|
الروح الرياضية واللعب بالديمقراطية
مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن-العدد: 3870 - 2012 / 10 / 4 - 06:53
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
أصبح الإخوان المسلمون هم من يحكمون مصر. وتم هذا بعد شهور قليلة من ثورة شعبية واسعة النطاق. والمفارقة المعروفة للجميع أن الإخوان لم يشتركوا في الثورة، وهم أول من تآمر عليها مع المجلس العسكري بعد أيام قليلة من إزاحة مبارك، وتنكروا لكل القوى الثورية. ويزعم الإخوان أنهم قيادة الثورة، بل كشفت الفترة الأخيرة عن اللجوء للبذاءات وتسفيه الآخرين والعنجهية المبالغ فيها من جانب قيادات إخوانية أسفرت عن مستوى متدنٍ في الحوار والنظرة إلى من هم خارج الجماعة، إلى جانب انتهازية لم يُعرف لها سابقة في الحياة السياسية المصرية، من تحركات وعهود في السر مع بقايا النظام البائد، واستئناف ذات سياساته، بل والإمعان في تطبيقها، مع قدرة غير عادية على الكذب وقول الشيء ونقيضه. مع ذلك.. نرى البعض تنتابه حالة أقرب إلى التسليم القدري بنتيجة الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأن على القوى التقدمية أن تضرب المثل في احترام "قواعد اللعبة" الديمقراطية.. وكأننا إزاء مباراة رياضية يجب على المهزوم في نهايتها أن يهنئ الفائز ويحتضنه أيضًا.. يقول البعض من هؤلاء إن علينا أن نضرب المثل أمام الشعب في احترام نتائج المباراة الديمقراطية، وإلا فإننا سنفقد رصيد مصداقيتنا عند المواطنين. ولكن المواطنين في الحقيقة لا يفكرون- حتى الآن على الأقل- بهذه الطريقة المركبة والحافظة لتطورات وتقلبات المواقف، وإنما ينطبع في ذهنهم الصورة النهائية للموقف الذي اتخذه أولئك البعض، أي الموقف بتأييد الرئيس الإخواني، أو التسليم بوصوله للرئاسة بطريقة شرعية، أو الموقف الداعي بمنحه "فرصة" كافية (وكأنه ليس بإمكاننا توقع الاتجاهات العامة لحكم الإخوان). وماذا إذا كانت اللعبة خاطئة من أساسها، والتحكيم مشكوك فيه، والخصم لا يحترم قواعد اللعبة ويستخدم في المباراة كل المخاشنات والتسللات والسرقات الممكنة.. يرى البعض أن الرئيس بمجرد انتخابه يدخل في حالة جديدة.. من زعيم حزب إلى رئيس لكل البلاد.. وعلينا أن ننتظر لنرى منه، فنؤيده إن أحسن ونرفضه إن أساء.. وكأننا ليست لدينا أي معلومات مسبقة عن تاريخ جماعة الإخوان البعيد والقريب، وكأن ممارساتهم على الأرض ليست واضحة للعيان. وفي ظني أن مثل هذا الموقف ينطوي على مغالطات كثيرة وأوهام قاتلة تنتقل بالضرورة إلى صفوف الشعب.. فأولاً أرى أن الاعتراف بالهزيمة أمر لا بأس به، ليس بهدف الاستسلام لتتويج الخصم/ العدو والاصفاف على الجانبين أثناء تسلمه "كأس الانتصار"، وإنما بهدف إعادة الحسابات الذاتية وتصحيح العيوب والأخطاء في صفوف القوى الثورية، وهي كثيرة، ويجب التعامل معها بمنظور واقعي نقدي ودون نزوع إلى جلد الذات أو إشاعة اليأس، وبهدف تغيير الواقع الكئيب. وكم كان من المثير للأسى، إن لم يكن للسخرية، أن يتجرأ بعض ممن ينتمون لقوى الديمقراطية والتقدم، وينحازوا لانتخاب مرشح الإسلام السياسي لرئاسة الجمهورية (وبعد انتفاضة شعبية عظيمة) بحجة أن المرشح الآخر ينتمي لنظام مبارك، وهي الثنائية التي أسيئ استخدامها كثيرًا لتبرير وتمرير الكثير من الأخطاء (الجرائم) التكتيكية. وبدا الحال كمثل من يفاضل بين مرفوضيْن، في اختيار بائس يكشف عن قلة الحيلة وضعف الخيال، وكأنه لا يوجد دائمًا خيار ثالث ورابع.. وبدون أي مراعاة للرسالة الحقيقية التي تصل الشعب حينما تدعوه إلى القبول بما يُتصوَّر أنه "أهون الأضرار" بينما هو في الحقيقة ضرر وخيم ويمكن أن يشكل تهديدًا وجوديًا لأسس الديمقراطية كلها. ربما يصلح هذا النوع من الأختيار البائس في بلد مثل فرنسا استقرت فيه قواعد اللعبة الديمقراطية منذ زمن بعيد نسبيًا، لكنه لا يصلح لمصر التي لم تستقر فيها أبسط معاني الديمقراطية، وبعد اختطاف ثورتها على أيدي الجماعات المؤيدة لذات المرشح. والأمر الأكثر استعصاءً على الفهم أن تبادر بعض القوى الديمقراطية إلى رفض محاولة إسقاط "رئيس منتخب" من خلال التظاهرات والاعتصامات. وكأن هذه دعوة للقبول بالأمر الواقع المرير، وإلى الانتظار لسنوات حتى يتم إسقاطه عبر صندوق الانتخاب. وكأننا مثل الفريق الرياضي الذي يجب عليه أن يتمرن أربع سنوات استعدادًا للأولمبياد القادم. ولا أعرف سببًا وجيهًا لتبرع بعض الديمقراطيين بمباركة "شرعية" انتخاب الرئيس رغم الشكوك في ممارسات معيبة جرت في عملية التصويت، والمداولات المريبة والتدخلات الخارجية التي شابت الأيام السابقة على إعلان النتيجة. ربما نجح مرسي بأصوات سليمة، وإن كانت هذه مسألة موضع تشكيك الكثيرين، ولكن ماذا عن طوفان المال السياسي الذي أغرق مصر قبل الانتخابات وأثناءها، وماذا عن الأحزاب التي أنشئت على أسس دينية رغم أنف أبسط مبادئ الديمقراطية. ويتحدث أصحاب تلك الدعوة بتجريد غريب حين يتناولون الحالة، فلا يدخل في حسبانهم طبيعة جماعة الإخوان المسلمين، والتي تقوم أيديولوجيتها على نفي كامل لأسس الديمقراطية. ومن المستقر في كل التحليلات الموضوعية (المستدعية للتاريخ والتجارب المماثلة) أن هذه الجماعة وغيرها من تنظيمات الإسلام السياسي تنظر إلى الديمقراطية كوسيلة للوصول للسلطة، وليس كقناعة ثابتة والتزام مبدئي بها في المستقبل. وستعمل بالتأكيد (تدريجيًا على الأقل) على خلق حقائق سياسية ودستورية جديدة تحت مسمى "الشورى"، وربما يفكرون في بناء نموذج إخواني/ مصري في الحكم يشبه النموذج الإيراني، بوجود المرشد والرئيس ومجلس "للعلماء". ومن التجريد غير المقبول أن يتعامل البعض مع الإخوان كأنهم من مواليد اليوم وليس لهم تاريخ طويل في التآمر على الحركة الوطنية، مع الانجليز والقصر، وفي تكوين التنظيم الخاص الإرهابي في الأربعينيات، ومحاولات بعثه في العهد الناصر، وهو الذي بات نموذجًا لإرهابيي العهود اللاحقة. ولا شك أنه من العبث تحليل مواقف تيار سياسي دون أن يؤخذ في الاعتبار تاريخه و"سوابقه". ولكن هل يتصور أحد أن الإخوان المسلمين سيظلون ساكنين منتظرين لانتخابات يمكن أن تطيح بهم. أم أنهم سيعملون على تغيير قواعد اللعبة (المرتبكة حتى الآن) لإنتاج "مسخ ديمقراطي" هو في حقيقته دكتاتورية قحة. سيعملون بالتأكيد على السيطرة على مفاصل الدولة ومواقع الهيمنة على المجتمع بأقصى ما يملكون من سرعة، وسيركزون على استخدام جهاز الدولة لحماية شركاتهم والاستيلاء على مقدرات الاقتصاد وتحقيق التراكم الرأسمالي من خلال التداخل مع مؤسسات الدولة وبالتعاطي مع آليات الفساد القائمة وابتكار المزيد منها، بل ربما تمادوا في افتعال صراعات خارجية والدخول في صراعات إقليمية مذهبية (بمباركة أمريكية وتمويل خليجي) لخلق الأعذار المطلوبة لقتل المطالبات الديمقراطية في الداخل. ليس هذا من قبيل الخيال، وإنما من قبيل الاحتمال الكبير، فالجماعة تدرك أنها أمام فرصة تاريخية نادرة ما كانت تحلم بها، حيث وصلت للسلطة في أعقاب ثورة "عبر صندوق الانتخاب" (وليس بانقلاب أو نشاط إرهابي) وبالاتفاق مع الأمريكان وقيادات في المجلس العسكري وحلفاء محليين متعددين. ومن قبيل التعامي عن حقائق الواقع الصارخة أن يتجاهل البعض واقع التعاطي المتعجرف لجماعة الإخوان المسلمين مع القانون، فهي جمعية غير قانونية، وترفض أن تخضع لرقابة المجتمع أو أجهزة الدولة على أنشطتها وأموالها، حتى بعد أن أصبح للجماعة ذراعها السياسي كما يقولون (حزب الحرية والعدالة). أما عن الممارسات الاستئثارية التي باشرتها الجماعة في الرئاسة والحكومة فهي غنية عن التعريف أو التدليل عليها. فنحن أمام هجوم عدواني منسق لاختطاف الدستور والتمهيد لحكم ديني ذي ملامح "فاشية"، وبتحدي أحكام القضاء، والإصرار على هيئات تأسيسية غير شرعية، والاستيلاء على الإعلام الحكومي وتسليمه لكوادر الجماعة والمتواطئين معها من بقايا النظام السابق وجوقة المنافقين وعارضي الخدمات بمقابل. ولا يسعني سوى التعبير عن اندهاشي من نفر من التقدميين يتعاملون مع الديمقراطية من جانب الحريات السياسية وحدها، غافلين عن حقيقة أن للديمقراطية بعدًا اجتماعيًا بدونه تفقد مغزاها وجوهرها. كما يتجاهلون أن شعارات العدالة الاجتماعية كانت على رأس المطالب الشعبية التي رفعت في ثورة يناير. بل إن رئاسة وحكومة الإخوان لم توفر فرصة للتعبير عن عدائها للاحتجاجات الاجتماعية، وتمارس ضدها نفس سياسات نظام مبارك من تشويه إعلامي، ورفض مبرم للمطالب المشروعة، واستخدام ذات الأساليب البوليسية في ملاحقة الحركات التلقائية والتنظيمات النقابية المستقلة. أما عن السياسات المتبعة في الاقتصاد الكلي فهي ذاتها سياسات الرأسمالية النهّابة التي تعمل على تعميق التبعية للخارج والاعتماد على القروض من المؤسسات المالية الدولية ذات الأجندات المعادية كل العداء لمصالح الجماهير العاملة والفقراء والمهمشين. وقد جاءت رئاسة مرسي ومعها "برتيتة" من "رجال الأعمال" الذين يطمحون إلى وراثة أوضاع الفساد وزواج السلطة والمال على طريقة ما كان في زمن لجنة السياسات لصاحبها جمال مبارك، ولا مانع لديهم من عقد مصالحات ومشاركات مع بقايا النظام السابق بشرط إعادة توزيع النسب بين النخبتين القديمة والجديدة. ولم يعد الرئيس يتحرك إلا وفي معيته "رجال الأعمال" الإخوانيين لترتيب مصالحهم ومشروعاتهم الخاصة. يحدث هذا كله في ظل حملات محمومة لإشاعة الهوس الديني، أي التدين الشكلي، وتصعيد النعرات الطائفية والمذهبية، وممارسات منحطة وإرهابية ضد المصريين الأقباط، الأمر الذي بلغ معه الاحتقان الطائفي مبلغه، وبمستويات لم يسبق أن عرفت لها مصر مثيلاً من قبل. وتكفي الإشارة إلى ما يحدث في سيناء من تضخم قوى الإرهاب في ظل سلطة ترفع نفس الشعارات تقريبًا، وإن ادعت الاختلاف في أساليب العمل. ولعل الدرس التاريخي الأهم الذي كان على جميع الديمقراطيين أن يعوه، أنه من قبيل المستحيل إقامة واستدامة نظام ديمقراطي دون إرساء مبادئ العلمانية، بما تعنية من الفصل بين المرجعيات الدينية وكل من سلطة الدولة ومنظومة التعليم العام. وبدون العلمانية يظل المجتمع مهددًا باستفحال سلطات عدوانية تتخذ من الدين- زورًا- أحد أهم مصادر استبدادها.. خلاصة القول إنه من الحماقة ائتمان جماعة غير ديمقراطية على الديمقراطية. كما لا يمكن أن نأتمن على الثورة قوى لا تدرك خطورة تلك الجماعة.
#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العودة للاهتمام بأمريكا اللاتينية.. توطئة
-
هل يفعلها اليسار المصري هذه المرة ؟!
-
الثورات العربية.. تقدير موقف
-
مستقبل جمهورية مرسي
-
ثورات واستخبارات
-
وعيد المرسي ومآله القريب
-
عودوا إلى جادة الثورة
-
تحيا الآلة الكاتبة
-
افرحوا أنتم !!!
-
سموم اللغة الثورية الهابطة
-
محاكمة القرن.. خطوة خطيرة نحو صدام معقد
-
الثورة المضادة أفعى برأسين
-
كل رجال البرادعي
-
إنقاذ ثورة مصر من الضياع
-
طرائف يسارية
-
حتى لا تحترق مصر
-
جبهة أم منابر حزبية
-
يسار ب 3 رؤساء
-
اليسار والاختيار
-
ثلاث -شرعيات-.. و -كروكي- لصدام هائل وشيك
المزيد.....
-
معالجات Qualcomm القادمة تحدث نقلة نوعية في عالم الحواسب
-
ألمانيا تصنع سفن استطلاع عسكرية من جيل جديد
-
المبادئ الغذائية الأساسية للمصابين بأمراض القلب والأوعية الد
...
-
-كلنا أموات بعد 72 دقيقة-.. ضابط متقاعد ينصح بايدن بعدم التر
...
-
نتنياهو يعطل اتفاقا مع حماس إرضاء لبن غفير وسموتريتش
-
التحقيقات بمقتل الحاخام بالإمارات تستبعد تورط إيران
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|