاجابة "المادية التاريخية" الصحيحة. كان ماركس في "رأس المال" قد تبنى تصور فرانكلن عن الانسان بوصفه" حيوانا صانعا للأدوات" و عمق أنجلز الصورة منذ الفقرة الأولى في "دور العمل في تحويل القرد الى انسان" حيث قال: " العمل، كما يقول علماء الاقتصاد السياسي، مصدر كل ثروة. وهو كذلك فعلاً مع الطبيعة التي تقدم له المادة التي يحولها إلى ثروة. ولكنه أيضاً أكبر من ذلك بما لا حدّ له. إنه الشرط الأساسي الأول لكل حياة إنسانية، وهو كذلك إلى درجة أنه يترتب علينا أن نقول بمعنى ما، أن العمل قد خلق الإنسان بالذات." ان العلوم الطبيعية الحديثة ، رغم اختلافاتها ، تميل الى تفسير نشأة الانسان الأول في الطبيعة و لأسباب طبيعية مركبة و لكن الماركسية تعوض الله والطبيعة معا بفاطر و خالق جديد للانسان ، بالعمل . انها تعوض الله بالمحرك الأول الاقتصادي.
-2- ان البشر وهم يجددون وجودهم الطبيعي الاجتماعي التاريخي ، بعد وجودهم، يقومون بذلك وفق نمط حياة اجتماعي تاريخي عام ارتباطا بالمجتمع الكلي الذي يعيشون داخله ،من المجتمع القبيلة الى المجتمع الدولة الى المجتمع الأمة او المجتمع المتعدد القوميات ،الخ . ان نمط الحياة الاجتماعي التاريخي العام هو المحصلة الجدلية لكل تفاعلات الانسان مع الطبيعة و مع غيره من البشر في اطار السعي الى تلبية الحاجيات الطبيعية الاجتماعية التاريخية في ظرف تاريخي محدد بحيث يتمكن الانسان من مواصلة الحياة في المستقبل انطلاقا مما راكمه في الماضي و ما يملكه في الحاضر من امكانيات طبيعية و اجتماعية. كما ان نمط الحياة الاجتماعي التاريخي العام هو اذن التأليف العام الجدلي بين انماط الحياة الاجتماعية الجزئية ،الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و النفسية- الفكرية. وتلك الأنماط الجزئية تعبر بصورة مخصوصة عن العلاقات الانسانية المخصوصة و الجزئية بالطبيعة و بالآخرين في تلك الحقول الأربعة الكبرى.
3- ان الوجود الاجتماعي لصيق بالطبيعة لا ينفصل عنها بما ان البشر أنفسهم كائنات طبيعية. لكن الانسان يقوم بعملية أنسنة الطبيعة باشكال متنوعة تنوع أفعاله الاقتصادية و الجنسية و السياسية و النفسية الفكرية. ان الطبيعة ( جغرافيا و جيولوجيا) ليست فقط موضوعا اقتصاديا للفعل بوصفها مستودع غذاء و لباس بل هي أيضا موضوع جنسي ( الجنس ممارسة طبيعية فيزيولوجية مؤنسنة) و سياسي( حدود الدولة الترابية الخارجية و تقسيمها الترابي الاداري الداخلي ) و نفسي-فكري ( هي مصدر خوف و جمال وموضوع بحث و تأمل ) . ان العامل الجغرافي هام جدا ولعل أهمية الاكتشافات الجغرافية الكبرى و ما أدت اليه من نتائج أكبر دليل على ذلك.ان العامل الجغرافي هو المكان الطبيعي المؤنسن لكل أشكال الفعل البشري دون استثناء وقد تجاهلت الماركسية كثيرا ذلك الأمر. حتى بعض المسائل المرتبطة كثيرا بالاقتصاد تم تجاهلها تقريبا ، رغم ملاحظات ماركس الجيدة أحيانا كثيرة، كمسألة التحضرالتي لخصت في علاقة الأرياف بالمدن في اطار تقسيم العمل الاجتماعي و أهملت جوانبها الحضرية المعمارية و غيرها (وهي المرتبطة بكل مظاهر الحياة الجنسية والفكرية و الجمالية مثلا) في بحث أنجلز "حول مسألة السكن" .لعله يكفي التذكير انه لم تظهر أولى نظريات التحضر الماركسية تقريبا الا مع هنري لوفيفرسنة 1968. و بالكاد بدأ الماركسيون وقتها يتجاوزون التصور النظري الحضري المسطح الشبيه بالمساكن الاشتراكية المعلبة التي حلت بها الحكومات الاشتراكية مسألة السكن.
-4- كما ان البشر يجددون وجودهم البشري الديموغرافي ، عبر الممارسة الجنسية و الصحية وغيرها، وهو الجانب الذي اهتمت به الماركسية ولكنها وجهته كثيرا وجهة أحادية اقتصادية، نتيجة نقدها للتصور المالتوسي عن السكان ، مما أدى في بعض الحالات الى كوارث. من بين هذه الكوارث مثلا ، وهي تكفي في رمزيتها لقول كل شيء، تلك التي حصلت في الصين التي بدأ ماوتسي تونغ فيها بسياسة سكان تقوم على مبدأ " كل فم يأكل معه يدان تعملان" فاختصر العامل الديمغرافي في علاقته بالانتاج وانفجرت الصين ديمغرافيا . ومن بينها أيضا ما أدى بالحزب الشيوعي الفرنسي، في أواخر الستينات، الى معارضة الحركة النسوية الهادفة الى الفصل بين الحب و الانجاب رافعا لواء " المحافظة على سلالة البروليتاريا" فغيب نفسه عن ثورة ماي 1968 تقريبا. ان البعد الديمغرافي لخص في تبعيته للاقتصاد و غيبت كل العناصر الاجتماعية الأخرى المؤثرة فيه أو قلص بشدة من أهميتها.
-5- عند تجديدهم انتاج وجودهم الطبيعي الاجتماعي التاريخي ، يدخل البشر حتما و بالضرورة في علاقات اجتماعية عامة ومختلفة هي في نفس الوقت علاقات جنسية و اقتصادية و اجتماعية (قرابية...) و سياسية و نفسية- فكرية.و كل تلك العلاقات ضرورية لتلبية الحاجيات الطبيعية و الاجتماعية المختلفة للانسان الذي هو كائن طبيعي واجتماعي تاريخي بطبعه. ان العلاقة بالطبيعة في الماركسية سيطرت عليها فكرة اعتبار الطبيعة "مستودعا للحاجيات المادية". أما ا لعلاقات الاجتماعية فقد اختزلت في العلاقة الطبقية الاقتصادية و اهملت العلاقا ت الاجتماعية الأخرى كثيرا . و حتى داخل الاقتصاد كان التركيز على علاقات الانتاج على حساب علاقات التبادل و الاستهلاك و التوزيع . -6- ان الحاجيات الطبيعية الاجتماعية التاريخية للبشر هي حاجات متنوعة مادية عضوية و جنسية و اقتصادية و نفسية - فكرية و اجتماعية و سياسية من نوع خاص.انها تتصل بالحاجيات الحيوانية و تنفصل عنها في نفس الوقت . وهي تتميز عنها بكونها اجتماعية تاريخية تتكرر و تتجدد في نفس الوقت سواء في محتواها أو في طريقة تلبيتها .ان الانسان يجتمع ( يجعلها اجتماعية ،من SOCIALISATION) حاجياته الطبيعية بما في ذلك الأكثر بساطة وطبيعية منها. كما انه يعيد صياغتها و يطور طرق تلبيتها باستمرار فينفصل بذلك عن مملكة الحيوان دون ان يقطع معها تماما بسبب كونه كائنا عضويا حيا يحتاج كغيره من الكائنات الحية الى الطبيعة لتجنب الموت و تجديد الحياة. لكن الكائن البشري لا يحتاج فقط الى عمليتي الأيض و التكاثر لتجديد و جوده ككل الكائنات الحية الأخرى، بل يحتاج الى أنسنة و تثقيف تلك العمليات حتى يجدد وجوده كانسان طبيعي اجتماعي تاريخي.
و من ناحية أخرى ، وبسبب ماذكرناه ، ترتبط الحاجات الانسانية بالمصالح الاجتماعية المختلفة و المتناقضة.ان الحاجة و طريقة تلبيتها و القدرة على تلبيتها تصبح رهينة نمط الحياة الاجتماعي التاريخي و بالتالي رهينة المصالح بقدر اختلاف البشر في المجتمع حسب مواقعهم و ملكيتهم . لكن تلبية الحاجات لا يرتبط فقط بالمصلحة بل كذلك بالوعي و بالقيم والمعايير و المثل الاجتماعية التي تؤثر في فعل الانسان و غيرها من المتغيرات فلا يجب اخضاع تحليل الحاجات الى المصالح الاقتصادية لوحدها لأن ذلك سيؤدي الى قصر في التفسير لا محالة.
-7- ان العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و النفسية الفكرية ترتبط بالضرورة بالأفعال البشرية ( الممارسات) الخاصة المناسبة لكل صنف من تلك العلاقات. لذلك فان العلاقات الاجتماعية الكلية هي في الواقع علاقات فعل و ممارسة اذ ان "الأموات وحدهم لا يفعلون شيئا" و الحياة هي اولا و قبل كل شيء فاعل وضمير وفعل ومفعول به و فيه و من أجله ... كما تعبر عن ذلك "الكونيات الألسنية" الموجودة في كل لغات العالم تقربيا رغم الاختلاف الأكيد في الأشكال و التفاصيل بين مجتمع و آخر، والذي يختلف بين لغة و أخرى بما ان اللغة هي عنصر من عناصرتعريف الانسان و تمييزه عن الحيوان مثلما هي من عناصر تعريف المجتمعات و تمييزها (ولكن ليس دائما) عن بعضها ، هي و ثقافاتها.
-8- ان الفعل البشري هو دائما وفي نفس الوقت نتاج انخراط الجسد في الحركة و هو بالتالي فعل جسدي عضلي ( يدوي أو غيره) و جسدي فكري ( لأن الدماغ ليس عضلة كغيرها و ليس حتى بعضلة العضلات بل هو "دينامو" العضلات. ) في نفس الوقت . هذا رغم كون الافعال البشرية يمكن تصنيفها طبعا الى "يدوية" و ذهنية ، لأن الانسان يمارس أفعالا هي أقرب الى المجهود "اليدوي" ( قد تكون الساق هي المستعملة أكثر أحيانا.) ، بل العضلي عموما ، و أفعالا أخرى أقرب الى المجهود الذهني الدماغي. و لكن في كل الحالات لا يوجد تقريبا أي فعل بشري هام يكون عضليا صرفا أو ذهنيا صرفا لأن العضلات ترتبط بالدماغ دائما تقريبا و هذا الأخير يلتجأ الى الحواس ،التي تحتاج الى حركة العضلات، حتى يتمكن من التفكير. ان أية حركة جسدية، باستثناء ردود الأفعال البسيطة التي برع بافلوف في تفسيرها، هي بالضرورة مرتبطة بالتفكيرو كذلك يصح القول على العكس كما تؤكد على ذلك العلوم الادراكية ( cognitives) الحديثة التي لم تبح بعد الا بأسرار جزئية مما يمكن معرفته حول علاقة الدماغ بالأفعال البشرية المختلفة تأثيرا و تأثرا.
-9- ان الفعل البشري -أو الممارسة البشرية – هو فعل و أفعال في نفس الوقت، انه واحد و متعدد كما تدل على ذلك الصيغ المشتقة من ثلاثي "ف_ ع_ ل "بحيث نجد فعل و انفعل و تفاعل و افتعل و افعل و غيرها. و ان هذا التعبير اللغوي يحيلنا على كون بعض الأفعال هي أقرب الى ما يسمى ، في اللغة الفرنسية مثلا، "افعال الحالة" حيث الممارسة توجد في أبسط أوجهها ولا يكاد الانسان فيها يقوم بنشاط حركي جسدي أو ذهني تقريبا بل يقترب فيها الفعل من مجرد و صف وضعية انسانية معينة لا غير. كما ان الأوزان الأخرى للفعل تحيلنا الى صيغ الاكراه على الفعل و رد الفعل -الانفعال و التصنع في الفعل و التظاهر بالفعل و الامتناع عن الفعل و الانسحاب من الفعل و التشدد فيه وغيرها. ان نظريات الفعل الاجتماعي السابقة تكاد تهمل حتى هذه الاشارات اللغوية البسيطة و تركز اما على عقلانية الفعل أو على فرديته أو على تفاعليته أو غيرها في حين ان اللغة نفسها، وهي العاجزة عن التعبير أحيانا كثيرة، تبين ان الفعل البشري واحد و متنوع و معقد الى درجة كبيرة كبرو تعقد و ثراء الحياة الاجتماعية نفسها.
-10- لكن الفعل الانساني في غالبيته " فعل حركة" وهو يتميز عن الفعل الحيواني بكونه لا يكتفي بتحريك الجسد لتلبية الحاجة بل باستعمال ما يضاف الى الجسد من أدوات ووسائل مختلفة ،حتى في أبسط الأفعال البشرية الفيزيولوجية مثل الأكل و الشرب و قضاء الحاجيات البشرية –التبول و التبرز-. ان الانسان هنا أيضا يجتمع – يجعلها اجتماعية- أفعاله و يستعمل فيها أدوات و وسائل اضافية يستعملها الجسد البشري كامتداد اداتي له أو كاطار ضروري للفعل ( كالفراش الضروري للنوم).و لكن اختصار المسألة و حشرها في زاوية "الحيوان صانع الأدوات " يؤدي الى مشكلة معرفية و قد يؤدي الى كارثة عملية .ان النظريات التقنوية التي تبالغ في التركيز على أدوات الانتاج او على التقنية تنسى غالبا ان الانسان هو صانعها و مستعملها و مطورها و انها "محايدة" في النهاية لكنها قد تحمل من الشحنات التي يحملها اياها الصراع الاجتماعي . ان نظريات "قوى الانتاج" أو "البنية التقنية" أو غيرها مهمة و لكنها اذا مارست أحادية التفسير تهمل تعقد الظاهرة الانسانية. -11-
ان الفعل البشري هذا يتطور لا محالة مع تطور الاجتماع الانساني. و لكن الفعل البشري لا يتطور فقط بل توجد جدلية بين الاستمرار و الحركة فيه و لذلك نجد أفعالا تكرارية تظهرأهمها في العادات و التقاليد و الشعائرو الطقوس الدينية و غير الدينية . كما يمكن الحديث عن تقهقر الفعل وتراجعه أيضا في مراحل الارتداد الاجتماعي. لهذا فانه من الضروري الانتباه الى جدليات الاستمرار و التحول في نفس الوقت و تجنب الأحادية في التركيز على أولوية الحركة على الثبات بشكل صلب لأن الفعل البشري أكثر تعقيدا من هذا و لا تعالجه لا النظريات الدينامية المتطرفة ولا النسقية الوظيفية المتطرفة ،الا بأحادية ظالمة. ان وجود اسلوب للحياة أو بنية أو نسق أو غير ذلك من المسميات يعني استمرارا ما للوضع البشري و تحوله في نفس الوقت.وان البشرية قد تعرف أفعالا عابرة لأنماط متعددة من الاجتماع التاريخي مثلما قد تعرف تغيرات سريعة جدا لأفعال في نفس النمط التاريخي ، بل و في فترة قصيرة جدا من تاريخ هذا النمط. لذلك فان دراسة جدلية الحركة و الثبات في الأفعال البشرية لا بد ان تكون جدلية مرنة و لا تسقط لا في تقديس الحركة و لا في عبادة السكون أو التكرار.
-12- ان كل فعل بشري هو بالتالي انخراط الجسد العلائقي، اداتيا و اجتماعيا، مع اختلاف العلائقية التقنية عن العلائقية الاجتماعية الهام لأن العلقة الأداتية ترتبط مثلا بالتقسيم التقني للعمل أو الأفعل الاجتماعية الأخرى بينما العلائقية الاجتماعية ترتبط بالعلاقة الاجتماعية بين البشر.ان كل ممارسة اجتماعية مهما كانت بسيطة و فردية هي ممارسة علائقية تحيل الى علاقة الانسان بالانسان و بالطبيعة في نفس الوقت و لو بدرجات و أشكال متفاوتة و مختلفة. لذلك فان النظريات الفردية المطلقة و الكلية المطلقة يجب تجنبها مثل تجنب النزعات العقلية أو النفسية الفردية او النظريات السوسيولوجوية والكلية. ان الماركسية تسقط في تصورطبقي / كلي عن الفعل يتجاهل الفعل الفردي- الذاتي و المجموعاتي و اهميته أحيانا في التأثير على نمط الحياة الاجتماعي التاريخي. تعترف الماركسية نظريا ب"دور الفرد في التاريخ" (كتاب بليخانوف الشهير) و لكنها لا تقر للفرد بذلك الدور الا بوصفه فردا ينتمي الى طبقة اجتماعية أو يجعلها "طبقته المرجعية" أو فردا منسلخا عنها .أما البعد الفردي- الذاتي فمفقود مثله مثل الأبعاد الانتمائية أو المرجعية للمجموعات الصغرى (العائلة...) و المجموعات الكبرى غير الطبقية ( جماعات الجنس و الجيل و غيرها). ان هذا يهمل بعدا مهما في الفعل الاجتماعي التاريخي يظهر أحيانا بصفة هامة حتى في شكل حركات اجتماعية جزئية مثل الحركات الشبابية و النسوية وغيرها. ان التحليل الماركسي تحليل علائقي و لكنه علائقي طبقي تحديدا و هو لذلك أحادي النظر.
-13- ان الفعل البشري هو فعل علائقي اجتماعي ( وليس طبقي فقط) بالضرورة حتي لو مورس فرديا – لأن الانسان يستبطن الاجتماعي و هو يفعل منفردا- و هو لذلك يفترض وجود العلاقات الاجتماعية ، كما ذكرنا ، و بالتالي يفترض أشكالا مختلفة من الاجتماع الانساني في ما يسمى المجموعات و الجماعات ( بمختلف أشكالها و أحجامها البسيطة و المركبة، الأولية و الثاوية، المرجعية و الانتمائية، الواقعية و الافتراضية ، العمودية و الأفقية أو الشبكية،الخ.) و المجتمعات و حتى الاجتماع الانساني العالمي. ان العائلة و القبيلة ومجموعات الجنس و العمر و العمل و الصداقة و الطبقة الاجتماعية و الطائفة و الأمة و المجتمع كلها أشكال من الاجتماع الانساني. و لذلك فان أية دراسة لا تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الفردية و البين- فردية و الجماعية في نفس الوقت تجانب الصواب .ان التركيز على الفعل الفردي أو الطبقي أو الجماعي فقط يِؤدي حتما الى تجنب الحقيقة .و ان كانت الماركسية قد انتبهت مثلا الى "دور الفرد في التاريخ" ،كما قلنا ، فانها لم تنتبه الى دور المجموعات غير الطبقية فيه .فلا توجد كتب عن دور العائلة أوالقبيلة أو مجموعات الضغط وغيرها في التاريخ مع ان نيكوس بولنتزاس مثلا في كتابه "السلطة السياسية و الطبقات الاجتماعية" ، حاول الاشارة الى ذلك بتفريقه بين الطبقة الحاكمة و الشرائح المهيمنة على الحكم داخل السلطة، ولكنه حصر المسألة في الطبقات و الشرائح الطبقية أساسا. كما ان الفكر الماركسي يقترف خطأ الاكتفاء بالتراتبات العمودية" و اهمال الأشكال المختلفة الأخرى للعلاقات مثل العلاقات "الأفقية" ( على نفس المستوى) أو "الشبكية" ( العلاقات المتداخلة ) أو " التجانبية" (جنبا الى جنب) أوالتناظرية (التقابل وجها لوجه) أو "الاحتوائية" (مجموعة ثمثل جزءا من أخرى أكبر منها مثلا) .ان سبب ذلك هو تصور "الفضاء الاجتماعي" وفق نموذج الهرم أو السلم العمودي حيث الدرجات المتمايزة و المتراتبة فوق بعضها البعض. لكن هذا هو وجه من وجوه الفضاء الاجتماعي ، زاوية من زوايا النظر اليه، تنقصها زوايا أخرى، هذا اذا تسامحنا أصلا في تصوير الفضاء الاجتماعي التاريخي وفق منظور هندسي، اذ ان المجتمع اعقد من كل فضاء هندسي . لكن الماركسييين هم "مهندسو أرواح" ، كما عبر عن ذلك تعريف جدانوف الشهير للمثقف، فما بالك بالمجتمعات.
-14- كما ان الفعل البشري يمارس بالضرورة ، في اطار التنظيم الاجتماعي، ضمن تنظيمات و مؤسسات اجتماعية متنوعة أكبرها الدولة نفسها، هذا اضافة الى التنظيمات و المؤسسات العالمية طبعا. ان كلا من الاجتماع الاقتصادي أو الجنسي أو السياسي أو الفكري يميل الى الانتظام و التمأسس الاجتماعيين و لا يمكن دراسة الممارسة الانسانية دون هذا البعد تماما مع الوعي طبعا بعمليات الهدم و البناء المتواصلتين في هذا الجانب أيضا. ان اعتبار الدولة مجرد جهازطبقي في يد الطبقة السائدة يهمل أهميتها و ضرورتها الاجتماعية في المجتمع الانساني، حتى منذ مراحل بدائية تماما، و يحصر تحليل بنيتها في أجهزة القمع ووظيفتها في السيطرة الطبقية و بالتالي يخلق وهم امكانية اضمحلالها في المستقبل الشيوعي. ان اعتبار التنظيمات و المؤسسات مجرد بناء فوقي تابع للعلاقات الاقتصادية الطبقية مبالغة نظرية لا تقل خطورة عن اعطائها الدور الأساسي في توجيه الفعل الانساني عند بعض منظري علم التنظيمات. انه من المهم مثلا ادماج علم اقتصاد ثورستن فيبلن كعلم اقتصاد مؤسساتي داخل النظرية الاقتصادية والا فان التحليل الاقتصادي يبقى ناقصا لبعد هام من ابعاد الفعل الاقتصادي. و نفس الشيء يمكن قوله عن دور التنظيمات و المؤسسات في الفعل البشري العام. لكن ذلك لا يجب أن يؤدي الى المبالغة العكسية طبعا مثلما تفعله بعض النظريات التي تؤكد على فكرة ان الانسان هو "حيوان سياسي" بالدرجة الأولى كطوكفيل أو مثل ما تفعله بعض علوم التنظيم و الادارة النسقية و الوظيفية التي تبالغ في الاستفادة من تحاليل مينتزبرغ و مارش أوتسيء استعمال نظرية فيبر حول البيرقراطية مثل ما فعل كروزييه و فريدبيرغ أو غيرهما.
-15- وارتباطا بالتنظيم الاجتماعي أيضا يميل الفعل الاجتماعي الى الانتظام في اطار قواعد و أعراف و قوانين منها ماهو ضمني وصريح و منها ماهو عرفي و منها ماهو مكتوب ، منها ماهو اقتصادي ومنها ماهو سياسي و غيرهما .و يظهر ذلك في منظومة القانون الاجتماعية بمختلف تفريعاتها.ان المنظومة القانونية للمجتمع ليست مجرد منظومة طبقية و لكنها أيضا ليست منظومة اجتماعية محايدة دائما و فوق الطبقات و الفئات الاجتماعية بالمطلق.ان القواعد و القوانين العرفية و القانونية هي هذا و ذالك في نفس الوقت و لكن محتواها التاريخي المحدد في مجتمع محدد لا بد من دراسته حسب موازين القوى و ارتباطا بخصوصية و تاريخ ذلك المجتمع. ان الاكتفاء بالقول ان البنية القانونية للمجتمع هي مظهر للبنية الاقتصادية لا غير و انها تترابط مع الدولة في ما يسمى البناء الفوقي السياسي و القانوني لا يعطي صورة كاملة لا عن طبيعة و لا عن وظيفة القانون في المجتمع و لا يفسر سبب وجود قوانين شبه محايد تقريبا مثل "قانون الطرقات" على سبيل الذكر لا الحصر.
-16- كما يتم الفعل الاجتماعي ضمن القيم و المعايير و المثل والرموز الاجتماعية التي ترتبط بثقافة المجتمع العامة من ناحية و بالمصالح و الاهداف الاجتماعية المختلفة لمختلف الفاعلين الاجتماعيين ، حسب المرحلة التاريخية . ان كل مجتمع يخلق لنفسه "منظومة مثالية" للفعل يحاول فرضها على افراده في كل مرحلة تاريخية من مراحله يحدد عبرها ماهو "طبيعي" و ماهو "منحرف" و ماهو مثمن و مستحسن و ما هو نموذجي و مثالي مأمول .و لكن ذلك لا يجب ان ينسي محاولة هذه المنظوة بالذات الى الاستمرار في شكل مبادئ عامة و خالدة تتخطى التناقضات و الزمن في نفس الوقت. ان النظر الى القيم و المعايير و المثل فقط من زاوية المصالح الطبقية و من زاوية التحولات التاريخية يهمل عنصر التجريد البشري المرتبط بها و الذي ارتبط بمحاولة المحافظة على أطررمزية قيمية و مثالية موجهة للفعل. لكن ذلك لا يجب ان يؤدي الى التصور النفسي الثقافوي النسقي و الوظيفي كما يفعل علماء الانسانيات في المدرسة الأمريكية خاصة، مثل ميد و لينتن وبارسونز و ميرتون و غيرهم. ان المهم هو دراسة القيم و المعايير و المثل ضمن جدليات الوحدة و الصراع و الاستمرار و التحول و غيرهما. ان الماركسية اللينينية نفسها أدمجت هذه المسائل مكرهة في نسقها النظري من خلال نظرية الأمة اللينينية الستالينية ووحدتها النفسية الثقافية.لكن العوامل النفسية كانت في الغالب مهملة متجاهلة في التحليل النظري ووصل الأمر بلينين حد اعتبار فرويد عالم نفس بورجوازي لا غير. ان العامل النفسي الفردي و النفسي الاجتماعي حاضر في كل فعل اجتماعي تقريبا و لا سبييل الى فهم الاجتماع التاريخي دونه.انه مرتبط بالارادة التي يتهرب منها الفكر الماركسي كثيرا. كما انه من المستحيل تجاهل علم النفس الاقتصادي و الجنسي و الاجتماعي و السياسي . ان دراسات فرويد الأخيرة حول الحضارة و الدين و أعمال بياجي و رايش و فروم و غيرهم لا سبيل الى انكارها في تفسير "علم نفس الجماهير" العمالية ، نفسها ، و غير العمالية. و لكن على شرط عدم السقوط في النزعات النفسية و السلوكية المتطرفة طبعا. ان النفس الفردية و الجماعية كلاهما نفس اجتماعية تاريخية كلية، ظاهرة اجتماعية تاريخية كلية.
-17- ان الاجتماع التاريخي الانساني هو بالضرورة اجتماع لغوي اتصالي أيضا. ان اللغة مكون هام جدا في الوجود البشري يختزل رمزيا كامل أبعاد الاجتماع الانساني و لذلك لم يعتبرها ستالين نفسه ، في كتبه حول المسألة القومية (1913) و حول المسألة اللغوية (1950) ، لا من البناء التحتي و لا من البناء الفوقي و اكتفى بفهمها كخاصية مشتركة في الأمة. ان الفعل اللغوى هو فعل من صنف خاص تفاعلى تواصلي أساسا رغم كونه يتأثر هو الآخر بالتنوع الاجتماعي التاريخي الداخلى (اللهجات الجهوية و المهنية ...و اللغات في المجتمعات المتعددة التكوين اللغوي) و التراتب الاجتماعي الداخلي ( كما يظهر في العربية بين اللهجة العامية و"اللغات" الوسطى و الفصحى و المختصة) . ان ذلك يعني ان الفعل اللغوي نفسه يتأثر و يؤثر في تجديد الوجود الاجتماعي التاريخي للبشرو لا يجب الاقتصار على تحليله لا تماسكيا و لا صراعيا بل عبر جدلية الوحدة و الصراع و السكون و الحركة وغيرهما. ان الأمر يتعقد أكثر مع الفعل الاتصالى الحديث بظهور وسائل الاعلام و الاتصال الحديثة و ارتباطها بالعلم و الصناعة و تخطيها الحدود القومية و غير ذلك من الأسباب.ان الاعلام و الاتصال الحديثين يخضعان أكثر فأكثر لرأس المال ومالكيه ومصالحهم و مصالح لوبيات الاعلام و الاتصال المختلفة التي تهدف الى توجيه الفعل الاجتماعي نحو الاستهلاك عبر الاشهار أو نحو تبني موقف ما من السلطة من خلال الدعاية أو نحو توجيه المتقبل معلوماتيا من خلال عملية الاخبار و الاعلان بما يساعد على تشكيل ما يسمى الرأي العام ،الخ. و مع تطور الاعلامية و الأنترنيت تطورت العملية الاتصالية أكثر و ظهرت الشبكات الاتصالية الاجتماعية التي تخاض داخلها و حولها و بواسطتها أعقد العلاقات الاتصالية البشرية الى حد الآن مما أثر على ما يبدو حتى على خيرة مفكري الانسانية كهابرماس الذي يميل في ما يسمية "نظرية الفعل التواصلى" الى نمذجة الأفعال البشرية و فهمها بطريقة أحادية . ان المهم هوجدليات التفاعل المختلفة غبر اللغة و عبر وسائل الاخبار و الاتصال الحديثة .هذه الجدليات التي تتراوح بين الفعل و التفاعل والانفعال بكل أبعادها المختلفة التي تصاحب الأفعال البشرية كلها بحيث لا يمكن اعتبارها مجرد جزء من البناء الفوقي الايديولوجي مثلما لا يمكن اعتبارها وسائل اتصال بريئة و محايدة في المجتمع.
-18- ان كل نمط حياة اجتماعي جزئي يتكون من هذه العناصر التي يؤدي تفاعلها ضمن تلك الأنماط الجزئية الى تكون نمط الحياة الاجتماعي التاريخي العام للمجتمع .ان في الاقتصاد كما في الجنس كما في السياسة و الفن مثلا حاجيات وممارسات و علاقات و مجموعات و تنظيمات و قواعد و قيم ،الخ. لكنه من الخطأ التعامل مع هذه الأنماط الفرعية بنفس الطريقة و نسيان خصوصية كل منها بحجة وحدة الظاهرة الانسانية . ان الأفعال البشرية تختلف حتى لو بقيت كلها أفعالا و من المهم التفريق بينها وفق كل المتغيرات التي ذكرناها من صنف الحاجة الى كيفية انخراط الجسد الى درجة استعمال التقنيات الى صنف العلاقات و المجموعات و التنظيمات و خصوصية القوانين و القيم و غيرها . كما انه من الخطأ أيضا اسقاط طريقة تحليل احدى هذه الأنماط الفرعية على غيره من الميادين. ان اعتماد نموذج تحليل اقتصادي و تطبيقه على بقية "الحقول" ( كما فعل بورديو مثلا) أو اي نموذج تحليل جزئي آخر و اسقاطه على الاجتماع يؤدي حتما الى هنات تحليلية. ان الوحدة و الاختلاف بين أنماط الممارسة المختلفة يعني وجود قواسم مشتركة تميز الظاهرة الانسانية ككل دون اغفال التنوع بين الاقتصادي و الجنسي و الفني ،الخ. و لكن التحليل الماركسي يبتلع فيه التحليل المادي الاقتصادي الطبقي و الصراعي بقية مظاهر الحياة تقريبا فيحولها و يحول تطورها الى امتداد أو انعكاس لما هو اقتصادي لا غير تقريبا .و لكن رفض هذا لا يجب أن يؤدي لا الى رد الفعل العكسي و لا الى اهمال تحليل الأهمية الخاصة الفعلية للاقتصاد.
-19- تتفاعل انماط الحياة الصغرى جدليا اذا، لتكون نمط الحياة الاجتماعي التاريخي العام ، تفاعل الأجزاء المختلفة المكونة للكل الواحد. و لكن هذا التفاعل يتميز بتأثير خاص للحقل الاقتصادي بسبب خصوصية الحاجيات الاقتصادية و ارتباطها بتجديد جانب أكثر ضرورية فعلا من جوانب الوجود الاجتماعي الأخرى .هنا نحن نقطع مع ادغار موران الذي يكتفي بالتحليل الدائري المعقد للتفاعلات في نزعة يمكن بصفها بالأنتروبولوجية . ان الحاجيات الاقتصادية ترتبط أكثر من غيرها بضروريات التجديد العضوي للحياة كما ذكرنا سايقا .و اذا أضفنا اليها مسألة الندرة المرتبطة بالطبيعة أو بالملكية الخاصة وعززنا ذلك بعنصر التبادل النقدي ندرك ان هذا التأثير ليس خاصا فقط بل ما انفك يتعاظم عبر التاريخ. لكن الأهمية الخاصة للاقتصاد لايجب ان تنسينا أبدا خصوصية الجنسي أو السياسي أو الفكري، الخ .ان أهمية الاقتصاد لا يجب أن تنسينا انه شكل خاص من الفعل المرتبط بالانتاج و التبادل و التوزيع و الاستهلاك . كما انها ليست أهمية جوهر مختلف عن الظواهرأو مضمون يتفوق على الأشكال أو خالق يختلف عن المخلوقات كما ترى ذلك الماركسية الأصولية. انها اهمية علائقية لا غير و ذلك في اطار التبادل بين أبعاد الحياة الاجتماعية التاريخية المختلفة.ولكن النزعة الاقتصادوية لا تقل ضررا عن النزعات الثقافوية أو السياسوية أو غيرها في التحليل. انه من الخطير علميا تجاهل أهمية الاقتصاد الخاصة. ولكنه من الخطير ايضا عدم التمييز بين خصوصيات الميادين الأخرى.ان الممارسة الجنسية هي ممارسة خاصة بين - فردية سواء تمت بهدف الانجاب أم لا و سواء تمت في العائلة أم خارجها. انها صنف خاص من الممارسة التفاعلية الجسدية -النفسية المجتمعة. و لكونها كذلك تتأثر حتما بالاقتصاد ( المهر، المنزل، البغاء بمقابل...) كما تتأثر بالسياسة و القانون( قانون الأحوال الشخصية ...) و بالثقافة العلمية ( الطب و النظافة الصحية ) والدينية ( الحرام و الحلال الجنسي) و الأخلاقية ( الخير و الشرالجنسي) والفنية ( الجميل و القبيح الجنسي) و بالفعل الاتصالي اللغوي ( رسائل العشق ) وخاصة الاتصالي الاعلامي الحديث و تأثيره على الممارسة الجنسية من خلال فن السنما و الاشهار ،الخ.
كما ان الممارسة السياسية ممارسة خاصة متمحورة حول القيادة و السلطة السياسية و هي فعل خاص لا يخضع لمنطق "الاقتصاد السياسي" الا جزئيا لأن كل الميادين الأخرى تتدخل من اجتماع سياسي و ثقافة سياسية. ان تطبيق "الاقتصاد السياسي" على الممارسات الاجتماعية قد يفيد و لكنه يتحول الى نظرية "اسمنتية مسلحة" كما قال ادغار موران حول نظرية بيار بورديو مثلا.
-20- كما ان الاختلافات بين الممارسات الاجتماعية توجد حتى داخل انماط الحياة الفرعية نفسها اذ ان المجالين العلمي و الفني مثلا يختلفان داخل نمط الحياة الفكرية بحكم اختلاف العلاقة الانسانية بالطبيعة و بالمجتمع في الممارستين حيث الأولى تهدف الى التفسير و التحكم و الثانية الى التذوق و التعبير الجماليين ،الخ. ان التعميم حول "البناء الفوقي " أو "الوعي الاجتماعي" خطير جدا و قد أوقع الماركسية في مزالق كبيرة كتلك التي جعلتها تتردد في وضع العلم ضمن طابق البناء التحتي -بوصفه علما انتاجيا- أو الفوقي - بوصفه أحد أصناف الوعي الاجتماعي- او تلك التي ارتبطت بالفن بحيث أدى التصور الانعكاسي في نظرية المعرفة الى مقاربة الفن وفق نظرية الحقيقة و الصواب و الخطأ مما أدى الى سجن الواقعية الاشتراكية الجدانوفي، رغم ان بعض ملاحظات ماركس الجزئية في الفن عظيمة جدا ولكنها آتية من عظمة جماليات هيغل . كما ان مقاربة الماركسية للدين مثلا تقف عند جوهرية فكرة "الوعي الزائف" المرتبطة بنظرية المعرفة الانعكاسية الماركسية و تتجاهل الدراسات الانسانية الأخرى التي تحاول التوفيق بين "الجوهري" و "الظاهري "في الدين و بالتالي بين "التفسير" و "الفهم" بحيث نصل ليس الى تفسير الحادي للدين بل الى تفسير علمي له يحاول تحييد الموقف الديني الشخصي للباحث و يتعامل مع الفعل الديني كفعل بشري يرتبط بالماورائي أو السماوي بتقديسه خوفا من العقاب وطمعا في الثواب لكن مرجعه في الأرض بهدف محاولة فهم العالم و اعطاءه معنى ما وبهدف تنظيم المجتمع كجماعة دينية. ان تفسير الدين و فهمه لا بد أن يتم مثله مثل أية ايديولوجيا تاريخية كبرى ظهرت و تشابكت مع الحياة الاجتماعية التاريخية برمتها. ان الماركسية تهمل هذا سائرة على خطى نقد "التصور الأنتروبولوجي" الفورباخي و تلنزم بمقتضيات النسق الفلسفي المادي التي تقتل التحليلات الجزئية أحيانا. ان كل هذا لا يجب أن يؤدي طبعا الى رد الفعل العكسي عبر نظرية الموهبة الفردية ، الفنية أو العلمية مثلا، أو عبر نظريات "الفن للفن" أو "العلم للعلم" أوعبر الخلط بين التفهم المنهجي في الدراسة العلمية الدينية و بين الايمان أو الالحاد الشخصي للعالم .ان العلم ، رغم ميل نتائجه للكونية، و ان الفن، رغم طابعه الفردي و خصوصيته التعبيرية، يبقيان نشاطين اجتماعيين تاريخيين للانسان في علاقته بالطبيعة و المجتمع و في مرحلة تاريخية محددة . وان الدين بهذا المعنى يكاد يصبح ضرورة انتروبولوجية ( مرسيا الياد) بما ان بعض اسبابه باقية و ستظل كذلك ما بقي الانسان ، مثل نسبية الحقيقة عن الكون و حتمية الموت البشري. ولكنه فعل اجتماعي تاريخي بامتيازيعرف التحول كما الاستمرار و التناقض كما الانسجام و يتأثربكل الأفعال الانسانية الأخرى و يؤثر فيها باستمرار حسب خصوصية الدين و حسب المجتمع و المرحلة التاريخية التي يمر بها.
-21- ولكن الأهمية الخاصة للعامل الاقتصادي تجعله "متغيرا مستقلا" في عملية تحليل وتصنيف المجتمعات و تحقيب مراحل تطورها بحيث يمكن القول ان نمط الحياة الاجتماعي التاريخي العام هو نمط حياة اقتصادي- اجتماعي تاريخي بالدرجة الأولى شرط الا يخلط بمفهوم التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الماركسي . ان الحياة الاقتصادية للمجتمع تساهم بمقدار أكبر من غيرها في التفاعلات الاجتماعية التاريخية و لا بد من اعتمادها كمقياس مرجعي ، ولكن غير حصري، في التصنيف العلمي و التحقيب التاريخي للمجتمعات.ان "طريقة تحصيل المعاش" ،حسب العبارة الخلدونية، تبقى مهمة جدا في التحليل و التصنيف و التحقيب لأنها ترتبط ماشرة و أكثر من غيرها بضروريات الحياة الانسانية وتجديدها .و لكن هذه الطريقة نفسها هي في تفاعل متزامن و دائم مع طرق الاجتماع و التفكير و الانتظام السياسي.
-22- ان تجدد الحاجيات المرتبط بتجدد القدرة على تحقيقها ووسائل ذلك التحقيق - بل وحتى باعادة صياغتها تماما الى درجة القدرة على خلق الحاجيات الوهمية أحيانا- يرتبط بالضرورة بتجدد الممارسات الهادفة الى تلبيتها و العلاقات الاجتماعية التي تتم داخلها تلك الممارسة و معها كل الأبعاد الأداتية و الفكرية و التنظيمية و القانونية و القيمية و غيرها.ان تجدد الحاجيات الاقتصادية مثلا لا يمكن فهمه أبدا بمعزل عن تجدد التفكير في الحاجيات نفسها، طالما ان تلبية الحاجة لا يتم الا بعد الشعور بها عبر الدماغ "المجتمع" و المثقف عبر الأفكار الاجتماعية نفسها . ان تجدد الحاجة الى الغذاء يؤثر فيه تصور المجتمع الديني عن المحرم من الأغذية مثلا. كما لا يمكن فصلها عن تدخل الدولة في توجيه تلك العملية عبر النظام التعليمي و الاعلامي و بالقسر القانوني و المادي أحيانا عبر عمليات التأميم و انتزاع الملكية .ان ذلك التجدد يرتبط اذن بتجدد كل الممارسات الاجتماعية و بكل أبعاد الحياة رغم وجود شبكة مرجعية ثابتة نسبيا للحاجات حاول ماسلو التعبير عنها في هرمه الشهير و أساء ذلك بسبب اعتماد نموذج الهرم نفسه في التحليل اذ ان النماذج الهندسية ابعد ما تكون عن المساعدة في تحليل الظواهر الانسانية ، و ليس أدل على ذلك من النموذج الهندسي الطوابقي الماركسي في البناء التحتي والبناء الفوقي.
-23- ان نمط الحياة الاجتماعي التاريخي العام لأي مجتمع لا يتطور جذريا الا نتيجة تحولاته و تفاعلاته و تناقضاته الداخلية و الخارجية ولا يترك مكانه الا اذا تظافرت عوامل اجتماعية موضوعية و ذاتية كافية تجعل من الضروري على الناس تغييره لتجديد اسلوب تلبيتهم للحاجيات الاجتماعية. ان تفسير التحول الاجتماعي التاريخي العام لا يجب ان ينسجن في البحث عن أولوية الموضوعي أو الذاتي لأن الموضوعي الاجتماعي هو الذاتي المتموضع و لأن الذاتي هو جزء بالتالي من الموضوع الذي ندرس تحوله. لا بد اذن من تظافر العوامل الذاتية و الموضوعية لحدوث التحول و يبقى الانسان هو صانع تاريخه ، ولو في ظروف لم يخترها كما قال ماركس. و لكن لأن الناس يصنعون تاريخهم في ظروف لا يختارنها لا بد من اضافة أخرى: ان المجتمع الذي لا يستطيع اختيار ماضيه يمكن كذلك أن يكون ميزان القوى بينه و بين غيره من الجتمعات لغير صالحه و يكون الأجنبي أقوى و يفرض هو وجهة التحول و عندها لا بد من الاقرار بجدلية جديدة بين الداخلي و الخارجي أيضا و عدم الانسجان في تعريفات محنطة للجدل نفسه بوصفه " الصراع في ذات جوهر الأشياء". ان التحولات الجذرية لا تقع نتيجة صراع قوى الانتاج مع علاقات الانتاج بل بين قسمين من البشر الفاعلين ضمن علاقات الفعل الاجتماعية التاريخية وما ارتبط بهما من طاقات ومؤسسات و قوانين و قيم .و يظهر ذلك من خلال النزاع حول المحافظة على العلاقات القديمة وما ارتبط بها من المؤسسات و القوانين و الأفكار و يلعب الصراع حول السلطة بوصفها المؤسسة المركزية للمجتمع دورا مركزيا من أجل التحكم في المجتمع بالقوة وأو بغيرها و من أجل توجيهه اللاحق.
-24- ان التحولات الاجتماعية فريدة من نوعها و لذلك فان دراستها تتطلب ادراكا لفرادة وخصوصية العلوم الانسانية و الاجتماعية التي يجب الا تحاول تقليد لا العلوم الطبيعية الاختبارية و لا العلوم النظرية العقلانية –الرياضيات- أصلا ،بل ان تخط طريقها الخاص بمحاولة التوفيق بين التفسير و التفهم لأن موضوعها هو الانسان الذي هو الذات الفاعلة المتموضعة و الواعية و بالتالي الساعية الى دراسة ذاتها كموضوع علمي. ان نموذج العلوم الطبيعية قاتل للعلوم الانسانية ، حتى لو كان "علم الحياة" العزيز على ماركس. ان ذلك النموذج يؤدي حتما الى التحليل المادي العضوي للظاهرة الاجتماعية غير العضوية الا في جانب منها فقط. كما يؤدي الى داروينية اجتماعية ثورية" لا علاقة لها بآليات التحول الاجتماعي التاريخي التي لا تعمل حسب قانون الانتخاب الطبيعي و الـاقلم و تثبيت الخواص الدارويني بل وفق قوانين أخرى للفعل الاجتماعي. ان الداروينية الاجتماعية الثورية الماركسية لا تعي مثلا ان البروليتاريا ، النوع البشري المعول عليه في المستقبل بحكم ميله الى التكاثر بسبب نظرية التفقيرو البلترة ، هي في الواقع بصدد الانقراض لأنها ، كما يقول ألان توران عن حق، طبقة تاريخية هي الأخرى ، هي" شكل تاريخي من الطبقات العاملة"، يمكن ان ينقرض بسبب التطور الاجتماعي التاريخي للعمل نفسه.ان نسبة العمال البروليتاريين ، حسب التصور الماركسي التقليدي، هي الآن في انخفاض في الدول المتقدمة بسبب الأتمتة و ان عمال القطاع الثالث الخدماتي يحتلون الصدارة.ان البروليتاريا قد تعرف مستقبلا مصير جمهور الفلاحين و ان الماركسية يمكن اعتبارها شعبوية بروليتارية بهذا المعنى.
-25- ان التحولات الاجتماعية التاريخية للمجتمعات تعرف جدلية التشابه و الاختلاف و بالتالي لا تتم بنفس الطريقة التي تتم بها التحولات الطبيعية.ان التاريخ البشري يخضع لقوانين عامة – منها أهمية العامل الاقتصادي...- و لكن انقسام الانسانية الى مجتمعات وشعوب و أمم مختلفة ، لم تنخرط في التاريخ العالمي الا بعد الحرب العالمية الأولى و من مواقع مختلفة، يجعل تحولها يحمل العام و الخاص في نفس الوقت .و قد توجد بذلك اختلافات مهمة في طرق التحول التاريخي نفسها. ان ذلك يرجع الى خصوصية الاجتماع التاريخي عند الشعوب بما في ذلك علاقاتها بالطبيعة .لذا يمكن لمجتمع ما أن يتحول بصورة خاصة حسب الظروف الطبيعية أو الديمغرافية اوالسياسة أو الفكرية أو غيرها. ان التصورات التطورية التي لا ترى الا القوانين الكونية الانسانية و تهمل الاختلافات بين المجتمعات ليست أقل خطرا على العلوم الانسانية من تلك التي ترفض وجود قوانين اجتماعية تاريخية أصلا. ان الاجتماع الانساني له قوانينه العامة و الخاصة و لا التصورات التطورية العامة ، و من بينها الماركسية، ولا النظريات الاجتماعية التي ترفض البحث عن تلك القوانين أصلا ، بحجة الاهتمام بالتحليل العيني للمجتمع في فرادته، قادرة على الوفاء لضرورة الربط الجدلي بين العام و الخاص في التاريخ الانساني.
-26- ان التاريخ الاجتماعي هو تاريخ البشر و ممارساتهم المختلفة ضمن علاقاتهم الاجتماعية التاريخية وضمن كل مكونات نمط الاجتماع التاريخي الكلي الأخرى للمجتمع في علاقته بالمجتمعات الأخرى. ان التحول التاريخي يقع ضمن علاقات التأثير والتراكم و التناقض الداخلية و الخارجية بين البشر أنفسهم و هم الذين ينقسمون الى أقسام تريد المحافظة على القديم و أخرى تريد تغييره. ولذلك فان تفسيرالتحولات التاريخية يجب ان ينطلق من المقدمات الأربعة الضرورية التالية . الأولى هي ان التحول التاريخي هو صنع البشر أنفسهم .و الثانية ان التحول هو تحول اجتماعي كلي و عام تؤثر فيه كل مظاهر الحياة الاجتماعية و القوى الاجتماعية و الثالثة انه يمكن ان يكون ثورة و تقدما أو ثورة مضادة ارتدادية. و الرابعة ان التحول يتأثر لا محالة بعلاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى . ان النظرية الماركسية ، وليس بعض تحليلاتها الخاصة أحيانا، فسرت التحول التاريخي للمجتمع تفسيرا منقوصا في هذه المستويات الأربعة اذ تم تعريف التحول التاريخي و كأنه استجابة حتمية من البشر لتحول موضوعي خارج عن ارادتهم في البداية و لكنهم يعونه و يواصلونه. كما فسرت التحول فقط من زاويته الطبقية تحديدا و تم تناسي العوامل غير الطبقية المرتبطة بالمجموعات و الجماعات غير الطبقية ودورها في التاريخ ومن الناحية الثالثة الثالثة تم التفسير من الزاوية الثورية التقدمية فقط بتركيز التحليل على ما يسمى "الوضع الثوري" و رابعا حصرت عملية تحليله في عناصر داخلية مرتبطة بالعلاقة بين قوى الانتاج و علاقات الانتاج الاجتماعية و ماارتبط بها من صراع طبقي داخلي تحديدا.
-27- ان الطبقة الاجتماعية كي تنتقل من "طبقة في ذاتها" الى "طبقة لذاتها" الى "طبقة حاكمة" تحتاج ضرورة الى المثقفين من ناحية و الى حلفاء آخرين من ناحية أخرى و الى تحييد من لا يقبل التحالف ثالثا ، الخ، حتى تنجح في مجتمع أكثر تعقيدا من كونه مجرد مجموعة طبقات. ان التاريخ يتحول الى صراع اكبر و اعقد من الصراع الطبقي. منذ انقراض المجتمع القبلي البدائي و ظهور الملكية الخاصة و الطبقات اصبحت هذه الأخيرة ذات أهمية خاصة في التركيبة الاجتماعية و لها دور هام في التحول التاريخي.ان الطبقات الاجتماعية شكل هام من الوجود الاقتصادي الاجتماعي و لكنها توجد متشابكة مع أشكال أخرى بالضرورة مثل الاجتماع العائلي والقبلي و الطائفي و العرقي و الجنسي و العمري و الجهوي و القومي. و ان فعل الطبقات الاجتماعية في المجتمع و تاريخه يتفاعل حتما مع الأشكال الأخرى. ان التاريخ يمزج بين هذه العناصر بالضرورة و يعطينا من الحالات ما لا نهاية له في الارتباط الطبقي-العائلي و الطبقي –القبلي و الطبقي –العرقي و الطبقي –الجنسي و الطبقي الجهوي،الخ. ان الممالك و الامبراطوريات و الدول العنصرية و الدينية الطائفية هي خير دليل. ان الاكتفاء بالعامل الطبقي في تحليل تركيبة المجتمع و تاريخه تقصير علمي يؤدي حتما الى تقصير عملي في السياسة مثلا. ان هذا الأمر لا يجب بالطبع ان يتحول الى نقيضه برفض دور الطبقات في التحليل و الاكتفاء بنظريات مجموعات الضغط أو بدور العباقرة من الأفراد ،الخ. ان التاريخ أعقد من هذا و ذالك. في المجتمعات الطبقية يتم التحول التاريخي بواسطة الحركات الاجتماعية الطبقية الكبرى ( ماركس/توران ) التي تستند الى تحالفات تاريخية بين طبقة اجتماعية- أو طبقات- و قسم من المثقفين بحيث يتكون بالضرورة تحالف طبقي يشبه "الكتلة التاريخية" ( غرامشي) من طبقات و وشرائح اجتماعية مختلفة و تكون لها ايديولوجيا (بالمعنى المحايد عند كارل مانهايم مثلا)، بمعنى نسق من الأفكار ، و ليس بالمعنى السلبي الماركسي القديم الذي تجاوزه اللينينيون أنفسهم بالحديث عن الايديولوجييا الماركسية اللينينية، و تكون هذه الايديولوجيا مستقاة من الثقافة الاجتماعية العامة و لكنها موجهة سياسيا و مدعمة ببرنامج سياسي في ما يمكن تسميته بالمشروع الاجتماعي التاريخي ( سارتر – توران) الذي يتطلب تنظيما- او تنظيمات- و نضالا لتحقيقه بالوصول الى السلطة ،على انقاض التحالف الطبقي الاجتماعي السابق ،و استعمالها للتحكم في اعادة تنظيم اسلوب الحياة الاجتماعي التاريخي برمته.( توران) و لكننظريات التحول الاجتماعي ،اذا أرادت فهما شامى للتحول ، يجب عليها ان تكون قادرة على تفسير احتمالات الانسحاق و الارتداد الاجتماعيأيضا حتى لا تسقط في النزعة التطوري الخطية. لذلك لا بد من اضافةان يمكن ان تقع الثورات المضادة اذا وصل المجتمع في مرحلة معينة الى أزمة ثورية مضادة ،وليس أزمة ثورية، وذلك عند العجز عن ايجاد القوى الثورية لمخرج من الأزمة و عجز القوى الحاكمة وقتها عن الاستمرار في الحكم في نفس الوقت. في هذه الحالة تقوم القوى المحافظة بلعب الدور الأساسي في التاريخ و تلعب الحركات الاجتماعية التاريخية المحافظة دورها في اعادة صياغة نمط الحياة الاجتماعي التاريخي بطريقة تقليدية رجعية تستوعب حالة انسحاق قوى التقدم الثورية و عجز القوى الحاكمة و الاصلاحية وذلك باعادة صياغة نمط الحياة الاجتماعي التاريخي وفق ايديولوجيا و مسروع سياسي رجعين. من ناحية أخرى ، وارتباطا بالعامل الخارجي، يمكن نظريا و تاريخيا لمجتمع متقدم ان ينهزم عسكريا أمام مجتمع متخلف عنه ، بسبب أخطاء عسكرية أو بسسب انخرام التوازن الديمغرافي ،الخ كما أشار ماركس وأنجلز نفسهما لهذا في "الايديولوجيا الألمانية"، و في هذه الحال يتراجع ذلك المجتمع المتقدم الى الوراء ، و لو الى حين على الأقل. ان تفسير التحول التاريخي لا يجب أن يرتبط فقط بما سماه ماركس "نضج كل القوى الانتاجية التي يمكن أن تتطور في رحم التشكيلة القديمة" في المجتمع، هكذا بصورة عضوية و تقدمية حصرا. في التحول التاريخي يجب التحليل بتشابك ما يكفي ( وليس كل) من من العوامل الموضوعية و الذاتية التي تجعل البشر يرتدون أو يثورون على العلاقات القائمة و كامل نمط الحياة الاجتماع التاريخي للمجتمع المتفاغل مع غيره من المجتمعات.
-28- ان التاريخ البشري أغنى من ان يلخص في لوحات ثلاثية( كونت) او خماسية ( الماركسية اللينينية) أو غيرها. لكن التصنيف الماركسي، ما قبل اللينيني و غير اللينيني- الستاليني، ثري جدا ويجب الاستفادة منه بسبب اهمية الاقتصاد الخاصة .كما يجب الاستفادة من تصورات أخرى أهمها حسب رأينا محاولة جورج غورفيتش الفوضوي الروسي الفرنسي الذي حاول مثلا ، داخل نمط الحياة الاجتماعي الرأسمالي نفسه التفريق بين الراسمالية الديمقراطية و الرأسمالية الفاشية و داخل المجتمعات الاشتراكية بين الاشتراكية البيرقراطية ( الاتحاد السوفياتي) و الاشتراكية الديمقراطية ذاتية التسيير( يوغسلافيا) ،الخ. ان المهم في هذا هو محاولة اعادة الاعتبار مثلا لأسلوب الانتاج الآسيوي (ماركس) والاستفادة من تصورات مجددة مثل تصنيف سمير أمين "لنمط الانتاج الخراجي " و كذلك تجنب الاكتفاء بالتحقيب الاقتصادي دون ادخال عوامل أخرى قد تلعب أدوارا هامة في مراحل محددة من تاريخ بعض المجتمعات و منها العوامل السياسية ( النزعة الامبراطورية ولكن ليس نظرية" الاستبداد الشرقي" سيئة الذكرعن فيتفوغل ) والعوامل العرقية والقومية و الدينية (في الفاشية و العنصرية وفي الصهيونية وغيرها) أو غيرها .
-29- ان المجتمعات البشرية لم تعرف تاريخا واحدا ، حسب هذا المقياس ، بل عرفت تواريخ مختلفة نسبيا تخضع عموما لنفس القوانين و لكنها تطورت بطرق مختلفة و نقترح التفكير في فرضية تقسيم التاريخ االبشري القديم ( قبل العصر الحديث الذي بدأ مع الاستعمار الكولومبي - ك كولومب) الى الطرق الأساسية التالية: - طريق التطور التاريخي الأوروبي ،عرف تقريبا المسار الخماسي الماركسي اللينيني من البدائية الى العبودية و تميز بمروره بالاقطاعية ثم بوصوله الى الرأسمالية ثم محاولات تاريخية لبناء الاشتراكية. لكن هذا التحقيب لا بد له من ادخال عوامل أخرى في التحليل كتلك التي استعملها غوريتش. - الطريق الآسيوي الذي يغطي المنطقة الممتدة من المغرب الأقصى الى اليابان ،قبل ثورة الميجي، تقريبا و الذي عرف البدائية و العبودية و أسلوب الحياة الاقتصادي الاجتماعي الاسيوي حيث الأهمية الخاصة للدولة المركزية و العامل القبلي و الديانات الكبرى و ذلك ارتباطا حتى بالعوامل الجغرافية الصحراوية أوالسباسبية،الخ. و هذا الطريق توقف مع التدخل الاستعماري الأوروبي و اندمج بحكم التبعية في الرأسمالية العالمية. - الطريق الأفرو-هندو أمريكي و الأسترالي حيث بقيت أغلب المجتمعات في المرحلة البدائية، مع تجارب خاصة في بعض دول الانكا و المايا سرعان ما انقرضت ،و حيث لعبت العزلة عن باقي البشرية والطبيعة الاستوائية أو الجليدية دورا على ما يبدو في استمرار النزعة التعاونية البدائية اما لوفرة الحاجيات الغذائية و اعتدال الطقس ( في المناطق القريبة من خط الاستواء) واما، على العكس تماما ، بسبب قسوة الظروف الطبيعية الجليدية، خاصة في الشمال الأمريكي، والتي تحتم اما العمل و الحياة الجماعيتين أو احتمال الانقراض البشري التام.و قد انتهت هذه الطريق بالتدخل الاستعماري الأوروبي. بعد هذه الطرق الأولى و بسبب الثورة الصناعية والاكتشافات الجغرافية و الاستعمار الحديث ظهرت طرق جديدة أو فرعية لعل أهمها: - الطريق الأمريكية: و هي خليط من الطريق الأوروبي بعد ظهور الرأسماية و الطريق الأفرو-هندي و ذلك تم في الولايات المتحدة و كندا و استراليا و زيلندا الجديدة حيث تم تصادم الأسلوب البدائي المحلي مع الأسلوب الرأسمالي الاستعماري الذي التجأ الى العبودية –من افريقيا- في مرحلة أولى ليقفز على المرحلة الاقطاعية و يمر مباشرة الى الرأسمالية مع ابادة شبه تامة للسكان المحليين و تعويضهم بشعوب جديدة. - الطرق السوفياتية –الصينية حيث انتقلت بعض الشعوب من راسمالية ضعيفة التطور أو من الآقطاع او من الأسلوب الآسيوي الى تجارب ديمقراطية شعبية أو اشتراكية ويكاد يعود الآن تماما الى الرأسمالية العالمية. - الطريق العالمثالثي حيث حاولت بعض الدول تجنب الخيارين الأوروبي- الأمريكي و السوفياتي وقامت بابتداع "الطريق الثالث " الذي تأثر بالتجرية اليوغسلافية وانتقلت الدول الأخرى نحو التبعية الواضحة للرأسمالية أو للاشتراكية السوفياتية.
ان التاريخ العالمي يعرف الآن مرحلة العولمة التي لم تقض تماما على آثار الطرق السابقة و المستقبل قد يخفي لنا سيناريوهات غاية في الطرافة و الخصوصية أيضا.
-30- ان المستقبل ما زال أمامنا و لكن ليس بمنطق نهاية التاريخ الهيغلي الفوكويامي، و الذي قبل به حتى ألان توران ، القريب من الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، في كتابه " نحوبراديغم جديد" و ذلك باعلان بداية تارخ "الذات" الفردية و نهاية الاجتماعي و القومي و السياسي القديم حسب رأيه . كما ان المستقبل ما زال أمامنا ولكن ليس بمنطق نهاية "ماقبل التاريخ" الماركسي أيضا. ان احتمالات عديدة توجد أمام التاريخ البشري ذكر أهمها ادغار موران في كتابه "سوسيولوجيا" مثلا. اننا أمام احتمال النهاية الكارثية البيئية و /أو العسكرية .كما اننا أما احتمال الردة البربرية لما يشبه القرون الوسطى. كما ان احتمال تطور انساني جديد ، يستفيد من ايجابيات الرأسمالية و الاشتراكية على حد السواء، وارد . كما نضيف ، وهذا قطع نهائي آخر مع نظرية "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" اللينينية التي بها جوانب هامة في دراسة تحولات الرأسمالية و لكنها حاولت التحايل على قدرة الرأسمالية على تجديد نفسها بتأجيل نهايتها لاغير، اننا ربما بصدد المرور نحو عصر اجتماعي تاريخي جديد يتميز بسيطرة العمل الأوتوماتي و الفكري نهائيا و لكن في علاقات جديدة تتجاوز الرأسمالية الكلاسيكية الى شكل تناقضي و لكن جديد لا أحد يعرف سماته الدقيقة الآن... ان الراسماية كنظام اجتماعي تاريخي تهيمن الآن و لكن وسط تنوع كبير في الحياة لم تقض عليه النزعة الكونية للعولمة بل ربما عمقته بصراعها الهمجي ضده.ان التناقضات و الاختلافات تتواصل في كل الميادين وليس فقط بين المتروبولات و البلدان الطرفية التابعة بل و بين الجميع تقريبا. ان التاريخ لا يسير حتما لا نحو نهاية سعيدة و لا نهاية مأساوية. انه سيكون ، كما كان دائما، محصلة ما يفعله البشر بالطبيعة و ببعضهم البعض و هو لذلك يبقى مفتوحا على عديد الاحتمالات.و هو لذلك يتطلب مقاربة تستفيد من كل النظريات لفهمه لمن يريد الاكتفاء بالنشاط العلمي ، والى ذلك و معه كل الطاقات لتحويله، لمن يريد ممارسة النشاط السياسي.
*** خاتمة:
في الأطروحة الثانية حول فورباخ كتب ماركس: "إن معرفة ما إذا كان التفكير الإنساني له حقيقة واقعية ليست مطلقا قضية نظرية ، إنما هي قضية عملية ؛ ففي النشاط العملي ينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة ، أي واقعية و قوة تفكيره ووجود هذا التفكير في عالمنا هذا . والنقاش حول واقعية أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملي إنما هو قضية كلامية بحتة ." وفي أطروحته الثامنة أضاف:" إن الحياة الاجتماعية هي بالأساس حياة عملية . وكل الأسرار الخفية التي تجر النظرية نحو الصوفية ، تجد حلولها العقلانية في نشاط الإنسان العملي وفي فهم هذا النشاط ." ان التاريخ" العملي" أعطى ، مؤقتا، كلمته في الماركسية و يبقى أن نضيف أن التاريخ النظري هو أيضا تاريخ ممارسة علمية عملية تهدف الى "فهم ذلك النشاط" الأول ، كما انتبه لذلك ألتوسير. و لكن ألتوسير، الفيلسوف الماركسي العظيم ، مثلما فعل ماياكوفسكي ،الشاعرالشيوعي الروسي العظيم ، انتحر. و يا ليتهما لم يفعلا. يا ليت ماياكوفسكي هاجرو ترك روسيا اللينينية كما فعل غورفيتش الثوري الفوضوي الروسي مثلا، و ياليت ألتوسير هجر الفكر الشيوعي كما هجره ادغار موران مثلا ، لكنهما قد يكونان خافا القتل أو التخوين ...ربما. باسم العلم و باسم العدالة الاجتماعية تمت ابادة بعض من خيرة المفكرين الماركسيين من قبل رفاقهم أنفسهم .و باسمهما تم تخوين قسم آخرمنهم .كأننا في محاكم تفتيش وضعية تريد المحافظة على وحدة و نقاء العقيدة و المجتمع. كتب لينين في 1905 ان :" ...الوحدة في النضال الثوري الذي تخوضه الطبقة المقهورة من أجل خلق فردوس في الأرض أهم بالنسبة لنا بكثيرمن وحدة الرأي البروليتاري حول الموقف من فكرة الفردوس في السماء" ( الاشتراكية و الدين 1905) . و كأنه يقول: نعم للتعدد الديني السماوي ، مؤِقتا، و لكن في المقابل لا بد من الوحدة النظرية و السياسية و التظيمية التامة من أجل تحقيق الجنة الأرضية. هنا جوهر الداء: الدوغمائية. على العكس من ذلك تماما ، لا بد من التسامح و الانفتاح العلميين في نفس الوقت ولا بد من البحث عن تصورات سياسية انسانية جديدة و "قبلها" لا بد من الاستفادة من خير ما قدمه المجددون في الماركسية نفسها و في العلوم الانسانية عموما. ان تجديدا جذريا يتجاوز المادية التاريخية و يساعد على البحث عن علم للانسان الاجتماعي التاريخي الذي يحاول التأليف بين المعارف الانسانية أصبح ضرورة. ان الاكتفاء بالعلوم الفرعية المتخصصة أو ادعاء تكوين علم فوق العلوم كلاهما ضار. لا بد من المراوحة بين التأليف الفلسفي و التفكيك العلمي ، بين تطوير المعرفة العلمية المختصة و القدرة على تأليف فلسفي علمي ، مؤقت و منفتح و قابل للدحض دون السقوط في ردود الفعل على الأحادية الماركسية بخلق أحادية أخرى مهما كان نوعها. لا بد من الانفتاح على أفضل مفكري العصردون السقوط في احادية جديدة كما فعل دارندورف بالاتجاه من الاقتصادي الى السياسي و التركيز على اشكالية السلطة و كما فعل هابرماس بالاتجاه من الاقتصاد نحو نظرية الفعل التواصلي و كما فعل كاستورياديس ، مع دوران، بالاتجاه نحو الخيالي و كما فعل بورديو و ميله المتأخر باتجاه راسمال الرمزي او كما فعل الان توران بالاتجاه نحو الذاتي أو ادغار موران بالاتجاه تقريبا نحو الآناسي بحجة التحليل الدائري،الخ. ان تجاوزماركس لا يهدف الى " قتل الأب" السلبي بقدر ما يهدف الى الفطام الايجابي من الماركسية للاستفادة منها و التعايش معها ولعل جوزيف برودون خير من نختم به هنا، و لا يستنتجن أحد انها دعوة الى تعويض الماركسية بالفوضوية لأن هذا ليس هدفنا مع اننا ندعو الى الاستفادة من التراث الفوضوي الفلسفي (برودون الديالكتيك المتتابع و فايراباند مثلا) و السياسي . لعل جوزيف برودون هو أول من انتبه الى خطورة الماركسية العقائدية منذ أواسط أربعينات القرن التاسع عشر. فعندما دعاه ماركس الى عمل مشترك وافق مشترطا، كاتبا في رسالة شهيرة وجهها الى ماركس سنة 1846، ما معناه : " ... فلنبحث معا، اذا أردتم، عن قوانين المجتمع و عن طريقة تحققها و عن المسار الذي علينا اتباعه لاكتشافها...لكن يجب علينا ان نبقى علماء منفتحين و متسامحين ...ولايجب ان نقوم بما قام به لوثر مع الكاثوليكية، أي تأسيس تيولوجيا بروتستانتية دينة دوغمائية جديدة على أنقاض التي انتقدها.. انه لا يجب تحويل فكرنا الى دين دوغمائي ...ان البروليتاريا ليست في حاجة الى دين جديد، حتى لو كان دين المنطق و العقل..." يقول ادغار موران في وصف تمشيه المنهجي:" ستكون الدائرة عجلتنا و ستكون طريقنا لولبية" أما نحن فنقول : سيظل الجدل منهجنا و ستكون طريقنا علمية و انسانية.
بيبليوغرافيا توجيهية :
1- Le dictionnaire des sciences humaines, ss .dir de J-F Dortier, Ed. sciences humaines, paris et Delta, Beyrouth, 2004. 2- Dictionnaire de sociologie, Boudon et autres, Larousse- France loisirs, Paris, 1998. 3- Dictionnaire de la sociologie Universalis, Encyclopédie Universalis- Albin Michel, Paris, 1998. 4- Sociologie contemporaine, ss .dir de J-P Durand et Robert Weil ,Vigot,1997. 5- Introduction à la sociologie générale, trois livres, Guy Rocher, HMH-Seuil, paris, 1968. 6- Les sociologies contemporaines, Pierre Ansart, Seuil, Paris, 1990. 7- Sociologie, Edgar Morin, Seuil, Paris, 1994. 8- Pour entrer dans le 21ème siècle, Edgar Morin, Seuil, Paris, 2004. 9- Un nouveau paradigme…, Alain Touraine, Fayard, Paris, 2005. 10- بيرم ناجي، نقد الأصولية الحمراء: من أجل تجاوز مادي و جدلي للماركسية. مع ملحق بعنوان :حول رسائل أنجلز الأخيرة في المادية التاريخية. الحوار المتمدن ،2012
#بيرم_ناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد الأصولية الحمراء ...ملحق حول رسائل أنجلز في المادية التا
...
-
الجبهة الشعبية في تونس : مساندة نقدية. ( رسالة مفتوحة الى ال
...
-
نقد الأصولية الحمراء : نحو تجاوز مادي و جدلي للماركسية.
-
الاسلاميون و المقدس الديني:نقد الاستبداد المقدس ( تونس مثالا
...
-
تونس : من أجل جبهة جمهورية ديمقراطية مدنية وتقدمية.
-
حركة النهضة الاسلامية التونسية: دراسة نقدية.
-
ضد التيار في تونس: قوة ثالثة جديدة صعبة و لكنها ممكنة ( رؤية
...
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|