أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث عشر: (أثر عقيدة التجسد المسيحية في إشاعة الفكر التكفيري بين المسلمين)















المزيد.....



السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث عشر: (أثر عقيدة التجسد المسيحية في إشاعة الفكر التكفيري بين المسلمين)


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3871 - 2012 / 10 / 5 - 19:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كنت قد وعدت في الفصل السابق أن يكون موضوع هذا الفصل لمناقشة تساؤل: (لماذا لم يتم حفظ الأحاديث كما تم حفظ القرآن؟، ومناقشة قضية يقينية التواتر وظنية الآحاد في رواية القرآن والأحاديث). ولكن وجدت أن قضية: (أثر عقيدة التجسد المسيحية في إشاعة الفكر التكفيري بين المسلمين) قد طالت واستحوذت على أغلب صفحات هذا الفصل، فرأيت أن أفرد لها هذا الفصل، أما قضية حفظ الأحاديث سنفرد لها الفصل القادم إن شاء الله.

ليس من شك لدى أي باحث جاد متجرد موضوعي في أن معتقدات "النصارى" بشقيها "الخلقيدوني" و"اللاخلقيدوني" أو "الأرثوذكسي" و"الكاثوليكي" وخاصة العقيدة الإفكية: "تجسد الله في المسيح بن مريم"، كان لها بالغ الأثر والتأثير في أفكار ومعتقدات فقهاء الدين المسلمين الأوائل، منذ العقود الأولى للإسلام عقب وفاة النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، وعقب فتوح البلدان على يد جيوش المسلمين واختلاط المسلمين بغير المسلمين، وبدء التلاقح الفكري والفلسفي والعقائدي بين فقهاء المسلمين ورجال دين الملل والأديان الأخرى، وخاصة رهبان النصارى، حيث قد تأثر الفقهاء والمفسرون المسلمون الأوائل بتلك العقائد، بل قاموا في حين غفلة منهم بابتلاع عقائد "النصارى" "التجسدية"، مما أدى إلى وقوع البلاء والبلايا بالمسلمين وبالفكر الإسلامي عامة، وأخذوا في إلباسها عنوة للعقائد والفكر الإسلامي، فحدث ما حدث، وانقسم المسلمون إلى فرق وشيع وأحزاب يكفر بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا. وظلت تلك العقائد "التجسدية" تفعل فعلها الإفكي في معتقدات وأفكار جميع طوائف وفرق المسلمين حتى يومنا هذا. وعليه فكان لابد من بحث هذا الموضوع وخاصة في الجانب العقائدي، للوقوف على جذور هذه الحقيقة التي ربما تخفى على كثير من المسلمين وخاصة على المشتغلين بقضايا الفكر الإسلامي، لمحاولة كشفها وتنقية وتطهير عقائد وأفكار المسلمين من إفكها ورجسها.

ونتناول في هذا الفصل العناوين التالية:

 الفكر القرآني وفكر الخوارج.
 عقيدة تجسد الله في المسيح بن مريم - بداياتها وماهيتها وأسبابها.
 مبررات "الكاثوليك" في وراثة خطيئة آدم وحواء.
 مبررات "الأرثوذكس" في وراثة خطيئة آدم وحواء.
 تعدد عقائد "النصارى" في "تجسد الله" في "المسيح بن مريم".
 تقنين عقيدة "تجسد الله" عبر المجامع المسكونية.
 الفرق بين "الطبيعة الواحدة" و"الطبيعتين" في "يسوع المسيح".
 أولا: عقيدة "الطبيعة الواحدة" عند "الأرثوذكس".
 مبررات المؤمنين بعقيدة "الطبيعة الواحدة".
 ثانيا: عقيدة "الطبيعتين" عند "الكاثوليك والبروتستانت".
 مبررات المؤمنين بعقيدة "الطبيعتين".
 نصيحة واجبة.
 علاقة عقيدة "تجسد الله" بالفرق الإسلامية.
 "التجسد" في فكر الخوارج.
 "التجسد" في فكر الشيعة.
 "التجسد" في عقائد أهل السنة والجماعة.
 "التجسد" في فكر المعتزلة.
 "التجسد" في فكر الصوفية.
 "التجسد" في فكر التيارات الإسلامية السياسية "التكفيرية" المعاصرة.
 "التجسد" في فكر القرآنيين.

## الفكر القرآني وفكر الخوارج:

الفكر القرآني ما هو إلا حلقة جديدة في سلسلة حلقات أفكار التيارات الإسلامية التكفيرية المتوالية منذ ظهور فرقة (الخوارج) في النصف الأول من القرن الهجري الأول، مرورا بفرقة (الشيعة)، وفرقتي (الأشعرية والماتريدية) الملقبتين بـ(أهل السنة والجماعة)، وغيرها من الفرق التاريخية التي حملت فكراً تكفيرياً، مرورا بجماعة "شكري مصطفى" (التكفير والهجرة)، وغيرها من الجماعات الإسلامية السياسة التي حملت أفكارا تكفيرية إما للحكام وأنظمتهم وجنودهم، وإما تكفيرا للمجتمعات الإسلامية بأكملها، إلى أن وصلنا إلى الإصدار الأخير للأفكار التكفيرية متمثلا في فكر (القرآنيين).

قلت من قبل في هذه الدراسة في فصل: (تاريخ إنكار السنة ونشأة القرآنيين) أن الفكر القرآني هو فكر تكفيري إقصائي عدائي منعزل، لا يقل عن فكر (الخوارج) وفكر جماعة (شكري مصطفى) (التكفير والهجرة) تكفيرا وإقصاءً وعدائية وعزلا ومفاصلة للمجتمعات الإسلامية ولجميع المسلمين غير المعتنقين للفكر القرآني، حتى وإن ارتدى في ظاهره اليوم رداء (العلمانية) و(الليبرالية) كضرورة للمرحلة. وقولي هذا ليس تجنيا مني عليهم، فالمنطلقات الفكرية والعقيدية لأفكارهم هي ما تؤيد هذا وتؤكده، فلو عدنا تاريخيا إلى أفكار الخوارج، ووقفنا على جذورها ومنطلقاتها العقيدية الأم، لوجدنا أن أفكار الخوارج الأساسية نبتت من خلفية اعتقادية تقوم على عقيدة: (تجسد الذات الإلهية في القرآن الكريم وأحكامه وتشريعاته). وبناءً على هذا المعتقد التجسدي، رأى الخوارج أن القرآن الكريم وأحكامه وتشريعاته مطلقة، من حيث هي كلام الله المطلق، وعليه فيكون حتما على ما هو نسبي (أفعال البشر)، أن يتفاعل مع المطلق (أحكام الله وتشريعاته) على إطلاقيته، ومن يحاول أن يخضع ما هو مطلق لما هو نسبي فهو مشرك كافر بالله. هذا المعتقد انطلق من فكرة الاعتقاد بأن المطلق هو (الله)، وأن كل ما يصدر عن (الله) من كتب ورسالات وأحكام وتشريعات وأوامر ونواهي، وما ينبغي أن يكون له ويوجه إليه من طاعة واتباع وعبادة وشعائر ونسك هو مطلق كذلك بنفس مطلقية الإله ذاته، فينبغي على ما هو نسبي (البشر) أن يوفقوا أوضاعهم وظروفهم ويخضعونها لإطلاقية ما هو مطلق، وعكس هذا يكون هو الكفر والشرك بعينه، طبقا لهذه المعتقدات. وتفصيل هذا سيأتي بعد قليل.

لكن ما يؤسف له أن هذه العقيدة "التجسدية" التي تقوم على أن (حكم الله) و(شريعة الله) و(كلمة الله) و(روح الله) و(كتاب الله) هي جزء من ذات الله "تجسد" في كتبه ورسالاته وكلامه وأحكامه قد تسربت من المعتقدات "النصرانية" في "المسيح بن مريم" إلى معتقدات وأفكار المسلمين في النصف الأول من القرن الهجري الأول عقب وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وفي أعقاب الفتوحات العسكرية لكثير من البلدان، والاختلاط والتأثر بالثقافات الوثنية المختلفة لشعوب تلك البلدان، فتأثرت أفكار الخوارج بتلك المعتقدات واعتقدوا أن محض التحاكم أو الحكم لأي شيء ولأي أحد دون الله هو بمثابة عبادة لغير الله وطاعة لغير الله واتباع لغير الله، بالضبط كما هو فكر القرآنيين والتيارات الإسلامية التكفيرية. ومن ثم اعتبروا كل هذا شركا وكفرا بالله وفاعله مشرك كافر بالله. وفي الحقيقة هذه المعتقدات "التجسدية" لم تقتصر على الخوارج فحسب بل تسربت إلى أفكار كافة طوائف وفرق المسلمين بلا استثناء، سواء الفرق والطوائف التاريخية القديمة أو الطوائف والفرق الإسلامية الحديثة والمعاصرة، بما فيها بالطبع تيارات ما يسمى بـ (الإسلام السياسي)، وتيارات الفكر "القرآني" على اختلاف توجهاتها الفكرية. بل إن هذه المعتقدات "التجسدية" هي التي أدت وبشكل قطعي إلى تفرق وتمزق وتشرذم الأمة الإسلامية واختلافها في دينها وفي أفكارها وإلى تكفير بعضهم بعضا.

وللبرهنة على هذه الحقيقة القطعية المؤكدة التي ربما تخفى على معظم معتنقي أفكار التيارات الإسلامية في الماضي والحاضر لابد من عرض وتفصيل وتحليل معتقد (التجسد الإلهي) عند طوائف وفرق النصارى كي نقف على كيفية تسرب هذه الأفكار والمعتقدات إلى أفكار وعقائد كل الطوائف والفرق الإسلامية منذ العقود الأولى للإسلام، لإدراك مدى التشابه والتطابق بين عقائد فرق وطوائف المسلمين وعقائد فرق وطوائف النصارى، وفيما يلي عرض مفصل لهذه العقيدة:

## عقيدة تجسد الله في المسيح بن مريم - بداياتها وماهيتها وأسبابها:

يعتقد "النصارى" بكافة طوائفهم أن الله تجسد في المسيح بن مريم فصار الرب "يسوع المسيح" الذي صُلب ومات ليكفر الخطيئة الأزلية التي ارتكبها آدم وحواء بعدم التزامهما بوصية الرب، طبقا لما اختلقوه مما جاء في العهد القديم: (ها أنذا بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي). (مز50: 7)، و (من يأتي بطاهر من نجس لا أحد). (أيوب14:3), وطبقا لقول بولس الرسول: (من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس). (رومية 5: 12). ما يعني أن الخطيئة انتقلت من "آدم" و"حواء" بطريق الوراثة إلى جميع نسلهم، وأصبح الجنس البشري كله جنسا (فاسدا نجسا) طبقا لفهم النصارى لهذه النصوص. ورغم وجود نصوص كتابية أخرى في الكتاب المقدس تقول: (لا يُقتَل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الاولاد عن الآباء. كل إنسان بخطيته يقتل). (التثنية: 16:24). و (النفس التى تخطئ هى تموت). (حزقيال 18 : 4). وهنا نتساءل: وما ذنب الجنس البشري كله أن يتحمل خطيئة أبويه "آدم" و"حواء" والجنس البشري لم يُخلق ولم يُوجد ولم يولد بعد؟.

الجواب تفصيليا على هذا السؤال البسيط طبقا لعقائد ومذاهب "النصارى" المختلفة سيهوي بنا إلى قاع جحيم يغلي من الاختلافات العقائدية والفكرية والفلسفية المعقدة بين "الأرثوذكس" و"الكاثوليك" و"البروتستانت" لا قِبَلَ للقارئ بها، حول: (مفاهيم الخلاص وحدوده وضوابطه، وسقوط الإنسان، وأجرة الخطيئة، والموت بسبب الخطيئة، وكيفية غفران الخطايا، وكيفية التحرر من سلطان الموت، وطبيعة الفداء، وماهية العدالة الإلهية، وهل الدينونة في اليوم الأخير هي التي ستقرر مَن سيخلُص أم محض الإيمان بيسوع، وهل يتبرّر الإنسان بالإيمان بيسوع أم بالأعمال الصالحة). ولكني تخفيفا على القارئ أكتفي فقط هنا بذكر وجهتي نظر كل من "الكاثوليك" و"الأرثوذكس" حول تبريرهما لوراثة الخطيئة بشكل مختصر على النحو التالي:

# مبررات الكاثوليك في وراثة خطيئة آدم وحواء:

يقول الأب "جورج عطية" في بحثه "اللاهوت المقارن في نتائج وانتقال الخطيئة الجَدْيَّة": (انطلاقاً من حادث خطيئة آدم وحواء دخلت حالة الخطيئة التي انتقلت وراثياً مع كل نتائجها إلى كل ذريتهما. وهذه الوراثية يفهمها الآباء على أساس الوحدة السرية غير القابلة للانقسام للطبيعة البشرية. ولذا يصبح آدم كمثل جذر فسُد فأنتج الفساد لكل جنسه، لأن آدم سقط في الخطيئة وانزلق في الفساد الذي تسرب إلى طبيعة جسده عبر اللذائذ مع النجاسات، واندس في أعضائنا ناموس متوحش. سقمت إذن الطبيعة بعصيان آدم، وهكذا صار الكثيرون خطأة. ليس لأنهم شاركوا آدم في فعل الخطيئة وأنهم لم يكونوا بعد، بل لأنهم لهم نفس طبيعته التي سقطت تحت الخطيئة. فمرضت إذن الطبيعة البشرية في آدم بفساد العصيان فدخلت فيها الأهواء) انتهى.

# مبررات الأرثوذكس في وراثة خطيئة آدم وحواء:

يقول د. "عدنان طرابلسي" في بحثه "سألتني فأجبتك": (بالنسبة للأرثوذكسية: الخطيئة ليست جريمة ضد العدالة الإلهية، لكنها مرضٌ يُتلف الإنسان. لم يأتِ المسيح لكي يشفي كرامة الله المجروحة، بل ليشفي الإنسان من مرضه. بسبب الخطيئة صار الإنسان أسير الموت والفساد. وبسبب خطيئة آدم وحواء صارت الطبيعة البشرية منفسدة وأسيرة للموت. لم يرِثْ الإنسان ذنب خطيئة آدم. هذا ذنب شخصي. بل ورث نتائج السقوط التي أصابت الطبيعة البشرية العامة ككل. أيضاً لم نرِثْ طبيعة مائتة فحسب، بل أيضاً طبيعة أصاب الفساد ملكاتها. الإرادة البشرية صارت مشلولة بالخطيئة وتفضّل الشر على الخير). انتهى

وطبقا لهذه العقائد التي تقول بأن خطيئة "آدم وحواء" أفسدت الجنس البشري كله وسيظل ذلك الفساد عالقاً بالجنس البشري إلى الأبد، فكان لابد من فداء أو كفارة إلهية، فرأى الله وقرر فجأة قبل ألفي عام، وبعد كل تلك الأزمان السحيقة والدهور الطويلة منذ أن أكل آدم من الشجرة واقترف الخطيئة قرر أن يضحي بابنه الوحيد (الأقنوم الثاني) ليفدي البشرية من وراثة فساد خطيئة آدم، وتلك التضحية تقتضي أن يتجسد الله بأقنومه الثاني "الكلمة" أو "الابن الوحيد" حيث يتخذ من مريم بعد تطهيرها بالأقنوم الثالث "الروح القدس" جسدا إنسانيا طاهرا يظهر فيه للناس ويصلب ويموت على الصليب كفارة وفداء للبشرية من دنس الخطيئة التي تسبب فيها أبوهم آدم، فافتداهم الله بدمه على الصليب.

وأساس فلسفة هذه العقائد عند كل طوائف النصارى أن من صفات الله (العدل والرحمة)، وبمقتضى صفة (العدل) كان على الله أن يعاقب ذرية آدم بالموت والفناء الأبدي جزاء الخطيئة التي ارتكبها أبوهم آدم وطُرد بها من الجنة واستحق هو وأبناؤه بسببها البعدَ عن الله، وبمقتضى صفة (الرحمة) كان على الله أن يكفر عن البشر هذه الخطيئة التي ورثوها عن أبيهم آدم، ولم يكن هناك من طريق للتوفيق بين صفة العدل وصفة الرحمة عند الله إلا بتوسط ابن الله الوحيد "الأقنوم الثاني" "الكلمة المتجسد" ليموت على الصليب فداء لهم ونيابة عنهم، وبهذا الفعل يكون الله قد وفق بين (عدله) و(رحمته) مع الإنسان، فيكون العدل قد أخذ مجراه بتضحية "الابن الإله المتجسد" بنفسه وموته على الصليب جزاء ارتكاب آدم للخطيئة، وتكون رحمة الله قد ظهرت في فدائه للجنس البشري من وراثة خطيئة أبيهم آدم.

ومن هنا جاءت ضرورة الإيمان بصلب "يسوع المسيح"، "الإله الابن المتجسد" لأن الصلب يتضمن اللعنة والموت، واللعنة والموت هما كفارة خطيئة بني البشر المتوارثة منذ خطيئة آدم الأولى. وبما أن خطيئة آدم الأولى كانت في حق الإله المطلق، فلا ينفع في تكفيرها الاستغفار ولا التوبة ولا العمل الصالح، بل لابد من إسالة دم بكفارة إلهية مطلقة، أي أن هذه العقيدة مبنية على الأسس التالية:
• آدم أخطأ.
• الخطيئة انتقلت لذريته بالوراثة وأفسدت الجنس البشري كله وأورثتهم موتا بالخطيئة.
• خطيئة آدم لا يُكفّر عنها بالتوبة، بل لا بدّ من دم وفداء وكفارة إلهية مطلقة.
• وبما أن عدل الله لديهم يتعارض مع رحمته، فكان لابد من تجسد إلهي في جسد بشري لم يتلوث بخطيئة آدم.
• فكان "يسوع المسيح" "الإله الابن المتجسد" هو الوحيد الذي يمكن أن يكفر عنا خطيئة آدم ويخلصنا من دنسها بموته ولعنته على الصليب.
• "يسوع المسيح" صُلب ولُعن ومات وسال دمه فحصلت الكفارة وحصل الفداء لكل البشرية.

أقول: ولكن "الآباء" المؤسسين للديانة المسيحية لم يجيبونا عن عدة أسئلة بالغة الأهمية لم أجد لها أي جواب في الأناجيل الأربعة، ولا في كل كتب اللاهوت المسيحي التي قمت بتلاوتها لجميع الطوائف، حول موضوع الخطيئة والفداء، ألا وهي: لماذا خطيئة "آدم" و"حواء" فحسب التي احتاجت إلى خلاص وفداء إلهي؟؟، وماذا عن خطايا ذريتهما؟؟، بل وماذا عن خطايا الذين آمنوا بيسوع مخلصا، هل تتوارث خطاياهم أم لا؟. ثم ألسنا في حاجة إلى مليارات المليارات من "أبناء الله المتجسدين" ليموتوا على الصلبان لتخليص وفداء ذرية "آدم" و"حواء" من مليارات المليارات من الخطايا التي اقترفوها ويقترفوها منذ ابن "آدم الأول إلى آخر خطيئة يقترفها آخر إنسان في هذه الدنيا؟؟. وهل الخلاص خاص بذنب آدم الموروث أم أنه عام في جميع الخطايا؟ ولماذا لم يصلب المسيح ويتحقق الخلاص بعد ذنب آدم مباشرة؟ ولماذا تأخر الخلاص بصلب المسيح طوال هذه القرون والدهور والأزمان الطويلة؟ ولماذا لم يتأخر الصلب إلى نهاية الدنيا بعد أن يذنب جميع الناس ليكون الصلب تكفيراً لذنوب هؤلاء جميعاً؟، ثم ما هو مصير أولئك الذين ماتوا قبل الصلب وقد فسدوا بالخطيئة؟ ومن الذين يشملهم الخلاص تحديدا؟، هل هو لكل الناس أم للمؤمنين بيسوع المسيح فقط؟ وإذا كان لكل الناس فلماذا اشترط النصارى الإيمان بيسوع لتحقيق الخلاص؟، وإذا كان الخلاص لمن يؤمن بيسوع فلماذا يعتبره النصارى خلاصا لكل البشر؟.

(هكذا هو ملخص عقيدة "النصارى" في بذور وأسباب التجسد الإلهي وفقا لقراءاتي للعديد من كتب اللاهوت المسيحي لمختلف الطوائف، هذا مع وجود كثير من الاختلافات الأخرى بين الطوائف المسيحية والتي تعد بعضها اختلافات في الفروع وبعضها الآخر اختلافات في الأصول).

هل انتهى الأمر لدى جموع "النصارى" عند هذه العقيدة؟، كلا، فهذه العقيدة "التجسدية" السابق عرضها، ما كان لها أن تمر على وعي وفكر الآدميين هكذا بسهولة ويسر، ودون مطبات وعقبات ومآزق فكرية أثارها بعض أتباع هذه العقيدة أنفسهم لا أحد غيرهم، بل إن المثير والمدهش في الأمر أن هذه العقبات والمآزق الفكرية أثارها رجال دين نصارى برتبة: (أسقف، وراهب، ورئيس دير)، ولم يثرها عوام الناس، أو أناس عاديون. تلك المطبات والعقبات والمآزق الفكرية التي أثارها بعض أتباع هذه العقيدة قد جعلت من (النصرانية) الدين الوحيد في تاريخ البشرية كله الذي وضع قادته الدينيون تصورات ومفاهيم عقيدته عبر (قانون وضعي) ملزم، أسموه (قانون الإيمان)، أي: (الإيمان طبقا للقانون)، هذه (القوانين الإيمانية) تم سنها وتشريعها في مجامع أشبه بالبرلمانات الحالية، حيث يتم وضع (مادة قانونية إيمانية) من وضع رجال الدين النصارى الأوائل لوصف وتحديد تصورات ومفاهيم هذا الإيمان ثم يتم التصويت والتوقيع عليه في تلك المجامع بأغلبية أو بإجماع الحاضرين. أي بالضبط بنفس ما يحدث الآن من تصويت داخل البرلمانات الحالية من سَنْ وتقنين للتشريعات الوضعية.

إلا أنه في تلك المجامع لم يكن التعامل مع معارضي قوانين المجامع الإيمانية مثلما يحدث الآن في البرلمانات الحالية، حيث ينظر إلى المعارضة في البرلمانات المعاصرة على أنهم أقلية ولها حق إبداء الرأي والاعتراض على قرار الأغلبية، إنما كان حال المعارضين لـ (قانون الإيمان) في تلك المجامع أن يحكم عليهم بالكفر والهرطقة والبدعه والتجديف والقطع والحرمان والقتل والحرق والتشريد والاضطهاد. والملفت في الأمر أن (قوانين الإيمان) بالعقيدة النصرانية لم يتم سنها وتشريعها إلا في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي، أي بعد ميلاد المسيح وصلبه بـ (325) سنة، وهو توقيت انعقاد أول مجمع لإصدار أول (قانون) للإيمان المسيحي، ما يعني أن تصوراً إيمانياً واضحاً محدداً بعقيدة (التجسد) لم يكن له وجود على الإطلاق طيلة ثلاثة قرون وربع القرن، أي قبل انعقاد تلك المجامع في بداية القرن الرابع الميلادي، وهذا بدوره يلقي بظلال كثيفة من الشك حول الطبيعة الأصيلة (للإيمان المسيحي) خلال القرون الثلاثة الأولى للمسيحية قبل هذا الإيمان الذي تم سنه وتشريعه من قبل رجال الدين المسيحي عبر (قانون) وضعي تم فرضه فرضا بقوة القانون على أتباع هذا الدين إلى يومنا هذا.

## تعدد عقائد "النصارى" في "تجسد الله" في "المسيح بن مريم":

كما قلت منذ قليل إن عقيدة (التجسد) المسيحية السابق عرضها ما كان لها أن تمر على عقل وفكر الآدميين هكذا بسهولة ويسر ودون مطبات وعقبات ومآزق فكرية وعقيدية وضعها أتباع هذه العقيدة أنفسهم لا غيرهم، ما أدى بدوره إلى انقسام عقيدة التجسد وتكاثرها بصورة مثيرة، هذه العقائد والعقبات والمآزق العقيدية بدأت في القرون الأولى للمسيحية على النحو التالي:

# ففى عام 260م، كان الأسقف (بولس السميساطي)، يؤمن بإله واحد، ويؤمن بأن (الكلمة والروح القدس) ما هما إلا صفات لله وليسا بأقنومين، وصفة الكلمة هي التي كانت تعمل مع كل الأنبياء وليس المسيح فقط، وأن المسيح الذي ولد من العذراء مريم ما هو إلا إنسان مثلنا تماما، لكنه أعظم من موسى ومن كل الأنبياء، لأنه كان إنسانا كاملا، وكلمة الله حلت عليه بعد ولادته من مريم.
# ونشأت من عقيدة (بولس السميساطي) عقيدة أخرى تقول: (كان في المسيح أقنومان وابنان للإله، أحدهما بالطبيعة والآخر بالتبني).
# وفي أواخر القرن الثاني وفي النصف الأول من القرن الثالث بدأت عقيدة أخرى في آسيا الصغرى وروما وشمال أفريقية. ومن أهم دعاتها (نوئيطوس)، الذي بشّر في أزمير بين سنة (180 وسنة 200)، فأعتقد أن الإله هو أقنوماً واحداً ظهر فى ثلاثة أشكال (الأب والأبن والروح القدس) وليس ثلاثة أقانيم أو أحوال: (حال الآب)، و(حال الابن)، و(حال الروح القدس), وكان يبحث عن وحدانية الإله ورأى أن هذه الوحدانية لا تتفق مع وجود ثلاثة أقانيم، ورأى أن التمييز في الإله ليس بين أقانيم بل بين أحوال وأشكال ثلاثة اتخذها الإله الواحد في الزمن. لذلك نستطيع أن نخلع عليه ثلاثة أسماء، فندعوه تارة (الآب) لأنه مبدأ الكون وخالقه، وتارة (الابن) لأنه تجسّد وصار إنساناً، وتارة (الروح القدس) لأنه يملأنا بحضوره.
# ثم ظهرت عقيدة (لوشيانوس)، وكانت عقيدته تقوم على: الإيمان بأن الله واحد وحيد لا مساو له، وهو الخالق لكل الأشياء، وكل ما هو خارج عنه فهو مخلوق، فهو الذي خلق (الكلمة) وقد أخذ هذا (الكلمة) جسداً بشرياً لا روحاً. ولأن ابن الله قد جاع وعطش واضطرب فإنه أخذ جسداً بشريا فعلياً وبالتالي كان يسوع إنساناً حقيقياً. والمسيح هو الشخص الذي عرّفنا بالله والذي ارتفع إلى المجد بعد أن أظهر طاعة كاملة ومحبة عارمة لله، ومن هذا التعليم نجد أن يسوع ناسوت فقط وأنه ابن الله بالتبني وليس بالحقيقة.
# ثم ظهرت عقيدة (آريوس) (256 - 336م) وهو مواطنً ليبيً , تلقى تعليمه اللاهوتى فى أنطاكية فى مدرسة (لوقيانوس), وعندما ذهب إلى الأسكندرية وخدم فيها رسمه البابا (بطرس) بابا الأسكندرية (شماساً) ورسمه (كاهناً) وسلمه كنيسة بوكاليا, وهى كنيسة الإسكندرية الرئيسية فى ذلك الوقت، وكانت عقيدة (آريوس) عن المسيح كلمة الله: (أنه خالق ومخلوق، خالق الكون, ومخلوق من الإله). وكان (آريوس) يقول: (إنّ الكلمة ليس بإله، بل بما أنه "مولود" من الله الآب فهو لا يُشاركه طبيعتهِ، بل تقوم بينهما علاقة "تبنّي"، فالكلمة إذاً ليس بأزليّ بل هو مجرد خليقة ثانويّة أو خاضعة. وعلى ذلك يكون الخلاص الذى صنعة المسيح عملاً قام به كائن محدود , أقام ذاته مخلصاً بفعل إرادته الحرة , ومن ثم فلا تكون كفارته خلاصاً للجنس البشرى كله إلا من قبيل إظهار أمكانية كسب الخلاص). ويقول أيضاً: (كان فى المسيح امكانية لأختيار الخير أو الشر, وحرية الأختيار تقوم فى العقل أو الروح أو النفس الأنسانية الناطقة العاقلة). والعجيب أن المسيحية الأرثوذكسية اعتبرت عقيدة (آريوس) هذه كفراً وزندقة لأن عقيدته كانت حصيلة فكر فلسفى لاهوتى عقلانى.
# وخرجت من عقيدة (آريوس) عدة عقائد كان من أبرزها: عقيدة: (تشكك بمساواة الابن للآب في الجوهر). وعقيدة تقول: (إن طبيعة الابن مختلفة تماماً عن طبيعة الآب). وعقيدة ثالثة تقول: (بأن الروح القدس ليس إلهياً إنما هو مخلوق ثانوي).
# ثم ظهرت عقيدة (مقدونيوس) وهى: ( أن الروح القدس عمل إلهى منتشر فى الكون، وليس بأقنوم متميز عن الآب والإبن بل هو مخلوق يشبه الملائكة ولكنه ذو رتبة أسمى منهم).
# ثم ظهرت عقيدة: (أبوليناريوس) الذي كان أسقف اللاذقية، حيث كان يعتقد (أن كلمة "طبيعة" وكلمة "أقنوم" بمعنى واحد, فإذا كان فى المسيح طبيعة لاهوتية كاملة, وطبيعة ناسوتية كاملة إجتمعتا معاً فى المسيح, فإن هاتين الطبيعتين الكاملتين يكونان أقنومين إذ لا يمكن أن يتألف أقنوم واحد من طبيعتين). وعلى ذلك يرى (ابوليناريوس) (أن التصور القائل بإتحاد اللاهوت بالناسوت اتحادا كاملاً, بمعنى كُليَّان فى كُلِى واحد, هو تصور مستحيل. وكان ينادى بلاهوت المسيح ولكن لا يؤمن بكمال ناسوته، إذ كان يرى أن ناسوت المسيح لم يكن محتاجا الى روح فكان بغير روح لأن الله (الكلمة) كان يقوم بعمله في منح ناسوته الحياة).
# ثم ظهرت عقيدة: (إفنوميوس) أسقف (سيزيكوس) والذى كان يعتقد: (بأن الابن غير مساوى للآب، وكان ينادى بأن هناك جوهر واحد سامى ولكن بلا تمايز فى الخواص، وأن الابن ليس مولودا من الآب بل ناتجا عنه، وأن الروح القدس كان أول المخلوقات التى عملها الابن بالقدرة الخالقة التى أعطاها له الآب).
# ثم ظهرت عقيدة (الأبيونيين): حيث (أعتقدوا أن المسيح ليس إلا ابنا ليوسف النجار من مريم). إلا أن هذا التصور قد وجد معارضة شديدة من خارج هذه الجماعة وفى داخلها أيضاً حيث أنقسمت هذه الطائفة إلى عدة طوائف كل منها له معتقده ولكن يطلق عليها أسماً واحداً وهو (الأبيونيين) الذى يعنى (طوبى للمساكين).
# ثم ظهرت عقيدة أخرى: ( ترفض لقب "العذراء مريم" حيث أن المسيح ولد من "مريم" بواسطة الروح القدس، وبعد ذلك عاشر يوسف النجار "مريم" معاشرة الأزواج). وقد أنكرت هذه العقيدة اللقب الذى أطلق على "مريم" فى العقيدة الأرثوذكسية والعقيدة الكاثوليكية وهو: "العذراء دائمة البتولية".
# ثم ظهرت عقيدة: "رهبان الإسقيط" وكان يرأسها "أفوديوس" وهى عقيدة تقوم على: (تصوير الإله فى صورة جسدية، أو إطلاق المشاعر الحسية والإنسانية، وأن الإله ذو صورة بشرية وذو أعضاء جسمية بشرية).
# ثم ظهرت عقيدة (نسطور) وكان بطريركاً للقسطنطينية،فقد كان يعتقد: (أن مريم لم تلد إلهاً بل ما يولد من الجسد ليس إلا جسداً وما يولد من الروح فهو روح. فالعذراء ولدت إنساناً عبارة عن آلة للاهوت. وذهب إلى أن يسوع المسيح لم يكن إلهاً في حد ذاته بل هو إنسان مملوء بالبركة أو هو مُلهم من الله لم يرتكب خطية). وقال فى خطبته الأولى "إنهم يسألون إن كان من الممكن أن تدعى مريم والدة الإله. لكن هل لله أم إذاً؟. لأن مريم كانت امرأة والحال أنه من المستحيل أن يولد الله من امرأة ولا أنكر أنها أم السيد المسيح إلا أن الأمومة من حيث الناسوت فقط. ثم قال (نسطور) في خطبة له كذلك: إن ذاك الذى يقول ببساطة "أن الله مولود من مريم يجعل من العقيدة المسيحية سخرية للوثنيين، لأن الوثنيين سوف يجاوبون "لا أستطيع أن أعبد إلهاً يولد ويموت ويدفن". وفصل (نسطور) المسيح إلى طبيعيتين وأقنومين وأستنتج أمرين، أحدهما: (أن العذراء لم تلد سوى الإنسان ولذلك لا يجب أن تلقب بأم الإله). والثانى: (أن الإله لم يولد ولم يتألم ولذلك لا ينبغى أن يقال أن الإله مات). وهو بذلك يعتقد بأن الطبيعة الإلهية لم تتحد بالإنسان الكامل وإنما ساعدته في حياته فقط. وكان (نسطور) يردد قول "القسيس" التابع له "أناستاسيوس": (أن لقب والدة الإله له مذاق وثنى وهو يتعارض مع التعبيرات الواردة فى الكتب المقدسة مثل (بلا أب ولا أم). الواردة فى الرسالة إلى العبرانيين (7: 3).
# ثم ظهرت عقيدة الراهب القس (بيلاجيوس)، (حيث كان ينكر وجود علاقة مباشرة بين خطيئة آدم وسائر أفراد الجنس البشري، وكان يعتقد أن الإنسان ينال رضى الله بواسطة جهوده الخاصة. وكان يعتقد أن الإنسان لم يكن بحالة روحية سيئة إلى درجة تستوجب موت المخلص على الصليب).
# ثم ظهرت عقيدة (اوطاخى) وكان "أرشمندريت" أى "رئيس دير" فى أحد الأديرة بالقسطنطينية، حيث كان يعتقد: (بأن المسيح ليس له جسداً، أي أن المسيح ليس له ناسوتاً, وأن شكل المسيح الجسدى ليس مثل إنسانيتنا ولا من ذات جوهرها, وأن الطبيعة اللاهوتية أبتلعت الطبيعة الجسدية, وضاع الناسوت تماماً, وذاب جسده فى ألوهيته .وكان يعتقد بأن "العذراء مريم" "ولدت الله فقط"، وتعنى أن الناسوت قد ذاب فى اللاهوت مثلما تذوب نقطة الخل فى المحيط. أى أن الطبيعتين قد امتزجتا معاً فى طبيعة واحدة ولكن ذاب الناسوت فى اللاهوت وتلاشى وأن المسيح الذي كان يراه الناس في حينه هو الله حقيقةً).
# ثم ظهرت عقيدة (بيرلس) أسقف بصرة، وكان يعتقد: (أن المسيح قبل ولادته من العذراء لم يكن له لاهوت متميز, بل أنه كان له لاهوت الأب أى أن المسيح لم يكن له وجود قبل ولادته من مريم, وأنه فى ولادته دخل وأتحد بالإنسان النفس الإنسانية التى أصلها من الإله, وأنها بلا شك فائقة كل النفوس البشرية لأنها منبثقة من الطبيعة ألإلهية).
# ثم ظهرت عقيدة (كورنثيوس) وهو من أصل يهودى أنشأ ديانة جديدة أثناء حياة "يوحنا الرسول" ألفها من تعاليم المسيح مع تعاليم "الكنوسسيين" ورأى أن يسوع هو رجل يهودى كامل وقدوس وابن بالطبيعة ليوسف النجار ومريم, وحل فيه المسيح بنزوله عليه على هيئة حمامة عند عماده من يوحنا فى نهر الأردن، وعندما أتحد المسيح بيسوع قاوم إله اليهود (خالق العالم) بشجاعة وعندما رأى إله اليهود مقاومة المسيح يسوع فقام بتحريض أتباعه اليهود فقبضوا عليه ليصلبوه, فلما رأى المسيح أنهم قبضوا على يسوع طار إلى السماء وترك يسوع وحده يصلب).

أقول: (هكذا كانت انقسامات وتكاثر عقائد النصاري حول "تجسد" الله في "ابن مريم"، وهكذا كانت المطبات والعقبات والمآزق العقيدية والفكرية السائدة في القرون الأولى للمسيحية).

## تقنيين عقيدة "تجسد الله" عبر المجامع المسكونية:

لأجل كل هذا التكاثر والانقسامات في العقائد سالفة الذكر استشعر رجال الدين النصارى في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي الخطر الشديد على تشرذم وتمزق وتفتت النصرانية، فبدءوا في عقد ما سمي بـ "المجامع المسكونية" أي: مجامع يحضرها رجال دين من جميع أهل المسكونة، أي: (الأرض المسكونة بالناس)، وكان هدف كل تلك المجامع محاولة جمع النصارى على عقيدة إيمانية واحدة، عبر سن وتشريع قوانين للإيمان تكون ملزمة لأتباع أهل هذه المجامع، فقد ظنوا أنهم بمثل هذه المجامع سيضعوا حدا لانقسامات وتكاثر العقائد حول طبيعة "التجسد الإلهي"، وظنوا أنهم سيجدوا حلا مستساغاً لقضية "التجسد الإلهي" لكنهم زادوا الطين بلة.

فكان (المجمع المسكوني الأول) ويسمى مجمع (نيقية الأول) الذي عقد بمدينة (نيقية) التركية عام (325م)، فإلى هذا التاريخ لم يكن لدى جموع النصارى في العالم بأجمعه عقيدة واضحة محددة موحدة متفق عليها حول حقيقة ألوهية المسيح، وهل هو مخلوق أم غير مخلوق؟، فصدر القانون الإيماني المسيحي الأول ونصه: (المسيح إله حقّ من إله حقّ, مولود غير مخلوق, مساوٍ للآب في الجوهر). لكن العبارة الأخيرة في هذا القانون التي تقول: (مساوٍ للآب في الجوهر) سببت جدلا كبيرا داخل المجمع وخارجه, ورأى بعض الحاضرين أن هذه العبارة غير كتابية, أي لم ترد في الكتاب، واتّهموا الآباء بالوقوع في البدعة، إلا أنه بعد نقاشات وجدالات وحوارات طويلة تم التصويت داخل هذا المجمع بالموافقة على إقرار هذه العبارة في هذا القانون الإيماني الأول.

وبعد مرور حوالي (54 عاما) على المجمع المسكوني الأول انعقد المجمع المسكوني الثاني، وسمي: (مجمع القسطنينية الأول)، وانعقد في مدينة (القسطنطينية) عام (381م)، وإلى هذا التاريخ لم يكن لدى جموع النصارى في العالم أجمعه عقيدة واضحة محددة موحدة متفق عليها حول طبيعة (الروح القدس)، وهل هو من الآب ومساو للآب أم من الابن؟. فانعقد المجمع وقرر أن يضاف إلى قانون مجمع نيقية الأول عبارة: (لا فناء لملكه). وقرر رجال الدين في هذا المجمع أن (الروح القدس) هو الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، وأنه مساو للآب والابن، ثم أكملوا قانون إيمان مجمع نيقية الأول أي: بعد ما يقرب من (54 عاما) على القانون الإيماني الأول: وكانت الإضافة كالتالى: (نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب نسجد له ونمجده مع الآب والابن الناطق فى الأنبياء).

وبعد مرور حوالي (50 عاما) من انعقاد المجمع المسكوني الثاني المسمى: (مجمع القسطنطينية الأول) انعقد المجمع المسكوني الثالث: وسمي (مجمع أفسس الأول عام 431م). وإلى هذا التاريخ لم يكن لدى جموع النصارى في العالم أجمعه عقيدة واضحة محددة موحدة متفق عليها حول (العذراء مريم)، وهل هي إله؟ أم أُم الإله؟ أم أُم المسيح الإنسان؟ وهل هي عذراء دائمة العذرية أم لا؟، فقرر هذا المجمع أن يضاف لقانون الإيمان العبارة التالية الخاصة بالعذراء مريم، والتي تقول: (نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله).

وبعد مرور ما يقرب من عشرين عاما على المجمع المسكوني الثالث لم يكن لدى جموع النصارى في العالم أجمعه عقيدة إيمانية واضحة موحدة حول طبيعة المسيح بن مريم، وبعبارة أخرى: من بعد ميلاد المسيح بن مريم وصلبه بحوالي (450 عاما) لم يكن لدى جموع النصارى في العالم عقيدة واضحة محددة موحدة متفق عليها حول ماهية طبيعة المسيح بن مريم "المتجسد"، وهل هي لاهوت وناسوت متحد في طبيعة واحدة؟ أم طبيعتين لاهوتية وناسوتية متحدة في شخص واحد؟ وهل طبيعة المسيح بن مريم لها مشيئة واحدة أم مشيئتان؟ وهل له فعل واحد أم فعلان؟. فمن أجل هذه القضية وغيرها تمت الدعوة عام (450م) إلى مجمع في مدينة "خلقيدون"، واعتبر (المجمع المسكوني الرابع). وقد التأم (مجمع خلقيدونية) في "451م" وشارك فيه 630 أسقفا، وقرر هذا المجمع القانون الإيماني التالي: (إنّ المسيح هو نفسه تامّ في الألوهة وتامّ في البشريّة، إله حقّ وإنسان حقّ. إنّه مساوٍ للآب في الألوهة ومساوٍ لنا في البشريّة، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلّ الدهور وُلد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، وُلد من مريم العذراء والدة الإله، بحسب البشريّة. واحدٌ هو، وهو نفسه المسيح، ابن الله، الربّ، الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الربّ يسوع المسيح).

ومنذ قرار هذا المجمع انقسم "النصارى" الانقسام الأكبر ما بين (خلقيدونيين) و(لاخلقيدونيين)، أو ما بين (أرثوذكس) و(كاثوليك)، وكان سبب انقسامهم العبارة الورادة في القانون السالف والتي تقول: (الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين). هذه العبارة رفضتها الكنائس الشرقية وهي: كنيسة الإسكندرية (القبطية) والسريانية، والأرمنية، والأثيوبية، والهندية، وهى الكنائس الأرثوذكسية التي تسمى: (غير الخلقيدونية) أو (اللاخلقيدونية) لرفضها قرار هذا المجمع الخلقيدوني أو (المجمع المسكوني الرابع) ولذلك تعرف هذه الكنائس باسم: (أصحاب الطبيعة الواحدة).
بينما الكنائس (الخلقيدونية) وهي الكاثوليكية واليونانية (الروم الأرثوذكس) أو (الأرثوذكس الخلقيدونيين) قد أقرت بقانون هذا المجمع وقررت أن تؤمن بطبيعتين للمسيح، وتشترك في هذا الاعتقاد أيضًا الكنائس البروتستانتية. وشملت هذه العقيدة كنائس: (القسطنطينية) و(اليونان)، و(أورشليم)، و(قبرص)، و(روسيا)، و(رومانيا)، و(المجر)، و(الصرب)، و(كنائس الروم الأرثوذكس في سوريا ولبنان)، وفي (أمريكا)، وفي (دير سانت كاترين بسيناء). ولذلك تعرف كل هذه الكنائس باسم: (أصحاب الطبيعتين).

## ما الفرق بين "الطبيعة الواحدة" و"الطبيعتان" في "يسوع المسيح"؟:

كثير من "النصارى" من أصحاب النوايا الطيبة يرددون في بساطة وسطحية أن الخلاف بين (الخلقيدونيين) و(اللاخلقيدونيين)، أو بين (الأرثوذكس) و(الكاثوليك) حول طبيعة المسيح ما هو إلا خلاف لفظي شكلي حول أسماء الكلمات والمصطلحات، لكن الباحث الناقد يجد أن الخلاف بينهما لا يمكن أن يكون شكليا أو لفظيا على الإطلاق، إنما الخلاف خلاف عقائدي فارق بين عقيدتين مختلفتين ومتضادتين (عقيدة الطبيعة الواحدة) و(عقيدة الطبيعتان)، وهذا ما سأقوم بتفصيله على النحو التالي:

## أولا: عقيدة (الطبيعة الواحدة) عند (اللاخلقيدونيون) "الأرثوذكس":

عقيدة "الطبيعة الواحدة" هي عقيدة كنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية المصرية والكنائس سالفة الذكر التي تتفق معها في هذا المعتقد، وتنص هذه العقيدة في "الطبيعة الواحدة" في "يسوع المسيح" على أن: (المسيح هو الإله الكلمة المتجسد، له لاهوت كامل، وناسوت كامل، لاهوته متحد بناسوته دون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، اتحادًا كاملًا أقنوميًا جوهريًا).

هذه العقيدة تعني أن الله (الكلمة) اتحد بالجسد الذي اتخذه من العذراء مريم، وقد تم هذا الاتحاد منذ اللحظة الأولى للحبل المقدس في رحم "العذراء مريم". وباتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية داخل رحم "العذراء مريم" تكونت منهما طبيعة واحدة هي طبيعة (الله الكلمة المتجسد). وهذا الاتحاد دائم لا ينفصل مطلقا ولا يفترق. ولكن بعد هذا الاتحاد لا نعود مطلقًا نتكلم عن طبيعتين في المسيح، فلا نقول: "طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية"، وإنما نقول: "طبيعة واحدة متحدة". وهذه الوحدة كما يراها أصحاب هذه العقيدة هي وحدة حقيقية ولكن بلا امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير، وهذا يعني أن أي اتحاد أو وحدة بين الأشياء التي نراها في الحياة ليست كاتحاد ووحدة الله في الإنسان في طبيعة "يسوع المسيح"، إذ إن ذلك الاتحاد والوحدة بين أي شيئين نراهما في الحياة لابد أن يكون هناك امتزاجا واختلاطا وتغييرا ما يحدث نتيجة لهذا الاتحاد أو الوحدة، أما في حال "يسوع المسيح" فالاتحاد من نوع آخر لا يمكن لوعي وفكر وعلم البشر أن يتصوروه، لأنه اتحاد أو وحدة بين الله والإنسان ليس فيه انفصال ولا افتراق وفي الوقت نفسه ليس فيه امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير. كيف يكون هذا؟؟!!.
قد كفانا البطريرك (شنودة الثالث) سعير ومعاناة محاولة الجواب على هذا السؤال، فأجاب في كتابه (طبيعة المسيح) بقوله: (تعجز اللغة أن تعبر عنه، حتى قيل عنه إنه سر عظيم، عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد).

وقد كفانا أيضا الأرشيدياكون (وهيب عطا الله جرجس) سعير ومعاناة التفكير في تصور هذه العقيدة بأدمغتنا البشرية المحدودة فقال في كتيب له بعنوان: (تعليم كنيسة الاسكندرية فيما يخص طبيعة السيد المسيح) ما يلي: (أما نحن في الشرق، فإننا نتخوف كل التخوف من استخدام مصطلحات فلسفية في تعريف أو تحديد معنى أو حقيقة من الحقائق اللاهوتية). ويقول: (فالكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية "وهي كنيسة الاسكندرية والكنيستان السوريانية والأرمنية" تؤمن بلاهوت المسيح كما تؤمن أيضاً بناسوته. ولكن المسيح عندهم طبيعة واحدة مع ذلك. وقد يبدو في هذا نوع من تناقض. ولكن على الرغم مما يبدو في هذا من تناقض منطقي عقلي، إلا أن كنيستنا لا ترى فيه شيئاً من التناقض لأنها تنظر إلى طبيعة السيد المسيح نظرة صوفية روحانية ينحل فيها كل ما يبدو أمام الفكر البشري أنه متناقض أو محال!. هذه التجربة الصوفية أو الروحانية تعلو على كل تناقض عقلي أو فلسفي. فيها لا يسأل المسيحي لم؟ أو كيف؟، إن في ديانتنا أسراراً نؤمن بها ونقبلها بكل يقين وايمان لا لشىء إلا لأنها قد أعلنت لنا من الله. ونحن نؤمن بها على الرغم من معارضتها لحواسنا ومناقضتها لعقلنا المادي، لا لشيىء إلا لأننا أيقنا أنها من الله. وكما نؤمن بوجود الله وأنه قادر على كل شىء، كذلك نؤمن بأسرار ديانتنا من دون أن نكون في حاجة إلى أن نسأل: لم؟ أو كيف؟، ولا شك أن العقل الفلسفي لا يستطيع أن يقبل هذا الايمان الصوفي. ولكن العقل الفلسفي ليس في الواقع عقلاً روحياً على الحقيقة. إنه عقل لا يؤمن إلا بقدراته ومقاييسه وحدها. والديانة بالنسبة إلى العقل الفلسفي هي علم يمكن أن يوضع على قدم المساواة مع أي فرع آخر من فروع المعرفة الانسانية. والعقل الفلسفي يحاول أن يخضع الديانة لذات المنهج العلمي الذي تخضع له كل فروع المعرفة المادية. ومن هنا فقد يدخل إلى الدين مناهج التحليل والتصنيف والاستنباط والاستقراء وما إليها من أجل أن تجعله أكثر إساغة وقبولاً للعقل الفلسفي. ويا للأسف، أننا لا نستطيع بهذا المنهج في معالجة المسائل الدينية والحقائق اللاهوتية، أن نفهم روح الديانة، فعندما يتدخل العقل، تقف التجربة الروحية الصوفية، بل تختفي. إن لنا أن نستخدم عقولنا إلى حد معين، وحينئذ يجب أن يقف العقل ويسلم قياده للتجربة الروحية الصوفية). انتهى
المصدر: ("تعليم كنيسة الاسكندرية فيما يخص طبيعة السيد المسيح"، نص الكلمة التي ألقاها الأرشيدياكون "وهيب عطا الله جرجس"، ممثلاً لوجهة نظر كنيسة الاسكندرية في المؤتر العالمي الذي عقد بمدينة القدس القديمة في المدة من 12: 15 أبريل 1959. "منشورات كلية البابا كيرلس السادس اللاهوتية للكرازة المرقسية").

أقول: ولكن هل اعتراف القادة الدينيين للمسيحيين بأن عقائدهم مصادمة للوعي والفكر والعلم البشري جعلهم يصمتون عن محاولة وعي ما لا يمكن وعيه؟، وهل هروبهم إلى الوهم الذي أسموه بـ "العقل الفلسفي الصوفي" قد حل معضلة محاولات وعي ما لا يمكن وعيه؟، كلا، لماذا؟ لأن القوم سيواجههم سيل من الإشكاليات الفكرية حول عقيدة "التجسد" نتيجة لأنهم لن يستطيعوا منع الناس من محاولة وعي واستيعاب هذه العقيدة فكريا، سواء من أتباع هذه العقيدة أو من الآخرين الذي لا يتبعون هذه العقيدة، بدليل أنهم رغم اعترافهم باستعصاء هذه العقيدة على الوعي البشري، ورغم هروبهم إلى وهم "العقل الفلسفي الصوفي"، إلا أنهم يُسْتَدْرَجون دون أن يشعروا إلى محاولات يائسة لتقريب هذه العقيدة للوعي البشري حماية لها من الانهيار، ومن هذه المحاولات على سبيل المثال: محاولة الرد على السؤال التالي ألا وهو: من الذي صُلِبَ وتألم وسال دمه ومات على الصليب؟؟، هل هو الإله؟ أم الإنسان؟، أم الاثنان معا؟. كان من المفترض أن يكون ردهم على مثل هذا السؤال بقولهم: عقيدتنا لا يمكن إخضاعها للوعي البشري ويصمتون، كما سبق وأن أقروا بذلك، إلا أنهم كما قلت يُسْتَدْرَجون إلى الجواب دون أن يشعروا، فقد حاول أن يجيب على هذا السؤال البطريرك "شنودة الثالث" في كتابه "طبيعة المسيح" فقال: (حقا إن اللاهوت غير قابل للآلام. ولكن الناسوت حينما وقع عليه الألم، كان متحدًا باللاهوت) انتهى.

هل إجابة البطريرك "شنودة الثالث" هذه هي إجابة بالفعل على هذا السؤال؟، أم مراوغة وتلاعب بالكلمات؟، وأنها تشبه إجابة زوجة سألها زوجها: هل طهيتي الطعام؟ فتجيبه بقولها: (الطعام غير قابل للطهي ولكني طهيته). فماذا نفهم من إجابة الزوجة؟ هل تم طهي الطعام أم لا؟، وماذا نفهم من إجابة البطريرك "شنودة الثالث"؟ هل الذي تألم ومات هو الإله؟ أم الذي تألم ومات هو الإنسان وحده؟ أم الذي تألم ومات الاثنان معا؟؟.
ثم يطرح البطريرك "شنودة الثالث" نفس السؤال ويجيب عليه فيقول: (فهل تألم اللاهوت إذن؟ نقول إنه بجوهره غير قابل للألم.. ولكن المسيح تألم بالجسد، وصلب بالجسد. مات بالجسد، الجسد المتحد باللاهوت) انتهى

ثم يحاول البطريرك "شنودة الثالث" جاهدا إثبات تصوره هذا بضرب بعض الأمثلة التي زاد بها الطين بلة، فيقول: ( وقد قدم لنا الآباء مثالًا جميلًا لهذا الموضوع وهو الحديد المحمى بالنار. مثال اللاهوت المتحد بالناسوت: فقالوا إن المطرقة وهى تطرق الحديد إنما تضرب الحديد المحمى بالنار فتقع على الاثنين. ولكن الحديد يتثنى (يتألم) بينما النار لا يضرها الطرق بشيء. ومع ذلك فهي متحدة بالحديد أثناء طرقه. ونحن في التعبيرات العادية نقول فلان مات، ولا نقول أن جسده فقط قد مات، إن كانت روحه على صورة الله وهبها الله نعمة الخلود.. والروح لا تموت. وإن كان الهدف الأول من التجسد هو الفداء. والفداء لا يمكن أن يتم عن طريق الطبيعة البشرية وحدها، إذن الإيمان بطبيعة واحدة للكلمة المتجسد أمر جوهري لا يستطيع أحد أن ينكره ولا يمكن أن يتم الفداء إن قلنا أن الناسوت وحده هو الذي له الآلام والصلب والدم والموت). انتهى

أقول للقارئ: ارجع البصر إلى العبارة الأخيرة في الفقرة السابقة والتي يقول فيها البطريرك "شنودة الثالث": (ولا يمكن أن يتم الفداء إن قلنا أن الناسوت وحده هو الذي له الآلام والصلب والدم والموت). انتهى
وارجع إلى الفقرتين السابقتين "للبطريرك شنودة الثالث" واقرأ العباراتين التاليتين: (حقا إن اللاهوت غير قابل للآلام). و (نقول إنه بجوهره غير قابل للألم).
فستجد أيها القارئ الكريم أن السؤال يعود ليطرح نفسه من جديد: ماذا نفهم من كلام البطريرك "شنودة الثالث" هل تألم ومات الإله؟ أم تألم ومات الإنسان وحده؟ أم تألم ومات الاثنان معا؟؟.
أقول: ليس لدى القوم من إجابة واضحة صارمة محددة على هذا السؤال، ولن يكون لديهم إجابة، بل لن يستطيع أي مسيحي "أرثوذكسي" غير خلقيدوني" أن يجيب على هذا السؤال، لماذا؟ لأنه ببساطة لو قال أحدهم: الألم والصلب والموت وقع على اللاهوت فقط أو وقع على اللاهوت والناسوت معا، فقد نسب إلى الله آثار وصفات وانفعال البشر المخلوقين، وبالتالي فهو مخلوق وليس بإله ذلك الذي يتألم ويصلب ويموت. أما إن قال أحدهم: الألم والصلب والموت قد وقع على الناسوت فقط، فيكون قد هدم أصل وجذر المسيحية الذي بُنِيَت عليه، ألا وهو الكفارة والفداء والتضحية الإلهية لإنقاذ الجنس البشري من وراثة خطيئة آدم، ويصبح من وقع عليه الفداء والكفارة والتضحية هو الناسوت فقط وليس اللاهوت، والقول بهذا يجعل المسيحية في مهب الريح وفي خبر كان.

وحتى لا ألقي بالقارئ الكريم في غيابت جب لا قاع له ولا آخر في تصور عقيدة التجسد الإلهي عند النصارى "الأرثوذكس"، فسأضرب له مثلا توضيحيا لوصف تصور عقيدة أصحاب "الطبيعة الواحدة" لتجسد الإله في الإنسان على النحو التالي:
إن مثل عقيدة أصحاب "الطبيعة الواحدة"، كمثل شخصين اتحدا معا بالركوب في سيارة واحدة، هذه السيارة قامت بدهس أحد المارة فأردته قتيلا، فاقتادت الشرطة سائق السيارة والشخص الذي كان يجلس بجواره وقدمتهما إلى المحكمة، فقضى قاضي المحكمة بالحكم على الاثنين بالمؤبد، وكانت حيثيات القاضي في حكمه كالتالي: (بما أنكما انتما الاثنان اتحدتما معا بالركوب في سيارة واحدة فأنتما الاثنان أصبحتما شخصا واحدا أو طبيعة واحدة، دون أن أفصل أو أفرق بينكما، ودون أن أمزج أو أخلط بينكما، وهيئة المحكمة تقر بأن الشخص الذي كان يجلس بجوار السائق لا تهمة له ولا عقوبة، وعليه فقد رأت هيئة المحكمة أنه باتحادكما معا بالجلوس في سيارة واحدة فقد أصبحتما شخصا واحدا أو طبيعة واحدة دون انفصال أو افتراق وفي نفس الوقت دون امتزاج أو اختلاط بين السائق وبين من كان يجلس بجواره).

## مبررات المؤمنين بعقيدة "الطبيعة الواحدة":

وهنا قد يدور في ذهن القارئ سؤال يقول: ما هي مبررات الاعتقاد بأن للمسيح طبيعة واحدة بعد اتحاد الله في الإنسان؟، وماذا يضيرهم القول بأن للمسيح طبيعتين لاهوتية وناسوتية في شخص واحد بعد الاتحاد والوحدة؟.
الجواب يتلخص في أن صُلْب الديانة "النصرانية" وجذرها لدى جميع طوائف "النصارى" بلا استثناء قائم على أن الخلاص من خطيئة آدم التي ورثها جميع أفراد ذريته لا كفارة لها ولا فداء إلا بكفارة وفداء وتضحية إلهية، وعليه فلو لم تتحقق الكفارة والفداء والتضحية الإلهية بالتألم والموت على الصليب لانهارت الديانة المسيحية برمتها ولم تقم لها قائمة أبدا، لذلك يقاتل المؤمنون "الأرثوذكس" من أصحاب عقيدة "الطبيعة الواحدة" في رفض القول بالطبيعتين لأن القول بالطبيعتين يوحي بالانفصال والافتراق بين اللاهوت والناسوت، وعليه سيصبح التألم والموت على الصليب قد وقع على الناسوت فقط، ويغدو التجسد الإلهي لونا من العبث وغير ذي جدوى ولا فائدة منه، وبالتالي فالكفارة والفداء والتضحية الإلهية لم يتحقق شيء منها، ولذلك تمسكوا بإثبات أن اتحاد الله في الإنسان كان اتحادا حقيقيا في طبيعة واحدة لتتحقق غاية الفداء الإلهي، ولكنهم عبثا يحاولون كما سبق تفصيله وبيانه.

ويؤكد هذا المبرر للطبيعة الواحدة البطريرك "شنودة الثالث" في كتابه (طبيعة المسيح)، ويعترف أن القول بطبيعتين لـ "يسوع المسيح" كما قال "الكاثوليك" و"البروتستانت" سوف يطيح بهذه العقيدة، ويترتب عليه انهيار أصل أصول المسيحية ألا وهو "الفداء الإلهي" لأن عدم تحقق "الفداء الإلهي" سيجعل من "التجسد" عملا عبثيا لا قيمة له وحدوثه كعدمه سواء، فيقول:
(إن انفصال الطبيعتين الذي ناد به "نسطور" لم يستطع أن يقدم حلًا لموضوع الكفارة والفداء. وقد حرصت الكنيسة على تعبير الطبيعة الواحدة من أجل أهمية هذا الموضوع، كما لباقي النتائج أيضًا المترتبة على وحدة الطبيعة). ويقول: (وإن كان الهدف الأول من التجسد هو الفداء. والفداء لا يمكن أن يتم عن طريق الطبيعة البشرية وحدها، إذن الإيمان بطبيعة واحدة للكلمة المتجسد أمر جوهري لا يستطيع أحد أن ينكره. ولا يمكن أن يتم الفداء إن قلنا أن الناسوت وحده هو الذي له الآلام والصلب والدم والموت). انتهى

أقول: وهل أجاب "البابا شنودة" بكلامه هذا إجابة واضحة صريحة قاطعة على هذا السؤال: من الذي صُلِبَ وتألم وسال دمه ومات على الصليب؟؟، هل هو الإله؟ أم الإنسان؟، أم الاثنان معا؟. حتى نعرف ويعرف الناس هل تحقق الفداء الإلهي أم لا؟.

## ثانيا: عقيدة (الطبيعتين) عند "الكاثوليك" و"البروتستانت":

حين التأم (مجمع خلقيدونية) المسمى (المجمع المسكوني الرابع) في "451م" وشارك فيه 630 أسقفا، وقرر هذا المجمع القانون الإيماني التالي: (إنّ المسيح هو نفسه تامّ في الألوهة وتامّ في البشريّة، إله حقّ وإنسان حقّ. إنّه مساوٍ للآب في الألوهة ومساوٍ لنا في البشريّة، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلّ الدهور وُلد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، وُلد من مريم العذراء والدة الإله، بحسب البشريّة. واحدٌ هو، وهو نفسه المسيح، ابن الله، الربّ، الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الربّ يسوع المسيح).

لكن الكنيسة الأرثوذكسية في الأسكندرية رفضت قرار هذا المجمع واعتبرته مجمع (لصوص)، واعترضت على الاعتراف أن يكون للمسيح طبيعتان متّحدتان في شخص واحد. ونقوم هنا بعرض الإيمان "الخلقيدوني" أو "الكاثوليكي والبروتستانتي" في الطبيعتين على النحو التالي:

المفهوم "الكاثوليكي والبروتستانتي" "للطبيعتين" في شخص "يسوع المسيح" واتحادهما يقوم على اتحاد بين طبيعتين في شخص يسوع المسيح الواحد وليس طبيعة يسوع المسيح الواحدة كما يقول "الأرثوذكس". فليس للمسيح طبيعة واحدة بعد التجسد كما يقول الأرثوذكس لأن له طبيعتان: (بشرية وإلهية)، لم يكن له طبيعتان قبل التجسد، بل طبيعة واحدة إلهية، وإلا لماذا تجسد إذاً؟ والقديس "كيرلس" في قوله: ( طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسد). لم يقصد بها مسألة "الطبيعة الواحدة" لأن "كيرلس" كان يؤمن بطبيعتي المسيح الإثنتين، ولكنه كان يقصد شخص المسيح نفسه، أي: كيانه الذي شوهد بالجسد. أي يمكن اعتبارها هكذا: (شخص واحد للإله الكلمة المتجسد). وليس طبيعة واحدة، كيف يمكنك ان تقول ان له طبيعتان غير مختلطتان، ومن ثم تقول ان له طبيعة واحدة في آن معاً؟. وهذا يعني أن الترجمة "اللاخلقيدونية" لكلمة: (طبيعة، شخص) هي ترجمة خاطئة التبس فهمها على "اللاخلقيدونيين". خلقيدونيا يقول أنه للاقنوم الثاني طبيعة واحدة الهية قبل التجسد بدليل قول يوحنا (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة هو الله). وله طبيعتان: (بشرية وإنسانية) بعد التجسد بدليل قول يوحنا: (والكلمة صار جسداً وحل بيننا). ولكنه كان شخصاً واحداً وليس شخصين بدليل أن القديس يوحنا يتابع الحديث عنه كشخص واحد: (ورأينا مجده كمجد وحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً).

إذاً لا يوجد امتزاج بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية ولا يوجد انفصال أيضاً، لا يوجد طغيان لإحداهما على الأخرى ولا تداخل لأحداهما في الثانية، لا توجد طبيعة تهيمن على الثانية في شخصه الواحد: المسيح هو شخص واحد بطبيعتين متحدتين ومتمايزتين وواضحتين، ولكنه شخص واحد، إله واحد، وأقنوم واحد. المسيح بقي شخصاً واحداً ولم يكن شخصين اثنين مرة انسان ومرة إله، كان في كل لحظة إله تام وإنسان تام. فمثلا في حديثه مع السامرية سألها ان يشرب كإنسان (الإنسان يعطش) وتكلم معها وعلمها كإله، وفي بستان الزيتون حزن كإنسان وخضع بطبيعته البشرية لإرادة الآب ولكنه أبرأ أذن عبد رئيس الكهنة التي قطعها بطرس كإله، وفي البرية صام وقبل التجربة كإنسان ولكنه انتصر على إبليس كإله. وأفضل تمييز لطبيعتي المسيح -الإله الكلمة المتجسد- نجدها فوق الصليب: فالطبيعة الإنسانية تتألم وحدها والطبيعة الإلهية لم تفارق هذا الإنسان المتألم وهي التي أقامته من الموت ( لأننا نؤمن أن الطبيعة الإلهية لم تفارق ناسوته ولا لأي برهة. وهو نفسه في كل حين كان ولا يزال الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس).
المصدر: "حوار بين "خلقيدوني" و"لاخلقيدوني" باختصار وتصرف على الرابط التالي:
http://www.serafemsarof.com/vb/showthread.php?t=2220

وحتى لا يتوه القارئ الكريم في غابات تصور عقيدة التجسد الإلهي عند "الكاثوليك والبروتستانت"، فسأضرب له مثلا توضيحيا كذلك لوصف تصور عقيدة أصحاب "الطبيعتين" لتجسد الإله في الإنسان على النحو التالي:
إن مثل عقيدة أصحاب "الطبيعتين"، كمثل شخصين اتحدا معا بالركوب في سيارة واحدة، هذه السيارة قامت بدهس أحد المارة فأردته قتيلا، فاقتادت الشرطة سائق السيارة والشخص الذي كان يجلس بجواره وقدمتهما إلى المحكمة، فقضى قاضي المحكمة بالحكم التالي: لقد رأت هيئة المحكمة بأن السائق والشخص الذي كان يجلس بجواره اتحدا معا في سيارة واحدة فصارا شخصا واحدا دون انفصال أو امتزاج أو اختلاط، ولكن السائق شيء ومن كان يجلس بجواره شيء آخر، والسائق هو وحده من ارتكب الحادث وعليه وحده تقع العقوبة أما الشخص الذي كان يجلس بجواره فلا تقع عليه أي عقوبة لأنه لم يكن يقود السيارة، وعليه فقد حكمت المحكمة بالسجن المؤبد على الشخص الواحد المتحد في شخصين لكن لا ينفذ العقوبة إلا شخص السائق فقط، ولكن دون انفصال أو افتراق وفي الوقت نفسه دون امتزاج أو اختلاط بين الشخصين في اتحادهما في شخص واحد.

## مبررات المؤمنين بعقيدة "الطبيعتين":

إن القول بالإتحاد بين الطبيعتين البشرية والإلهية في "طبيعة واحدة" للمسيح يسوع كما يقول "الأرثوذكس" "اللاخلقيدونيون" هو قول مرفوض لدى أصحاب "الطبيعتين" لأنه يعني أن للمسيح يسوع طبيعتان رغم الإتحاد، ولا يمكن لهما ان يكونا "طبيعة واحدة" حتى ولو اتحدتا. لأنه عندما تمزج معدنين بعد صهرهما بالنار لتحصل على معدن جديد فإن المعدن الجديد يبقى مكوناً من معدنين أساسيين رغم الإنصهار والإتحاد. فكيف يمكن للأرثوذكس أن يقولوا أن الطبيعتان الإلهية والبشرية للمسيح اتحدتا بلا ذوبان ولا امتزاج، وبنفس الوقت يقولون أنهما تشكلان طبيعة واحدة؟، وبالتالي فالمفهوم الأرثوذكسي غامض، وغير سليم منطقياً ولا عقائدياً ولا فكرياً وفقا لقول "الكاثوليك والبروتستانت".

ويطرح "الكاثوليك" على الأرثوذكس التساؤلات التالية: لو كان صحيحا ما يقوله "الأرثوذكس" أن المسيح له طبيعة الهية واحدة تامة (اتحاد اللاهوت بالناسوت) اتحاد اقنومي تام فليشرحوا لنا كيف يكون للمسيح طبيعة واحدة إلهية ويبكي "على لعازر" (هل يبكي الإله؟)، ويخضع للتجربة من إبليس (هل يُجرَّب الإله؟)، ويجوع "بعد التجربة" (هل يجوع الإله؟)، ويتألم ويموت (هل يتألم ويموت الإله؟) ووو إلخ.

ويقول "الكاثوليك" أيضا: الطبيعة الإلهية لا يمكن للعين البشرية أن تراها، الله ما رآه أحد وعاش أبداً كما يقول هو لموسى. و"الأرثوذكس" بكلامهم العشوائي جعلوا من اللاهوت عرضة لكل هذه الإختبارات البشرية، وهو ما توضحه الترنيمة: (قدوس الله قدوس القوي قدوس الذي لا يموت الذي تألم من اجلنا ارحمنا). فإذا كان "التريصاجيون" هو للثالوث الأقدس فكيف هو لا يموت وكيف تألم من اجلنا؟. هذا يعني أنه لا يمكن للطبيعة الإلهية ان تتألم، لذلك كان على الإله أن يتخذ لنفسه طبيعة بشرية مثل طبيعتنا لكي يفتدي البشر، وهو ما يوضحه القديس اثناسيوس الرسولي: (صار الكلمة إنساناً لكي يصير الانسان إلهاً). المسيح شخص واحد إله واحد هو نتاج اتحاد اللاهوت بالناسوت (التجسد). هذا ما أراد " الأرثوذكس" قوله ويعبرون عنه دوماً بشكل خاطيء بكلمة "طبيعة واحدة"، الفرق شاسع بين كلمة "شخص واحد" وكلمة "طبيعة واحدة". فالإنسان مثلا شخص واحد، وله طبيعة واحدة بشرية. أما يسوع المسيح فهو شخص واحد، له طبيعتان إلهية وبشرية متحدتان بلا انفصال ولا امتزاج.
المصدر: "حوار بين "خلقيدوني" و"لاخلقيدوني" باختصار وتصرف على الرابط التالي:
http://www.serafemsarof.com/vb/showthread.php?t=2220

بعد عرضي لعقيدة طائفة "الكاثوليك" أصحاب الطبيعتين أقول: لا شك أن "الكاثوليك" و"البروتستانت" باعتناقهم لهذه العقيدة يحاولون جهدهم أن يظهروا تماسكا ما في أصل عقيدة "التجسد"، ولا شك أنهم يحاولون جهدهم أن يقوموا بوعي ما يستعصي على الوعي، بل ما لا يمكن وعيه بأي وجه من الوجوه، ولكنهم عبثا يحاولون، والسؤال الآن للكاثوليك أصحاب عقيدة "الطبيعتين": إذا كنتم تنكرون على أصحاب عقيدة "الطبيعة الواحدة" أنهم باعتقادهم في "طبيعة واحدة" سينسبون إلى الله الخالق أفعال وآثار البشر المخلوقين، فكيف تعتقدون أنتم أيها "الكاثوليك" وأيها "البروتستانت" بتجسد الإله الخالق المطلق اللامحدود في الجسد البشري المحدود المأخوذ من مريم؟؟، أليس هذا تناقضا فجا بين ما تنكرونه على الآخرين وبين ما تؤمنون بمثله؟؟، ثم ما الفرق بين إنكاركم على "الأرثوذكس" نسبة الأكل والشرب والبكاء والحزن والتألم والموت إلى الطبيعة الإلهية، وأنتم في الوقت نفسه قد نسبتم إلى الإله الخالق المطلق الأزلي غير المحدود أنه اتخذ من العذراء مريم جسدا بشريا مخلوقا محدودا وتجسد به؟؟!!، أليس هذا عين التناقض؟؟، فإن قلتم هو سر إلهي عظيم لا يمكننا نحن البشر وعيه، أرد عليكم وأقول هكذا قال "الأرثوذكس" أصحاب "الطبيعة الواحدة" عن "الطبيعة الواحدة" أنها سر إلهي عظيم لا يمكننا نحن البشر وعيه، فأنتم بقولكم أن الله تجسد في الإنسان البشري المأخوذ من مريم والذي يجوع ويأكل ويظمأ ويشرب ويبكي ويحزن وينام ويقوم ويتألم ويموت فقد اعتقدتم نفس الاعتقاد الذي أنكرتموه على أصحاب الطبيعة الواحدة. فتُراكم في أي شيء تفضلتم عليهم؟.

وكذلك أصحاب "الطبيعتين" "الكاثوليك" و"البروتستانت" لم يقدموا لنا حلا للكفارة والفداء الإلهي كما ذكر البطريرك "شنودة الثالث" قبل قليل، وإلا أصبح التجسد عملا عبثيا لا قيمة له، وإذا كان الألم والموت على الصليب قد لحق بالناسوت فقط كما تقولون فما فائدة التجسد الإلهي، إذا كان الألم والموت على الصليب قد لحق بالناسوت فقط؟، وألا يعد التجسد الإلهي في مثل هذه الحال لونا من العبث؟، بل ألا يعد هذا إطاحة وهدم لجذر المسيحية القائمة على عقيدة "الفداء الإلهي"؟. وإن قلتم إن الإنسان في شخص "يسوع المسيح" قد تحول "للاهوت" فقولكم هذا هو الوثنية بعينها، إذ كيف يتأله المخلوق؟، وما الفرق بينكم وبين من عبدوا الأخشاب والأحجار والتماثيل والشمس والقمر والكواكب وادعوا أنها آلهة رغم كونها مخلوقات؟، وإذا لم يكن تأليه المخلوق وثنية فماذا تكون الوثنية لديكم؟.

وصدق الله العظيم: (مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). (75_ المائدة).

## نصيحة واجبة :

أنا لا يعنيني في شيء وأظن أنه لا يعني كثير ممن يبحثون في مقارنة الأديان أن يقول رجال الدين المسيحي إن الله "تجسد" في ابن مريم أو لم يتجسد، كذلك لا يعنيني في شيء أن يكون لـ "يسوع المسيح" "طبيعة واحدة" أو "طبيعتين"، ما يعنيني وما يعني الباحثين في مقارنة الأديان بشكل رئيسي أنه حين يقوم رجال أي دين من الأديان وخاصة رجال الدين النصارى بعرض عقائدهم على الناس محاولين فلسفتها وإدخالها في حيز الوعي البشري فلابد أن يكون القائمون على رعاية تلك العقائد على أهبة الاستعداد للإجابة على أي سؤال قد يطرح على عقائدهم من أتباعها أو من خارج أتباعها، وإلا فليكفوا عن محاولات فلسفتها وإدخالها عنوة في إطار الوعي البشري. لأن الفلسفة ساحة وعرة وخطرة ومليئة بألغام الأسئلة أو بالأسئلة الملغمة، لهذا فإن محاولات عرض وتسويق الأفكار والعقائد الدينية في سوق الفلسفة دون أن يكون لدى عارضيها ومسوقيها أدوات لكشف ألغام الأسئلة أو للرد على الأسئلة الملغمة فسوف تنفجر الأسئلة في وجه تلك العقائد، مما سيتسبب في بتر أطرافها أو أن تلقى حتفها، وعليه فمن لم يكن لديه تلك الأدوات الكاشفة لألغام الأسئلة فليصمت نهائيا وليكف عن محاولات فلسفة تلك العقائد وإدخالها عنوة في إطار الوعي البشري، وليقولوا للناس هذه هي عقائدنا، فمن أراد أن يؤمن بها كما هي فليؤمن، ومن لم يرد فليدق رأسه في أقرب حائط لديه.

## علاقة عقيدة "تجسد الله" بالفرق الإسلامية :

وهنا قد يسأل سائل ويقول: ما علاقة عقائد النصارى التجسدية بأفكار وعقائد الفرق الإسلامية المختلفة: الجواب: بعد دخول المسلمين إلى البلدان المفتوحة واختلاطهم بأهلها كانت تقام مناظرات ومناقشات وجدالات بين المسلمين وأهل تلك البلدان، للمقارنة بين عقيدة الإسلام وبين عقائد أهل تلك البلدان، وكان من بين موضوعات تلك المناظرات، محاولة ردود بعض رهبان النصارى على المسلمين في اتهامهم لهم بالكفر وأنهم يعبدون "المسيح بن مريم" ويتخذونه إلها من دون الله، فكان النصارى يردون على المسلمين بقولهم: (نحن نعتقد أن المسيح بن مريم هو "كلمة الله المتجسد" وبما أنه كلمة الله فهو غير مخلوق، وعليه فلا فرق بين ذات الله وبين كلمته، فالله هو الكلمة والكلمة هو الله). ويقولون للمسلمين كذلك: (ألستم أنتم أيها المسلمون تقولون أن "القرآن" هو "كلام الله"؟). فيجيب المسلمون بـ (نعم). فيقول لهم النصارى: (هل القرآن الذي هو كلام الله، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟)، فيجيب المسلمون وقتها بـ: (نعم هو كلام الله غير مخلوق). فيرد عليهم النصارى بقولهم: (أليس الله عندكم في القرآن قد قال عن "المسيح بن مريم" إنه "كلمة الله"؟). فيجيب المسلمون وقتها بقولهم: (نعم "المسيح بن مريم" "كلمة الله"). فيرد عليهم النصارى بقولهم: (بما أن "المسيح بن مريم" هو "كلمة الله" باعتراف القرآن وشهادته، إذن فهو ليس بمخلوق، فحين نقول نحن النصارى إن "الله" هو "المسيح" و"المسيح" هو "الله"، فلسنا بكفار ولا وثنيين كما تصفوننا، ولو كنا كفارا ووثنيين كما تقولون، إذن فأنتم أيضا كفارا ووثنيين مثلنا، لأنكم تقولون عن هذا الكتاب "القرآن" هو كلام الله غير مخلوق، رغم أنه متجسد ومكتوب على الأوراق المخلوقة وبالحروف والكلمات البشرية المخلوقة، فما الفرق إذن بين إيماننا بالمسيح "كلمة الله" غير المخلوق والمتجسد في جسد بشري، وبين إيمانكم بالقرآن "كلام الله" غير المخلوق والمتجسد في الأوراق والحروف والكلمات البشرية المخلوقة؟).

فمن هنا بدأت لعنة عقيدة التجسد تتسرب إلى رؤوس وأفكار ومعتقدات المسلمين، وبدأت الفرقة والاختلاف والتمزق والتشرذم والتناحر الفكري والديني حتى يومنا هذا، وبدأ المسلمون في تكفير بعضهم بعضا. حيث تسربت هذه العقائد الإفكية أول ما تسربت إلى أفكار الخوارج ابتداء، ثم إلى عقائد الشيعة، ثم إلى عقائد أهل السنة والجماعة "الأشاعرة والماتريدية"، ثم إلى عقائد "المعتزلة" ولكن بصورة مختلفة عن عقائد "الأشاعرة والماتريدية"، ثم انتشرت كالوباء إلى كل فرق وطوائف المسلمين، ومازالت لعنة وإفك عقيدة "التجسد الإلهي" موجودة وقائمة وسارية في معتقدات وفهوم وأفكار ومذاهب المسلمين حتى يومنا هذا، وخاصة أفكار ومعتقدات التيارات الإسلامية إلى أن استقر مؤخرا في عقائد وأفكار القرآنيين، وسوف نوضح هذا ونشرحه تاريخيا على النحو التالي:

## "التجسد" في فكر الخوارج :

هنا قاعدة مهمة يجب لفت انتباه القارئ إليها ابتداءً قبل تناول قضية "التجسد" في فكر الفرق الإسلامية، ألا وهي: "تجسد الإله" لدى المؤمنون بهذه العقيدة لونان، لون: يعتقد بتجسد الإله في المخلوق. ولون آخر: يعتقد بتأله المخلوق. وهذا ما سنراه في عقائد التجسد لدى الفرق الإسلامية.

إن إفك عقيدة "التجسد" في أي ملة وفي أي دين أو مذهب أو فكر أو عقيدة يبدأ حين يبدأ باعتقاد أن الله قد حلَّ أو تجسد في بشر أو في نص ديني أو في حجر أو في ملك من الملائكة، أو اعتقاد أن بشرا ما أو نصا دينيا ما أو حجرا ما أو ملكا ما انبثق من الله فصار جزء من ذات الله أو تأله فتحول إلى جزء من ذات الله، كما قال تعالى: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ). (15_ الزخرف). ثم يترتب على الاعتقاد بتجسد الله في الأشياء، تجسد آخر لله في الأفكار والمعتقدات الناجمة عن التجسد الأول. أي: أنه "تجسد إلهي مزدوج" _إن جاز التعبير_، بمعنى أن عقائد التجسد تبدأ باعتقاد حدوث تجسد إلهي في شيء ما، ثم ينتج عن اعتقاد التجسد ذلك فكرة ما أو عقيدة ما، هذه الفكرة أو العقيدة يتجسد فيها الله من حيث كونها أصبحت فكرة أو عقيدة إلهية يغدو من ينكرها أو من لم يتبعها كافرا أو مشركا بالله، لأنهم يعتقدون أن هذه الفكرة وهذا المعتقد هو مراد الله ذاته وقصده، وعليه فأي مساس به هو مساس بذات الله المتجسد في الشيء والمتجسد في ما نتج عن ذلك الشيء من أفكار ومعتقدات.

فالخوارج انطلقت أفكارهم من اعتقادهم أن (الحكم) الذي يجب أن يفصل بين الناس في منازعاتهم هو حق خالص لله، وبما أن (الحكم) هو حق خالص لله فلا يجوز الالتجاء إلى أي حكم آخر غير حكم الله، وأن الالتجاء إلى حكم أي أحد غير الله هو شرك وكفر بالله، ومن هنا رفع الخوارج شعارا لهم من بعض آيات القرآن الكريم لتأييد فكرتهم وشرعنتها دينيا، فكان شعارهم قول الله: (إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (57_ الأنعام). وقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). هو التكئة التي توكأ عليها الخوارج في تكفير فريقي النزاع (معاوية بن أبي سفيان) و(علي بن أبي طالب) ومن معهما من الأتباع.

ففي بادئ الأمر رفع معاوية وصحبه المصاحف على أسنة الرماح وقالوا بيننا وبينكم كتاب الله، إلا أن عليا رفض هذا واعتبرها مناورة ماكرة من طرف معاوية وصحبه، وبعدها تراضى الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات على التحكيم، وهو أن يبعث كل واحد من الأميرين (علي) و(معاوية) حكما من جهته ثم يتفق الحكماء على ما فيه مصلحة المسلمين، فبعث معاوية بـ (عمرو بن العاص)، وبعث على بـ (أبي موسى الأشعري), ثم كتب على بن أبي طالب كتاباً بموافقته على التحكيم ثم أعطاه للأشعث بن قيس الذي مر على جماعة من بني تميم فقرأ عليهم الكتاب فقام إليه (عروة بن جرير) من بني ربيعة بن حنظلة فقال: أتحكمون في دين الله الرجال؟, فالتقط هذه الكلمة طوائف من أصحاب علي من (القراء) ورفعوا شعارهم الشهير: (إن حكم إلا الله) أو (حسبنا كتاب ربنا)، ولما رجع على بن أبي طالب إلى الكوفة اعتزل من جيشه ما يقرب من اثنا عشر ألفا، وهم من سموا بـ (الخوارج)، وكان من أمرهم ما كان، فقد كفروا على بن أبي طالب ومعاوية وجميع الصحابة، واستحلوا دمائهم وأموالهم وأعراضهم ثم قاتلهم على بن أبى طالب بعد ذلك وهزمهم وكسر شوكتهم فلم تقم لهم قائمة بعدها أبدا.

لكن ما لم ينتبه له (الخوارج) حين كفروا (علي بن أبي طالب) و(معاوية بن أبي سفيان) وأتباعهما أن محض الاحتكام إلى أي أحد غير الله لا يعد كفرا أو شركا بالله، بدليل أن الحق سبحانه أمر بالاحتكام والتحكيم في بعض الأمور إلى غير الله، ومنها: أن الله أمر حين ينشب نزاعا بين الزوجين وقد يترتب على ذلك النزاع شقاق بينهما أن نبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً). (35_ النساء). ومنها: أن الله أمر أن يحكم إثنان من ذوي العدل في جزاء قتل الصيد في حال الإحرام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ). (95_ المائدة).

وقد نهى النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام أميره "بريدة" أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله، وقال: (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك). فتأمل كيف فرق بين "حكم الله" و"حكم الأمير" المجتهد، ونهى أن يسمى حكم الحاكم المجتهد "حكم الله". كذلك لما كتب الكاتب بين يدي "عمر بن الخطاب" حكما حكم به فقال: (هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب).

فالخوارج اعتقدوا أن الله قد تجسد في أحكامه وتشريعاته انطلاقا من اعتقادهم أن القرآن هو كلام الله الذي تكلم به على وجه الحقيقة، وبالتالي فالقرآن هو جزء من ذات الله، وعليه فـ "حكم الله" كفكرة وكعقيدة هو جزء كذلك من ذات الله، وعليه فمن لم يحتكم إلى حكم الله الذي هو القرآن فقد كفر وأشرك بالله، فاعتقدوا أن قول الله: (إن الحكم إلا لله). وقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). يعني أن محض من يحتكم أو يتحاكم إلى أي أحد سوى الله فهو مشرك كافر بالله، حيث اقتادتهم ظنونهم أن الله قد تجسد بذاته في حكمه، أو أن صفة الحكم والاحتكام هي صفة إلاهية مطلقة لا يمارسها المرء إلا عن طريق حكم الله فحسب، فأصبح الله ذاته هو حكمه، وحكمه هو ذاته، وظنوا أن الالتفات في الحكم لكل ما أو مَنْ سوى الله يعد شركا وكفرا بالله.

ولم ينتبه الخوارج كذلك إلى أن قول الله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). مدلوله ومفهومه الذي أراه هو الشخص الذي يقر ويوقن بأن هذا هو حكم الله حقيقة لكنه يتعمد ويصر ويعاند ويقاوم حكم الله هذا، وفي الوقت نفسه ليس لديه أي مانع من فهم أو رؤية جعلته يرجئ الالتزام بحكم الله لتحقيق مصلحة مشروعة أو دفع مفسدة محققة، أو ليس لديه مانع مادي اضطراري يمنعه من الالتزام بحكم الله، أو ليس لديه مانع من عدم فهم وعدم علم وعدم تبين لحقيقة ومغزى ومراد حكم الله، إنما هو متبع لهواه وشهواته، فهذا هو الكافر الذي لا يحكم بما أنزل الله. ولكن من الذي يملك علم الغيب وعلم ما في الصدور ليعلم حقيقة ما في داخل صدور الناس ونواياهم حتى يحكم بكفر هذا أو عدم كفر ذلك؟، لأجل هذا قال سبحانه: (إن الحكم إلا لله). وأرى أن حصر وقصر وتوكيد الحكم لله في هذه الآية، هو الحكم على حقيقة ما في صدور الناس، وما تنطوي عليه نواياهم من إيمان حقيقي أو كفر حقيقي، مما لا يعلمه إلا الله وحده وليس لنا نحن البشر دخل به، لماذا؟، الجواب: (إن الحكم إلا لله). فيما لا يعلم خفاياه ومكنوناته وحقيقته إلا الله وحده.

فهذه العقائد الإفكية التجسدية التكفيرية كانت نتيجة للخلط الموهوم في أذهان الخوارج بين الله (المطلق) وأحكامه وتشريعاته البشرية. رغم أن أحكام الله وتشريعاته للناس لا تخرج إطلاقا عن كونها أحكاما وتشريعات بشرية في ذاتها وماهيتها وكينونتها لكنها إلهية المصدر، أي خلقها الله كما خلق أي شيء آخر، وبعبارة أكثر تفصيلا: إن "كلام الله" و"كتاب الله" و"تشريعات الله" و"أحكام الله" و"روح الله" و"كلمة الله" هي بالفعل مصدرها الله، لكنها بذاتها وماهيتها وتكوينها ومحتواها مخلوقة لله، ولا يعني أن القرآن كلام الله أنه ليس مخلوقا لله، بل إن القرآن رغم أنه كلام الله ومصدره الله لكنه بحروفه وكلماته ومضامينه ومدلولاته ومحتوياته ومفاهيمه وأحكامه وتشريعاته هو حروف وكلمات ومضامين ومدلولات ومحتويات ومفاهيم وأحكام وتشريعات بشرية مخلوقة، وتخضع لكل ما يخضع له البشر المخلوقين، ولو كان كل ما يصدر عن الله أو من الله ليس مخلوقا وأن به شيئا من تجسد ذات الله فيه لأصبحت السموات والأرض والجبال والأشجار والزروع والسحاب والإنسان والأنعام ليست مخلوقة لأن مصدرها هو الله، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ). (13_ الجاثية). وعليه فلو كان كلام الله وأحكامه وتشريعاته إلهية في ذاتها وماهيتها ومحتواها لأصبحت جزءًا من (ذات الله)، وهذا محال، وتعالى الله عن هذا علوا كبيرا، كذلك لو كانت تشريعات الله وأحكامه ذات ماهية وذاتية إلهية كما ظن الخوارج فكيف يمكن للفرد البشري المخلوق المحدود أن يتعاطى مع ما هو إلهي مطلق بما هو بشري مخلوق محدود؟.

## "التجسد" في فكر الشيعة:

كذلك فعلت طائفة "الشيعة" حيث اعتقدوا أن الأئمة الاثنا عشر: (علي بن أبي طالب، وزوجه فاطمة، وابنيهما الحسن والحسين، وبقية الذرية من الأئمة الاثني عشر من ذرية الحسين)، قد تجسد الله في ذواتهما، عن طريق اعتقادهم بعصمتهم المزعومة، وجعلوهم أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وانطلاقا من تسرب إفك التجسد الإلهي من ذوات الإئمة المعصومين إلى ما نتج عن هذه العقيدة من أفكار ومعتقدات، فأصبحت فكرة وعقيدة "الإمامة" أصل من أصول الدين لدى الشيعة ومنكرها كافر بالله. يقول الشيخ محمد رضا المظفر‘ في كتابه "عقائد الإمامية: (نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة). ويقول: (ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمدا وسهوا).

ويقول عن علم الإمام: (أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله. وإذا استجد شئ لا بد أن يعلمه من طريق الالهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه، فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقي، لا يخطأ فيه ولا يشتبه، .... من دون أن يحتاج إلى التفكير وترتيب المقدمات والبراهين أو تلقين المعلمين. فلذلك، نقول أن قوة الالهام عند الإمام التي تسمى بالقوة القدسية تبلغ الكمال في أعلى درجاته، فيكون في صفاء نفسه القدسية على استعداد لتلقي المعلومات في كل وقت وفي كل حالة، فمتى توجه إلى شئ من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوة القدسية الإلهامية بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ولا تلقين معلم .وتنجلي في نفسه المعلومات كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية لا غطش فيها ولا إبهام. ويبدو واضحا هذا الأمر في تاريخ الأئمة عليهم السلام كالنبي محمد صلى الله عليه وآله، فإنهم لم يتربوا على أحد ، ولم يتعلموا على يد معلم، من مبدأ طفولتهم إلى سن الرشد، حتى القراءة والكتابة، ولم يثبت عن أحدهم أنه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شئ من الأشياء، مع ما لهم من منزلة علمية لا تجاري. وما سئلوا عن شئ إلا أجابوا عليه في وقته، ولم تمر على ألسنتهم كلمة (لا أدري)، ولا تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك). انتهى.

ويقول عن وجوب طاعة الأئمة: (ونعتقد أن الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وأنهم الشهداء على الناس، وأنهم أبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه، وأنهم عيبة علمه وتراجمة وحيه وأركان توحيده وخزان معرفته، ولذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء). ويقول: (بل نعتقد أن أمرهم أمر الله تعالى، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليهم وليه، وعدوهم عدوه، ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول والراد على الرسول كالراد على الله تعالى. فيجب التسليم لهم والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم).

ويقول الشيخ "جعفر السبحاني" في كتابه "أضواء على عقائد الشيعة الإمامية": (تفردت الإمامية من بين الفرق الإسلامية بإيجابها عصمة الإمام من الذنب والخطأ). ويقول الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في كتابه: "هوية التشيع": (أن أولي الأمر _يقصد الأئمة_ الواجب طاعتهم يجب أن تكون أوامرهم موافقة لأحكام الله تعالى لتجب لهم هذه الطاعة ولا يتسنى هذا إلا بعصمتهم إذ لو وقع الخطأ منهم لوجب الإنكار عليهم وذلك ينافي أمر الله بالطاعة لهم). ويقول: (إن المعصوم قد بلغ من التقوى حدا لا تتغلب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبدا. وليست العصمة فكرة ابتدعتها الشيعة، وإنما دلهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب الله وسنة رسوله، قال سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). ويتساءل العلماء عن معنى ذهاب الرجس لينتهوا إلى أنه نفي كل ذنب وخطأ عنهم والإرادة هنا تكوينية لا تشريعية لوضوح أن التشريعية مراده لكل الناس). انتهى

ويعتقد العلامة الحلى أن إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة فقد قال: (الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حى بخلاف الإمام....وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص). وعقب أحد علمائهم على هذا بأنه: (نعم ما قال) وأضاف: وإلى هذا أشار الصادق بقوله عن منكر الإمامة هو شر الثلاثة، فعنه أنه قال : الناصبى شر من اليهودي. وقيل: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ فقال: إن اليهودى منع لطف النبوة وهو لطف خاص، والناصبى منع لطف الإمامة وهو عام). انظر (حاشية النافع يوم الحشر)، ص 43. وفي كتاب "مصباح الهداية" (ص 61، 62) ذكر المؤلف أن الإمامة فوق النبوة. وقال ابن بابويه القمي: (اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين على بن أبى طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء. واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم). انتهى (رسالة في الاعتقادات) (ص 103). وقال المفيد: (اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار). (بحار الأنوار) للمجلسى، (ص: 23، 390).

أقول: (هؤلاء الناس يعتقدون عقيدة تجسدية من لون: "تأليه المخلوق" لأن ما يتحدثون عنهم هم "أئمة تألهت"، أو تحولت إلى "آلهة مقدسة"، ولا يتحدثون عن أئمة من البشر العاديين مثلي مثلك، وهذا هو نفس إفك عقائد النصارى في تجسد الله في المسيح ابن مريم، أو تأله المسيح فصار جزءً من الله).

## "التجسد" في عقائد أهل السنة والجماعة:

كذلك فعلت طائفة "أهل السنة والجماعة" حين اعتقدوا أن "القرآن الكريم" جزء من ذات الله قد تجسد في كلمات "القرآن الكريم"، عن طريق اعتقادهم بأن القرآن الكريم "كلام الله غير مخلوق" وقد تكلم الله به على الحقيقة، وانطلاقا من تسرب إفك التجسد الإلهي من القرآن الكريم إلى ما نتج عن هذه العقيدة من أفكار ومعتقدات، فأصبحت فكرة وعقيدة "القرآن كلام الله غير مخلوق" أصل من أصول الدين ومنكره كافر بالله. فيقول أحد فقهاء "أهل السنة والجماعة": (أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، بحروفه ومعانيه، فالقرآن هو كلام الله بحروفه ومعانيه، تكلم الله به جل وعلا وسمعه جبريل، وبلغه محمد عليه الصلاة والسلام، فالقرآن كله حروفه ومعانيه هو كلام الله، و من قال أنه مخلوق فقد كفر عند أهل السنة والجماعة، فهو كلام الله حروفاً ومعاني، وهو موجود في اللوح المحفوظ حروفه ومعانيه، كما قال سبحانه وتعالى: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"، فالقرآن كله كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، بحروفه ومعانيه جميعاً، كما نص على ذلك أهل السنة والجماعة).

وقال ابن تيمية في كتابه "العقيدة الواسطية": (فالقرآن كلام الله حروف ومعاني جميعاً، ولا يكون كلام إلا بحروف ومعاني، الكلام حروف ومعاني، فكلام الله حروف ومعاني نزل به جبريل على النبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، وأثبته الله في اللوح المحفوظ، كما بين في كتابه العظيم سبحانه وتعالى، ومن قال خلاف ذلك فقد قال الشر، وابتدع في الدين وخالف أهل السنة والجماعة). وقال الإمام أحمد بن حنبل: (والقرآن كلام الله، تكلّم به، ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يَقُل ليس بمخلوق، فهو أخبث من قول الأول، ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يُكفّر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم). وروى الإمام "اللالكائي" في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة": أرسل رجل من أهل خراسان إلى أبي ثور إبراهيم بن خالد بكتاب يسأله وفيه: (وسألت الصلاة خلف من يقول القرآن مخلوق، فهذا كافر بِقَولِه لا يُصلَّى خلفه، وذلك أن القرآن كلام الله جل ثناؤه، ولا اختلاف فيه بين أهل العلم، ومن قال كلام الله مخلوق فقد كفر).
وطبقا لمعتقدات "أهل السنة والجماعة" هذه فإن "نهرو ابن طنطاوي" كافر بالثلاثة، لأنه يقول بخلق القرآن.

أقول: (هذا هو نفس إفك عقائد النصارى في تجسد الله في المسيح ابن مريم).

## "التجسد" في فكر المعتزلة :

كذلك فعلت طائفة "المعتزلة" فلم يعفهم قولهم إن القرآن مخلوق من الوقوع من ناحية أخرى في براثن عقيد التجسد الإلهي في مسألة أسماء الله وصفاته، فيعتقد المعتزلة في قضية التوحيد في ذات الله وصفاته أن الله ذات ووجود وهذا الوجود يتصف بصفات ذكرها الله في كتابه وصف الله بها نفسه بأنه عالم، كبير، قدير، سميع، خالق، بصير. ويعتبر المعتزلة هذه الصفات مضافة للذات، مثلا: الإنسان لا يولد عليم ثم يصبح عليما. المعتزلة يقولون أن هذه الصفات ليست زائدة عن الذات إنما هي عين الذات الإلهية. ومن هذه الصفات: (العلم – القدرة – الإرادة – الحياة – السمع – البصر – الكلام) سبع صفات للذات. وقد قسم المعتزلة صفات الله إلى قسمين: صفات الذات وصفات الفعل، أما صفات الذات فهي الصفات التي لا يجوز لله أن يتصف بها وبضدها في آن واحد، بمعنى لا يجوز أن يقال الله عالم بشيء وغير عالم بشيء آخر، وبالتالي فصفة العلم صفة ذاتية في ذات الله. أما صفات الفعل، فهي وقالوا أن صفات الذات هي عين الذات، أما صفات الفعل فيجوز أن يوصف الله بضدها مثل الرزاق، فأحيانا يرزق وأحيانا يمنع الرزق، والمعتزلة يقولون أن كلام الله صفة الفعل وليست صفات الذات. وهذه العقيدة عند المعتزلة هي نفس عقيد النصارى "الأرثوذكس" في تجسد الله في المسيح بن مريم، حيث يقول الأنبا غريغوريوس في شرحه عقيدة التجسد في نسختها الأرثوذكسية:

(‏إن‏ ‏المسيح‏ ‏إله‏ ‏متأنس‏...‏كان‏ ‏ولم‏ ‏يزل‏ ‏إلها‏...‏إنه‏ ‏الله‏ ‏وقد‏ ‏اتخذ‏ ‏له‏ ‏في‏ ‏الزمان‏ ‏جسدا‏,‏ظهر‏ ‏فيه‏ ‏كإنسان‏ ‏عظيم‏ ‏هو‏ ‏سر‏ التقوى,‏الله‏ ‏ظهر‏ ‏في‏ ‏الجسد‏ (.1‏تيموثيئوس‏3:16) ‏فهو‏ ‏الله‏ ‏في‏ ‏صورة‏ ‏إنسان‏.‏ وبهذا‏ ‏المعني‏ ‏هو‏ (‏ابن‏ ‏الله‏) ‏لكنه‏ ‏أيضا‏ ‏وقد‏ ‏اتخذ‏ ‏من‏ ‏العذراء‏ ‏مريم‏ ‏جسدا‏,‏فهو‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الجهة‏ ‏هو‏ (‏ابن‏ ‏مريم‏). ‏أو‏ (‏ابن‏ ‏الإنسان‏). ‏لكن‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏ابنين‏ ‏وليس‏ ‏هو‏ ‏شخصين‏...‏لكنه‏ ‏واحد‏, ‏هو‏ ‏بعينه‏ ‏الله‏, ‏وهو‏ ‏بعينه‏ ‏إنسان‏...‏ولاهوته‏ ‏حق‏, ‏وإنسانيته‏ ‏حق‏. ‏فجسده‏ ‏الذي‏ ‏ظهر‏ ‏فيه‏ ‏واتحد‏ ‏به‏ ‏هو‏ ‏جسد‏ ‏حقيقي‏ ‏لا‏ ‏خيالي‏...‏إن‏ ‏جسده‏ ‏من‏ ‏طبيعة‏ ‏جسدنا‏...‏وهو‏ ‏لذلك‏ ‏مطابع‏ ‏لنا‏ ‏في‏ ‏الجسد‏,‏ والاتحاد‏ ‏الذي‏ ‏تم‏ ‏بين‏ ‏اللاهوت‏ ‏والناسوت‏ ‏في‏ ‏المسيح‏ ‏اتحاد‏ ‏حقيقي‏ ‏وكامل‏ ‏وجوهري‏...‏ ولذلك‏ ‏فمادام‏ ‏كذلك‏ ‏فقد‏ ‏صارت‏ ‏الطبيعتان‏ ‏الإلهية‏ ‏والإنسانية‏ ‏طبيعة‏ (‏واحدة‏) ‏من‏ ‏غير‏ ‏اختلاط‏ ‏بين‏ ‏اللاهوت‏ ‏والناسوت‏,‏ ومن‏ ‏غير‏ ‏امتزاج‏ ‏بين‏ ‏اللاهوت‏ ‏والناسوت‏, ‏ومن‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يتغير‏ ‏اللاهوت‏ ‏إلي‏ ‏ناسوت‏ ‏أو‏ ‏الناسوت‏ ‏إلي‏ ‏اللاهوت‏... ‏إن‏ ‏المسيح‏ (‏طبيعة‏ ‏واحدة‏) ‏هي‏ ‏طبيعة‏ ‏الله‏ ‏المتأنس‏ ‏المتجسد‏...‏طبيعة‏ ‏واحدة‏ ‏لكنها‏ ‏ليست‏ ‏هي‏ ‏طبيعة‏ ‏اللاهوت‏ ‏فقط‏,... ‏هي‏ ‏طبيعة‏ ‏واحدة‏ ‏لكنها‏ ‏طبيعة‏ ‏جامعة‏ ‏لخصائص‏ ‏الطبيعتين‏ ‏الإلهية‏ ‏والإنسانية‏‏) انتهى.

ولو طالعنا كلام المعتزلة لوجدناه هو هو كلام النصارى الأرثوذكس في توصيف عقيدة تجسد الله في المسيح بن مريم، فالمعتزلة يقولون: (أن صفات الله الستة لا تنفصل عن الذات وإنما هي عين الذات الإلهية. سميع بذاته، بصير بذاته وهكذا... قال أبو هذيل العلاف "سميع بسمع هو ذاته وبصير ببصر هو ذاته"، والفرق ان الأول نفى الصفة والثاني اثبت الصفة وهي عين الذات. (الملل والنحل, الشهرستاني) لأنه إذا قلنا أن الصفات ليست عين الذات فمعنى ذلك أن هناك تعدد وتجزؤ في الذات الإلهية وهذا لا يجوز في رأي المعتزلة لأنه في رأيهم شرك لأنه عندي ذات قديمة وصفات هي عين الذات ومعنى ذلك أننا نقع في الشرك. والخروج من هذا المأزق يكون بالتوحيد بين الذات والصفات فصفة العلم هي الذات نفسها) انتهى.

أقول: (هذا هو نفس إفك عقائد النصارى في تجسد الله في المسيح ابن مريم. ونجد أن المعتزلة لم يختلفوا عن خصومهم في اعتماد تكفير من خالفهم الرأي في هذا المجال، حيث اعتبروا من يقول بغير قولهم هم مجسم ومشرك وكافر بالله).

## "التجسد" في فكر الصوفية:

كذلك فعلت طوائف "الصوفية" حيث اعتقدوا أن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام وآل بيته وكل من يرونه "وليا من أولياء الله الصالحين" قد تجسد الله في ذواتهم، أو قد تألهوا وصاروا هم صورة الله، عن طريق اعتقادهم بأنهم هم أقطاب الله في الأرض ولا يمكن الدخول على الله إلا بهم، وجعلوا مدار الرزق والشفاء من الأمراض ومغفرة الذنوب وقضاء الحاجات موقوف عليهم وعلى التقرب إليهم بالنذور وتقريب القرابين كما كان يفعل عباد الأصنام والأوثان مع أصنامهم وأوثانهم، وانطلاقا من تسرب إفك التجسد الإلهي من ذات النبي عليه الصلاة والسلام وذوات آل بيته وذوات أولياء الله الصالحين إلى ما نتج عن هذه العقيدة من أفكار ومعتقدات، فأصبحت فكرة وعقيدة إلهية هذه الذوات أصل من أصول الدين لدى الصوفية.

يقول الدكتور محمد جلال شرف: (ومن الكوفة انتشر التصوف إلى ما وراء العراق وبخاصة في إيران، حيث كانت "المزدكية" منتشرة قبل انتشار الإسلام. ولكن فكرة التجسيم تطورت هنا بشكل مختلف، فبدل أن يُجَسّد الله ظهرت فكرة تأليه الإنسان، وكانت هناك صورتان لفكرة التأليه هذه: الأولى: هي ما يعرف باسم حلول اللاهوت في الناسوت. الثانية: هي إتحاد الإنسان بالله). انظر "التصوف الإسلامي مدارسه ونظرياته" (ص55). ويقول أحد الدارسين للتصوف: (لعلنا نلمح وراء هذه النظرية إتجاها إلى إكساب الإنسان خصائص إلهية….. إلى أن يقول: "لقد رأينا أن الصوفي الصادر عن نظرية النور المحمدي يمثل جماع اللاهوت والناسوت، ويبدو لنا بوصفه (الإنسان الإلهي) الذي يتجلى طابعه اللاهوتي بأزلية نوره، ويتجلى وجهه الناسوتي من حيث هو تشخيص هذا النور بمظهر من المظاهر). انظر "الشعر الصوفي لرفيق سليطين). (ص 120، 121).

ويزعم الصوفية أن الله لما أراد أن يعرف أظهر الحقيقة المحمدية التي هي أصل هذا الكون. يقول الدكتور يوسف زيدان أحد الدارسين للتصوف وأقطابه: (رأينا كيف يجمع الإنسان حقائق العالم في حقيقته، إلا أن الإنسان عند ابن عربي ليس له صورة للعالم ومختصرا له فحسب، ولكنه أيضا صورة للإله، ولذلك كانت النشأة الإنسانية عند ابن عربي أكمل نشأة ظهرت في الموجودات، فالإنسان وجد على الصورة، والصورة لها الكمال). انظر "الفكر الصوفي" (ص124). كما يذكر عن ابن عربي وصفه الإنسان أنه: "الحادث الأزلي والنشء القديم الأبدي". يعلق الدكتور زيدان بعده بقوله: "وهكذا يجمع الإنسان بين الحدوث والقدم، الحدوث من حيث كونه مخلوقا، والقدم من حيث هو صورة القديم سبحانه، ويشير ابن عربي إلى ذلك بوضوح في كتابه "الفتوحات المكية" حين يقول عن الإنسان الكامل أنه: "صورة الله، ونائب الحق، ومعلم الملك في السماء). انظر المصدر السابق. ويقول ابن عربي في ذلك: (فإن الله لما أحب أن يعرف لم يمكن أن يعرفه إلا من هو على صورته، وما أوجد الله على صورته إلا الإنسان الكامل، لا الإنسان الحيوان). انظر "الفتوحات المكية" (3/266 الباب 358).

كحذلك أثرت عقيدتي الحلول والإتحاد والفناء في أقطاب الصوفية فجعلت بعضهم يشعرون ويظنون أنهم هم الله في صورة البشر، وجعلت بعضهم يدعون الألوهية، وهذه بعض أقوالهم:
يقول: الطوسي: (ذكر أبي يزيد البسطامي أنه قال: رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك؟ فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وأرفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا). انظر كتابه اللمع (ص326). ويقول الدكتور عبدالرحمن بدوي معقبا على قول البسطامي: (أي يلتمس من الله أن يخلع عليه ثوب الألوهية، ويطلق لسانه عن نفسه فيتحدث بصيغة المتكلم ويتحد بالله نهائيا، بحيث تكون الإشارة إليه وإلى الله واحدة فيفنى هو عن نفسه بالكلية ولا يكون ثمة إلا الله، فإذا رأو أبا يزيد قالوا رأينا الله). انظر شطحات الصوفية (ص37). وحكي عن البسطامي أنه دخل بعض البلاد، فأقبل الخلق عليه فطلع إلى موضع عالٍ ووقف وقال: يا قوم إني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدون. فرجع الخلق عنه وقالوا إنه مجنون). انظر (الكواكب الزاهرة في إجتماع الأولياء يقظة بسيد الدنيا والآخرة) لابن مغيزل (ص348).

أقول: (هذا نفس إفك عقائد النصارى في تجسد الله في المسيح ابن مريم وتأليه الإنسان).

## "التجسد" في فكر التيارات الإسلامية السياسية "التكفيرية" المعاصرة:

هو نفس فكر ومعتقدات الخوارج في قضية (حكم الله) و(الحكم بغير ما أنزل الله) الذي سبق عرضه وتفصيله.

## "التجسد" في فكر القرآنيين:

أما عقيدة التجسد لدى القرآنيين فقد بدأت من وراثتهم لعقائد "أهل السنة والجماعة" القائلة بأن "القرآن كلام الله غير مخلوق"، ثم نتج عن ذلك التجسد أن الله لم يوح إلى النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام سوى القرآن الكريم فحسب، وأن ما ينبغي على المسلم اتباعه هو القرآن فقط، وأن اتباع أي قول أو حديث سوى القرآن هو في عرفهم كفر وشرك بالله تعالى. وأن كل ما نسب إلى الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام من أحاديث ومرويات هي شرع ودين ما أنزل الله به من سلطان وكذب وافتراء على رسول الله. هذه الفكرة أو هذه العقيدة لدى القرآنيين التي يتجسد فيها الله بوحيه في القرآن الكريم قد أصبحت فكرة أو عقيدة إلهية يغدو من ينكرها أو من لم يتبعها كافرا أو مشركا بالله، لأنهم يعتقدون أن هذه الفكرة وهذا المعتقد هو مراد الله ذاته وقصده من كلامه، وعليه فأي مساس وأي اتباع لمصدر آخر سوى وحي القرآن هو مساس بذات الله واتباع شرع وحكم غير شرع وحكم الله المتجسد في الوحي القرآني، هكذا يعتقد القرآنيون.

ولكن ما لم ينتبه له القرآنيون حين كفروا جميع المسلمين والمسلمات واتهموهم بالشرك لاتباعهم أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، هو أن القرآن الكريم ذاته لم يرد فيه آية واحدة تقول أن الوحي الذي أوحاه الله إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأن ما أنزل من الله هو القرآن الكريم فحسب، وقد بينت هذا في الفصل الثامن من هذه الدراسة بعنوان: (هل القرآن كافٍ وحده؟). وتحديت القرآنيين بأن يأتوا بآية واحدة من القرآن الكريم تنص على أن الوحي الموحى والكتاب المنزل من الله هو القرآن الكريم وحده. بل لقد أثبت في الفصل الحادي عشر من هذه الدراسة وكان بعنوان: (هل أنزل الله على رسوله وحيا غير القرآن؟). أن الله أوحى إلى رسوله وحيا به تشريعات وأحكام ملزمة في غير القرآن الكريم، وكذلك بينت في هذا الفصل وفي الفصل الذي يليه أن الله سبحانه كلف رسوله بتلاوة آيات القرآن على المؤمنين، وتزكيتهم، وتعليمهم الكتاب، وتعليمهم الحكمة، وتعليمهم ما لم يكونوا يعلمون، ومن المعلوم يقينا أن مهمة تزكية المؤمنين وتعليمهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون لا يمكن أن تكون باجتهاد الرسول الشخصي، أو من تلقاء نفسه، وإنما كان بوحي الله لرسوله في غير القرآن ليريه كيف يزكيهم وكيف يعلمهم الكتاب والحكمة وكيف يعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.

كذلك ما لم ينتبه له القرآنيون أن "القرآن الكريم" من بلغه لنا ومن قاله لنا ومن تلاه علينا ومن أوصله لنا ولجميع الناس هو النبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام، وليس ذات الله، فالمسلمون الأوائل لم يروا الله ولم يسمعوه ولم يشاهدوه، وإنما الذي رآه المسلمون الأوائل والذي سمعوا منه القرآن الكريم هو شخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وليس ذات الله. ومن بلغنا القرآن ومن تلاه علينا ومن خطه في مصاحف ومن أوصله إلينا جيلا بعد جيل حتى يومنا هذا هم آباؤنا وأجدادنا عن آبائهم وأجدادهم، إلى أن يصلوا إلى المصدر الأول وهو شخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

فنحن لم نر الله ولم نر رسول الله ولم نشاهده ولم نسمع منه شيئا، وعليه فالاعتقاد بأن اتباع الأحاديث والمرويات المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام شرك بالله وكفر بكتابه لأنهم يتبعون كلام البشر وشرع البشر ودين البشر، وفقا لأفكار ومعتقدات وأقوال القرآنيين، إذاً فالقرآنيون كذلك كلهم كفار ومشركون بالله، لأنهم يتبعون شرعا وأحكاما نقلها لنا ولهم بشر مثلهم، ولأن القرآنيين لم يروا ذات الله ولم يسمعوا منه، بل ولم يروا شخص رسول الله ولم يسمعوا منه شيئا، وإنما الذي أوصل إلينا وإليهم القرآن الكريم هم الذين نقلوا إلينا الأحاديث والمرويات المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام وهم أنفسهم الذين خطوا القرآن بأيديهم في مصاحف ونقلوه إلينا. بل إن القرآن الكريم ذاته يأمر بطاعة الرسول واتباع الرسول وعدم مخالفة أمر الرسول الذي هو شخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام في آيات كثيرة. بل إن الله جعله عليه الصلاة والسلام يهدي إلى صراط مستقيم، وأن الهدى في طاعته عليه الصلاة والسلام. وأنه أسوة للمؤمنين. وهذه هي الآيات التي تنص وتؤكد على هذا:
قال تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ). (64_ النساء).
وقال : (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ). (80_ النساء).
وقال : (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا). (54_ النور).
وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ). (59_ النساء).
وقال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ). (32_ آل عمران).
وقال : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً). (61_ النساء).
وقال : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). (65_ النساء).
وقال : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). (63_ النور).
وقال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). (52_ الشورى).
وقال : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً). (21_ الأحزاب).

ورغم كل هذه النصوص الواضحة المفصلة في طاعة شخص الرسول في غير القرآن الكريم، إلا أن القرآنيين يأبون إلا المراوغة بنصوص القرآن ووضعها في غير موضعها، وتقويلها ما لم تقل، ومن هذه النصوص التي يراوغون بها لتكفير جميع المسلمين والمسلمات الذين يتبعون بعض ما ورد عن الرسول في الأحاديث والروايات والحكم عليهم بالكفر والشرك بادعاء أنهم يتبعون شرعا من دون الله، قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). (21_ الشورى).

هذا الفهم السقيم الضيق القاصر لمثل هذه النصوص من قِبَل القرآنيين هو الذي جعل القرآنيين يتجرءون على تكفير المسلمين الذي يتبعون ما نسب للنبي عليه الصلاة والسلام من أحاديث، بل إن ما سيفاجأ به القارئ أن هذه العقيدة التكفيرية لدى "القرآنيين" هي نسخة كربونية من العقيدة التكفيرية لمن يطلقون عليهم "السلفيون الوهابيون"، فالسلفيون الوهابيون حين كفروا عموم الناس والحكام كانت مرتكزاتهم التكفيرية هي نفس الفهم السقيم الضيق القاصر لمثل هذه الآيات التي انطلقت منها عقيدة "السلفيين الوهابيين" في تكفيرهم لعموم الناس والحكام، فالوهابيون حين أطلقوا أحكام الكفر على الصوفية الذين يتوسلون بقبور الأولياء والصالحين رجاءً لشفاعتهم واستجابةً لدعواتهم وقضاءً لحاجاتهم، وحين أطلق الوهابيون أحكام الكفر على الحكام الذين يحكمون بقوانين وضعية ولا يطبقون شرع الله _على حد قولهم_ كانت نظريتهم وأفكارهم ومعتقداتهم مستقاة من نفس الفهم المغلوط لنفس الآيات التي يستقي منها القرآنيون أفكارهم وعقائدهم الآن في تكفير جموع المسلمين الذي يتبعون الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام كمصدر تشريعي بجانب القرآن الكريم.

ولذلك كثيرا ما يُضْحِكني ويثير دهشتي واستغرابي حين أجد "القرآنيين" يتهكمون على "السلفيين الوهابيين" في كتاباتهم وينتقدونهم بألذع ما يمكنهم من النقد، ويتهمونهم بأنهم يحملون أفكارا تكفيرية. وفي الحقيقة القرآنيون يحملون في رؤسهم وفي أفكارهم نسخة كربونية دقيقة من فكر السلفيين الوهابيين التكفيرية، إلا أن الفارق الوحيد بينهم وبين السلفيين الوهابيين هو أن السلفيين الوهابيين يتجهون بأحكام التكفير تجاه الصوفيين والحكام، أما القرآنيون فيتجهون بأحكام التكفير تجاه جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الذين يتبعون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام كمصدر تشريعي بجانب القرآن الكريم. لأن جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يتبعون _في نظر القرآنيين_ شرعا ودينا ما أنزل الله به من سلطان ولم يأذن به الله، الذي هو (الأحاديث).

ولا يخفى على من له أدنى اطلاع على كتابات وأدبيات القرآنيين جميعا وخاصة كتابات الدكتور "صبحي منصور" أن جل هذه الكتابات لا تخلو صفحاتها وسطورها من اتهام واضح صريح بالشرك والكفر لكل مسلم ومسلمة يتبع "الصوفية" أو يتبع المذهب "السني" أو يتبع "المذهب "الشيعي" بل إنهم يعتقدون أن الصوفية والسنة والشيعة هي أديان أرضية شركية كفرية بسبب عقائدهم وبسبب اتباعهم أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ومذاهب الفقهاء القدامى. وسوف أكتفي هنا بتقديم نصين، الأول للدكتور "صبحي منصور" من إحدى مقالاته، والثاني لـ "محمد بن عبد الوهاب" مؤسس المذهب والفكر المسمى "وهابي" ليقارن القارئ وليرى هل من فارق بين الفكرين التكفيريين؟؟. إليك ما يلي:

# النص الأول: للدكتور "صبحي منصور" يكفر فيه مئات الملايين من المسلمين والمسلمات "الصوفية والشيعة والسنة"، من مقال له بعنوان: "في التأصيل القرآني: الطهارة والرجس". يقول الدكتور صبحي منصور:
(وبغرض العظة وأملا فى الإصلاح سلميا نقرر أن من الحقائق المؤسفة أن معظم المسلمين يقعون فى الرجس العقيدى أى الكفر والشرك القلبى _لاحظ قوله الكفر والشرك القلبي وكأنه اطلع على قلوب العباد ورأى ما فيها_ بنوعيه العلمى والعملى، كما إن منهم ارهابيين يقعون فى الشرك والكفر السلوكى بجهادهم المزعوم فى قتل الأبرياء عشوائيا فى الطرقات والمساجد والكنائس ووسائل المواصلات).
ويقول: (وقلنا أيضا إن الشرك والكفر معا لهما معنيان: الشرك او الكفر القلبى فى الاعتقاد بغير الله جل وعلا. وقلنا إن الشرك والكفر فى العقيدة نوعان: شرك أو كفر علمى بتقديس الأسفار المقدسة _يقصد كتب الأحاديث_ وبالافتراء على الله تعالى كذبا والتكذيب بآياته، وشرك وكفر عملى بتقديس القبور المقدسة والحج اليها والتوسل بها وعبادة رفات الموتى فيها _يقصد الصوفيين_. ثم هناك الشرك والكفر السلوكى الاجرامى الارهابى باستخدام الدين فى قتل الناس كما يفعل الارهابيون السنيون من فصيلة ابن لادن والظواهرى والزرقاوى والارهابيون الشيعة ايضا، أو قهر الناس وظلمهم كما يفعل المستبد الشرقى والعربى. نحكم عليه بسلوكه الاجرامى ونعتبره كافرا مشركا طبقا لاجرامه السلوكى).

ويقول: (ينقسم المسلمون الى طوائف شتى تتوزع بين الأديان الأرضية الثلاث: السّنة والتصوف والتشيع).
ويقول: (ومع وقوع الصوفية والسنيين فى الشرك العقيدى العلمى والعملى فإن السنية أكثر عراقة فى الشرك العلمى بتقديس الأسفار وكتب الأئمة، بينما نجد الصوفية أكثر عراقة فى الشرك العقيدى العملى بتقديس الأضرحة والقبور والشيوخ الأحياء والأموات).
ويقول: (والمحصلة النهائية فى المقارنة بين السّنة والصوفية أن السنيين أعرق فى الشرك السلوكى بمعنى الاعتداء والاكراه فى الدين والارهاب مع مشاركة فى الشرك العقيدى العلمى أساسا والعملى بعض الشىء ، بينما تجد الصوفية أعرق فى الشرك العقيدى العملى مع قليل من الشرك العقيدى العلمى، وبراءتهم من الشرك السلوكى بمعنى الارهاب والتعدى).
ويقول: (الشيعة تتجمع لديهم كل العناصر السابقة من الرجس تبعا للظروف، هم إن تحكموا صاروا جبابرة معتدين كالسنة ، وإن عاشوا تحت سيطرة الآخرين صاروا كالصوفية فى المسالمة . والشيعة يقعون فى الشرك العملى بتقديس المشاهد والقبور والأئمة ، كما يقعون فى الشرك العلمى بتقديس الأسفار والكتب). انتهى
المصدر:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=275639

نص للشيخ "محمد بن عبد الوهاب": (نواقض الإسلام العشرة):
قال: (اعلم أن نواقض الإسلام عشرة:
الأول : الشرك في عبادة الله تعالى، قال الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). وقال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم عليه الجنه ومأواه النار وما للظالمين من أنصار). ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة, ويتوكل عليهم كفر إجماعا.
الثالث : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم , أو صحح مذهبهم كفر.
الرابع : من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه وأن حكم غيره أحسن من حكمه كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر.
الخامس : من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم , ولو عمل به كفر.
السادس : من استهزأ بشي من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر.
السابع : السحر ومنه الصرف والعطف , فمن فعله أو رضي به كفر.
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين.
التاسع : من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.
العاشر : الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به). انتهى

ثم يقول شارح هذه النواقض العشرة: (فهذه النواقض العشرة التي ذكرها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هي مبطلات للإسلام سميت نواقض لأن الإنسان إذا فعل واحدا منها انتقض إسلامه ودينه , وانتقل من كونه مسلما مؤمنا على كونه من أهل الشرك والأوثان نسأل الله السلامة والعافية .... فكذلك المسلم المؤمن والموحد إذا فعل ناقضا من نواقض الإسلام انتقض إسلامه ودينه وصار وثنيا من أهل الأوثان, بعد أن كان من أهل الإسلام, وإذا مات على ذلك صار من أهل النار. وإذا لقي الإنسان ربه بهذا الشرك لا يغفر له). انتهى

أقول: إن من المفارقات المذهلة والمدهشة أن الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" _وفقا لدراستي وتلاوتي لجميع كتبه ورسائله منذ سنوات طويلة_ لم يكن يحكم على الناس بالكفر هكذا على العموم كما فعل الدكتور "صبحي منصور"، بل لم يكن يكفر الناس على التعيين، بمعنى أنه لم يكن يعين شخصا بعينه أو مجموعة بعينها ويحكم عليهم بالكفر كما يفعل الدكتور صبحي منصور والقرآنيون، وإنما كان يحكم بالكفر على الأفعال دون تعيين شخصا بعينه أو فئة بعينها، فكان يقول هذه الأفعال كفر وشرك أما فاعلها فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة ويزول عنه الجهل. وكان الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" يعذر الناس بجهلهم في فعل الكفر والشرك، ولم يكفر من فعل الكفر جاهلا بما يفعل حتى يتم تعليمه وإقامة الحجة عليه. يقول الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" في "مجموعة رسائل في التوحيد" ردا على من افترى عليه في أنه يكفر عموم المسلمين ما يلي:

يقول: (وأما القول إنا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم). ويقول: (ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان . وأيضاً نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر). ويقول أحد تلاميذ الشيخ "محمد بن عبد الوهاب": (والشيخ محمد رحمه اللَّه من أعظم الناس توقفا وإِحجاما عن إطلاق الكفر حتى إِنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير اللَّه من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها). وقال الشيخ: (وإن كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر "عبد القادر الجيلاني" والصنم الذي على قبر "أحمد البدوي" وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبههم). وقال: (إن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري، فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر). وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن أحد تلامذة الشيخ "محمد بن عبد الوهاب": (كان رحمه الله _يقصد الشيخ محمد بن عبد الوهاب_ من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور وغيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها).

بل إن "بن تيمية" نفسه الذي يتهمه بعض الناس بالمغالاة في التكفير كان من أشد الناس توقفا في تكفير الناس، حيث قال في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" نصا: (ونحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأحدٍ أن يدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لا لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله). ثم قال: (ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين ما جاء به الرسول مما يخالفه). وقال أيضا "ابن تيمية": (لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165]. ويقول في موضع آخر: (من دعا غير الله، وحج إلى غير الله فهو مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالماً بأن هذا شرك محرم). انتهى

أقول: تُرى ماذا أبقى الدكتور "صبحي منصور" والقرآنيون للسلفيين الوهابيين من أفكار ومعتقدات تكفيرية؟، وما الفرق بين "القرآنيين" وبين "السلفيين الوهابيين" في اعتناق الأفكار التكفيرية؟؟. بل إن "السلفيين الوهابيين" من أكثر الناس توقفا في تكفير الناس من القرآنيين ومن الدكتور "صبحي منصور" الذي يكفر مئات الملايين من المسلمين والمسلمات "سنة وشيعة وصوفية". ولو كان القرآنيون يعون ما يتلون من آيات القرآن الكريم ويفهمون مدلولاتها فهما علميا صحيحا لما اتهموا جموع المسلمين والمسلمات "سنة وشيعة وصوفية" بالكفر والشرك بسبب اتباعهم لما ورد عن الرسول من أحاديث.

أما استناد القرآنيين إلى قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ). (21_ الشورى). أقول: ليتهم توقفوا قليلا عند هذه العبارة في الآية السابقة وهي: (مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ). هذه العبارة تقرر أن من يشرع دينا من عند نفسه عامدا قاصدا عالما بما يفعل ثم ينسبه إلى الله فهو المشرك بالله، ومن يتبعه على ذلك عامدا قاصدا عالما بما يفعل فهو مشرك كذلك. أما أن يتبع المسلمين الأحاديث المنسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام الذي هو نفسه من جاء بالقرآن فكيف يكون هؤلاء المسلمون بهذا كفارا مشركين كما يزعم القرآنيين والدكتور "صبحي منصور"؟؟، فهل زعم أحد من المسلمين في الماضي والحاضر أن هذه الأحاديث قد جاء بها من تلقاء نفسه ومن دون أن يأذن الله له؟، أم أنه نسبها إلى رسول الله الذي جاء برسالة الإسلام من قرآن وأحاديث تحوي تزكية الرسول للمؤمنين وتعليمهم الكتاب وتعليمهم الحكمة وغيرها؟؟.

فهناك فارق كبير وبون شاسع بين نقل الفقهاء والمحدثين لما ورد عن الرسول من أحاديث وفهم هؤلاء الفقهاء وشروحهم وتفسيراتهم لنصوص الدين وفق قدراتهم المعرفية لفهم دلالات تلك النصوص واتباع الناس لفهومهم تلك، وبين أن يقول أي شخص سواء كان من فقهاء الدين أو من غيرهم إن ما أقوله لكم هو دين الله وشرع الله دون أن يكون هناك نصوص دينية إلهية حقيقية في الرسالة الإلهية تشير إلى هذا وتؤكده، أي أن يكون قوله هذا مستقلا في الحقيقة عن الله عامدا قاصدا عالما عارفا بهذا، كما يفعل أحبار اليهود ورهبان النصارى في اختلاقهم عقائد وتشريعات وأحكاما دينية إفكية ليست موجودة على الحقيقة في رسالات الله التي لديهم ثم ينسبونها إلى الله إفكا وكذبا وزورا وهم قاصدون عالمون عارفون أنهم مستقلون في تلك التشريعات والأحكام والعقائد عن الله. ومن يتبعهم في هذا عالما عارفا قاصدا فقد اتخذهم أربابا من دون الله، قال تعالى عن أحبار اليهود ورهبان النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). (31_ التوبة).

وأضرب مثلا على هذا: عندما اختلق "رهبان النصارى" عقيدة تجسد الله في المسيح بن مريم، لم يكن لهذه العقيدة أي أصل أو أثر أو ذكر في التوارة ولا في الإنجيل الأصليين، لأنه لا توجد نسخة واحدة في العالم لتوراة موسى الأصلية ولا لإنجيل المسيح الأصلي بلغة موسى أو بلغة المسيح الأصليتان على الإطلاق، وليس لها أي أصل أو أثر أو ذكر حتى في النسخ المترجمة الموجودة في كل لغات العالم الآن، وإنما كل المخطوطات التي عثر عليها في العالم حتى الآن من نسخ "الكتاب المقدس" بعهديه القديم والجديد هي باللغة اليونانية القديمة وليست بلغة موسى الأصلية التي كان يتكلم بها موسى ولا بلغة المسيح بن مريم الأصلية التي كان يتكلم بها ابن مريم، فجميعها وبحكم مطلق هي كتب مترجمة من لغة إلى لغة، وليست هي بالنسخ الأصلية باللغة الأصلية لموسى ولا بالنسخ الأصلية باللغة الأصلية لابن مريم، وهذا ليس كلامي ولا حكمي، إنما هو "شهادة شاهد من أهلها"، يقول الأستاذ: "شنودة ماهر إسحاق" في كتابه "مخطوطات الكتاب المقدس بلغاتها الأصلية":

يقول: (كان السيد المسيح يكلم الشعب وتلاميذه باللغة الآرامية وفقاً للهجة الخاصة بأهل الجليل, فضلاً عن معرفته باللغة العبرانية(لوقا 4: 16-20). ولكن تلاميذه وسائر كتبة العهد الجديد استخدموا اللغة اليونانية التي شاع استخدامها في أقطار العالم منذ فتوحات الإسكندر الأكبر وفي الإمبراطورية الرومانية). انتهى (ص12).
ويقول: (ليس بين أيدينا الآن المخطوطة الأصلية, أي: النُّسْخَة التي بِخَطّ كاتب أي سفر من أسفار العهد الجديد أو العهد القديم. فهذه المخطوطات ربما تكون قد اسْتُهْلِكَت من كثرة الاستعمال, أو رُبَّما يكون بعضها قد تَعَرَّض للإتلاف أو الإخفاء في أزْمِنَة الاضطهاد, خُصُوصاً وأن بعضها كان مكتُوباً على ورق البردي, وهو سريع التَّلَف. ولكن قبل أن تختفي هذه المخطوطات الأصلية نُقِلَت عنها نُسَخ كثيرة). انتهى (ص19).
ويقول: (وقد أظهر باكPack في دراسته عن طريقة أوريجانوس في مُقارنة النُّصُوص الكتابية أنَّ أوريجانوس يُرجع الفروق في القراءات إلى أسباب أربعة هي: 1- أخطاء أثناء عملية النَّقل بالنَّساخة نتيجة انخفاض درجة التَّركيز عند النَّاسِخ في بعض الأحيان. 2- النُّسَخ التي يتلفها الهراطقة عمداً ببثّ أفكارهم فيها أثناء النَّساخة. 3- التَّعديلات التي يُجريها بعض النُّسّاخ عن وعي وبشيء من الاندفاع بهدف تصحيح ما يرون أنَّه أخطاء وقعت من نُسّاخ سابقين أو اختلاف عن القراءة التي اعتادوا سماعها. 4- تعديلات بهدف توضيح المعنى المقصود في العبارة). انتهى (ص20).

أقول: ورغم كل هذا فإن النسخ غير الأصلية المترجمة "للكتاب المقدس" الذي يحوي توراة موسى وإنجيل عيسى الموجود بين يدي اليهود والنصارى الآن ليس فيه على الإطلاق أي أثر أو ذكر لكلمة (أنا الله) هكذا صريحة واضحة محددة على لسان المسيح بن مريم في أي إنجيل من الأناجيل الأربعة، كما ورد في القرآن الكريم صراحة عن الله في قوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا). (14_ طه). كذلك لا ذكر على الإطلاق في الأناجيل الأربعة لكلمة (تجسد)، أو كلمة (اتخذ الله من مريم جسدا)، أو كلمة (ثلاثة أقانيم)، أو كلمة (الثالوث الأقدس) أو كلمة (طبيعة واحدة)، أو كلمة (طبيعتين)، أو كلمة (اتحد اللاهوت بالناسوت)، أو كلمة (من غير انفصال أو افتراق أو امتزاج أو اختلاط)، أو (أنا الأقنوم الثاني)، أو أنا (الكلمة المتجسد)، أو أن مريم (أم الإله) أو أن الروح القدس هو (الأقنوم الثالث) أو أن الروح القدس (انبثق من الآب). إنما كل هذه الأقوال والمصطلحات والكلمات هي عقائد إفكية من اختلاق رهبان النصارى عبر التاريخ ولا وجود لهذه العبارات والكلمات والمصطلحات بصورة واضحة صريحة حتى في كتبهم المترجمة غير الأصلية. هكذا يكون تشريع دين لم يأذن به الله، وهكذا يتخذ الناس فقهاؤهم ورجال دينهم أربابا من دون الله.

وعليه فهل حين يقول الله: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله). يصبح طاعة الرسول شركا بالله كما يزعم القرآنيون؟، مع العلم أن طاعة الرسول التي أذن الله بها لا يمكن أن تكون طاعة له في القرآن كما يزعم القرآنيين، ولا يمكن أن تكون طاعته في آرائه واجتهاده ومزاجه الشخصي، إنما طاعته في غير القرآن، أي طاعته فيما أوحى الله إليه في غير القرآن الكريم. وهل حين يتبع المسلمون روايات الأحاديث وأقوال وفهوم وتفسيرات الفقهاء والمحدثين القدامي يعتبرون مشركون لأنهم اتبعوا غير ما أنزل الله على حد زعم القرآنيين؟، فإذا كان الأمر هكذا إذاً فحين يفتي الدكتور "صبحي منصور" في القرآن وفق فهمه هو، وحين يسير أتباعه ومريدوه على فهمه هو وتفسيراته هو للقرآن فكل من تبعه وسار على شرحه وتفسيره فهم مشركون كفار كذلك، لأنهم اتبعوا غير ما أنزل الله وفق عقيدة الدكتور "صبحي منصور" هذه. فما الفرق بين فهوم وتفسيرات القرآنيين للقرآن الكريم وبين فهوم وتفسيرات الفقهاء القدامى للقرآن الكريم؟. مع العلم أن الفقهاء القدامى كان منهم من يردد في وضوح وصراحة: (قولي صواب يحتمل الخطأ وقولي غير خطأ يحتمل الصواب). وكان منهم من يردد: (كل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر "عليه الصلاة والسلام"). وكان منهم من يردد: (إذا وجدتم قولي يعارض القرآن وكلام النبي، فاضربوا بقولي عرض الحائط). هذه المقولات التي لم أقرأ ولم أسمع ولم أر قرآني واحد يردد قولا واحدا منها.

أريد في النهاية أن ينتبه القرآنيون جيدا للعبارات القرآنية التالية ويفهموها جيدا ويعوها جيدا، عبارة: (من دون الله). وعبارة: (ما أنزل الله به من سلطان). وعبارة: (ما لم يأذن به الله). وعبارة (غير الله). فلو تنبه القرآنيون لمدلولات هذه العبارات حق التنبه ولو فهموها حق الفهم ووعوها حق الوعي لما وقعوا في براثن التكفير ولما تجرؤوا على تكفير جموع المسلمين "الصوفية والسنة والشيعة" الذين لا يتبعون أفكارهم وأطروحاتهم.

وفي ختام هذا الفصل أتوجه بكلمة لجميع طوائف وفرق "النصارى" في جميع أنحاء العالم سواء لمن هم في الشرق أو لمن هم في الغرب، وأخص منهم أولئك الذين ينزعجون ويستاءون من تصرفات وأفعال التيارات الإسلامية التكفيرية المتشددة والمتطرفة، وأقول لهم: (هذه بضاعتكم رُدَّتْ إليكم).

(للحديث بقية في الفصل الرابع عشر)

الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293175
الفصل الثاني: (الصحابة والسلف بين التقديس والشيطنة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293537
الفصل الثالث: (تاريخ نقد وإصلاح التراث الإسلامي وتنقيحه)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=294154
الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونشأة القرآنيين)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=294768
الفصل الخامس: (القرآنيون ومأزق حفظ وجمع القرآن)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=295266
الفصل السادس: (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=295917
الفصل السابع: تابع (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=296491
الفصل الثامن: (هل القرآن كافٍ وحده؟).
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=296924
الفصل التاسع: (البلاغ، الأسوة، ما ينطق عن الهوى).
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=297432
الفصل العاشر: (طاعة الرسول).
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=298124
الفصل الحادي عشر: (هل أنزل الله على رسوله وحيا غير القرآن؟)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=299391
السنة ما لها وما عليها: الفصل الثاني عشر: (مفهوم السنة، وما هي سنة الرسول؟)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=324509

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]
فيس بوك:
http://www.facebook.com/profile.php?id=100001228094880&ref=tn_tnmn



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثاني عشر: (مفهوم السنة، وما ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الحادي عشر: (هل أنزل الله على ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل العاشر: (طاعة الرسول)
- السنة ما لها وما عليها: الفصل التاسع: (البلاغ، الأسوة، ما ين ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثامن: (هل القرآن كافٍ وحده؟)
- السنة ما لها وما عليها: الفصل السابع: تابع (القرآنيون والتفر ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل السادس: (القرآنيون والتفريق بي ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الخامس: (القرآنيون ومأزق حفظ و ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونش ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث: (تاريخ نقد وإصلاح التر ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثاني: (الصحابة والسلف بين ال ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة ...
- إطلالات قصيرة على واقع المشهد المصري الحالي
- لماذا بصق المصريون في وجوه نخبهم وإعلامييهم؟
- شيفونية المصريين
- (توفيق عكاشة) نموذج معبر عن حقيقة الشخصية المصرية
- من ينقذ المصريين من أنفسهم؟
- من حق (فاطمة خير الدين) أن تكون عاهرة وتفتخر
- أما أنا فأقول لكم
- ما لا يقال ولن يقال حول الصراع الإسلامي المسيحي في مصر


المزيد.....




- تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ ...
- استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
- 82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث عشر: (أثر عقيدة التجسد المسيحية في إشاعة الفكر التكفيري بين المسلمين)