أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - كتاب: أحوال ومقامات















المزيد.....



كتاب: أحوال ومقامات


عبدالكريم كاصد

الحوار المتمدن-العدد: 3869 - 2012 / 10 / 3 - 03:45
المحور: الادب والفن
    


(صدر كتاب"أحوال ومقامات" عن دار فضاءات-عمّان،2011)


"أنا أقول وأنا اسمع فهل في الدارين غيري"
الشبلي



1- فصل البدايات



ميلاد فردان:

حين أطلّ فردان من بيته في باطن الشجرة
لم يصدّق عينيه:
كانت الأرض حمراء
والنهر أحمر
والقطعان أحجاراً مبعثرة
قال فردان:
"تبّاً"
ثمّ عاد إلى النوم
في بيته في باطن الشجرة

"فردان
فردان"
قالت الشمس
فلم يفتح

"فردان
فردان"
قالت الأرض
فلم يفتح

كان فردان كالجنين يتكوّر في باطن الشجرة




ما رواه فردان عن مدينته:


خطط وقبائل ونخيل كأنه غرس يوم واحد، وقبور لمشاهير في البادية.
ألسنة ومقامات وجامع كالسفينة باقٍ بلجّ الخراب ، وغارات بدوٍ وفاتحون. مدينة آجام وبطائح.
عدنانيون وقحطانيون، جبريون وقدريون، دهريون ونسطوريون، عثمانية ومعتزلة، معتزلة ومعتزلة، أعراب وموالٍ، زط ونبط، بخارية وأساورة، أتراك وديلم، زنج وقرامطة، مغيرية ومنصورية وكاملية وكيسانية ومجوس، بكاؤون وقصاص، مكدون وقرّادون، متكسبون طوّافون، وحواؤون، وأصحاب صنائع، وحفظة نوادر،ولغويون ومسجديون وبحريون ومولدات ذوات ألسنة عذبة ونهاريات يتزوجن نهاراً ويطلقن في الليل، وقيان ووليات.
البصرة الفسيفساء
مدينة المدن التي غبرت بأسواقها التي استوقفت الخليل، ونقائضها التي شطرت الأسواق، برجزها وعلوم حديثها، بنحوها القاتل وقتلتها النحويين، بشعرائها الذين مزجوا الفصاحة باللحن عامدين ليكونوا كتاباً مفتوحاً للبصرة على الجهات الأربع.
مدينة الولاة الجائرين منذ المغيرة وانتهاءً بالمغيرين الذين زنوا بالمدينة قبل العدوّ. عدوة الأمويين، عدوّة العباسيين، ومن تلاهم من الحكام. مدينة أشعلت نيرانها في الكتب حين غادرت حروبها الساحات.
مدينة الأسرار والنخلة التي "خلقها الله من فضلة آدم، ومدّها أرضاً واسعة الفضاء"
مدينة التاريخ يبتدئ حجرة حجرة وينتهي ركام حجر. جيوش توقفها الأمطار، ومساجد تعمرها الاصطبلات، وقرىً من قصبٍ ودساكر خالية إلاّ من أشباح أناسٍ مرّوا، وأبواق يُنفخ فيها في الأسحار، وطبول تُقرع فوق المنائر، وملاعب مقفرة إلاّ من وحوش قادمة من الصحراء، وأنهار يستدلَ عليها الغزاة.

البصرة المبيعة.. البصرة المشتراة.
ولكنها مدينة الكيزان البيض، والماء البائت العذب في القلال، والجاحظ الذي أنس بهذه الأشياء، فاستدلّ على كرم طينة أهل البصرة.
وللبصرة صحراؤها الشاسعة وقبائلها الرحّل، وقديماً جلست الصحراء في البرد إلى النار وتهجّت منطق الطير، وكتاب البحر، وأسفار الرحّالة والاقوام، ومنذ ذلك، لم تغلق البصرة أبوابها إلاّ لوباء، أو حرب، وحين دهمها الفيضان، في سنةٍ ما، ولم تعد القوارب تكفي لحمل الناس، صُنعت القفف المطلية بالقار، ولربما كانوا فرحين. سكنتهم المدينة وسكنوا فيها فكان في طبعهم ماؤها والحجر، هاجرتها والظلّ، والحكمة التي أورثتها قرون من الخراب، وأيّ شئ أعجب من ناس أبقى من مدينتهم، ومدينة أبقى من الناس... مدينة عبرتها القرون، وغادرتها أطلالاً وظلّت شواهدها شاخصة لمن يأتي لا ليستنطق التاريخ بل ليستنطقه التاريخ.
وكما بيع إنسانها بيعت البصرة، وهبّت عليها رياح العساكر، فلم يبق منها سوى أثرٍ في أغنيةٍ جنوبيةٍ حزينةٍ كندبةٍ في الوجه، وما أكثر ندوب البصرة! وما أرقّ حزنها! حتى سماؤها القادمة من الصحراء يثقلها الحزن كلّما اقتربت من المدينة.



وللمدينة حاضرها كما يرويه فردان:


سأبدأ من هناك.. من بيوت يفصلها عن المدينة سياجٌ من النخل، وعن الصحراء مرتفعٌ يصل البيوت بأطراف البصرة الأخرى، ويتخذهُ الناس نزهة في المساء. يقطعه قطار حمولة أو طائر تائه، أو رجلٌ قادمٌ على ظهر حصان، بدشداشة بيضاء وعقال مهيب، وهو ينثر النقود الصغيرة على الناس بأبهة ملك، ويمرّ هادئاً هدوء المجانين لا يتخطى السكة أبداً.
يصل البصرة بهذه البيوت التي تسمى"الصبخة" شطّ الترك (وهو غير شطّ الترك المعروف قرب المعقل)، الذي يخرج من سياج النخل ليندفع في العراء، سابحاً مع الأطفال، مستضيفاً الغجر وخيامهم أحياناً...وحين يحلّ الغجر تحلّ الأعراس وتمتلئ البيوت والطرقات بالأزهارالورقية والمصابيح الملوّنة، وتقف السيارات عند المرتفع بانتظار القادمين بدفوفهم وهوساتهم التي لم يتخلوا عنها حتى في الأفراح.
وقد تقف هذه السيارات بانتظار عبور مواكبهم الغاصّة بالرايات السود وراء جنازة محمولة على الأكتاف... حينذاك لا تسمع احتجاجاً أو بوق سيارةٍ لأنّ الطقس الوحشيّ من الهوسات وإطلاق الرصاص لا يترك لأحدٍ التفكير بالاحتجاج حتى لو تطلب الوقوف ساعاتٍ.
مرّة عبر المرتفع الملك وخاله الوصيّ في سيّارة مكشوفة، وعلى عيونهما نظارات سوداء. فوقفنا صامتين مشدوهين.. ولعلّ الصمت لازمنا طويلاً حتى بعد مرورهما.. كانت نساء هذه البيوت يجمعن الملح خلف المرتفع بعيداً في أعماق الصحراء .. ويقلن عند الظهيرة تحت عباءاتهن المنصوبة بالعصيّ، وكثيراً ما تقوّض الشرطة عباءاتهنّ وتطاردهنّ على الخيول حتّى بيوتهنّ لأنّ هناك من يحتكر الملح.
وفي طريقهنّ إلى مستنقعات الملح التي خلّفتها الأمطار والفياضانات، كنّ يجتزن قبور الأطفال الصغيرة وهي منثورة جوار المرتفع تعلوها شواهد من أعوادٍ وخرقٍ أو حجارةٍ بيضاء سرعان ما تجرفها الرياح المحملة بالتراب والوحل.
وبعد الفيضان الشهير في بداية الخمسينات أقامت السلطات سدّة ترابية على مسافة من مرتفعنا، لا شئ يجاوره غير دوغة (كورة) مهجورة لصنع الطابوق.
أتذكر مرة، خرجنا حشوداً إلى التلّ بحثاً عن امرأة، وظللنا ناطرين هناك حتّى مغيب الشمس دون أن نعثر على أثرٍ يقودنا إليها.. كانت المرأة في زيارة لأقارب بعيدين، وكان الجميع موقنين أنها رحلت مع الذئاب.
طريق أخرى تصل هذه البيوت بالمدينة تمرّ عبر النخل، مجتازة جسر الغربان.. طريق موحشة لا يسلكها في الليل إلاّ القليل من الناس، خشية السلب، ولكنّها في الصباح تعجّ بالسابلة وعربات الخيول وأكياس الملح وأقفاص الحمام.. ثمّ ينتشرون في بعقةٍ أو بقعتين ليتّخذوا لهم هيئة أخرى.. هيئة أبناء المدن المسحوقين وهم ينادون على بضائعهم الرخيصة أو يعرضون قوة عملهم أو يتصدّرون المقاهي بوجوههم الصامتة وسط قرقرة النرجيلات.
(مرّة بعد عودتي إلى الوطن في بداية السبعينات اجتزت هذه الطريق آخر الليل فاستوقني أربعة كانوا في زاوية جدار بلهجة آمرةٍ، فتوقفت وقد عرفتهم، وحين اقتربت منهم بهدوء كان ارتباكهم شديداً، ثمّ انهالوا عليّ بالقبل والعناق متذرّعين بحاجتهم إلى السجائر، ولم يغادرهم ارتباكهم حتّى بعد وقوفي معهم طويلاً نستدعي ذكرياتنا الغابرة أيام المدرسة.)
فجأة حلّت التراكتورات وعلا ضجيج المكائن وامتدّت بيوت تشبه القطارات خلف المرتفع حيث قبور الأطفال .. بيوت ساكنة إلى الأبد .. موشكة على الرحيل في كلّ لحظة، تسمرها الشمس كالقنافذ في الصيف ولا يزحزحها المطر في الشتاء، كأنها علب مشدودة إلى الفراغ بخيوط من ماء مما يضفي عليها كآبة لا حدود لها.. أطلق على هذه البيوت اسم (الأصمعي)، ولكنّ الناس ظلّوا يسمّونها باسم الشركة التي شيّدتها (ومبي) فلم يغادرها هذا الاسم حتّى يوم رحيلي.
في تلك القطارات كان ثمة بيت .. عربة صغيرة - إذا جاز القول – سكنه الشاعر بدرشاكر السياب الذي كنت أصادفه أحياناً في الظهيرة، في الباص، أو في المساء، في الباص أيضاً، في طريقه إلى مكتبة فيصل حمود، غير بعيدٍ من مأوى مومسه العمياء الذي تفصله عن المكتبة ساحة وبضعة بيوت، يجرّ جسده النحيل ونظرته الذاهلة البعيدة عن الأشياء والناس.
وعندما حلّت التراكتورات حلّ الباص أيضاً، وأصبح المرتفع موصولاً بطريق واسعةٍ يجتازها الباص، ثمّ يدور دورته الأخيرة ليدخل المدينة من جهتها الرئيسية التي تبدأ بسجن ومستشفى متقابلين، يلخصان كلّ عذاب البصرة ومأساتها (كانت النسوة يجلسن صفوفاً أمام بوّابتي السجن والمستشفى وظهورهنّ متقابلة، متشحات بسواد عباءاتهنّ وفي عيونهنّ حزن المدينة المقيم).
كان جوار السجن بضعة بيوت موحشة كأنها مهجورة تحرسها كلابٌ مقعية دوماً، تتطلّع إلى جدار السجن الهائل، وخلف المستشفى ثمّة بيوت يسكنها الأرمن .. نظيفة.. لامعة تحرسها الشجيرات، والكلاب المخيفة، والفتيات الواقفات في الطرقات المتعرّجة، حيث الجسر الخشبيّ الصغير الذي نجتازه إلى المستشفى متجنّبين العبور من الباب الريئسيّ لزيارة مرضانا العديدين في كلّ الأوقات:


أفرحُ حين أزورُ المستشفى وأجوز بيوتَ الأرمن
دون سياجٍ أو سورٍ تتفتّحْ
عن أزهار الطرقاتْ
أتطلّع مبهوراً يصدمُني حبلُ غسيلْ
أو كلبٌ ينبحْ
فألوذ بأذبال النسوة حتّى طرفِ الجسر
محفوفاً بالفتيات
أتلفّتُ صوبَ النهر
وأجوزُ الردهةَ
أحلمُ مخطوفاً ببيوت الأرمن


(عبر بيوت الأرمن)


لم أصدّق أن البيوت التي كنت أراها في طفولتي جوار السجن ستفتح أبوابها، ذات يوم، لتخرج منها بلقيس عروساً تطأ قدماها أرضنا القابعة تحت المرتفع.
كانت بيضاء، يوم زفافها، مجللة بأكليل أبيض، تحوطها أمّ بدينة وأب ضخم الجثّة هو منفّذ الإعدام في السجن، ويا لدهشتنا حين علمنا أن بلقيس تدخّن، وان زوجها عبدالله، الجابي (قاطع التذاكر)، كان عليه آنذاك أن يشتري لها علبة دخان كلّ يوم، ويوفّر لها ما يوفّره الأزواج في المدينة، غير أن دهشتنا لم تطلْ فقد علتْ السمرة وجه بلقيس بعد أيام ملفعة بالعباءة والفوطة كأمهاتنا.
وفي السنوات الأخيرة غصّت جهة البصرة هذه بالبيوت، وأقيم كراج ضخم لم يشهد، أيام الحرب، غير الجنود المصابين بضماداتهم البيض، وهم يزدحمون على الباصات لتقلّهم إلى قراهم النائية بين البصرة وبغداد، يمضون فيها إجازاتهم القصيرة، ثمّ يعودون إلى الجبهة وعيونهم مشدودة إلى الوراء .. إلى صدر أمّ، وراحة زوجة، وإطراقة أب.



جنودٌ يصعدون الباص
جرحى واقفين
تلوحُ أشباحُ القرى
(وطريقهم يمتدّ)
يهبط بضعةٌ
(وطريقهم يمتدّ)
يهبط كلّ منْ في الباص حتّى السائق السهران

صمتٌ موغلٌ
وقرىً تلوح كأنها الأشباح
والباص الذي يهتزّ
مبتعداً هناك


(إجازة)




وعند هذه الجهة تستقيم الطريق محاذية النهر القادم من شطّ العرب على بيوت الأرمن، ولكنّها قبل أن تواصل استقامتها تتوقّف عند ساحة في البصرة القديمة، لنهبط منها داخلين بأقفاصنا وملحنا الأبيض المحمول في الزنابيل، وغبارنا وأشقيائنا، وعباءاتنا الحائلة الطافرة، وافنديينا القلائل بسترهم الإنجليزية القديمة المشتراة من (اللنكات) وأحذيتهم اللامعة.
سيرك حقيقيّ لا أستطيع أن أتخيل البصرة بدونه أبداً، ثمّ تتوزعنا طرقات البصرة القديمة، وساحاتها وكأننا في بيتنا القديم، فتعلو نداءاتنا وصيحاتنا وشجاراتنا، بل وحتّى ثغاء أغنامنا، وهي في طريقها إلى السوق أو المسلخ.
وفي البصرة القديمة ثمّة استدارة تبدأ من الساحة لتلتقي ثانية باستقامة الطريق الذاهبة إلى العشّار .. وفي هذه الاستدارة كلّ تاريخ البصرة: مقاهيها، أسواقها، مركز شرطتها الكريه، دار بلديتها، بيوتها القديمة، منازل مومساتها، مجالس عزاءاتها، مواقف باصاتها، وموبيلياتها الجميلة التي تقف أمامها دوماً سيّارات الأعراس حيث مقهى محمود الذي كنتُ أطلّ عليه فيما بعد فأستجمع المشهد وأتذكّر طفولتي:


أركضُ حين يجئ الناس
محتشدين أمام الواجهةِ المفروشةِ بالقنفات
أهرعُ مسحوراً بين السيّارات
أحملُ كرسيّاً ومصابيحَ ملوّنةً للزينة..
لكنّي أخشى لمسَ مخدّات الأعراس
وأخافُ النسوة،
أسألُ أحياناً:
هلْ يتزوّج هذي الأيام الناس؟


(أمام موبليات الأعراس)




وأجمل من كلّ ذلك سوقها القريب من المركز الذي يتصل بسوق العبايجية وسوق البزازين.. سوق مفتوحة يتوسّطها مقهى شعبيّ جميل كأنّه امتداد للشارع بلا سقف ولا عتبات، وفي الصباحات تهبط المومسات يجولةٍ تذكرني بمواكب المومسات التي تحدث عنهنّ أندريه جيد في كتابه "حين تموت البذرة" أيام الأعياد في مدينة بسكرة الجزائرية الشبيهة بالبصرة بنخيلها وبيوتها ووداعتها.
كنت أتطلع إليهنّ فأراهن أليفات يشبهن نساءنا إلاّ بضعة أصباغ أفتقدها في وجوه بعضهنّ أحياناً، وحتّى عندما يتشاجرن مع الباعة وتعلو أصواتهن، أسمعهنّ يتحدّثن عن شرفهنّ الباقي أو المفقود... لا أدري فتصيبني الدهشة، بل أن لبعضهنّ أطفالاً يجلبنهم معهنّ إلى السوق ولاتنتهي جولتهنّ إلاّ عند حدود سوق البزّازين الذي انتقل إليه محلّ والدي بعد أن كان في بداية السوق فيصلن إليه كغزالات نافرات من سربٍ عائد.
مرّة أشتدّ بي الحنين لزيارة سوق البزّازين فوجدته خرائب، وركام تراب، تتدلّى من سقفه الملئ بالثقوب ظلالٌ كالافاعي، فغادرته مختنقاً.. متذكّراً العتبة التي كنتُ أجلس عليها وأنا أقرأ لأبي كتابي (الف ليلة وليلة) و (عنترة بن شدّاد) الصادرين عن دار الهلال آنذاك فيجتمع حولنا خلق من الباعة تاركين محلاّتهم، ويا لتثاقلهم حين يأتي المشترون.

لن أنسى دموعهنّ بعد إغلاق المبغى، وهنّ يودّعن الآتين ويعرضن أثاثهنّ للبيع، ويرحلن بلا أثرٍ سوى البصمات التي خلّفتها أيدي السكارى والمتعبين على أجسادهنّ:


في السوق رأيتُ النسوة يبكين
يحزمنَ شراشف..
وعباءاتْ
ويودّعن االآتين
في المقهى المردوم وراء البلديّهْ
يا عيني! هل ترحل صبريّهْ؟
وتغيب الفتيات
لم أضحك حين سمعتُ سبابَ الوّادين
وسط الضحكاتْ


(رحيل)



بعضهنّ سكنّ البيوت المجاورة للمبغى ودار البلدية، حيث تنعطف السيّارات باتجاه الطريق العامة المستقيمة التي تحاذي النهر والشناشيل ذات الشبابيك التي تؤطر وجه فتاة دوماً، فتاة تحدّق في النهروالعابرين وتختفي كما تختفي اللوحة في إطارها. ولكن ثمة وجه لا يختفي أبداً هو وجه (ديزي) التي كانت تمدّ ظفيرتها من النافذة فلا تصلها أيدينا الصغيرة المرفوعة في الحلم.
هذه الطريق أقطعها كلّ يوم عابراً جسراً صغيراً خشبيّاً عندما حللنا أنا وعائلتي قريباً من الشناشيل في السنوات الأخيرة قبل النفي.
طريق تمتدّ طويلاً حتّى العشّار، وتنتهي، ويا للغرابة، عند قدمي تمثال السيّاب الواقف أبداً عند زاوية الشطّ في التقائه بالنهر، أمام مبنى البنك المركزيّ.



مارواه فردان عن طفولته:


في أواخر كلّ صيف نستعدّ للرحيل فنكدّس أمتعتنا وأطفالنا ونساءنا، في لوريّات ضخمة تسير بنا ببطء، باتجاه الأنهار النائية في أبو الخصيب حيث النخل والجراديغ(مكابس التمور).
كنّا نخفض رؤوسنا لئلاّ تصطدم بالأسلاك الكهربائية والجسور المسقوفة المنتشرة في الطريق، وحين نصل ننتشر بين النخل ناصبين أكواخنا القصب وكأنّنا ننصب سيركاً أو مسرحاً لنبدأ التمثيل، ثمّ نعود بعد شهرين أو ثلاثة أفقر من آثارنا التي خلّفناها لمطر الشتاء والريح.
على مسرحنا هذا كنّا نضرم نيراننا في الليل، ونمسك بالصناديق مثل الطبول وتبدأ أفراحنا الليلية، وعند الفجر نستيقظ ديوكاً صائحة، نتقدّم صوب الجراديغ منحنين على الصناديق حتى المساء، نصفّ التمر أو نحمله في الصناديق إلى القوارب والسفن.
عالمٌ هشّ يعجّ بالبشر والقطط والكلاب والأسماك والزنابير، وتتنقّل في أنهاره الأسواق مع الزوارق، ويعبره البحّارة الهنود بأكياسهم الفائحة برائحة السمك الصغير اليابس اللاذع في الفم (المتوت).
عالم يعجّ بكلّ شئ ، ويرتجّ لدى وقوع أدنى حادثةٍ، وما أكثر الحوادث وأبطالها دوماً هم العشّاق ومسرحها دوماً الأنهار الجافة المهجورة:



من بين كلّ العباءاتِ المنحنيةِ على الصناديق
تنهضُ عباءة في الليل
بعيداً عن النيران الموشكةِ على النباح
والقناطر المهتزةِ تحت الأقدام
يتبعها جسدٌ
تنطبقُ عليهِ في الظلمة..
ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس
بين الحلفاء


(عباءة)


لقد سحرني ذلك العالم العابر الهشّ بأسواقه المتنقّلة مع الزوارق، ونوتييه المسنّين الذين لم يهبطوا المدن، وعشّاقه الذين يقودون حبيباتهم إلى الأنهار، وعمّاله الذين يقلبون صناديق التمر طبولاً للسمر في الليل، ثمّ ينهضون ديوكاً صائحة في الفجر، وأكواخه التي يختلط فيها الناس بالزنابير والدجاج والأسماك المنشورة على الحبال كالغسيل.
هذا العالم الهشّ يحوطه عالمٌ يذكّرنا بهشاشتنا كلّما ارتحلنا عنه أو أقمنا فيه. له علاماته المؤنسة لإقامتنا العابرة: الجسر الذي تقطعه سارية سفينةٍ نصفين، المقهى ذو الكراسيّ المصفوفة على حافة الجرف المبقّعة بالذباب وريش العصافير، الشجرة الغليظة التي تمدّ أذرعها داخل النوافذ، الغرف العابقة برائحة الخلّ والصبايا الخادمات، البيوت القديمة المنحنية على النهر وكأنّها خيولٌ تهمّ بالشرب ، والتي تكاد تلامسها القوارب عند ارتفاع المدّ ... وغيرها وغيرها من العلامات.
كنّا نجتاز الجسر في طريقنا إلى مدرسة "باب سليمان"، وذات مرّة أوقفتني سفينة تريد أن تقطع الجسر الذي كان يرتفع ببطء، فتأخرتُ، وكان نصيبي ضربات عديدة من المسطرة على راحة اليد.
وفي قلب هذه العلامات لم نكن وحدنا العابرين، فمع هبوطنا الصاخب يقدم النوتيّون والبحّارة والعمّال والعاملات من القرى النائية. ويا لدهشتي، أنا الطفل، عندما علمتُ من نوتيّ – كان يحدّث أبي – أنّه لم يرَ البصرة في حياته قطّ، وهو الشيخ الذي ينوف على السبعين والذي خاض جميع الأنهار:


على دكّة الدهليز الضّاجة بالصراصير
يقرفص طفل
منتشياً برائحة النهر
والقوارب الصامتة عند الضفة
وفجأة..
يوقظه مجذاف
ونوتيّ..
خاض الأنهار
ولكنّه –يقول-
لم يهبط المدنْ

(نوتيّ)




في هذا العالم الهشّ وقف قاربٌ أبيض وسائده مطرّزة، وحشيّاته بيضٌ، عند الضفة القريبة من الجسر، فلم تزده خضرة الماء إلاّ بياضاً.. قاربٌ من الأساطير. في كلّ طرفٍ منه انتصبت قامة نوتيّ ومرديّ يجسّ قاع النهر، كما تجسّ عصا الأعمى الأرض لتفتح باباً مغلقاً على الأسرار.
لم ينتظر القارب طويلاً، فقد كنّا، أنا وأبي، مهيّئين للرحلة التي بدأت عند الجسر ولم تنتهِ بعد.
اجتزنا نخيلاً كأننا نجتاز غابة، ويا لدهشة الطفل، عندما انفتح النهر فجأة على فضاء من سماء وماء..عند مخفرٍ سكنتهُ شجرة ضخمة وحيدة، وخيول ترعى.. إنه الشطّ (شطّ العرب) الذي حاذينا ضفّته الشرقية باتجاه جزيرة نائية لنشهد الاحتفال- الطقس، في موسم صيد الأسماك: ضفاف طينيّة مغروسة بأسيجة من قصب.. حين يأتي المدّ تعلوها الأسماك وحين ينحسر تتكدّس الأسماك بين الأسيجة لامعة في الشمس، بينما اشتعلت على مقربة من الضفّة نيران تعلوها قدور كبيرة سود لإطعام الصيّادين:



هبطتْ سلالُ الطلع
من يأتي الوليمة ؟
قاربٌ في النهر يدفعه الهواء
سفينةٌ في النهر عند المفرق المائيّ حيث المخفرُ المهجورُ ، والخيلُ التي ترعى ، وذاك الشطّ تعبرهُ البنادق . طلقةٌ ويسيلُ خيطُ دمٍ وتهتزّ السماء كأنها طيرٌ
ويمضي الماء
يمضي الليل ..
صندلهُ الخفيفُ يضئ
تلتمع المواقدُ والفوانيسُ البعيدةُ
صيحةٌ ..
ويهبّ صيّادون
تقترب المشاعلُ
ظلّها يمتدّ حتى الجرف
حتّى لمعة الأسماك
بين حواجز القصبِ الخبيئةِ تحت ماء الشطّ
جزرٌ والسماء نديّةٌ
والمدُّ لا يأتي
ويأتي الساهرون من القرى
أ أظلّ منتظراً هناك ؟
كأنني شبحُ المواكب
هل أصيحُ : " أبي لماذا عفتني في قاربي المسحور؟ "
لو ألقيتني حجراً وضعتُ
لو انني
لو كفّك البيضاءُ لم تهتزّ فوق النار!
في تلك الوليمةِ
لو أنام
لعلّني ألقاكَ
لو



(الوليمة)



غير أن عالمي الذي أعود إليه لم يكن أقلّ غرابة من عالم الأنهار، فقد تفتّحتْ عيناي على الباحات الرطبة، والأبواب المفتوحة على السراديب، والعميان الذين يرقصون حول النيران، والمباغي المغلقة، والعاهرات اللواتي يرحلن باكيات وسط سباب القوّادين وضحكات المارّة، والأمهات اللواتي يندبن بناتهنّ القتيلات رغم الفضيحة، والأطفال الذين يموتون، والقبور التي تضئ للموتى، والبلهاء الذين اخضرّت لحاهم ولم يهرموا، والرواة الذين يعبرون مقاصير (ألف ليلة وليلة) في الأحلام ليدخلوا المصحّات في الواقع، وجامعات الملح في الصحراء يقلن تحت العباءات المنصوبة بالعصيّ، والحمّالين الذين كنّا نكنس طريقهم من الحصى لئلاّ تنغرس أقدامهم الثقيلة تحت الأحمال، والأطفال الذي يُحملون فوق رؤوس النسوة ملفوفين بالعباءات السود، في المآتم أيام عاشوراء المقدّسة، والسجناء الذين يخرجون مصفرّي الوجوه من هواء السجون وهم يتحدّثون عن أسماء وأحداث نجهلها نحن الأطفال.


قصيدة: ( سقطت سهواً من ديوان "النقر على أبواب الطفولة" وسقط منها سهواً بيتٌ لا يتذكّره فردان يرد هنا منقّطاً)


ترفع نسمة الصباح
غطاءهُ
يفتح عينيهِ ويرقب الشروق
يسمع وقع قدمٍ على الطريق
ويبدأ الصياح
ديكٌ على سريرهِ
ثمّ يعودُ يرهف السماع
تملأ صدره الحشائش الخضراء
تمرّ فوق العربات
ثمّ يصرّ السلّم القديم
وتتّقي عيناه باليد الشعاع
.............................
وتستثير شوقه رائحة الحليب والصيحات
ويذكرُ الكرّاس في وجوم




مارواه فردان عن جدّه:


قالت الحكاية: جاءت الجدّة ملفوفة بعباءتها في صحبة الأمّ، ليلة العرس، ناحلةً سوداء، لم يرها الجدّ من قبل. تطلّع فيها مقطّباً بين حاجبيه ثمّ تركها لينام وعيناه مفتوحتان.
قال لأمّها: هل أدلّك على الطريق؟
قالت الأم: أعرفه.
ثم مضتا: صبيّة تتعثّر بعباءتها، وأمّ تحمل صرّة وتحدّق مذهولة في الطريق.
بعد سنين قالت الحكاية: التقى الجدّ بامرأته في سوق للأغنام، فحملها إلى بقعة نائية لا يطلع فيها غير الحنظل. قال لها: امرأتي أنت، ثمّ لم يرها بعد.
حين فاجأها المخاض حملت وليدها إلى النهر، وأشهدت النجم.
قالت للطائر: ما أنت إلاّ طائر السعد.


شاهدة قبر :



في ليلة أقمارخضراء
تعانق ظلاّن
لم يلتقيا بعدْ
بين صرائف وسماواتٍ تتدلّى منها الأغنام

في ليلة أقمارٍ سوداء
حملتهُ امرأتان
اشهدتا ماء النهر وطير السعدْ
وأسلمتاه إلى الآلام



حكاية الجدّ:

كما رواها حفيده شعراً بعد قرن من الزمان إثر نزوح الجدّ إلى المدينة حيث كان سيّد قومه في الليل، وحمّال أمتعة التجار في النهار:


الصخرة
( حكاية جَدّ )



-1-



كان جدّي صخرةً
والنهر مشحوفاً
وكان الزرع مخبوءاً وراء الجرف
قال الزرع : " لو أطلعتِني ! "
لكنّما الصخرة غابت فوق مشحوفٍ
ولم ترجع إلى البيت
رأتْ ما لم يرَ الطير ،
وما لم تبصر الأسماك ،
قالت: "أيّها الماء انتظرني!"
صخرة عامتْ على النهر
وسارت بين أقدامٍ من الصلصال
قال الطيرُ: "آويني!"
وقال السمك الآمن: "هذا النهر مسحورٌ"
فلم تسمعْ وظلّتْ صخرةٌ صمّاء
قال الجدّ



-2-



صخرةٌ أنبتت القمح
ولم تأكل
وألقتْ ما تبقّى حفنةً للطير
قلنا: "ما أتيناك لكي نستبق الطير
ولكنّا رأينا النار"
قالت: "ادخلوها!"
ثمّ قادتنا إلى كهفٍ غريبٍ ليس مثل الكهف
مسكونٍ
وكانت نارنا سوداء
كانت نارنا حمراء
كانت نارنا بيضاء
( عند الباب )
والصخرة عادت صخرةً
لا تُنبت القمح
ولا تأكل
عادت صخرةً صمّاء
قال الجدّ


-3-



ليلة العرس
رأيتُ النجم ينشقّ
وبيتي ساحةً بيضاء
والجنّ يسيرون على الأوتاد
ناديتُ على الناس
فلم أبصرْ سوى ظلّيَ كالصخرة –
( لا أقوى على حملهِ )

- يا عرسي احملي ما شئت من أمتعة البيت!

وسارتْ خلف ظلّين إلى الأهل
بلا عينين
عذراء كما البيضة
تبكي نجمةً غابت
وجنّاً غادروا الأوتاد
قال الجدّ


-4-


بعد عامين
رأى الجدّ
- وقد أصبح كالصخرة-
عذراء كما البيضة
تمشي خلف ظلّين
"عروسي أنتِ"
صاح الجدّ
واستلقى على الحنظل
واستلقتْ على الحنظل
واهتزّا معاً كالطير

- يا عرسي احملي ما شئتِ من نسلي!

وسارتْ
خلف ظلّين إلى الأهل
بلا عينين
تبكي نجمها الغائب
قال الإبن



-5-



قالت الصخرة :
" في العام الثلاثين
قبيل الحرب
جاءوني بحملٍ
لم أرَ الحمل
ولكنّي رأيت الناس أحجاراً
وأطفالاً أمامي يكنسون الدرب
بين الخان والقبو الذي في الخان
كان الدرب يهتزّ
كأنّي أحمل الخان على ظهري
كأنّ القبو
والسلّم يهوي بي
بلا قاعٍ
كأنّ القبو.."
قال الجدّ
واستلقى على ظهرهِ،
في الظلمة :
في العام الثلاثين
قبيل الحرب
قال الجدّ



مارواه فردان عن خاله موزان الراوي:



موزان الذي لم يحمل يوماً هديّة لطفل كنّا نحبه نحن الأطفال.. ننتظره ملهوفين.. ننتظر هداياه التي لا تكلّف شيئاً.. فتح فمه فحسب، لينفتح بحر، وتعلو صارية، وتخفق ريح، وتدنو جزر.. وموزان لا يأتي إلاّ مريضاً لرعاية أختٍ هي أمي، أو عابراً قادماً من مدينته النائية المطلة على البحر إلى الأحياء الضيقة المكتظة بالنساء العاريات، أو إلى دارٍ للمسرّات.
رآه أحدهم في ماخور، ورأيته أنا مراراً أمام احدى دور السينما بعقاله المهيب وعباءته السوداء .. نلتقي قريبين ونفترق غريبين. لم يدعني يوماً، ولم أنتظر دعوته، فأنا لا أنتظر من خالي الشحيح المحبوب (موزان والي) سوى هداياه التي لا تكلّف شيئاً سوى فتح فمه الذهبيّ.

كان مرضه صحّتنا .. نتحلّق حوله مشدوهين.. نتطلع في فمه وكأننا نتطلع في بابٍ سحريّ مفتوح على عالمٍ خفيّ .. نتأمل ملامحه التي لا تتغيّر أبداً رغم الأحداث الجسام التي اهتزّت لها أبداننا أو تسمّرت. لا نلمح فيها غير ابتسامة خفيّة تلوح ولا تبدو، وقد تختفي عند مشهد لتطلّ ثانية على مشهد آخر، وهي بين اختفائها وظهورها لا تبين أبداً.

كنّا نحبه ولا نكرهُ فيهِ سوى نهوضه المفاجئ من سريره إلى بيت الراحة .. آنذاك نهبّ معه وإليه ، نتسابق أنا وأخوتي على حمل إبريقه إلى أعلى السلّم، حيث بيت الراحة الذي لا يصله الماء، مصغين، بانتباه، في أسفل السلّم، إلى ضراطه المتواصل وقد خنقنا ضحكاتنا الطفولية، متظاهرين بالجدّ وعدم سماع أيّ صوت من أصواته السريّة المعلنة، حافين به، وقد تقدّمنا كالملاك ثانيةً إلى سريره الطائر بين العصور والبلدان كبساط الريح.

لم نكن ندري أنه سيلازم سريره هذا طويلاً ، ولكن ليس في البيت بل في مستشفى قريب تؤمه أمّي يوميّاً للإطمئنان على صحة الخال الذي أخفوا عنّا مرضه .. كنا نتندّر ونقول لأمّي: " لن تنفعك كلّ زياراتك هذه فلن يورثك شيئاً " ، فتردّ الأمّ باستياء وكأنها تحدس الحقيقة في قولنا: "إنه أخي". وبالفعل فإن خالي حين مات أورث أبناءه الكثير من ماله العريض وأملاكه من العقارات والدكاكين ولم يوص بشئ لأمّي التي تقبّلت هذه الواقعة على مضض ، مردّدة بلا مبالاة: "إنهم أولاده، وهم أحقّ". لم ينس خالي حتى وهو على فراش الموت تقريع أخته (أمّي) له على زيجاته العديدة وزوجاته الممتعات.


كان خالي لا يكتفي بدور الراوي بل يعتبر نفسه بطلاً أو شبيهاً بالبطل. فهو حامل العلم أو الراية عند ظهور المهديّ المنتظر ليملأ الأرض عدلاً وسلاماً . كيف لا ؟ وهو الذي زاره المهديّ مرّات عديدة في بيته ، ليبحثا في فساد العالم. ولا يجد خالي أي تناقض بين دوره البطوليّ هذا وحمله صورة الفنّانة سميرة توفيق في جيبه ، فكلّ بطلٍ ، بطبيعة الحال ، بحاجةٍ إلى بطلة، ولا بأس إذا ما كانت البطلة فنّانة مشهورة كسميرة توفيق السمراء. ولعلّ في اختياره سميرة توفيق بطلةً تعبيراً عن مللٍ من بياض محظياته الأعجميّات اللواتي كان يتزوجهنّ بالمتعة ليزوجهنّ فيما بعد بالحلال. كما أنه لا يجد أيّ تناقض بين دوره هذا وبحثه ، كشارلي شابلن، عن الذهب. لذلك تراه مهووساً بالحديث عن الكنوز المخفية تحت الحيطان. وقد كانت ليلة مثيرة حقّاً عندما أشار على أبي أن يحفر أحد أركان بيتنا القديم الذي هدمناه لنبنيه من جديد. لقد حفرا، على ضوء الفوانيس، حفرةً عميقة فلم يبدُ لهما الكنز المخبوء وما بدا لهما لم يكن سوى طين وماء لم يعكسا حتّى وجهيهما اللذين ارتسمت عليهما الخيبة واضحة.

مرّةً جاء مسرعاً إلى أبي يعرض عليه الذهاب إلى الإثل خارج البصرة للبحث عن كنزٍ مخبوء هناك. لم يكذبه أبي بل استدعيا جارنا الذي حملهما في سيّارته إلى مكان ناءٍ ومعهم عدّة الحفر. بعد ساعات رجعوا بالكنز المخبوء . كان عبارة عن صندوق حديديّ قديم مغلق علاه الصدأ. لم يفتحوه إلاّ بشقّ الأنفس بعد أن كسرا قفله بمعول . لم يجدوا في الصندوق سوى ملابس جنديّ بريطانيّ وأغراضه الشخصيّة، عندئذٍ طلب والدي من خالي موزان أن يقول الحقيقة. كانت الحقيقة المرّة هي أن خالي موزان بعد أن قتل الجنديّ البريطاني أخفى صندوقه بين أشجار الإثل منتظراً كنزه كلّ هذه السنوات انتظاره المهديّ الذي لم يأت.






انخطافات ألف ليلة وليلة



إلى ذلك الإنسان الذي روى لي في طفولتي كتاب ألف ليلة وليلة واشعل في ذاكرتي الحرائق



1- إنارة


أنينُ المراكب في البحر
تغريدة السندباد الشجية في قفصِ الطير
قرعُ الطبول الخفيةِ
تهويمة الطير والخاتمُ الذهبيّ
عصا الطفل ملتحياً يلبس الطيلسان
قميصُ الصبية يرفعهُ النوم
إرخاءةُ الستر محتشداً بالطواويس
رقصُ القرودِ الخفيفةِ خضراءَ
تحمرّ عند انطفاء القناديل
وجهُ الصبيةِ يبكي
على شرفةٍ من ضياء


2- موزان الراوي


للبلاد التي سحرتها النساء
كان يحملني
موقداً نارَهُ للغزالاتِ باكية
تستحي في الضياء
لائذاً بالطبول
يحثّ النجائبَ مسرجةً في الرياح
تطاردهً حربةٌ وصهيل
مرخياً راحتيهِ، يجسّ التصاوير
منقوشةً في السريرالملاصقِ للنار..
ملتحفاً بالغطاء

*

أصحبهُ حين يجئ صباحُ الجمعهْ
مفتوناً اتطلع في الصور المسحورةِ في الشاشة ..
مختفياً في الكرسيّ
تبهرني كوفيّته البيضاء
وعقالُهُ يلمعُ بين الأطفال
كان يحدّثني عن كنزٍ ووليّ
يوقظهُ في الليل فيتبعهُ حتى طرَف البلدةِ
عن موزان الحمّال
والأقمار السبعهْ


*

يعشقُ الصلوات
والتمتعَِ بالأعجميات
ابصرهُ في الظلام يطوفُ على رأسهِ ملَكٌ
حين قام إلى النار
لم تنطقِ الطير
لم تتّبعْهُ الغزالاتُ سارحةً في المواخير
لم تختطفهُ مقاصيرهُ الذهبيّة بين المصحّات
لم تستجبْ للرحيل النجائب
لم تستجبْ للرحيل



3- بوح


يا ابن بكّار! أضحت منازلنا
حجراً
واللصوص البعيدون عادوا بأمتعتي



4- قباء

انتحبْ فوق نقش القباء الجميل
حطّ كالطير في قفصٍ
وانتفضْ
ناثراً ريشكَ الذهبيّ
في الرواق الطويل
بين صمت القباء وترديدك الأنثويّ
يا بديعَ الزمان


5- فرس


يا فرسَ الابنوس الأسود
كسّرَ اقدامي فرحُ الأطفال



1976






كم ذكّره ما رواه خاله بما رآه في خراسان التي زارها طفلاً بصحبة أمّه:



في خراسان
لم نشرب الماء
لم نفترش سرّة الصحن
لم نُطعم الطيرَ خبزَ خراسان
لم نقرأ النجم
أو كتبَ الأولياء
غير أنّ المدينة دقّتْ على النهر طاساتها
فمشى النهر في خيلاء
حين أودعتهُ صرّتي
قلتُ: من سوف يسرقها؟


ومن بين مارآه في طريقه إلى خراسان: ناقة حملته وسارتْ، عباءات انتشرت في سهل، حجيج يميلون ساعةً ليناموا.. وجوه فارسيّات بيض، بملاءاتهنّ المزركشة، وجهه يمسحه بشبّاك ضريح:



في خراسان
أُغلقت السوق..
والناس هذا المساء
لم يصلّوا
أطفأت ضوءها الشرفات
واختفتْ نسوة في السراديب..
كان الزجاج
يتطاير
والواجهات
تختفي
والشوارع تكتظّ بالعرباتْ

*

كان ذلك أيام مصدّق.
ولعلّ أكثر المشاهد شبهاً بما رواه خالي موزان هو خاتمة القصيدة (في خراسان) التي تستدعي واقعة حدثت لي حين قادتني أمّي صغيراً إلى حمّام فارسيّ يضجّ بالنسوة العاريات اللواتي فزعن، كجنيّات الحسن البصريّ، حين رأينني:


كيف ألقت بنا الريح صوبك ..؟
كيف استفقتُ على صخرةٍ ،
بابها البحر ..؟
والنسوة العاريات بحمّامك الفارسيّ
كيف فرقتهنّ على الصحن كالطير ،
مختفياً تحت جنح العباءة ..؟
كيف تشابكتُ كالنور فوق زجاجك ..؟
أيهٍ خراسان!
مالت بنا الريح عن ضفتيك
وغاب على صخرة بابك الحجريّ

من قصيدة (في خراسان)




ما فعلته المرآة بفردان:


حدّقت في المرآة
توارت الغرفة
واستفاقت المياه
وضاعت الخطوة في الزحام
رأيتُ عابراً ينام
أوقفته..
حدّقتُ فيه..
جحظتْ عيناه
وسار مسرعاً بطئ
ماذا ترى تقولهُ المرآة للمرآة؟
فوق جدار المسرح المضئ
وبين جدران المساء
وما الذي تقوله المياه؟
هناك بين القصب الخبئ
يرتعش الفنجان في المقهى
وتعبر النساء
وتستفيق الطاولة
وتعكس المقاعدَ المرآة
ثم تسير في المياه
مقاعد المكان ذاهلهْ
ماذا تقولهُ المرآة للمرآة وهي راحلهْ


تعليق:


في هذه القصيدة التي يقول فردان إنه كتبها مطلع الستينات ثمة إشارات إلى كوكتو وفيلمه "دم الشاعر"، وسالنجر في حواره :"ماذا يقول الجدار للجدار"، وما تسرّب من أخبارٍ من قصب الأهوارآنذاك، ومن شاء الاستزادة فإن فيها إحالة إلى قصة قصيرة لمحمود عبدالوهاب تجري أحداثها كهذه القصيدة في مقهى (علي بابا) في البصرة.



وهذا نص آخر مبعثه نص لجلال الدين الروميّ:


طرق فردان باب صديقه، فسأل الصديق: "من الطارق؟"
أجاب: "أنا"
فردّ الصديق: "لا صداقة بيني وبينك وليحلّ عليك عقابي ما دمت حيّاً"
قال فردان: "يا أسفي! وغادر، وحين عاد بعد سنين طارقاً باب صديقه من جديد سائلاً حيران، قال صديقه:"من الطارق؟"
قال:"أنت"
قال الصديق:"لك أن تدخل الآن وقد صرنا واحداً، فالبيت لا يتسع لاثنين."






وكتب فردان حين كان طالب فلسفةٍ وقارئاً نهماً لكامو، وهارباً من مجزرة إلى دمشق، قصيدة ليس فيها من التناص غير إحالة خفيت عليه الآن:



قابعٌ في ظلمة الليل وفي عينيكَ ساحاتُ النهار
فوقها القاتلُ في عكازه يمشي قتيلا
أنت لم تعرفْ سوى الموتى يسيرون طويلا
ثم ينهدّون في ظلّ جدار
أنت لم تعرف سوى الموتِ جدار
وصدى العكاز يأتيك مع الصمتِ ثقيلا
عبْرَ ساحاتِ النهار

أنت في ظلّك لا تملكُ غيرَ البردِ والليلِ دثار
تأكل الفئران رجليك ..
و نصلُ الساحةِ الأبيضُ -
يُرديك قتيلا
لو تهزهزتَ قليلا
نحو ساحات النهار

أنت حتى لو مددتَ الكفّ
حتى لو تمزقتَ على الصمتِ عويلا
سوف لا يخفيك ظلّ القاتلِ الأسود
لا يخفيك
والنصلُ سيرديك قتيلا
شاحباً
أصفرَ
في ضوء النهار


مارواه فردان عن فردان بصيغة المفرد الغائب:



حين قرأ فردان قصيدته هذه في جلسة التفت إليه احد الجالسين وكان الشاعر عزمي مورللي، الذي يكتب باللغة الفرنسية قائلاً بلهجته الشامية المحببة "ابني بتعرف شو بتقول"
كما قرأها فردان في قصر العظم سنة 1964، وكان هناك الشعراء: عبدالمعطي حجازي، وعلي الجندي، ورفيق الخوري الذي كتب عنها معجباً، فأخجلها أربعين عاماً أو أكثر حتّى أتاح لها الله هذا الكتاب لترى النور.




وفي الجلسة ذاتها قرأ فردان قصيدة عن الحلاّج لا يذكر منها غير هذا المقطع الذي يروي فيه الحلاج واحدة من كراماته في السجن:


أجرت يا حلاّج
ردّ علينا ثوبك العتيق
تكلمت أحجارنا
وأنت صامت غريق
وبردت أحجارنا
وأنت صامت غريق
فاخلعْ علينا ثوبك العتيق
أجرت يا حلاج
وارسم على حائطنا سفينة
يهتزّ هذا الحجر الوادعُ مثل القبر
يهتزّ هذا الحجرالصامت مثل القبر
يقفزْ إلى السفينه
يحمرّ مثل الجمر
أجرت يا حلاج



تحوّلات فردان:


حين صار فردان اثنين لم يتعرف عليه أحد
وحين صار ثلاثة لم يتعرف على نفسه
أما حين صار جمعاً فقد أضاع كلّ شئ
قال: يا اسفي! ثمّ شكا نفسه لنفسه في قصيدة لم يُطلع عليها أحداً:



يا لنفسي وقد جلّلتني
بعار سواي
يا لنفسي وقد حاكمتني
بجرم سواي
يا لنفسي
أجرّت عليّ
وجارت عليّ
وكم أشهدتني
وكم كذّبتني
وكم قلتُ: فلنفترقْ
ثمّ اغضيت
ثمّ انثنيت
فآويتُ منها إليها وآوتْ إليّ
يا لنفسي وكم خادعتني
وخادعتها
حين مرّ المدانون
والدائنون
فما قايضتني
ولا أنا قايضتها
يا لنفسي التي صارحتني
بحبّ سواي
يا لنفسي التي ضيّعتني



وقال في الباب ذاته:


ترى أين ألقاك؟ في ايّ ليلٍ؟ تتوجك الشمسُ، آتي كما يدخل السائلون على ملكٍ، بيدي القوس صار عصاً والسهام الدليل إليّ، ومزودتي ورقٌ يابسٌ جفّ.. كنتُ أسميه خبزي.
تراني مررتُ عليك؟ فغادرتني أم تراني اصطفيتك لي وطناً واعتذرتُ بمنفاي؟ أم أنت بئري وقافلة لا أراها.. تمرّ ويوسف .. يوسف من يشتريه؟
خبا ضوء روحي وهبت رياح عليّ وغادرني من يغادر حتى تحاشيتُ نفسي


تعليق:


غير أن النفس أمارة بالسوء فتعاهدا على قول الشعر بعد هجرهما الشعر، فصار إلى الحكمة أقرب.



من حكم فردان التي احتواها ديوانه: (هجاء الحجر):


يحبّ الجميع
ولا يحبّ أحداً

*

يعبد الطبيعة
ويستعبدهُ الطبع

*

صداقة الجاهل عداوة،
وعداوته جهل

*

في قرى طفولتي
عاثت ذاكرتي فساداً

*

ساكناً مثل بوصلةٍ
لا أريد اتجاهاً

*

الشعراء الكبار
يأكلون الصغر
ويتضوّرون جوعاً

*

ليس الطريق إلى المنفى
معبّداً بالوطن

*

لا يقول لا
أو نعم
إنه يقف كالميزان

*

شيئان كدّرا حياتي
اصدقائي
والشعر




تساؤلات فردان:

ولفردان تساؤلاته التي غلبت على حكمته.




لماذا
مئزرُ الحمّام
أيها العاري ؟

*

ماحاجة الميْت إلى شاهدهْ؟

*

لماذا التاج
على هذا الرأس المقطوع؟

*

بمَ تهذي هذه اللحظة الحمقاء
في حضرة الأبدية؟

*

هل يعود الشهداء هذا الأسبوع
وقد منحهم الجلاّد إجازة طويلة؟

*

هل تقفُ الأشجار
حداداً على الطريق ؟

*

قالت الأشجار
وقد سالت ظلالها كالحبر
من يكتبنا على الطريق؟

*

لماذا أشهر المغنين
اسوأهم جميعاً؟

*

بشرٌ أم خنازير في هذه المزرعهْ ؟


*



خاتمة الفصل:

أقبلت الدنيا على فردان فلم يحسن الجمع، فلمّا أدبرت قال: "يا حسرتا"، ثمّ أقبل على جمع نفسه في دنياه.






2- فصل الأحلام



حلم 1


سأنام بذاك الحوش ضحىً
وأقول: سلاماً للقيلولة في الشارع
وأقول سلاماً للناس
يمرّون
سلاماً للمقهى عائمةً
للتعريشة نائمةً
لمساء البصرة
عند الجسر
يسيل مع الماء
لصيف العشار يثرثر في المذياع
فلا أسأل
بيتٌ أم شارع
مقهىً أم صالة أفراح ؟



حلم فردان مرّة أنه نائم في شارع تظلله تعريشة أمام مقهى في سينما الحمراء في البصرة، يمرّ به الناس ولا يحفلون، وحين استيقط اختلطت تفاصيل الحلم بتفاصيل القصيدة فأصابها ما أصابها من تكثيف ونقل كما يقول الفرويديون.


منفى


كما يحمل الميّت الحيّ أحمل أمتعتي
في دروب السماء
لا اثر لالتفت إليه
ولا نجم ليلتفتَ إليّ
وقد أنحني على الارض
فلا ارى موطئاً لقدميّ
كأنني روحٌ هائم
يصطدم بالمجرات
والمدارات النائية
وقد أهبط مرتطماً بأمتعتي



ولكنه كتب مرة واصفاً بيته الذي تحوطه المياهُ من كلّ جانب، حين تمطرَ، فيضطر إلى خوضها بجزمة وحذاء في اليد، في طريقه إلى الجادة العالية برفقة واحدٍ من أخوته الصغار ليعود بالجزمة إلى البيت:
كم ينطبق هذا الوصف على منفاه!
هل القصيدة حلم أم كابوس مفتوح؟
ماضٍ أم مستقبل؟




نبأ

سأزفّ إليكم نبأي:
أنا من ساكني الجزر
بيتي في جزيرةٍ
وجزيرتي في بحر
أخوضهُ في الصيف
مثلما أخوضهُ في الشتاء
بجزمةٍ سوداء
وحذاءٍ في اليد
إلى الجادةِ العالية
أنا غيليفر
في بلاد الأقزام




حلم2


أمس حلمتُ ببيتنا القديم الذي تحوطه المياه من كلّ جانب حين تمطر. دخلته فرأيت أمي وشقيقيّ علي وسلمان وآخرين.. ربّما. أطللتُ على غرفتي .. كانت خالية وواسعة جدّاً، وكانت حيطانها مائلة متقشرة ويا لعجبي حين رأيت الغرف الأخرى كلها مائلة وخالية إلاّ غرفتين لم أرهما وظلّتا مغلقتين .. لقد نجا بيتنا من القصف، ولكن لماذا هو مائل؟، لماذا ظلّت الغرفتان مغلقتين؟ لماذا لم أرهما؟
فجأة رايتني أنا وأخي سلمان على المرتفع. أنا ارتدي البيجامة وهو يرتدي ملابسه الاعتيادية .. ننتظر ونتطلع باتجاه بناء مكشوف شبيه ببنايات الجمارك، أقيم على المرتفع، تتخلل جدرانه الفراغات. قلت لأخي: هل ترى السيارة القادمة؟ هل ترى "فلان" يقودها؟ إنه سيقلنا معه بالتأكيد؟.
كان "فلان" يرتدي نظارات شمسية سوداء، ويحدّق باستقامة دون أن يتطلع إلينا، ثمّ اجتازنا بلا مبالاة.
لم نقل شيئاً.
كانت بيدي كسرة خبز وضعتها في جيب بيجامتي، ثمّ علّقتُ: "لعلّها تفيدنا"
كان الشارع خالياً والصبخة، محلتنا، فارغة ولا أحد هناك.. صمت.. صمت.. صمت .
سرنا قليلاً على المرتفع وتطلعنا باتجاه بيوت الأرمن، والمستشفى. كان في المنخفض الذي يفصلنا عنهما طريق مبلط يسير فيه موكب جنائزيّ يتقدّمه قسّ يرتدي مسوحاً حمراء، ويحمل صليباً وخلفه صف طويل من القساوسة أو المريدين يرتدون مسوحاً حمراء أيضاً، وفي نهاية الموكب ثمة جنازة أو جنازتان أو ثلاث مكشوفة الأكفان.
قلت: أ في هذا الوقت يقيمون طقوسهم؟ كيف يسيرون في العراء؟ ألا يخافون القصف؟ ثمّ رأيتني ادخل قاعة كبيرة تتمدّد فيها ثلاث جثث مكشوفة الوجوه.. ترتدي بدلات عسكرية حمراء كمسوح القسس، موضوعة في بيت زجاجيّ مفتوح. انقبضت نفسي في الحلم، وداهمتني رغبة في الكتابة فردّدتُ أبياتاً:

سأخبرك أيها الجلاد
إنها مسرحية مملة
وأن النظّارة ما عادوا ينتظرون

ثمّ أفقت وتطلعت في ساعتي. كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف فجراً. قلتُ: "لأنتظر بزوغ الفجر، فمع بزوغ الفجر أستطيع أن أقرأ وأنا مستلقٍ على السرير"، وهي عادة اكتسبتها حين أنام مبكراً واستيقظ عند الفجر، ثمّ عدتُ إلى النوم:


سأخبرك أيها الجلاد
إنها مسرحية مملة
وأن النظّارة ما عادوا ينتظرون
سأخبرك أيها الجلاّد
أن جميع الأدوار
(الطبيعية،
والشاذّة.
الصغيرة،
والكبيرة)
باعثة على الألم والمرارة
وجديّة تماماً
إلاّ دوراً واحداً
هو دورك أنت

وجدتني ثانية في البصرة.. في محلة الجمهورية (الفيصلية سابقاً)، وهي المحلة المحاذية لشطّ الترك من الجهة الأخرى.. في بيت خالتي. خرجتُ إلى الشارع حاملاً طفلتي وكنت أردّد:


كلّ شئ ممضٌ
وتافهٌ
وبغيض


تذكّرتُ شيئاً فقلتُ: لأذهب إلى "العشار" في الباص، ولكنّني خشيتُ أن تبول طفلتي في الطريق، واتخذت مكاناً يطلّ على ساحةٍ واسعةٍ جوار جدارٍ قديم مرتفع.. مرتفع جدّاً.. لعلّه جدار السوق. قلتُ لطفلتي:
- بابا بولي
ضحكت طفلتي وبالت.
مرّت شابة ترتدي عباءة بمحاذاتنا وقفزت بعيداً وكأنّ رشاشاً من البول اجتاحها:


كلّ شئ ممضٌ
وتافهٌ
وبغيض
هكذا يردّد المنفى
في نومي ويقظتي
في هدوئي وصخبي
ويريدني أن أصدّق قولَهُ هذا
قولهُ الممضّ
التافه
البغيض

ثمّ أفقت.
وكثيراً ما افيق على حلمٍ، وأنام على يقظة، فأنا نائم يقظان:

أصدقائي
اصدقائي
سلام لأحجارنا وهي تمضي
سلام لبيروت
للجالسين إلى طاولات المحبّة،
يلهون محتفلين بنرد الشجار
(أ لم يلمحوا الموت يخبط رجليه..؟)
للغجريّ ابن فودة خلّفني
بين نيرانه في الهجيرة يرجفني البرد
(أوحشني حجرٌ لعليّ)
لباقة زهرٍ على قبر شمران، ذابلة الروح،
للأمهات ارتدين السواد بأعيادهنّ
لصمت المنازل
للميت مستقبلاً زائريه،
ويجلس مرتبكاً كالغريب
لظلّ "رشادٍ" يمرّ خفيفاً ويعبرني
ساخراً بين صمت الفناجين
(وردتهُ والرماد حملتهما واعتذرتُ على عجلٍ)
للصديق الذي سرتُ خلف جنازته
بين صفّ المظلاّت يصفعها مطرٌ
ثمّ طالعني وجههُ..
للعذابات نُجلسها كالتلاميذ
نمسح عن وجهها الدمع
للركن في حانةٍ يتوقّفُ فيها المسافر
يودعها صمتهُ وحقيبته، ويغادر
للطفل مستنداً لجدارٍ ويبكي
سلامٌ..
سلامٌ


وإذا شئت الواقع لا الحلم، فأنا ذلك الطفل، وما الجدار إلا الشعر، وما بكائي إلاّ لأضحك على واقعٍ كالحلم، وحلم كالواقع، ونوم كاليقظة، ويقظة كالنوم، وليس هناك ما يُضحك كأنفي وقد رايته، كصاحب غوغول، في خبزي، ثمّ طالعني في وجوهٍ عديدةٍ في الشارع، فقلتُ: يا سبحان الله! أنفٌ واحدٌ لكلّ هؤلاء الخلق، حتى غضضتُ من بصري فلم أرَغير أقدامٍ تعدو، كخيول تعدو بسائقيها. ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أقربُ خبزي إلاّ على مضضٍ.



حلم3


أردنا الرجوع فوقفنا عند مرتفعٍ مطلّ على البحر، بانتظار ما يقلّنا إلى المدينة التي كنّا فيها، ويا للغرابة، قبل مجيئنا إلى هنا، ولكنّه الحلم.
كنّا ننتظر في ساحةٍ تقف فيها مركبة من لوحٍ مكشوف مجوّف كقاربٍ ضخم. صعدنا إلى المركبة، ثمّ سرعان ما انطلقتْ بنا مخلّفة وراءها الغبار وأنا لا أصدّق كيف يسير قاربٌ في البرّ.
كان في المركبة-القارب امرأة واقفة تكلّم نفسها بصوتٍ عالٍ وتتوجّه بخطابها إلى امرأةٍ مجهولةٍ لعلّها جارتها، مردّدة بين الفينة والأخرى، شتائم مثيرة للضحك، وحين وصلنا إلى البحر تحوّلت المركبة إلى قاربٍ حقيقيّ، وقطعت المرأة شجارها الوهميّ مع جارتها المتخيّلة، وتمدّدت في القارب فاتحة عينيها كسمكةٍ ميّتة.
كان منظر البحر ساكناً يشقّه القارب بسرعةٍ لم تكن أقلّ من سرعته عندما كان في البرّ. بعدها وصلنا إلى جزيرة فنزلنا بها. كانت بيوتها شبيهة ببيوت المدن الساحلية القديمة، المتقابلة، المبنية من الحجر، وجلستْ أمامها نسوة ينحنين على أسماكٍ ذات أشداقٍ واسعةٍ كأنها تحفيات وليس أسماكاً حقيقيّة.
كانت البيوت على منحدرٍ فسألنا: "أين نحن؟" ثمّ أجبنا أنفسنا في الحلم:"لعلّها مدينتنا التي تركناها!".




حلم4


عند بوّابة المدينة استقبلني قومٌ لم ارَ مثلهم قطّ يرتدون أردية بيضاء كالاكفان، ويكشفون رؤوسهم. أشاروا إليّ أن أدخل، فدخلت فإذا أنا في مدينة عرضها عرض السماوات والأرض، لا تسمع فيها نأمة حتّى حسبتها مقبرة، ثمّ لم ارهم.




أحلام


* حلم فردان بجنيّةٍ تسوطه إلى النهرفصار سمكة ثمّ أفاق مذعوراً وقد علقت زعانفه في الغطاء.

* رأى فردان جمعاً برأسٍ واحد وألف رٍجْل فوقف حائراً، لا يعرف ما يفعل.

* نهض فردان من نومه ذات ليلةٍ فرأى نفسه أرنب تتلفّت. قال:"لعلّني مازلت في جحري"، ثمّ رجع هانئاً إلى النوم.

* وقف فردان على ظهر تلّ، وصاح: "لا أريد غير هذه الدّابة".

* أفاق فردان من نومه صائحاً: "يا أمّي! يا أمّي!" .. أريد أن أعود جنيناً لا يطرق بابي أحدٌ.




وللأحلام مدافنها:

القلاع التي اعتمت مرّةً
تفتحُ الآن كلّ مدافنها
والصناديق تلك التي خبّأت في الظلام الكنوز
تكشف الآن عن عظمتين
والقبور التي استبدلت بالمنازل
تنتشر الآن فارغة
والمدينة تلك التي نُحتتْ في الجبال
كهوفاً تبدّتْ
ووجهي الذي أبصر الوحش
في ظلمات الكهوف
يحدّق بي الآن
في الشمس
أعمى


وما رأيته ليس وهماً ولا حقيقة، بل هو الواقع بوهمه وحقيقته.
جمع يستيقظ فجأة ولا يتعرّف على أفراده، ولا يتعرّف على مدينته، جمع من حجرٍ ليس كأناس القصص أو المدن المسحورة.. جمعٌ يتنقّل في البيوت، والشوارع، والأسواق، ولكنّه واقفٌ. ولعلّني كنتُ كهذا الجمع أحدّق في فراغٍ ظننتهُ أفقاً، وما هو بالأفق ولا بالجدار، ولو كان جداراً لارتطمتُ به آنذاك أو لاستفقت أو لنبّات أو أنبِئت.



خاتمة الفصل:

حلم فردان بجمع نساء
فخالفه الحظّ
ونهض يقظان






3- فصل القول



قالت النخلة:
"عراق أنا أينما حللت"

*

قالت الأشجار:
"السماء تحتنا
فاتئدْ"

*

"بركتا ماءٍ عيناي"
قالت الصحراء

*

قالت السماء:
"أيتها الصحراء
ا تبصرينني؟"

*

قال الخيّام:
"ما فكّرتُ بغدٍ
لأفكّرَ بالآخرة"

*



صاح الشاعر :
إلهي ! لماذا أشياؤك ناطقةٌ
وأشيائي خرساء ؟

*

قال الزاهد:
"استترْ بالشجرة
ولا تهزّ جذورها!"

*

"العقل!.. العقل!"
صاح المجنون

*

قال الأصمعيّ:
"الشعر نكدٌ بابه الشرّ"

*

وقيل:
"مصاحبة الشعر تورث الندامة"

*

قيل لشاعرٍ :
"ما الذي يغريك بالثناء وانت فوقه"
قال:
"ذلّتي"

*

وقيل له:
"لمَ أسرفت في مديح من لا يستحقّ المديح"
قال وقد أطرق حائراً:
"هي النفس أمّارة بالمديح"

*

وقيل لآخر:
"قصيدتك احتشدتْ بالفراغ"

*


قال الأعمى:
" كم رأيتك يا نفسي
ولم تريني!"

*

رأئ تاجر حبّة قمح فصاح:
"احذروا النمل!"

*

قالت الأرض:
"أنا باب الكون
وكوكبه الدريّ"

*

قال الشيخ:
"ابتعدت الأشجارعن الغابة"

*

روى ابن سيرين
عن ختم فروجٍ في الحلم
فقال الغزالي :
" هل الحالم إلاّ يقظان ؟ "

*

قالت الأمّة
وقد مات شاعرها:
مناحس موتاي من محاسني"

*

قالوا: "وما المنفى؟"
قال: "أن يحفر كلّ أخٍ لأخيه"

*

وقيل:
"لا حياة لحيّ
خالط أمواته فلم ينتفع"

*

قالوا: "ولكنّها حشفٌ"
قال:"وإنْ"

*

قال :
"ربّي!
لا تحشرني مع الشعراء!"


*

وسئل آخر: "ما الشعر؟"
قال : "شعري"

*

قال العابد:
"الجنة تحت أقدام الأمهات"
قال الآخر:
"وفوق بطون العباد"

*

روي أنّ إعرابياً دخل مدينة فقال:
"شاة بلاقلب
وناسون يرعون"

*

قال الحداثويّ:
"يموت المؤلف
وأحيا أنا"

*

قال الشاعر:
"جنّة بلا شعر
كشعر بلا نار"

*

وقال:
"من جمعني هزمني
ومن أفردني أشقاني"

*

وقال:
"أنا جمع الكلمة ومفرد الحقّ"

*

وسأل:
"هل الشعر استخراج المجهول من المعلوم
أم المعلوم من المجهول؟"


*

وقال:
"حملتني جارية على صراط مستقيم
فاعوجّ"

*

قلتُ لأبي العلاء :
أراغبٌ أنت في الإبصار يا أبتِ؟
قال : كرغبتك أنت في العَمى.


*

قلتُ لأودن :
" أيّهما أصدق :
كذبةُ رامبو
أم صدقُ الكذّابين من الشعراء؟"

*

وقال أحدهم:
"أ أمّة ولم تفكّر بعد!"

*

سئل طفيليّ:
"أيّ الموائد احبّ إليك؟"
قال: "تلك التي لا يؤمها الشعراء"

*

جاءت الرغبة بدمٍ كذبٍ
وقالت:
"دميَ هذا"

*

قال فردان:
"هلكت أيتها الرغبة فاتركيني"
قالت الرغبة:
"عييتُ يا فردان فانطقني"
ثمّ التحما في حوارٍ أخرس

*

سالوا فردان: "ما وراءك؟"
قال: "نفسي"
قالوا: "وما أمامك؟"
قال: "حتفي"
قالوا: "وقد استعاذوا من الشيطان بالله:
"وما هذا الذي يسير جانبك؟"
قال: "هذا ما لن أعرفه أبداً!"

*

وسئل أيهما أفضل :
" كذبٌ نافع
أم صدقٌ ضار ؟ "

*

وسئل : أيهما أوقع في النفس
كلام عذبٌ
أم فعلٌ حقّ؟


*

وقال: "لو قامت السماء على صخرةٍ فهل تزحزحها؟"

*

وقال: "لو ملأت السماء بشراً
والأرض ملائكة
فلن أهتدي"

*

وقال: "رأيتُ في منامي جبلاً صعدته وطرت. فتأملني الجبل لحظة وصاح: "لا مفرّ لك منّي" فخفتُ، ورجعتُ خاسئاً.

*

وقال: "ما فائدة كتابٍ أورثهُ ولا يورث"

*

قيل له: ما آخرة الدنيا؟ "
قال: "و ما دنيا الآخرة؟"

*

قال الأبُ للابن:
"قرّة عيني أنت
أرى بك دنياي"

*

قالت امرأة لفردان:
"أنا مرآتك
لا تغضب فتكسرني
ولا تفرح فتحزنني"

*

وقال:
"لا يفرّق فردان نفسه إلاّ ليحشدها"
وقال:
"كلّ تفريق ذلّة
وكلّ حشدٍ غرور"

*

قال الرجل للرجل :
" لو كانت النساء شجراً
والرجال حجراً
فأيهما تفضّل ؟

*

قال العبد :
"أشهد أن رذائلي هي الفضيلة الوحيدة
أنا الذي لا طاقةَ لي على الفضائل"
قال السيد:
"أشهد أنك فضيلتي الباقية
من رذائلي التي مضتْ"



خاتمة الفصل:

نشر فردان فضيحته فضجّ الجمع، واستقبحوا ما نشر وقالوا: "والله..ما راينا أحداً ينشر فضيحته، ويبخس قريحته، إلاّ أنت، فهلاّ قطعتَ شكّنا بيقينك"
قال فردان: "الفضيحة سترٌ فاستتروا"







4- تأملات فردان



تأملات في الشعر:

1- الشاعر الحقيقيّ هو من يضع شهرته وراءه، غير أنّ ثمّة شعراء يتقدّمون وشهرتهم أمامهم يتعثّرون بها كالأطفال.


2- هذا شاعر مضطغن، لكنّه شديد الإيثار والحب لمن لا يعرفون سوى الاضطغان من امثاله، ممّن يضعون كراهيّتهم ومحبّتهم في ميزان دوماً.. ميزان لا يعرف اتجاها.


3- كيف يحلم شاعر لا يعرف إلاّ أوهامه.



4- ثمّة شعراء لا تشغلهم غير مراتبهم في الشعر


5- يصبح الشعر نظماً حين يكون مرضاً لا علاجاً للمرض.


6- بعض الشعراء يريد أن ينتصر بالمعرفة، لا بمصدرها: الحياة.


7- بعض الشعراء مهووسون بالتمثيل، بالانتصار، بالتفوّق، فهو إن لم يكسب الكلّ يخسر، وهو في الوقت الذي لا يقيّم فيه مخالفيه بصفتهم شعراء، ومؤلفين، وأنداداً، يتّخذ اسوأهم أتباعاً ومريدين.


8- عندما نكتب قصيدة أو كتاباً عن شاعرٍ قديم، مثلاً، فنتحمّس لا لشعره وحده وإنما لشخصه ايضاً فأعداؤه أعداؤنا، واصدقاؤه أصدقاؤنا، أ فلا يدلّ ذلك على أننا لم نتغيّر، وأننا لا نراه بأعيننا، وإنما بأعين التاريخ.


9- وعي بعض الشعراء وعي عبوديّ مرهون بالآخر.. وعي ينفي الذات بنفيه الآخر.. وعي مضطغن تدفعه عداواته. إنّه بالاحرى ليس وعياً بقدر ما هو إحساس لا يترك للتفكير فسحة وإن تظاهر به.


10- الشاعر الحقيقيّ لا يطمئن إلى شعره أبداً، ولا يثق بماضيه ولا يهدأ قلقه إلاّ بكتابة قصيدته الجديدة، غير أنّ هذا الهدوء سرعان ما يختفي ليحلّ محلّه القلق من جديد.. القلق الذي ينمو لدى كلّ صفحة يقرأها الشاعر، وكلّ لحظة يحياها، لذلك يدهشني اطمئنان بعض الشعراء لشهرتهم وقصائدهم.


11- شاعرٌ ما أغنى عنه صيتهُ وما كسب.


12- الشعر دفاعي الوحيد في المنفى.


13- كلّ قصيدة جديدة – إذا كانت جيّدة حقّاً – هي فرحٌ في مواجهة النسيان.


14- حين يكون الشعر وجوداً، فكلّ مظهر للنسيان عدم.


15- في أفعاله لا في شعره تتساوى الاضداد.


16- أ شاعرٌ أم لوحة إعلانات أنت؟


17- أيّ زمنٍ هذا: سياسيّون يدّعون الشعر، وشعراء ينكرون السياسة.


18- شاعر تشغله صورته، لا شعره في المرآة.


19- شاعرٌ ترتفع به المادّة، وينخفض به التجريد.


20- ما فائدة الشعر إن لم يكن نفياً للشعر!


21- روّادٌ يتقدّمهم ماضيهم دوماً.


22- ما أخفى الصنعة، أيّة صنعة! واخفاها جميعاً ما لا يبدو فيها أثرٌ، لذلك لا يستدلّ على صناعة الشعر إلاّ القليلون.


23- أصبح ما يرضي القارئ ليس الشعر، بل نظمه، ولا القصّة بل ظلالها، ولا النقد بل ما لايحسنه النقد.


24- لو كان الضجيج يصنع شعراً لكان الباعة في السوق من الشعراء.


25- هذا الشاعر يريد أن يدخل الأبديّة حاملاً جثّة شعره.


26- وقف شاعر على طلل أشعاره، وقال:"عمتِ صباحاً يا أشعاري"


27- بالمديح الزائف يستعيضون عن الشعر.


28 أصعب الاسئلة: "هل أنت شاعر؟"

29- أ نهرم قبل أن تنقضي الطفولة؟ قال الشاعر للمرآة.


30- حين تحضر الكتابة يختفي الزمن، وحين تختفي الكتابة يحضر الزمن، وقد يهرم الشاعر دون أن يدري.



31- ثمّة شعراء يسكنهم الشعر، وآخرون يسكنون الشعر.


32- أرواح مقفرة تصفر فيها الريح.




تاملات في الوطن والمنفى:


1- كنّا نفكّر بالمنفى حين كان الجميع يتشبّثون بالوطن، وها نحن نفكّر بالوطن حين اصبح الجميع يفكّرون بالمنفى.


2- سعادة المنفيّ النسيان، لكنْ آنّى لذاكرته أن تنسى!


3- في الوطن كنّا نفخر بانتماءاتنا، وفي المنفى أصبحنا نفخر بلا مبالاتنا، وقد يحدث العكس إذ نتظاهر بالانتماء في ظروف لا تستدعي غير اللامبالاة، واللا مبالاة في ظروف لا تستدعي غير الانتماء، ولعلّ أشدّنا حماساً للانتماء في ظروف اللامبالاة هم ألصقنا بالمنفى.


4- إذا كان المجتمع العراقيّ مجتمعاً رجوليّاً، فإنّ ما أراده القائمون على السلطة هو تحويله إلى مجتمعٍ أنثويّ بشوارب وعقال. ولكن هذه المرّة بلا أصوات خشنة. وقد عاد الكلام صمتا، موافقة أو ولاءً.. غير أنّ أنوثة المجتمع العراقيّ وجدتْ حلّها السحريّ، لاستعادة الذكورة المستحيلة: الانتساب إلى الحزب القائد.


5- كانت سيادة الدينيّ تتجلّى في مواقف وسلوكات ضيّقة: مناسبات دينيّة، طقوس، احتفالات متباعدة، وحين اتسعتْ إلى ما هو اجتماعيّ ظلّتْ مواقف وسلوكات محدودة: محكمة، مركز شرطة، مضيف، جامع، حسينية، لكن حين حلّت سيادة السياسيّ صار أكبر المواقف وأصغرها مخترقاً بهذه السيادة، فلا موضع لسيادة الدينيّ والأجتماعيّ أبداً إلاّ كغرضين.


6- في ظلّ هيمنة السياسيّ ليس ثمّة فاصل بين ما هو واقعيّ وغير واقعيّ، والفاصل الوحيد، إذا كان ثمّة فاصل- هو الحدود الآمنة لكلّ سياسيّ، وليس ثمّة حدود آمنة بلا حروب ولا إخضاع، مادام هناك شخص آخر.. هويّة أخرى تحدّه. وإخضاع الآخر لا يعني سوى إلغاء الآخر أو دمجه بهويّته، وكلاهما محال، فلا الإلغاء ممكن لأنّ السلطويّ بلا حدود ليس سلطويّاً، ولا الاندماج ممكن لأن السلطويّ لا يريد أن يتمثّل هويّة مغايرة أبداً.


7- كان العراقيّ يحتجّ بمعارضته الجميع. أمّا الآن، في المنفى، فهو يحتجّ بموافقته الجميع، مادامتْ القاعدة أصبحت مطلقة، والاستثناء لا وجود له، وإذا كان ثمة استثناء فهو الاستثناء التي تتأكد به القاعدة، غير أن القاعدة آخذة بالاتساع لتشمل بنعمتها أو حكمتها الأمثال والتعاليم، الأفراد والجماعات، حتّى لقد أصبح المنفيّ العراقيّ اسرع تعميماً من أعدائه. يقول المنفيّ:"في داخل كلّ عراقيّ جلاّد". وقد يخفّف الجريمة ليحكم على نفسه بالعصاب، وكأنّ من الطبيعي أن يخرج العراقيّ، بعد كلّ هذه المحن من تجربته سليماً، بلا عصاب. وكأنّ العراقيّ لم يشهد جلاّده يدخل منفاه بثياب الضحيّة، فإن كان ثمّة عصاب للضحية، وآخر للجلاّد، فماذا نسمّي إذن عصاب الضحيّة- الجلاّد؟


8- ألا ليتني ابتعدتُ عنك أيّها الوطن... ألا ليتني أقتربت منك أيّها المنفى... ألا ليتني لم أقترب منك ولم أبتعد عنك يا نفسي.


9- على من ينتصر هذا المهزوم؟


10- لا ضمير للمنفى.


11- اتهام الناس جميعاً جريمة ايضاً.


12- تبدأ المأساة حين يتخلّى المنفيّ طائعاً عن دوره في الملهاة التي يمثّل فيها الجميع.


13- يتظاهرون بالبكاء على الوطن... تماسيح المنفى هؤلاء.


14- من ربح المنفى خسر وطنه، ومن خسر المنفى خسر الاثنين.



15- بين الواقع وأشكاله في المنفى هوّة لا مساحة فيها للأفكار.. أشكالٌ قديمة، ولدت قبل المنفى.. أشكالٌ تفوح بعفن الماضي، لا برائحة المستقبل: وجوه، أحزاب، مؤسسات.


16- ليس غريباً أن تسود المنافع في المنفى مثلما سادت في الوطن، ولكن الغريب حقّاً أن تكون هذه المنافع غاية كلّ شئ حتى نقيضها: الشعر.


17- بعد كلّ الذي حدث في وطننا والعالم مازلنا مشدودين إلى الماضي، نستبدل أشكالاً ماضية باشكالٍ حاضرة هي: أقنعة لا تزيدنا إلاّ تهريجاً، دون أن تمنحنا الوقار الذي أردناه، في طقوسنا الجماعيّة الدائمة التي تمتدّ من الأحزاب إلى لقاءات المقهى.


18- في الوطن كان الجميع يراقب الجميع ولا أحد ينتظر دوراً على خشبة المسرح ليكون البطل-الضحية حتّى اختلطت الادوار ، واختلط الجلاّدون بالضحايا، ولعلّ مصيبة المنفى كانت تكمن هناك...إذ لم يعد ثمّة معنى للمنفى بعد أن لم يعد ثمّة فاصل بين الضحية والجلاّد.


19- لا يفزعني قادة المنفى وتجاره، بل مثقفوه في تجاهل بعضهم بعضاً.. هذا التجاهل الذي حكم عليهم بالنسيان جميعاً.


20- ما نفع النسيان إذا كانت الذاكرة غائبة؟


21- للجلاّدين ثقافتهم أيضاً.


22- في الوطن يُشوّه الواقع، وفي المنفى تشوّه الذاكرة.


23- هل يتساءل الجلاّد في المنفى.. لماذا؟


24- الندم، تأنيب الضمير، الخجل، هل عادت كلمات لا معنىً لها وسط المنفيّين؟


25- ليس المنفى مكاناً لترقيق العواطف بل لاحترابها.


26- بديلاً عن السلطة أقامت المؤسسات سلطتها في المنفى.


27- أخشى ما أخشاه أن يلوذ الجلاّدون بآخر المعاقل للتبرئة: "التديّن".


28- منذ الآن يطيل الجلاّدون لحاهم للعبور إلى ضفة الوطن.


29- بعد أن هدّموا الضحيّة، ها هم ينطقون باسمها.


30- الجميع يلهج بالمغفرة في غياب الضحيّة.


31- أ يكون العراق القادم منفىً آخر؟


32- كلّ فضائل المنفى يعزوها المنفيّ إلى الوطن، وكلّ مساوئ الوطن يعزوها المنفيّ إلى المنفى.


33- صاح المنفيّ: من يزوّج سماء الوطن بارض المنفى؟


34- في المنفى الجميع يحيلون إلى واقع غائب.


36- بعد عشرين عاماً لم يعد يبحث عن الوطن في وجوه الناس، بل عن الناس من أيّ وطن.


36- يحنّ العراقيّ إلى المنفى في الوطن، ويخشى حنينه في المنفى.



37- لقد استبدلوا الوطن بالمنفى، كما يستبدلون بيتاً ببيت.


38- مجموع لكن لا فرد هناك.


39- الذي لم يدخل السوق بعد هو البائع الجوّال.


40- ثمّة جلاّدون اختاروا المنفى لا هرباً من السلطة بل خشية من ثأر الناس.


41- احتمالات المنفى كثيرة وأقلّها الوطن.


42- في الوطن يريدون محو أسمائنا، وفي المنفى يريدون محوها أيضاً.


43- صحراء...يتسع المنفى.


44- قليلاً ما يلتقي هؤلاء.. وإن التقوا ففي المآتم.


45- لا دليل لديّ على اليأس
ولكنْ
انظروا المآتم!


46- يسير المنفيّ قدماً إلى ماضيه.





تأملات عامة:



1- في الوقت الذي يعلن فيه عن موت المؤلّف، لا يزال الكثير من نقّادنا ينظرون إلى النصّ من
خلال كاتبه، وليس إلى الكاتب من خلال النصّ.


2- التحولات هي ما تشغلهُ حقّاً، فلا ثابت لديه غير نفسه.


3- البعض يسمّي فشله اختياراً، دون أن يدري أنّ اختياره هذا هو الفشل بعينه.


4- ما فائدة كتابٍ ليس فيه فسحة لقارئ.


5- لا يخيفني الليّن حين يكون شرساً، بل الشرس حين يلين.


6- يرتفع وعيناه على الهوّة التي تحته أبداً.


7- يتبادلون المدائح باسعارٍ رخيصة.


8- أ مجتمع من العبيد وافراد أسياد!


9- كيف يخفي هذا الرجل ماضيه وهو يسلّط أضواء حاضره عليه؟


10- بعد أن انتجت المآتم أفكارها، أقاموا أعراساً لهذه الأفكار.


11- يتقدّم لكن لا شئ خلفه.


12- أ جلاّدون وسط الضحايا!


13- لماذا نقص القيمة في افكار من يلهجون بفائض القيمة.


14- يندفع في الجهل مثلما يندفع في المعرفة، وفي الحالين هو الخاسر.


15- أخلاقيّ ويحتقر المعرفة، دون أنْ يدرك إنّه بذلك يثبتُ لا أخلاقيتّته.


16- للحوار بين المنفيين وظيفة هي إخفاء المعنى، ولعلّ الرغبةهذه في الإخفاء هي ما يضفي على حوارهم مسحة الغموض التي يظنّها البعض عمقاً.


17- إذا كانت الضحية خاسرة دوماً، فمن أين تبزغ الحقيقة؟


18- تبرئة الجلاّد جريمة.


19- يقول المغرضون: "شهادة الضحية مغرضة"


20- ما حاجتهم إلى الرؤية هؤلاء العميان؟


21- هؤلاء لا يغمضون عيونهم. إنهم يفتحونها على اتساعها لكي لا يروا أنفسهم.


22- يبرّرون الجريمة بما يحدث.


23- مهما تصالح الجلاّد والضحية فلن يلتقيا.


24- الجلاّد الذي صار ضحية، أ يعرف أنّه كان جلاّداً؟


25- بماذا يحتفل المهزومون؟


26- من أوصال الحقيقة صنعوا تمثالاً من الكذب.


27- حتّام نعيد هذه الرواية المملة: "المأساة"؟


28- يستعيد كرامته بازدراء الجميع.


29- بين الضحيّة والجلاّد ثمّة "أعراف" تغصّ بالخاطئين.


30- أ تبتهج الضحية في وليمة الجلاّد؟


31- إن كانت الضحية والجلاّد سواء، فإلى أيّة براءة نسعى؟



32- مهما تعذّب الجلاّد فلن يكون ضحيّة.


33- يا لوجه الحقيقة من وجهٍ مفزع!


34- عظيم حقّاً لكن بصغار الناس.


35- لماذا تهرف بالإيمان ايّها الشكاك؟


36- ايّ سلالم يرتقي هؤلاء السائرون في الهواء؟


37- على قدر الكراهة تتسع محبّته.


38- محبّته وكراهيته وجها عملةٍ واحدةٍ.


39- ما فائدة معرفةٍ تقود إلى الجهل؟


40- للعداوة أساليبها العديدة فقد تتّخذ مظهر صداقةٍ حميمةٍ تعبّر عنها المدائح التي يتبادلها الغرماء: سياسيّون أو شعراء.


41- تصبح الشهرة عائقاً عندما تستحيل إلى نظامٍ لا يعرف عائقاً.


42- ما هو غريب حقّاً ليس ارتكابه الأخطاء دائماً، وإنّما الغريب أن يكرّس أخطاءه الآخرون.


43- عن الكياسة كثيراً ما يتحدّث الأجلاف.


44- اطمئنانك يقلقني.


45- أيّ مجدٍ يطلبه الساعي في مجتمعٍ يخلو من أيّة أمجاد.


46- يفتخر بالحماقة، حماقته، ولا يدري أنّها شارة الوضيع.


47- شرس في جوعه، شرسٌ في شبعه.


48- بعد أن كانت المنابر وسيلة الخطباء، أضحى الخطباء وسيلة المنابر.


49- أ نظلّ مكشوفين للشمس بالف حجاب!


50- بخّ.. بخّ.. رضاعة الكبار حديثٌ منسوخ.


51- لماذا تخاتلني أيّها الملحد بإيمانك؟


52- بعد كلّ صفحةٍ ملحدةٍ يفاجئني الكاتب بإيمانه.


53- كيف الوصول إلى الحقيقة عبر الكذب؟


54- هل نقول: "نعم" للحقيقة حتى ولو كانت فاسدة؟


55- من أيّ معبدٍ يتقدّم هذا الإله؟


56- القتيل الذي قدّم الأضحية هو أخي.


57- كلّ تغيير ظاهر هو وجه آخر للتقليد.


58- يجهرون بالإيمان في مواضع الإلحاد، وبالإلحاد في مواضع الإيمان، يثبتون ما ينفون، وينفون ما يثبتون، ينقضون الخرافة بالحقيقة، والحقيقة بالخرافة، ملحدون ومؤمنون، في منزلة بين المنزلتين: العلمانيّون.


59- نهم للشهرة، لالتهام كلّ شئ.. حتّى نفسه.


60- مرّة واحدة كنْ أنت.


61- باتجاه الشيخوخة يمضي العقلاء..والمجانين باتجاه الطفولة.


62- اراد أن يكون طريقاً، فلم يستطع أن يكون سوى حجرٍ.


63- ماذا ينتظرون وقد أضحى المستقبل خلفهم؟


64- لا يريد أن يسمع، لايريد أن يرى، يريد أن يسير حسب.


65- يقولون للضحيّة أن تنهض، وللجلاّد أن يستريح.


66- لا يقولون: "لا" ابداً، وإن نطقوا بـ "لا".


67- ما فائدة النفي إذا كان هو الإثبات.


68- كلّما نسي الناس ذكّرهم هذا الجلاّد بماضيه.


69- ما أتعس ساكن قبرٍ غير معلوم، لا يعرف صورة له غير ما يطالعه بها التراب، لذلك ارجع وأقول لنفسي: "ما أسعد ساكن قبرٍ مجهول، لا تحدّهُ صورة ولا ياسره شكل".


70- مرايا... مرايا تكسّرنا الآلهة.


71- يتطلّع إلى السماء دوماً، وفي مرآتها لا يبصر غير الأرض.


72- ذات يومٍ بحثت مرآة عن صورتها فلم تجدها، قالت: "كيف أكون جميع الاشياء، ولا أكون أنا نفسي؟".


73- وقف على حافة هاويةٍ ورمى فيها أيّامه، دون أن يتطلّع فيها، وقد أحاطت به الظلمة من كلّ الجهات.


74- متأنّياً كنتُ أقطع الطريق نصفين، وروحي نصفين، لعلّني اراك..أين أنت؟


75- في مساراتٍ مضيئة تجلس الكواكب مصغية لأرواحها.


76- لم يهجر العالم وحده، لقد هجر جسده.


77- "سأموت ولكن سترونني وقد عدتُ واحداً منكم"، يقول الطاغية.


78- يراها فيضطرب، وتراه فتهدأ، فلا اضطرابه يهدأ، ولا هدوؤها يضطرب.


79- قال: "ساراك"، وحين رآه ميّتاً كرّر قوله: "سأراك".


80- دخل مرآته ولم يخرج منها قطّ.


81- لا أشفق على نفسي، بل على عاداتي التي سأهجرها يوماً، لتظلّ وحيدة تتطلّع في كتابي المهجور، ولا تستطيع قراءته أبداً.


82- فضاء الآلهة غصّ بصراخ البشر.


83- عندما عاد إلى قريته بعد عشرين عاماً، ذهب إلى المدرسة القريبة من المحطّة الخالية، بحنفيّتها المكسورة، وحيطانها الحائلة، وابوابها المشرعة أبداً، ومقاعدها الفارغة، فجأة ينهض من مقعده الفارغ طفلٌ ويحييه.


84- رسموا حوله دائرة وقالوا: "هذا هو أنت. ومنذ ذلك الحين وهو يسعى إلى كسرها، حتّى كسرها، غير أن أحداً لم يصدّقهُ، وظلّتْ دائرته هناك كالطلل يشيرون إليها ويمرّون. حتّى عاد ثانية، وهو يصيح: " هذه ليست دائرتي. إنني لستُ هنا" لكن لم يصدّقهُ أحدٌ.


85- قبل ثلاثة قرون هاجر رجلٌ بغداديّ من عائلة السويديّ إلى البصرة، هرباً من شبح الطاعون، وتزوّج هناك امرأة بصرية غير أن الطاعون لحقهما، فماتت زوجته. يذكرها في أوراقه في سطرٍ واحد.. سطرٍ كلماته أثقل من كلّ كلمات كتاب الكون.


86- رأيته قادماً، وقد ضمرت شفتاه وتصلّب وجهه. لم يقل شيئاً. جلس إلى جانبي، وتطلّع أمامه بهدوء التمثال، كأنّه يقرأ قصيدة مكتوبة في الهواء. حرّك يديه، مومئاً لشئ لم أره. فجأة انقضّ على نفسه كوحشٍ كاسر، ملتهماً آخر بقاياه.


87- حين تنابزنا بالألقاب كانت شجرة الأنساب تمتدّ وتمتدّ مع كلّ كلمة نتفوّه بها، حتّى استحالت ظلالها أشدّ حلكة من الليل.
قال: لا أستطيع التقدّم أبداً.
فقلت: ولا أنا.
كانت الظلمة كثيفة والأجداد يتنفسّون وراء الأشجار.


88- قال المنفيّ لصاحبه:
- ماذا ستفعل؟
قال:
- سأدّعي الجنون.
ثمّ خلع رأسه ووضعه على الطاولة، محدّقاً بجسده المسجّى على السرير، طوال الليل، حتّى احمرّت عيناه، وشحب جسده، وفي الصباح أرجع رأسهُ إلى جسده، وذهب مسرعاً إلى طبيبه الخاص، بعينين محمرّتين وجسدٍ أصفر شاحبٍ.
قال المنفيّ لصاحبه:
- وماذا أردتُ منه؟
- شهادة وفاة لآكل خبزي.
قال:
- ما أحوج الموتى لأكل الخبز.



89- قال:
- قد يذهب الناس إلى حفلات الإعدام الجماعية، كما يذهبون إلى النزهة حاملين صرر طعامهم كأنّهم يشاركون في عرس، وقد يقايضون هناك ويتساومون.
- وأين حدث ذلك؟
- في مكانٍ ما.
كيف لا تعرفه أنت؟


90- حين حدّثوه عن انحطاط العقل قال:
- وهل الحسّ في ازدهار؟


91- إذا كانت جرائم الدولة تفوق جرائم الافراد، عدداً وبشاعة، - كما يقول البير كامو- فأين إذن نلتمس العدل؟


92- حين يصبح الجلاّد ضحيّة، ومسبّب المنفى منفيّاً، أ يظلّ ثمّة فارق بين منفىً أو وطن، بين معارضة وسلطةٍ؟


93- يروي ابن قتيبة الدينوري، في كتابه (عيون الأخبار) أنّ عبدالملك بن مروان قال لأخيه عبدالعزيز حين وجّهه إلى مصر: "تفقّدْ كاتبك وحاجبك وجليسك فإنّ الغائب يخبره عنك كاتبك، والمتوسّم يعرفك بحاجبك، والداخل عليك يعرفك بجليسك".
ما أغرب الصورة اليوم وقد انقلبتْ، فصار السلطان يخبر عن كاتبه!


94- حين يصبح الكاتب عارفاً بشروط المؤسسة أكثر من معرفتها هي بشروطها، أ نسمّيه كاتباً؟


95- يذكر إدوارد سعيد في كتابه (صورة المثقف) إنّ من مزايا المثقّف في المنفى هو موقفه الاستشرافي الذي يتيح له "رؤية الأمور ليس فقط كما هي عليه، وإنّما كيف تطوّرت لتصبح على تلك الحالة، ويميل إلى تفحّص الأوضاع وكأنها ممكنة الحدوث لا محتومة، واعتبارها النتيجة الناجمة عن سلسلة من الخيارات التاريخيّة التي حدّدها رجالٌ ونساءٌ، ووقائع مجتمع حدّدها بشرٌ لا كأوضاع فطريّة أو من نعم الله وبالتالي ثابتة، لا تُنقض، وهو بذلك يحيل إلى الفيلسوف الإيطاليّ في القرن الثامن عشر جيامباتيستا فيكو في فهمه للواقع الاجتماعي باعتباره عملية تولّدت من موقع أصليّ يمكن المرء دائماً أن يجده في ظروف وضيعة إلى أبعد حدّ، أي "رؤية الأمورعلى أنها تتطورمن بدايات محدّدة، كما ينشأ الإنسان البالغ من طفلٍ هاذٍ". فهل عرف المثقّف المنفيّ من موقعه الاستشرافيّ الظروف الوضيعة للمؤسسات التي عمل فيها؟ وهل تحتاج الظروف الوضيعة لمثل هذه المؤسسات إلى استشراف المثقّف المنفيّ؟ أم أنّ ما حدث هو العكس؟ فبدلاً من بحث الظروف الوضيعة لمثل هذه المؤسسات، نرى المثقّف وقد تعامل معها بصفتها مؤسسات قائمة بذاتها خارج شروطها التاريخيّة، ملقية بظّلها عليه، وقد تضاءل تحته، متخلّياً عن موقفه الاستشرافي، وهو حتّى حين يغادر هذا الظلّ فليس ذلك طلباً للشمس، بل للتعبير عن وجود اسميّ، معلناً للآخرين:"إني هنا".
هل أصبح الموقع الاستشرافيّ موقعاً وظيفيّاً! والمركز هامشاً، والتطلّع تفحّصاً لوسائل العيش؟
ماذا تبقّى إذاً للمثقّف المنفيّ؟ سوى بياناته، واحتفائه بنفسه في أمسياتٍ عابرة، وحوارات تجد فيها كلّ شئ، ولا تجد فيها شيئاً.


96- بينما كان الفيلسوف شوانغ- تسه جالساً إلى ضفّة نهر فو اقترب منه اثنان من ممثّلي الأمير شو يعرضان عليه منصباً في البلاط، غير أن الفيلسوف ظلّ محدّقاً في مجرى النهر. وكأنّه لم يسمع شيئاً، ثمّ أجابهما: "قيل لي أن لدى الأمير سلحفاة مقدّسة عمرها أكثر من ألفي عام، محفوظة في صندوق مغطّى بالحرير ومزيّناً بالرسوم، فهل هذا صحيح؟"، أجاب الموظّفان: "أجل، هذا صحيح". قال الفيلسوف: "لوخُيّرت السلحفاة فأيّهما تفضّل في رأيكما:"العيش في الطين أم الميتة في القصر؟". أجابا: "في الطين، طبعاً". حينئذٍ قال تشوانغ تسه: "وأنا أفضّل الطين أيضاً.. وداعاً..".
بعض كتّابنا يفضل الحياة في صندوق، دون أن يقرّ أنّه يحيا في صندوق أبداً.


97- في كلّ كتابة رغبة، ربّما، في الخروج من عزلة الفرد إلى أفق الجماعة، ومن وحشة المنفى إلى ألفة الوطن، ومن المونولوغ الواحد إلى الحوار المتعدّد، ومن هامش الحياة إلى مركزها، وقد يكون العكس.


98- الجميع حين يكتبون يتقمّصون شخوصاً أخرى.. لساناً آخر، لذلك ترى بين ثقافتنا المكتوبة وثقافتنا الشفويّة بوناً شاسعاً. والأخطر من ذلك أنّ ثقافتنا الشفويّة ذاتها أصبحت شبيهة بثقافتنا المكتوبة، فكثيراً ما أتحدّث إلى أصدقاء يخفون أفكارهم فلا يظهرون إلاّ بعضها، ويظل نصفها أو معظمها مخفيّاً تحت جليد مخاوفهم... يتوجسون ويحسبون ويطرحون، ممّا يضطرّك إلى اللجوء إلى الحدس والتخمين.
أ هي ثقافة أقنعة.. ثقافة مسرحٍ أم ماذا؟


99- قال أحدهم، في لحظة اعترافٍ نادرةٍ: "هربت لا خوفاً من السلطة بل من الناس".


100- منفى العراقيين هو المنفى الوحيد الذي أصبح فيه الجلاّدون أكثر من الضحايا، والأحزاب أكثر من المنفيين، والكلمات أبشع من الواقع.


101- يتكالبون على المواقع في المنفى. أ ثمّة مواقع في المنفى؟


102- في عراقنا، غالباً، لا تعكس اللغة الواقع، بل الواقع اللغة.. لغة الضبّاط، الأحزاب، المقاولين، ومن بين هؤلاء شعراء، وكتّاب .. لغة من رصاص.


103- هنا لا قوانين ولا روح، بل عنفٌ متواصل لا يحدّه نقيض آخر... وإن وجد فهو قناعٌ يخفيه.


104- ما أكثر المرايا في منفاي.

105- يتحدّثون عن ثقافة "داخل وخارج"، وكأنّ ثمّة داخل وخارج، أدباء خرجوا منذ عقدين، وآخرون منذ عهدٍ قريب. أدباء ينتظرون. بعضهم يعود إلى الوطن ليصبح أديب داخل، وبعضهم يخرج من الوطن ليصبح "أديب خارج"، وبعضهم يعود ليخرج ثانية، وكأنّ الماساة لن تكتمل إلاّ بمهزلة.

106- قال: "في أعماق كلّ مبدعٍ ثمة حرب بين الرضوخ والمقاومة"
قلت: ولكن ألا ينطبق هذا على غير المبدع ايضاً.
قال: أجل، لكن لا في الأعماق بل السطح.

107- كلّما ابتعد عن ذاته اقترب اكثر من موضوعه بنشوة الصوفيّ.


108- وقحٌ يقول: "اضرّ بي خجلي".


109- بعد صخب النهار، كثيراً ما تهدأ أمّه في الليل، ضارعة إلى الله ألاّ يُريه مكروهاً، وحين كبر الابن لم يرَ مكروهاً بعينيه، إذ استجاب لها الربّ، فقد صار أعمى.


110- جاءتْ إليّ بعينين باكيتين، وشعرٍ أسود...طفولتي.


111- كتب شاعرٌ منوّهاً بمآثر الإنجليز.. بأعرافهم ومعارفهم، ناسباً إليهم معرفة بشعرنا العربيّ لا نبلغها نحن، ولو كلّف نفسه هذا الشاعر وجاء إلى حيّ من آلاف الأحياء الشعبية في لندن لرأى كيف يشنّ صغارهم الحملات على أبواب المغتربين، وكيف يدبّ الإنسان على أربع.


112- قال لي الغراب وقد جاءني مطرقاً: "لو كنتُ شاعراً وكنتّ غراباً فماذا ستفعل؟ أ تصرخ مثلي مردّداً: أبداً.. أبداً".
قلتُ له:"ولكنني لن أكون غراباً يوماً"
قال الغراب:"لماذا؟"
قلتُ لئلاّ أردّد:"ابداً..أبداً"
فطار واختفى.


113- حلمتُ أنّني أقلّب الشوارع كالمجنون، أبحث عن أثرٍ ضائع، ووجوهٍ ضائعةٍ، غير أنّي لم أعثرْ، يا للغرابة ولسوء الطالع، إلاّ على بيتي وقد استحال صورة باهتة في التراب. على بابه خُطّ بحرفٍ صغير صغير:"هنا كان يسكن..." فبكيتُ حتّى ابتلّت الصورة بدموعي.







5- فصل الصوفيّ





شغلتك نفسك فارتدع


*


عرّج على طللٍ بروحك داثرٍ
غادرتهُ روحاً فصار طلولا


*

قال الحلاج : ليس من فني بالشئ كمن فني عن الشئ لأن الفنى بالشئ بمعنى الجمع والفنى عن الشئ بمعنى الاحتجاب .
قال فردان : " هذه غاية فردان وعين الانفراد "


*


ما صفتْ نفسي بوصفٍ
ولا كدرتْ بوصف


*


نجوى الثلاثة وهي نجوى واحدٍ
روحٌ تشظتْ فاجتمعن ثلاثا



*



جزع فردان فصاح :
"أ شاهدة ولا قبر؟"



*

جهلُ المعارفِ في المعارف غاية
جَهُلتْ فصار الخلقُ محضَ جهولِ


*



طالعتُ خلقاً فاتعضتُ بخلقهم
وجهلتُ حقّاً فاتعضتُ بحالي
وقتلتُ نفساً كنتُ طالبَ ثأرها
وطلبتُ نفساً آذنت بزوالِ


*



لطفُ الإشارة وهو لطف مشيئةٍ
شاءت فكان الكشفُ من أسراري



*


ثبّتُ جهلاً ما علمتُ بجهلهِ
ومحوتُ علماً ما جهلتُ سواهُ



*



هجرتُ النهى فاستوطن الجهلُ ساحتي
فجهلي وعلمي مذ جهلتُ سواءُ


*


مقاماتُ أهلِ العشقِ ناءٍ مقامُها
قريبٌ وإن ضلّ السبيلَ مقيمُها


*



دعاني زماني والزمان دعوتهُ
وما كان قصدُ الداعيين سواهُ


*


بنفسيَ تلك الأرض ضاقتْ بأهلها
وأضحتْ مزاراً : شاهداً وضريحا


*


وقارقتُ نفسي كي أراك ولم أعدْ
لنفسي مذ خاطبت فيك عزائي



*


تفرّق الناس حتّى لا اجتماعَ لهم
وأجمعوا الأمر في التفريق والفُرقِ

*


أضحت منـــــــــازلُ أيامي بلا أثرٍ
أرنــو إليـــــــــــها كأنــــي أقرأ الآتي
لا تسألينيَ عن قصدي إذا اجتمعتْ
فيّ المســــــــاوئ من فُضلى العداواتِ
فربّ قصدٍ أتتني من نوائبهِ
ما يجعل الأرضَ في أقصى المسافاتِ
وربّ أمرٍ بكفّي زان خردلةً
وكان أثقلَ من ثقلِ الســــــــــــماواتِ


*


والله ما أسفت نفسي على أثرٍ
لكن أسفتُ على من يقتفي الأثرا


*


قالت العزلة :
" أخيمة أنا والخلائقُ قفر ؟ "


*

وقال لي :
" امتلأت البرية بالخلق ، فأيهم أنت؟"



*


كيف يصبو إلى الأبديّة
سائلٌ عجول؟


*


أيدّعي صحبة
من لا يحسن صحبة نفسه؟


*


قال الخالق لمعبوده :
"متى تحبني أيها العارف؟"
قال المعبود لخالقه :
"ومتى تعرفني أيها الحبيب؟"


*


محبة بلا معرفة كمعرفة بلا محبة


*


علامة الجاهل معرفته ، وعلامة العارف جهله


*


ربّي !
من فرحي
من حزني
نجّني


( عن غوته )



*


على اليمين نبيّ
على اليسار نبيّ
وبين النبيين طفل

( عن غوته )


*


قرأ فردان مرّة: "اللهم أجعتني وأجعت عيالي، وتركتنا في ظلم الليل بلا مصباح، فقال في هذا المعنى شعراً:


وأجعتني اللهم حين تركتني
وقضيتَ إلاّ أن تُجيع عيالي
وتركتني اللهم نهب بليّةٍ
أبغي نوالاً حين عزّ نوالي



*


خرجتُ من أنسٍ إلى وحشةٍ
وضاق كالصدر طريق الرجوع


*


أيا نفس لا تبكي فما أنا راحلٌ
ويا نفس لا تنعي فما أنا باكي


*


فرّقتَني في الجمع ثمّ جمعتني
فُرَقاً كمــا جُمعتْ خـيول طرادِ
فأنا بذاك الربعِ ربعِكَ ماثلٌ
وأنا بذاك الغيــــــبِ غيبك بادِ
وأنا بليل اللفظ أثوي ميّتاً
وأقول ربّ متى يحين معادي
مرّ السراة الأولون فما رأوا
ما أبصرتْ عيناي بعد سوادِ








تائية صغرى:


وفي الزمن الفـــرد اعتبـرْ لا بجمعهِ
إذا انفرد الإنســــــــانُ في جمع همّةِ
وقد طلعت شمس الشهود فأشرق الـ
وجودُ وبانت في الســـــــــماء أهلّتي
ومارجْع نفســـــي في الظلام صبابةً
ولكنّه رجْعُ المحــــــــــــبّ لرجــعةِ
إذا ارتحلت تلك النـفوس لغـــــــــايةٍ
فليس لنفســــــــــي غايةٌ غير أوبتي
فما قصدوا غيري وإن كان قصدهم
ســــــواي وفي قصد المحبين بغيتي
وأسمع أصوات الدعاء وســـائر الـ
لغات ولا رجعٌ لصمتي وصيـــحتي
ولم يبق ما بيـــــــني وبين تـــودّدي
وودّي سوى إيناس نفسي ووحشتي
تعانقت الأطــــراف عنديَ وانطوى
بساط السوى والعدل أضحى عقوبتي
فما فوق نفســــــــي غير نفسي أبيّةً
ولا تحت نفســي غير نفسي الغريبةِ
تعاليتُ في خفضٍ وأخفضت ما علا
ولم أكُ في الحالين دون مشـــــيئتي
وما أنا إلاّ بعضُ نفسٍ توسّــــــــلتْ
بقيّةَ نفــــــــــــــــسٍ واحتمت ببقيّةِ
تراني إذا أبديتُ ســـــــــرّاً توعّدتْ
فبان هلاكي في نعيم مسّـــــــــرتي
يقرّبني حتـــفي إليك وليـــــــــتني
بعدتُ فلم أشــــــــــهد حلول منيّتي
ولو كان في حتفٍ مرادٌ لســـــرّني
مرادي ولكن ساء ما في سريرتي



وجد:


يا ملكي الحائر برداء الملك
يا مثلي السائر في البريّة
يا قصيدي وقد فاتني القصد
وصديقي وقد خانني الصدق
ياملكي
" أيّنا التفّ في جنحه ؟ "
سدرتي المنتهى
ومأواك قصدي
وهذي الجمار الثمار
سبحانك


هذيان:


قال : منفاي حربٌ
قلتُ : حربُك منفىً
وأغفى
فأغلقتُ باب الحلم وانسللتُ ، أرى صاحبي ولايراني ، قلتُ ما اشقاني ، ونهضتُ مذعوراً ، يخاطبني الناس ولا أخاطبهم ، قلتُ : لا أحد . قال : لا أحد . ثمّ توافد الناس كالظلال ، يمرّون قربي ولا يمرّون ، يحملون المزاهر ، ويشعلون المجامر ، ويغنّون ولا صوت هناك .
قال: ما ذا جرى ؟
قلت : ما ترى
واشتعل الضوء
كان ثمّة شئ يظهر
قلتُ : انظر !
صاح : هذا صاحبي
- ولكنّه قاتلٌ
ولكنّه قاتلٌ
…قاتلٌ



عائلة:


عائلة دونها والسماء ذراعان ، لا الأرض تمسكها ، أو كواكب تسكنها ، أو .. ، سماءٌ من القشّ يذرعها ربّها والملائك من حوله صبيةٌ يذرعون الفراغ بألعابهم
والسماء
السماء
السماء
عائلةٌ







تخليط:


شجرٌ في المحطة أو غرفة في الحديقة
أو
صالة
بانتظار قطارٍ
يجئ ويذهب بالناس
أو بي وحيداً






خاتمة الفصل:


يومان التقيا
طفلين يتيمين
بباب الدهر





6- فصل الهجاء



رجل:


رجل تعبان
ظنّ العالمَ السجنَ
وأن الناس سجّانوه
فاحتال على العالم والناس
سعيداً
بعد أن أغلق باب البيت بالمزلاج
واعتاض عن الناس بطفلين
ولغو الزوجة القادم من بوّابة المطبخ
يا للزوج مخدوعاً
يبدّل عالماً بالبيت
يحسب بيته العالم




رجل آخر:



رجلٌ لا يستحق الذكر
عفناه إلى ما يستحقّ الذكر
إن كان على أشعارنا
أن تندب الحيّ
وتنعى الميتين



قطيعة:



كلّما آخيتهم قالوا: سنأتيك مع الصبح
أما قلتَ: "قريبٌ موعدُ الصبح"
وجاءوا بثياب الليل
لم أجزعْ
ولكن هذه المرّة لم يأتوا
وكان الديك مذبوحاً
وباب الصبح مكسوراً
وبيتي خاوياً
أغلقتهُ وارتحت
لن اذكرَ ما قالوا ولا ما قلتْ



الخنزير:



حين رأيتُ الخنزير
وقد سقطت أسنانهُ
واسّاقط شعرهُ
قلتُ لهُ:
"عمتَ صباحاً يا خنزير
واسعدك الله
إذا ما طرتَ
ونفّضتَ جناحيك من الوحل
ولا بأس إذا ما زرتَ
وطقم الاسنان بجيبك"
لكنّ الخنزير
وقد سقطتْ أنيابهُ
واسّاقط شعرهُ
آثر ان يبقى ذاك الخنزير





مرثية كالهجاء:



ستأتي النهايةُ
شيخٌ يلازم بيتاً على القبر بابهُ
لا زائرين
ولا عائدين
ولا من يشيّعُ
حتّى ولا من يشيل الجنازةَ
أو يضعُ الورد،َ
حتّى ولا نادبات
ولا نادبين




رجل ثالث:



لشهاب الدين
أو الدَيْن
وجوهٌ كثر
فهو الهرّاش
الحرّاش
الحائر في بطنه،ِ
(يسمع خشخشة الأعشاش)
الصارخ في البريةِ
(يدعو لنزال الأشباح)
القابع في الظلّ
الراجع في طرق الصوفيين
بخرقة اسمال
الضائع في سفه الصبيان أبي سعدى، وابي سعدٍ
الراتع بالقيل وبالقال
الطبّال
الحامل أسفاراً لا يفقهها
الورّاق
السبّاق
لمثلبةٍ
النحويّ الروحيّ الماديّ الصفويّ "قره قوينلو" الشاويّ الطاويّ
الجامع
الماضي المتضارع
ثاني الأخوين
شهاب الدّيْن
الهرّاس
الجاهل بالناس
الطالع ضبعاً في صورة أنسيّ




خاتمة الفصل:


مرثية:


لا جناز
ولا نعش
حتّى ولا مقبرهْ
كان يخطو إلى حفرةٍ
لا ليواري بها ظلّهُ
بل
ليحمل جثّته ويسير
هائماً كالشبحْ
منصتاً لرفيف الذين يمرّون
يُرجفهُ وقعُ أقدامهم
وتكسّر جثّتهُ
لائذاً، في الأخير، بمقبرةٍ، ربّما،
يتوارى وراء شواهدها
علّهُ يبصر الميّتين
يفسحون له موضعاً
كي يوسّد جثّتهُ
في الأخير
بمقبرةٍ
ربّما










7- فصل الشعر





أراد بيتٌ من الشعر أن يكون قصيدةً
فنفخ شاعرفي صورته
حتّى صار كالفيل
في ظلام الشعر
فظنّه البعض خرطوماً
والبعض ذيلاً
وأغلبُ الناس أذنين
وهو ساكنٌ
لا ينطق

قال الشاعر: "نفخنا فيه لكي يكون شاهدا على قصيدةٍ تنقرض"











رُوي عن شاعرٍ أنهُ راى نفسه في السماء السابعة فاستوحش وقال:
لماذا لا يكلّمني الله؟
فسمعه الله وقال: هل استوحشت أيها الشاعر؟
قال الشاعر: أجل
- وماذا تريد؟
- أن أكون في الأرض
- أ لستَ القائل:

سمائي حبلى بالنجوم ولا أرى سماءً تضاهيها إذا ضاقت الأرضُ

- ما سمعت بهذا البيت من قبل.
- ومنْ تظنّ قائله؟
- لعلّه ابن الفارض.
- ومن هو ابن القارض هذا؟
- من أهل الارض.
- عجباً أروي بيتاً لا اعرف قائلهُ!
- يحدث هذا للبشر ايضاً يا سيّدي.
- وما الفرق بين شعرك وشعره؟
- كالفرق بين السماء والأرض
- ولم تفضل الارض إذا كانت السماء أفضل؟
ثمّ مدّ الله راحته برفقٍ ليوقط الشاعر
قال الشاعر وقد نهض مذعوراً
ماذا فعلت؟
أريد ان أكون في السماء.





ولو سألتني لماذا كتبت قصيدتك (في تقريض طاغور) لما عرفت السبب على الإطلاق وقد نسيت الدافع إلى كتابتها، ولكنني أرى فيها مرحاً لا أتبين أسبابه:



نحن شهود اللعبة يا طاغور
على ظهرك نلهو حين تصلّي
ونصلّي
حين نراك كطفلٍ تلهو
ونقول :
" أيا زمن الشعر
أ جئناك على هرمٍ
بلحىً
أطول من لحية بابا نوئيل "




العزف على أوتار طاغور:



1-


هبّتْ ريحُ الشرقْ
وانطفأ سراجْ
وتدافعَ في الطرقاتِ الناس
هبّتْ ريحُ الشرق
والتمعَ سراج
.............................
وجلستُ إلى مقعده كالحلم



2-

حين توارى الله
كان الفقراء
في الباحةِ يبكون
كانتْ بضع ديارٍ تأكلها النيران
وحفنة أطفال
حين تراءى الله
كان الفقراء
تبرق أعينُهم ويشقّونَ الأسمال
قيل: أصابهم الوجدُ، وقيل: الأحزان
قيل: رموا وجهَ الحجر المطرق بالأوحال


3-


خبأتُ عن المارّين
وجهي
وقرأتُ على الوردِ الأسماء
صدحتْ حنجرتي بغناء
شَدَهَ المارّين
وهمستُ اسماً
عجباً! أقبل كلّ المارّين


4-


نامَ على راحتهِ طفلْ
وارتفع شجارٌ في السوق
ودنا كلبٌ من طاسةِ شحّاذ
وانتظرَ الناسُ على الضفّة ..
كان الحلمُ يسيل
ويشيلُ قرىً نائمة
طاغور .. ! تُرى كيف تقيل
الأغنيةُ من وهج الحشدْ ؟


5-


قابلني بوذا
في الطرف الغربيّ من الليل
محفوفاً بالريح وبالهول
يتبعه قمرٌ
قال :
يأتيك زمانٌ تزحف فيهِ الأمطار
ويغيبُ الظلّ
ويسير الناسُ على الأنهار


6-


حملوا فوق محفّتهم جسداً
ومضوا يحتطبون
هبّتْ ريحٌ من جهةِ الصحراء
أرعشتِ الوردَ
فنامَ الطاعون
قالوا: لم يبق هناك سوى الساحاتِ السوداء
ومياهٍ صدئتْ وبقايا لكتاب
في كفّ ضريرٍ مطعون
قالوا: دهمتنا، أمس، كلابْ


7-

اصمتْ يأتْك نبأ
فصمتُ وحيداً بين الزاهد والعابد والضائع
غربتْ شمسان على ظلّي
وأنا ضارع
لم تأتِ جهان أو سبأ
أو يأتِ رغيفٌ
فهويتُ ذليلاً
بين الزاهد والعابد والضائع


8-


حين اشتعلتْ ذاكرتي
أبصرتُ قطيعاً، وصغاراً يمشون
حين انطفأت ذاكرتي
قيل اشتعلتْ نارٌ، وتجمهر شحّاذون
والتصقتْ شمسٌ في خاصرتي



قرار من الأوبانيشاد


الشمسُ لا تنيرهُ
والقمر الساطع لا ينيرهُ
والليل لا ينيرهُ
والنار لا تنيرهُ
بيتي الذي أسكن فيهْ



1969






تعليق:

عرفتُ شاعراً يدّعي الحكمة
ولا يعاشر غير السفهاء
قيل له: ما الحكمة في ذلك؟
قال: محو الحكمة.





خاتمة الفصل:



حُكي أن أسداً قال:



كلّ ملكٍ وله رعيّته، يفردُ منها ما يشاء، ويجمع منها ما يشاء إلاّ ملكاً
قالوا: ومن هو يا سيّد الوحش؟
قال: من ملك نفسه فملكته.






8- فصل السرد




ما رواه فردان عن رحلته إلى الشمال:


في الطريق إلى الشمال البعيد لم أجد ما هو غير مألوف في وجوه الناس ولا في طبائع عمرانهم التي ألفتها في مدائن أخرى.
كانت الشمس ترتفع كلّما اقتربت السفينة من الشاطئ الآخر، حيث الأرصفة تنفتح على السماء.. والسماء تنفتح على البحر في مشهدٍ لا يحدّه قطب ولا تختصرهُ شمسٌ.. ألفةٌ هي نقيض عجائب الرحّالة العرب الذين رأوا في بلاد الشمال عالماً غريباً: "أرضون أكثرها خلاءً وبرارٍ وقرىً غامرة، وثلوج دائمة وبلادها قليلة.. البداوة بادية والشقوة غالبة. وبها من الأقوات أقلّ ممّا يكفيهم".
شهدتُ مأتمين وحداداً يختلط سواده بخضرة الأشجار حتّى عجبت لحال الناس يتبارون في المسرّات والآلام.. ويفصحون عن حاجتهم للموتى أكثرمن حاجتهم للأحياء، وادعين في حضرة الموت حتّى أنك لقادر أن تسلب أرواحهم بكلمات العزاء. ولكن ما أغرب أطوار العراقيين، يجتمعون خلف الجنازة ويتفرّقون في السوق "من هنا مرّ العراقيّون خلف جنازةٍ وتفرّقوا في السوق" قالها أحد المعزّين فضحك المعزّون وخالط حزني فرح عابر بترديد بيتِ شعرٍ لي.
ولعلّ المسعودي لو انبعث حيّاً والتقاهم هناك لقال لهم كعادة أبناء جلدته أ لم أقل لكم إن "البداوة بادية والشقوة غالبة". وربّما لن يصدّق أنّهم لم يعودوا بداة حتّى لو رأى أبناءهم ينطقون لغات الشمال أجمعها، غير أني مازلت والحمد لله لم ألتق بعد بالجيل الذي سيهجر لغته، بعد أن لم يعد يملك غيرها وسيلة يخاطب بها الناس ويجتمع بهم، وهم المتفرقون في "أرضون أكثرها خلاءً ".




مارواه فردان عن رحيله عبر الصحراء سنى 1978:




قبل أن يرتدي الليل شملته
سبقتنا الجمال
وعبرنا القرى
كان نجم القرى نائياً
فعزمنا الرحيل
وانحدرنا مع النجم
قلتُ: إذن هكذا
صرةٌ ومتاع قليل


(من قصيدة الرحيل عبر بادية السماوة )



كنا ثمانية.. تقدّمتنا الجمال في ليلة لن أنسى صحوها الذي كاد يمطر – كما يقول الطائيّ أبو تمّام – ولمعان نجومها، وظلالنا الهائلة التي امتدّت حتّى السماء، كأنّنا جزء من كونٍ ليليّ أبيض اشتدّ لمعانه مع اشتداد أملنا بالخلاص.
وبعد مسيرة مرهقة على الأقدام اعتلينا جمالنا ثمّ نزلنا وأشعلنا ناراً من الغضا لم تنطفئ، ولكنها لم تحمنا تماماً من البرد. كان البرد يهجم علينا كالذئاب ويرتدّ، إلى أن أطلقت الشمس سهامها النارية الحادّة فأيقظتنا.
كلما سألنا عن الوصول قالوا لنا "شمرة عصا"، غير أن شمرة العصا استغرقت أياماً وليالي سبعاً في أرض خلاء لا أثر فيها لإنسان وليس فيها من الشواهد غير آثار حيوانات مرّت: خيول، ذئاب، أغنام، وهذا أثر لصبيّ.. أين ترى غادر؟
آثار تحيط بنا.. آثار فوقنا بيضاء يطبعها الليل نجوماً في سماء الصحراء. ولكن أغرب الشواهد هي الجراء التي صادفتنا في الطريق.. ثلاثة جراء لن أنساها ما حييت واقفة بانكسار وهي تتأمل موكبنا يمرّ.. من أين جاءت؟ وأين ستذهب؟ وماذا سيحل بها أو بنا؟



ثلاثةُ جراء
وحيدة في القفر
ثلاثةُ جراء
لم تنبح الركب
ثلاثة جراء
بلاوجوهٍ تتطلّع في السابلهْ
ثلاثة جراء
بعيدةٌ ..
بعيدةٌ ..
مثلي



أما الشاهد الذي يسخر من كلّ ما اعتدناه من كتبٍ وأفلامٍ وخطبٍ فهو ذلك البدويّ الذي أقبل نحونا قادماً من الخلاء ليذهب إلى الخلاء وكأنه سهمٌ يخترق الأبدية.
جاءنا يعلو فرساً ليهبط منها وهو يحدّق مذهولاً في الخبز الذي أولمناه إياه، والذي لا نملك سواه، بعد هذه الرحلة الطويلة، آتياً على الفتات.
لم أعرف من قبل طرب الجمال إلاّ في الشعر، أمّا سرعتها فلم أصدّق بها حتّى كادت تطير بي في الليل وهي تستروح الماء على بعد أميالٍ وأميال.
يا إلهي أية غرائب في الطبيعة ! وأية مخلوقات تألفنا ونألفها!
في اليوم الثالث اجتزنا أرضاً بوراً بيضاء من الملح فكادت تنزلق بنا الجمال.. أرض اشدّ وحشة من رمل الصحراء.
ولكن
فجأة يمرق أرنب بريّ ذو أذنين حمراوين كأنه يحمل ناراً في هذه الصحراء. في مسائها الموحش.
ويختفي فجأةً
وإذ نجتاز صحراء الملح هذه ، تنفتح سماء أخرى
أرض أخرى
بركة ماء
ونخلةٌ وحيدةٌ مكتظةٌ بالفسائل.
ذهب مهديّ إلى البركة فجاء بماء في إناء تملأه الديدان ، وحين أراها لأحدنا تناول هذا الإناء وشربه دفعةً واحدةً وسط ذهول مهدي الحائر.



في اليوم الرابع لاحت لنا خيمتان فاشترينا شاةً فكانت الوليمة التي لا تعدلها وليمة من قبل، وربّما من بعد.
في تلك الليلة سمرنا ودارت بنا القصص في تلك الصحراء ولعلها ما زالت تدور بي كلّما تذكّرت أولئك الناس وأقاصيصهم عن مغامراتهم العجيبة، وبراعتهم في القص، وتكرار جُملٍ وعبارات تتخلّلها ألفاظ عاشت قبل أكثر من ألف سنةٍ واندثرت ولكنّها لم تندثر في الصحراء. لم أصدّق أن مفردات أمرئ القيس وعنترة ولبيد وطرفة ما زالت تسري في أفواه هؤلاء المهربين الشعراء العشّاق الذين لم يشعروني أبداً بمعرفتهم بهويتي، وكلّ ما قالوه "إذا ما داهمتنا دوريّات الصحراء فاختفيا أنتما حتّى نلحق بكما في اليوم التالي بعد أن نكون قد سوّينا أمرنا مع شرطة الصحراء".
ولم يكن توقّعهم تطيّراً فقد صادفتنا أكثر من مرّةٍ هذه الدوريات ، ولكن أخطرها كان ذلك الضوء الذي أخذ يقترب منّا شيئا فشيئا. كنّا في أرضٍ منخفضةٍ وكان الضوء يبدو وكأنّه قادمٌ من علٍ فارتعبت الجمال ، واستطعنا الهبوط منها إلاّ جملاً كان يركبه واحدٌ من المهربين فقد فرّ مذعوراً.
لحقتُ به وأوقفته، فدهشوا وظنّوا ذلك شجاعةً منّي ولم يدركوا أن جهلي بعواقب الأمور هو الذي ساقني إلى هذه المبادرة التي كادت تودي بحياتي، فقد يقتلني الجمل في موقف كهذا.
حبسنا أنفاسنا، وصمتت الجمال بعد ذعرٍ، وعادت رجرجةُ الماء في الرحال، فحسبتُ الجمال وكأنها تخوض في مياه على الأرض، وبدأ الحصى يتطاير تحت أخفاف الجمال ويرمي شجيرات الغضا التي تصادفنا في الطريق، فيقلق نوم القطا الذي يفرّ مذعوراً في الليل.



في اليوم الخامس وصلنا غابةً من أشجار الغضا، والتقينا هناك بقافلةٍ تضمّ مهربين وهاربين أيضاً ، بينهم عرب فلسطينيون وسوريون، ينتظرون ما يقلّهم إلى الأرض الموعودة.
كنّا نسمر في المساء، ونشعل نيراننا التي تكاد تلامس سقف السماء.. وحين أبدينا خشيتنا من هذه النار الهائلة قيل لنا إننا في منخفض وإنّ الدوريّات لا يمكنها رؤية هذه النار.


وفي اليوم السابع تركنا وراءنا الجمال يحرسها بعض المهربين من القافلتين.
سينتظرهؤلاء عودة زملائهم محمّلين بالبضائع من الكويت.
تركنا وراءنا الغابة وانتشرنا خلف شجيرات منثورة هنا وهناك لئلاّ تلمحنا الدوريّات إذا باغتتنا وحين قدم ( خزّان الماء ) الذي سيحملنا جميعاً تقدّمنا منه كما تتقدّم الضحايا في الطقوس إلى الموت. تكدّسنا عشرين شخصاً، بعضنا فوق بعض، في رحلةٍ رهيبةٍ استغرقت خمس ساعات. توقّفنا خلالها مرّةً واحدةً حين أوشك اثنان منّا على الاختناق فاضطررنا إلى سحبهما إلى سقف الخزّان وتمديدهما فوقه ليستنشقا الهواء. كان هذا المشهد، لسوء الحظ، يجري على مقربةٍ من مخفر من مخافر الحدود ولكنّنا نجونا.

قذفنا خزّان الماء كما يقذف حوت ضحاياه ، في أرضٍ قصيّةٍ ليس فيها غير بيوت لم يكتمل بناؤها بعد.
قفزنا كالخراف في اتجاهات شتّى مبقّعين بالرمل والماء، نقف على الطريق الإسفلتيّ العام بانتظار الباصات العابرة لتوصلنا.. أين؟






مارواه فردان عن شواهد لوركا:




هنا في الطريق المحاذية لمجرى النبع الكبير الذي سمّاه عرب البوعبدل نبع عين الدمار .. هنا حدثت الجريمة.
كانت بوّابة مقبرة لوركا مغلقة فقررنا الدخول من تحت الأسلاك المحيطة بها بعد أن خلعنا ما علينا من ملابس تعيق الدخول.
بمحاذاة السور الذي اجتزناه ثمّة نصب حجريّ مكتوب عليه اسم الشاعر الذي خُطّ أيضاً في أعلى البوّابة الكبيرة، وفي أسفل النصب قنينة مكسورة العنق ملئت بالماء ووضعت فيها ثلاث ورود حمر.. من وضعها؟! أمّا وسط المقبرة الدائريّ فإنه أحيط بشجرات الميلاد وأشجار العفص وأنواع أخرى من أشجار لا أعرفها... مشهد لوركاوي ينقصه القمر الغائب. تضيئه الشمس الحادّة وتصب فيه قطرات مجرىً من الحصى الأبيض المبلّط. على لوحة المرمر المنحوتة فوق حوض الماء، والتي نقشت عليها قصيدة ماتشادو الباكية.
من الحوض نصف الدائريّ تمتدّ سواقٍ أربع مبلطة تلتقي عند حوض صغير ايضاً ونافورة صغيرة وسط نجمةٍ هائلة تتوسطها تشكيلات جميلة أخرى من الحصى الأبيض والأسود المصفوف كسعف مضفور، وعند الجدار الكبير الذي يواجه البوّابة الرئيسيّة والذي تتوسطه قصيدة ماتشادو علقت مقاطع من قصائد لوركا الشهيرة منحوتة على ألواح من المرمر: مرثية مصارع الثيران، موت انطونيو كامبيريو، حكاية القمر يا قمر، قصيدة من ديوان (شاعر في نيويورك)، وأغنيته الشهيرة:


خضراء أحبك خضراء



وفي البعيد يمتدّ السفح الأجرد الذي شهد الماساة والذي تتخلله الأشجار المتناثرة البعيدة ويلوح فيه مبنى وحيد وأعمدة كهرباء.
عدنا من المقبرة وكأننا عدنا من تشييع جنازة صديق متجهين إلى فوانت فيكاروس حيث ولد لوركا .
في الطريق إلى فوانت فيكاروس تمتدّ السهول المزروعة بالذرة وأشجار التبغ مذكّرةً بمشاهد (عرس الدم) المفتوحة على سماء غرناطة حتّى انتهينا إلى نصب للوركا أقيم على حافة الطريق لنستدلّ من خلاله على المكان.
سلكنا طريقاً جانبيّةً ودليلنا حافلة تتقدّمنا. قال لنا أحد العابرين إنها ستوصلنا قريباً من بيت لوركا الذي سرعان مارأيناه مطليّاً بالبياض.. لامعاً بين صفّ من البيوت الشعبيّة النظيفة الممتدّة حتى بيوت الغجر المبنيّة بالصفيح، تقابله مدرسة للأطفال.
حين بلغناه كان جرس المدرسة يدقّ والطلاب الذين نراهم من سياج المدرسة الواطئ يهرعون إلى صفوفهم.
طلب منّا الدليل أن ندخل من الباب الخلفيّ: غرف صغيرة ذات سقوف خشبيّة، وتفاصيل أليفة: صورة العائلة،الموقد، الفانوس، وثبقة الأم التي كانت مدرّسة في القرية ذاتها، بيانو لوركا، شهادة تخرجه، مكتبة العائلة التي لم يبق منها سوى كتبٍ عن بعض الفنانين وتاريخ إسبانيا، لوحتان إحداهما طبيعة صامتة رسمها لوركا سنة 1928 وطرزتها ابنة عمّه، هاون يعود لزوجة الأب الأولى التي لم تنجب أطفالاً، صورة له عندما كان عمره سنة واحدة راكباً مهراً... وتفاصيل أخرى في الطابق الأعلى الذي كان مخزناً للمؤونة ومكاناً للطبخ والذي أصبح الآن متحفاً صغيراً: صور شعراء وممثلين وأصدقاء وأقارب تلمع بينهم صورة لوركا بحضورها المتواضع المشعّ الذي كان يضفي سحراً آسراً.. صور في بونس آيرس وهافانا ونيويورك، وكتابات عديدة لقصائد مخطوطة باليد، وملصقات وقصاصات صحف.
بيتٌ يبعث البهجة والمرارة معاً.. كأنّ سكّانه غادروه توّاً أو كأنهم سيعودون إليه بعد قليل.
لقد رأيت بيوت شعراء وفنانين عديدين بعثت فيّ الكآبة فوددتُ لو خرجتُ منها مسرعاً، ولكن ما الذي جعلني راغباً أن أطيل المكوث وأحدّق في التفاصيل الكثيرة التي تخلّت عن زحمتها لتخلي المشهد لتفصيلين أو ثلاثة في غرفة لوركا المجاورة لغرفة الأب الحزينة كحزني آنذاك.
غرفة ليس فيها سوى مهد لوركا، وجرس صغير وحجلة، ولعبة مفقودة لم يبق منها سوى قاعدتها. ذكرتني الحجلة بطفولة لوركا وعرجه الخفيف.. ولكن ما خفّف حزني مشهد الشباك المفتوح على باحة البيت والذي كانت تأتيني منه أغنية شجيّة كلماتها للوركا عرفت أنها من قصيدة "حكاية القمر يا قمر" من خلال كلمة تردّدت في الأغنية " لونا .. لونا " أي " قمر .. قمر".
ما أجمل الباحة.. ما أجمل حصاها وشمسها اللامعة.. وتلك البئر التي تحفّ بها أشجار صغيرة يتسلّق بعضها الحائط، والبئر التي لم تجفّ ماؤها بعد، وتستند إليها مزهريتان ورودهما حمراء ويتدلّى إليهما حبل قديم ينتهي عند سطل كأنّه وُضع البارحة.
اجتزنا الباحة إلى الجهة الأخرى من البيت وصعدنا سلّماً يفضي إلى الطابق الثاني الذي تحوّل إلى صالةٍ لعرض الأفلام الوثائقية عن لوركا.
ودّعنا بيت طفولة لوركا، وبي حسرة أنّني لن أراه ثانيةً، ولربّما لن أختزن تفاصيله في ذاكرتي. كنت مسرعاً.. قلقاً الاّ أرى بيته الآخر في غرناطة الذي انتقلت إليه عائلته فيما بعد، فقد يكون مغلقاً عند الظهيرة.
كان البيت مغلقاً كما رأيناه البارحة تحوطه الأشجار كأنّه مزرعةٌ صغيرة وإلى جواره بضعة بيوت وورشة للحدادة وكلب مربوط إلى جذع شجرة استقبلنا وودّعنا بالنباح.
لم ننتظر كثيراً حتى أطلّ القائم على البيت ليفتحه لنا... بيت عاديّ يكاد يكون خالياً إلاّ من أثاث بسيط، ليس فيه ما يجلب الانتباه إلاّ غرفة لوركا التي تطلّ على نخلة ضخمة تتدلّى منها الأعذاق الصفراء اليابسة ( لقد طالعني منظر النخل في مدخل غرناطة أيضاً) وفيها مافي سواها من أثاث بسيط وأشياء بسيطة: سرير لوركا، ومرآة منضديّة، ورسم للشاعر رافائيل ألبرتي أهداه إلى لوركا، وصورة العذراء المعلّقة على السرير، وإعلان كبير لمسرح الباراكا بشعاره المعروف.. العجلة والقناع، يعلو منضدة خشبيّة لا تزال تستقرّ عليها قنينة فارغة وبضعة صور فوتوغرافية من بينها صورة للوركا مع شقيقة سلفادور دالي، وقد سبق أن رأيت له صوراً معها في بيت طفولته في فوانت فيكاروس.
كلّ شئ ينمّ عن بساطة وحميميّة.
قال لنا القائم على البيت إنهم بصدد تحويله إلى متحف في الأيام القادمة ثم قادنا إلى شرفةٍ تطلّ على المدينة مشيراً إلى العمارات الحديثة مردّداً: "أي منظر كريه!" مبدياً أسفه لأنها حجبت أفق غرناطة وبدا البيت وكأنّه بيت ريفيّ ضائع في طرف المدينة.
في مقالةٍ بعنوان ( الروح المبدع ) يقول لوركا : فالخاتمة في كلّ بلدٍ للموت ما إن يصل حتّى تسدل الستائر إلاّ في اسبانيا. في اسبانيا تُرفع الستائر."
هكذا أحسستُ عندما غادرتُ لوركا لأجده في كلّ حجرٍ في غرناطة حتّى في الحمراء، حيّاً يعيد دورة الحياة بهيّاً ليخترق الحواجز والموت، يثير الكآبة مثلما يثير الفرح.
هنا يصبح الموت أنشودة للحياة مثلما تصبح الحياة صورة الموت. خليطٌ من الأضداد، وكأنني لم أحضر المشهد الجنائزي ولم أسدل ستارة سوداء.
كلّ شئ يؤذن بالحضور والمشهد الرائع.
وفي الحمراء تخيلت ذلك الفارس الذي اجتاز القصر تاركاً شرر حوافره في ساحات غرناطة ليختفي أبداً عبر بوّابة البيرة .. إحدى بوّابات غرناطة الشهيرة التي خلّدها لوركا في إحدى قصائده الجميلة .. إنّه موسى بن أبي الغسّان قائد فرسان غرناطة الذي ولّى مغضباً لا يريد لمدينته السقوط.

أين بوابة البيرة !

1989




ما رواه فردان من شعر موزون ومقفّى:




يا صاحب الجمع والاصحاب مجمعة
على انفراد وما في الجمع من ضررِ
عذرت جمعك من فردٍ يصيح به
فردٌ تجمّع من خوفٍ ومن حذرِ
يا صاحب الجمع لمّ الجمع وارمِ بهِ
من كان يرمي بجمعٍ غير مقتدرِ
ما في اقتدارك من عيبٍ سوى نفرٍ
ضاقوا بجمعٍ فما عادوا سوى نفرِ
يا صاحب الجمع

وهنا نهض الجمع وصاحبو به: "أعد" فاعاد:
يا صاحب الجمع
ولكنّه لم يكمل فقد انقطع حبل جمعه بسكّين مفرده.



رواية فردان عن الأصمعيّ:



قال فردان نقلاً عن الأصمعيّ: "الشاعر المفرد من يرمي الكلام على عواهنه، فلا يصوغ إلاّ بمقدار، ولا يخطئ إلاّ بمقدار، كخطأ من قال:

يخرجن من شربات ماؤها طحلٌ
على الجذوع يخفن الغمّ والغرقا

وقد غرقتُ مرّة كهذه الضفادع وهي لا تغرق، فأخرجتُ من جيبي شوكة فطارت بي، ومنذ ذلك الحين وأنا لا محطّ لي:

لمّا رأيتُ الجمع صار مفردا
حملتُ نفسي وهجرت العددا

فكان ما كان من هجران، لا يحتمله مفرد ولايرتضيه جمع، فأحسست بالوحشة فأنشدتُ:

أوحشني جمعٌ بمفرده
فأنا منه في غاية الأسفِ

وفي الحقيقة لم آسف ولكنّه قول أفضيتُ به ترويحاً للنفس، ومشافهة للأمس، وشتّان ما بين أسفٍ وأسفٍ..
غير أني حين وطئت ديار الغربة حملت مفردي وقلتُ:


يا رهين المنفيين
ذهبت ريحك أين


ولم أكمل، فالبداية معروفة عواقبها، بل اجتمعت بنفسي بين قومٍ لا يأسون لمفردٍ، ولا يفرحون لجمعٍ، ما سألتهم عن شئ إلاّ أجابوا باقتضاب العارف، وإدبار المخالف، حتّى أنزلني الله في بيوتهم فصرتُ إلى الهجر أدنى، وعلى الناس أحنى، فطلبت الجمع، ومالي بالجمع نفع، فإذا هو هو، أو هو إياه، جمعان في مفردٍ واحد، فحمدتُ الله على مفردي فأنشدت:

للإنجليز صنائع ببلادهم
لا تنتهي إلاّ بأن تتصنّعوا

فتصنّعت فما انتهتْ صنائع الإنجليز.




ما رواه فردان عن حادثة المسجد بصيغتي النثر والشعر معاً:



في أوّل يومٍ للعيد قالت والدتي: نؤتُ بحملي، ومضى عامان ولم ابصرك تصلّي.
علّقتُ على طرف الإصبع مسبحتي ومضيت
اجتزتُ بدربي أطفالاً مرحين، داعبتُ بطرف عصاي ذؤابة طفلٍ منهم ونأيت
استوقفني كلبٌ علقت رجلاه بباب المسجدْ. وخزته عصاي فلم يبعدْ، فتجمهر حشدُ مصلّين
"يا لله..!"
قال أحدهم، ثمّ قفز على ظهر الكلب إلى صحن المسجدْ.
كان إمام المسجد
يتهجّدْ
بالآيات
قفز الحشد جماعات
وبقيت وحيداً أتردّدْ
واقلّبُ عينيّ بعيني الكلب




ما رواه فردان عن سفاهة قوم:



مرّ عابر بروّاد مقهى ولم يحيّهم، فنهضوا وصاحوا بصوتٍ واحد: "وعليكم السلام".



مارواه فردان عن حيرته:



أجلس فلا ارى غير المرآة
أقف فلا أرى غير الشارع
أنام فلا ارى غير الحلم
وقد أكون أنا المرآة
والشارع
والحلم
فلا أجلس
ولا اقف
ولا أنام




وروى فردان عن أيامه الأخيرة:




في هذه الأيام لعلّها أيامي الأخيرة
لا أحدّث أحداً
أو أنقّل خطواتي بعيداً
لأنّ كلّ كلمة مهما صغُرتْ
وكلّ خطوةٍ مهما قصُرتْ
ترنّ
كما لو أنني معدن مقذوف
في قاعةٍ فارغةٍ.



حانة فردان:

الحانة التي تضئ في المساء
الحانة الراسية أبداً
سفينة مهجورة
من يبعثرها الآن
حباحب في الليل؟



ما رواه فردان عن خرافة فردان:



سكنتني الخرافة فتظاهرت بالعقل، حتى ألهمني الله معرفة الصدفة والضرورة، فأخذتُ أجاهر بها، وأسميتها الصدفة التي اقتضتها الضرورة، وما يدهشني ليس إيماني بها، بل حيرتي في إخفائها، حتّى صار إعلانها ضرورة لتوكيدها، ومسرّة لي فقد أنقذتني كثيراً، ولعلّني سأهلك وهي لا تفارقني، ولا أكتمك أنني لولاها لأصبحتُ خرافة أيضاً.
مرّة حدّثني أحد العقلاء فاصغيتُ له، فلم يتوقف حتّى أخرجتُ له خرافتي كالأفعى فاضطرب واحتار، وتظاهر بالضحك فلم ينفعه ذلك، ثم لم أعد أراه.
ومرّة هبط علينا فتىً غرّ، سبقته إلينا أخباره، وهو عاقل، وعقائديّ إبتلينا بالتطلع إلى مؤخرته التي يغطيها باصابعه، حين يخطب بالتلاميذ وظهره إلينا، ولا يقطع تطلّعنا هذا إلاّ هجومه المفاجئ على التلاميذ المصطفّين في الساحة تحت الشمس، بوجوههم المصفرّة، وملابسهم الممزّقة، ووقفتهم المائلة، وحزنهم الطفوليّ، وترديدهم الساخر الخافت وراءه:"جاكليت..جاكليت" التي ترد في خطبه مراراً، حين يستشيط غضباً فيصرخ : *بزر جاكليت"، أي "أولاد جاكليت" وهم الفقراء الجائعون. ولم يجدِ في إنقاذنا من خطبه حتّى إغماء الصغار من التلاميذ بسبب الشمس، بل إنّه لم يتخلّ عن خطبه حتّى في جلسات الشرب التي تصدف مرّة كلّ سنة حين نقوم، نحن المدرّسين، برحلتنا إلى بساتين النخل.
كنتُ متكئاً إلى جذع نخلةٍ فأخرجتُ له أفعاي، ولكنّها هذه المرّة لم تكن قاتلة. كانت أفعى لطيفة أخذتْ ترقص وهو لا يكفّ عن الحديث حتّى سكت.
قلتُ له: وما الضير في ذلك! والمبتلون كثار، ومن بينهم مفكرون وعظماء وسياسيّون، وتحدّثتُ له عن أندريه جيد، وعن رحلته إلى تونس وما جرى له هناك، وقلتُ... فاحتجّ مستسلماً ثمّ ارتخى وصار حديثه طيّعاً حتّى لانت شراسته وصار واحداً منّا، دون أن نصير واحداً منه، وحين يصير المسؤول واحداً من .. فليس هذا دليل عافيةٍ دوماً، ولكن إيّاك أن تتركه يمارس عقله عليك فإنها المصيبة التي ما بعدها مصيبة حتّى صرتُ أكره العقل.
ويا سبحان الله فليس أشدّ شغفاً بالعقل من المسؤولين (ومنهم شعراء) حتّى كثروا، ولا تدري من يوصل إلى الآخر .. العقل أم المسؤولية" ولا ضير أن يصير الموظف الصغير مسؤولاً بعقله، فقد اصبح جاري في الوطن مسؤولاً بعقله وحده، يتنقّل به بين الجيران مقطّباً وهو الذي لم يعرف غير الوقوف أمام بيته عارياً إلاّ من ملابسه الداخلية البيضاء بياض عقله ماسكاً خرطوم الماء ليرشّ الطريق وكأنه يرشّها برذاذه، مازحاً مع العابرين.
لم يصدّق الناس، وتقبّلوا وقاره مزحة ولكنّهم أخذوا تقطيبته، فيما بعد، ماخذ جدّ، فقطّبوا وجوههم أيضاً.




وروى فردان ما هو شرّ من ذلك، عن ساحةٍ وشارع:



* باصات واقفة في الفجر، وأناس يتجمهرون (بعضهم كان يضحك))، وامرأة عارية مطروحة في الساحة، مسمّرة في مكانها، لا تعرف ماذا تفعل، واين تختفي، وهي تستنجد وتصرخ ولا أحد ينجدها غير ذلك الرجل العابر الذي خلع عباءته ليغطّي جسدها المكشوف.
من قادها في الليل؟
من رماها في الساحة عارية في الفجر؟
ساقول بيقين قاطع: هم..الأجلاف، المقاولون، الرعاع، الحثالة القادمة من القاع، وحوش الغابة المقطوعة...



* وذلك الطفل.. يركض كالمجنون في الساحة رافعاً قميصهُ الأصفر الجديد الذي استحال أحمر من الدم وهو يصرخ ويصرخ، ولا يعرف الناس ما يفعلون.
طعنوه بقنينة مكسورة، بعد ان راودوه فامتنع، ثمّ قادوه عنوة إلى زاويةعند التقاء الشارع بزقاقٍ ضيّق ليطعنوه تلك الطعنة القاتلة في الظهر.
مات قبل أن يلحق بالمستشفى، وعاد جثّة إلى بيته القريب من الساحة في طرف ذلك الزقاق الضيّق.
الطفل الجميل ذو القميص الأصفر من يمحوه من ذاكرتي؟



* في تلك الساحة ذاتها .. الساحة التي شهدت خطوات السيّاب المتعثّرة، كان ثمّة مشهد آخر:

امرأة صغيرة ملفوفة بعباءتها تجلس، منتصف الليل، على عتبة بيت وتبكي.. لا تدري أين تذهب.. لعلّها من مدينة أخرى، من قرية أخرى، من عالمٍ آخر.
لقد سرقوا حليّها ورموها هناك.
ما الذي أيقظ صاحب البيت في منتصف الليل، ليصرخ بها حتّى آخر صوته موقظاً الجيران الذين أطلّوا من السطوح متسائلين عن هذه الكتلة الآدمية الملفوفة بعباءة سوداء.
ما الذي جعلها تتشبّث بعتبة باب البيت؟
من أين جاءت كلّ هذه القسوة؟
أ حقّاً هذا هو شعبي؟
ماذا فعلوا به؟
أ كلّ هذه الأحداث في ساحةٍ صغيرةٍ وشارعٍ واحد!



ما رواه فردان عن الجنون في وهران:



الجنون فنون، وأطرفه ما رأيته في وهران، فبعد أن ينتصف الليل يخرج المجانين من كهوفهم، وكأنّهم خفافيش ليل فرحين، خفيفين يكادون يطفون في الهواء كمهرّجي شكسبير وبهاليله، بنياشينهم ورتبهم الرفيعة، يصافحون بعضهم بعضاً، بانجناءات خفيفة لا تكاد تُرى، وابتسامات لا يعوزها الوقار، ينظرون أمامهم دائماً، لا تطرف لهم عين، كأنّهم سائرون في نومهم.
إنّهم باختصار موكب ظريف للرتب والقادة المرحين، وهم في غمرة انشغالهم وحواراتهم المتواصلة، وعيونهم المتجسسة على بعضهم البعض، لا تغادر الابتسامة شفاههم، وكأنهم أمام جمهورٍ خفيّ. والحقيقة أنّ ما ينقصهم هو الجمهور، ولكنّ المجانين ليسوا بحاجة إلى جمهور، فهم أرواح المدينة وقد استيقظت في الليل، غير أن هذا الموكب الهادئ الموقّع، الوقور الذي ينحني ويبتسم بأدب جمّ يليق بالمجانين والسياسيين الكبار سرعان ما يتناثر أو يتنحّى عند وصول حامد المدرّس العراقيّ في وهران، ويصبح نزقاً، فترى المجانين يندفعون كالأطفال لتحية حامد:

- وشراك ياسي حامد؟
- وشراك ياشيخ..لاباس؟
- حامد وشراك؟

حتّى تختلط الأصوات فلا سامع، ولاسميع، وكأنّك في وكرٍ من الزنابير.
وحامد يبتسم لنابليون، وموسوليني، وهتلر، كالطفل فرحاً، وفرحه يشتدّ خاصّةً، بعد منتصف الليل، عندما يعود سكران من بار قريب يصحبه زميل عراقيّ، ليريه جماهيره العريضة وشعبه المجنون أو قادته المجانين الذين لم يكن بينهم.. ويا للغرابة أيّ قائد عربيّ، ربّما احتقاراً، وربّما بسبب الحسّ الأمنيّ العالي الذي يتميّز به المجانين عادة، فلا تدري من هو المجنون حامد أم المجانين!
وحامد لكثرة معاشرته الجزائريين ومجانينهم أصبح يجيد اللهجة الجزائرية كأيّ واحد من أبنائها، حتّى أصابتنا الحيرة أو الغيرة من إتقانه لها، ممّا سهّل لحامد الولوج إلى قلب فتاة وهرانيّة أحبّته فتزوّجها. ولكنّه بالتأكيد لن يخرج معها في الليل لملاقاة أصدقائه المجانين.
في أيّة ساحة أنت الآن يا حامد!
ماذا حلّ بشعبك، عقواً، بقادتك؟
اقسم لو عرفت أين أنت لدعوتك إلى ساحتي مثلما دعوتني إلى ساحتك لأريك قادتي، ولكن ليس في الليل يا حامد، فلتطمئن زوجتك، بل في وضح النهار، وربّما لن تراهم يا حامد وسط زحمة الأتباع والمنافقين والكتبة المأجورين والمبرّرين، من ذوي اليسار واليمين، وحاملي الألقاب، والخانعين، والمقودين من أنوفهم مرغمين، والجهلة الصالحين الذين لن تبشّرهم بعاقبةٍ، فهل من عاقبةٍ غير ما يبصرون….



ما رواه فردان عن طفيليّ:



زار طفيليّ مدينة يوماً، فأراد أن يجتمع بأهلها. قال: الوقت طعام. قالوا: إذن فليكن وقتك المائدة. فصار لا يسمع محدّثاً، ولا يحدّث سامعاً، كأنما الوقت سكّين تلمع بين أسنانه. قالوا: يا هذا، قال: ماذا؟. كان في شغلٍ عمّا حوله لا يستأنس لحديث، ولا يستوحش لصمت، حتّى حانت المائدة فكاد لسانه ينطق: ما ترك الطعام في قلبي حبّاً لأحد.




خاتمة الفصل:
(مايقال عن فردان)

الشرسون
يقولون: شرسٌ
والطيّبون
لا يقولون شيئاً
لأنّ الكلمات
ليست شاغلهم

الطيّبون
لا يحترسون
وحين يقولون شيئاً
يتردّد صداه
كشجرة تهتزّ فيميل أفقٌ
ويخضرّ أفقٌ

الشرسون
لا صدى لكلماتهم
فهي حجرٌ
في بئر

الطيّبون
يقولون شيئاً
يردّده
الطيّبون



إشارات



1- تعود نصوص (أحوال ومقامات) إلى ما قبل سنة 2000.

2- القصائد: عبر بيوت الأرمن، أمام موبليات العرائس، رحيل، عباءة، نوتيّ، انخطافات ألف ليلة وليلة، خراسان....... من مجموعة (النقر على أبواب الطفولة).

3- إجازة........ من مجموعة (سراباد).

4- الوليمة....... من مجموعة (دقات لا يبلغها الضوء).

5- شاهدة قبر.... من مجموعة (الشاهدة)

6- العزف على أوتار طاغور..... من مجموعة (الحقائب).




فهرست



فصل البدايات
فصل الأحلام
فصل القول
تأملات فردان
فصل الصوفيّ
فصل الهجاء
فصل الشاعر
فصل السرد



#عبدالكريم_كاصد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دمشق، حلب وهامش
- أحوال ومقامات: الفصل الرابع
- خمرة مهدي
- فصلان من كتاب: جنة أبي العلاء
- اليباب والثراء الإنسانيّ
- عن معرض الكتاب في الدار البيضاء
- تعليقات على وضعٍ راهن
- قصيدتان إلى مصر
- مراثٍ أربع
- ديوان: الفصول ليست أربعة
- مكان يهرب..بداية تبتعد
- شمس عبر الأوراق: شينكيجي تاكاهاشي
- ما الذي نفتقد؟
- الديوان المغربيّ
- القصيدة-النص
- لا وجود لداخلٍ أو خارج بشكلٍ مطلق
- باتجاه الجنوب.. باتجاه لوركا
- مختارات شعرية: نوافذ
- عن المسرح الشعريّ
- ديوان: وردة البيكاجي


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - كتاب: أحوال ومقامات