|
منهج سقراط في تحديد الألفاظ
عادل سالم عطية
الحوار المتمدن-العدد: 3868 - 2012 / 10 / 2 - 09:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد شعر الفلاسفةُ من قديمٍ بحاجةٍ ماسةٍ إلى تحديد الألفاظ، بلْ نجد أنَّ فلاسفة بالذات كانت مهمتهم الكبرى أنْ يحددوا الألفاظ والصيغ، ويضبطوا المفردات والمواضعات، ولا شك أنَّ على رأس هؤلاء الفيلسوف سقراط (ت399 ق.م )، الذي لم يَدّع الحكمة، ولكنه بحثَ عنها بشغفٍ واهتمامٍ، فقد كان هاويًا للحكمةِ لا محترفًا لها ( )، فاتجه إلى سبر غور الروح الإنسانية – وكان الناس قبله طبيعيين – يستطلع الافتراضات، ويستجوب اليقينيات، وإذا تحدث الناس عن العدالة المتعارفة كان يسألهم بهدوءٍ، ما هذه العدالة ؟، وماذا تعنون بهذه الكلمات المجردة التي تحلُّون بها بمثل هذه السهولة مشاكل الحياة والموت ؟ وماذا تعنون بكلمة الشرف، والفضيلة، والأخلاق؟ وماذا تعني بنفسك ؟ لقد أحب سقراط ( ) أن يتناولَ بالبحثِ والسؤال مثلَ هذه الأسئلة الأخلاقية والنفسانية، وقد عانى البعضُ أشد المعاناةِ من طريقته في السؤال والبحث؛ لأنها طريقةٌ تحتاجُ إلى تعريفٍ صحيح، وتحديد مُحكم، وتفكيرٍ واضحٍ، وتحليلٍ حقيقي( ). إنَّ نقطة انطلاقه – فيما يبدو لي – تُعَدُّ سراجًا يُستضاء به في تاريخ الفكر الفلسفي عامة، وتاريخ المصطلح خاصة، " فقد كان سقراط مقتنعًا تمامًا بأنَّ العلم بحقيقة أيَّ شيء يبدأ من تعريفهِ تعريفًا دقيقًا، وقد بدا من خلال محاوراته الَّتي كتبها أفلاطون أنَّ سقراط يستهدفُ مع محاوريه إلى إثبات جهلهم بحقيقةِ الشيء الَّذي يدَّعون العلم به، وذلك عبر تأكيده لهم من خلال الحوار أنهم لا يستطيعون تعريفَ ذلك الشيء تعريفًا دقيقًا ثابتًا "( ) ؛ وكأنه بهذا التصورِ جاء لكي يعيدَ الثقة إلى نفوس المفكرين، فبدأ بحملةٍ من التحدي والجدل، واجه بها شكوكَ السوفسطائيين وتلاعبهم بالألفاظ، ولا ريب أنَّ محور جهوده قد دار حول تحديد الألفاظ المتداولة في الدراسات الفلسفية ( ) . فحاول سقراط (ت399 ق.م) جاهدًا هدمَ شكوكِ السوفسطائيين وأغاليطِهم، فعَمِلَ على تحليلِ بعض المفهومات، والمصطلحات الأخلاقية، فبحث في تعاريفَ لألفاظٍ أخلاقية واجتماعية، مثل: الشجاعة، والعدالة، والتقوى، وضبط النفس، والصداقة، وخصص لكلَّ منها محاورة لِمَا لهذه التعريفات الدقيقة للألفاظ من قيمة كبيرة في التفكير الصحيح ( )، والمتأمل في محاورات سقراط ومناقشاته يجدها مليئة بتحديدات الألفاظ وتعريفاتها، ويمكننا التحقق من اهتمام سقراط بالتعاريف؛ وذلك من خلال أسلوبه الشهير في الحوار كما يتجلى في عددٍ من محاورات أفلاطون لا سيما السقراطية منها، فهو لم يهدفْ في أي من هذه المحاورات إلى بسطِ مذهب خاص به سواء أكان ذلك في الصداقة أم العدالة أم التقوى ... بل كان هدفه يقتصر على توخي الدقة في تحديد المفاهيم التي يدور عليها الحوار ( ). وإذا طالعنا إحدى المحاورات الأفلاطونية، ولتكن على سبيل المثال محاورة " أوطيفرون "، فإنه يجدها تبدأ بطلبِ إعطاء تعريف لمفهومي التقوى والفجور، فيقول : " سقراط: وما التقوى وما الفجور ؟ أوطيفرون : التقوى أنْ تفعلَ كما أنا فاعل( )، أعني أن تقيمَ الدعوى على كلِّ من يقترف جريمة القتل أو الزندقة أو ما إلى ذلك من الجرائم، سواء أكان أباك أم أمك أم كائنًا من كان" ( ). ثم يناقش سقراطُ أوطيفرون موضحًا له أنَّ كلامه لا يُعدُّ حدا للتقوى أو الفجور؛ ومن ثَمَّ يطلب منه ثانية أن يخبره عن مقصوده بهذين المصطلحين، فيقول أوطيفرون : " إذن فالتقوى هي ما هو عزيز لدى الآلهة، والفجور ما ليس بعزيز لديهم "( ) . وهكذا يستغرق النقاشُ فترة طويلة؛ للبحث عن حد جامع مانع للألفاظ المستعملة في الحوار . ومما ينبغي أن يُدركَ هو أنَّ سقراط هو " الرجلُ الذي جرؤ على السؤالِ عن الأشياء في حقيقتها لا في مظاهرها، مركزًا همه الكبير في السؤال عن ماهيتها وهويتها، معتبرًا الحكمة أو الفلسفة هي الأصل في البحث عن هذه المعرفة المتعالية. وإنَّ هذه المعرفة هي الَّتي تصوغ الإنسان الفاضل عند استكشافه لتلك الحقائق الخفية في ثنايا عقله، وبواطن شعوره، مبتدئًا من البسيط إلى المركب، ومن السهل إلى المعقد سالكًا طريقين في منهجه هذا نحو استخراج المعاني الحقة أولهما التهكم : وهو السؤال مع تصنع الجهل كي يمهد إلى ما هو صحيح دافعًا جانبًا الخطأ والضلال بتدرج منطقي يصل إلى المرحلة الثانية، وهي التوليد حيث يعمل على استخراج الحد أو المعنى السليم من نفس صاحبه، فيصوغ – عندئذٍ- الدلالة التي يريد، والمفهوم الَّذي يقصد"( ) . وتبعًا لهذا فإنَّ منهجه هو الحوار الاستنباطي( ) القائم على التهكم والتوليد؛ وذلك من أجل الوصول إلى تحديد الماهيات، ولهذا يعزو إليه أرسطو المعلم الأول (ت 322ق.م) أنه صاحب الحد الكلي ومنهج الاستقراء – وهو الانتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن صغار الأشياء إلى كبارها للوصول إلى المعنى الكلي أو الماهية، وهذا ما يطلق عليه مسمى فلسفة سقراط التصورية ( ) . وفي ضوء هذه المنهجية بدأ ينظر ويبحث : هل توجد معان أخلاقية كلية أم لا ؟ فاهتدى إلى طريقة بمقتضاها ينظر إلى الأشياء الجزئية، ثُمَّ يميز ما في هذه الأشياء الجزئية من مشابهات ومشاركات، فيرتفع منها إلى ما يسميه بالتعريف أو الحد الكلي ( ) . ويمكنني - في ضوء ما سبق - أن أحدد أهم ملامح منهج سقراط في تحديد الألفاظ والمصطلحات، وذلك فيما هو آت : ( ) 1- يُعَدُّ سقراط أول من طلب الحد الكلي؛ حيث كان يبدأ من الجزئي إلى الكلي، ومن الأفراد إلى الأنواع، وذلك في نظرة استقرائية، ولعلَّه – بلا أدنى شك في هذا المقام – هو رائد الحدود والماهيات، بل هو موجد فلسفة المعاني التي لعبت دورها الواسع في نظرية التعريف أو الحد منذ العصر اليوناني وحتَّى مرحلتنا المعاصرة . 2- لقد استطاع سقراط (ت399 ق.م) أنْ يضع اللبنة الأولى في بناء فن الديالكتيك( )، وذلك عندما حاول أن يصل إلى مفهومٍ واحد ثابت للفضائل المختلفة من خلال الحوار والمناقشة مع محاوريه . 3- كان سقراطُ (ت399 ق.م) في منهجه هذا يحرص كل الحرص على تحديد الألفاظ والمعاني التي تحتويها، خلافًا لأدعياء العلم ومنتحليه، الذين كان عدم التحديد يتيحُ لهم الفرصة للانحراف عن المعنى المقصود، بل يصلُ الأمرُ إلى ذروته عندما يلجأون إلى المغالطة والتشكيك في الحقائق . 4- إنَّ الأمرَ الرئيسَ الذي استطاع سقراطُ (ت399 ق.م) تحقيقه لنا في بحثه عن التعريفات والحدود من خلال محاوراته المختلفة ينهضُ على أنَّ المعرفة الخلقية لا تكون معرفة صادقة إلا بالحد والتعريف، ومن هنا فإنَّ تعريفَ المفاهيم الذي يسعى إليه سقراط (ت399 ق.م) يدخلُ في إطارِ منهاجٍ عام في التفلسفِ هو منهج التحليلُ اللغوي. 5- لقد اجتهد سقراط (ت399 ق.م) في تحديد معاني الألفاظ والمصطلحات الفلسفية، وكان حريصًا على أنَّ يكون هذا التحديد جامعًا، وقد اتكأ في منهجه على دعامتين هما: أنَّ الحد يُكتسب بالاستقراء، ويركب القياسُ بالحد، وبذلك يكون سقراط قدْ مهد السبيلَ إلى وضعِ أسس المنطق ومبادئه، فقد وردت إشارات عن علم المنطق في مناقشاته التي كان يُلح فيها دائمًا على وضع تعريفات للأشياء . 6- وقد تركت آثار سقراط (ت399 ق.م) في مترجميها أعمقَ الأثر، ولعلَّ من أبرز هؤلاء المترجمين الدكتورَ زكي نجيب محمود الذي انتهى في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين من ترجمة المحاورات السقراطية ، فإذ به يقولُ حاكيًا عن نفسهِ : " كانت تلك الوقفةُ مع شخص سقراط كما تجلى في محاوراته تلك هي بمثابةِ الخطوة الأولى على طريق تربيته تربية منهجية تمهد له السبيل إلى نشاط فكري مستقيم؛ وذلك أنَّ الفيلسوفَ قد حاول مع محاوريه – لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني – أنْ يحددوا معاني الكلمات التي يستخدمونها في مجالات الحياة الجارية، وإلا فهل يُعقل أن يتحدثَ ناقدٌ عن أثر من آثار الفن وهو لا يدري بأي الخصائص يتميز الفن ؟ وهل يُعقل أن يتشدقَ سياسي بالديمقراطية، حتّى إذا ما سُئل عن الديمقراطية عَجَزَ عن الجواب ؟ "( ). 7- إنَّ نظريةَ سقراط (ت399 ق.م) في المعرفة وارتباطها الوثيق بالأخلاق تتلخص في أنه إذا عَرَفَ الإنسانُ كيف يحدد معنى اسم ما يطلق على فضيلةٍ معينةٍ مثل التقوى أو العدالة تحديدًا دقيقًا كتحديد حقائق الأشكال الرياضية( المثلث، أو النقطة)، فإنه يصبحُ محالًا عليه أن يقترفَ ما يخالفها، بلْ إنَّ هذا التحديدَ كفيلٌ للعارف أن يجتنبَ ما ينقضُ هذه الفضيلة أو تلك. فسقراط (ت399 ق.م) – إذن - صاحب رسالة حيوية تهدفُ إلى تعليم الشباب والشيوخ كيف يفكرون ويسلكون حياتهم بالحوار والمناقشة، وإلقاء الأسئلة، وسماعِ الإجابات، وكشف الأخطاء وتصحيحها، أي أنه أراد أن يعلمهم الدقةَ في التفكير بمحاولةِ إعطاء تعريف صحيح لكلِّ كلمةٍ يستخدمونها، وبتوجيههم نحو النقد الذاتي ونقد الآخرين حتّى يصلوا إلى العلم الصحيح، واكتساب حياة فاضلة عمادها الأخلاق الطيبة ( ). وقد استمرت العناية بتحديدِ الألفاظ فيما بعد سقراط، فكانتْ جهودُ أفلاطون( ت 347 ق.م ) خيرَ تعبير عن استمرار هذا التيار " فقد راح تحت رعاية سقراط وإرشاده، ينتقلُ من مجرد النقاش إلى تحليلات دقيقة، ومحادثات مثمرة، وأصبح شغوفًا بالحكمة، وبمعلمه سقراط " ( ). وقد انتهج أفلاطون ( ت 347 ق.م ) أسلوبَ الحوار في محاوراته التي كانت تدور – غالبًا - على لسان سقراط، والتي كان يدافع فيها عن قيم أخلاقية عالية، ومُثُل سامية، وقد كان هذا الحوارُ دافعًا ومحفزًا على التأمل العقلي، والاستنباط الذاتي للمعرفة؛ وذلك عن طريقِ فيض من الأسئلة التي كان يطرحها أفلاطون على لسان سقراط ( ) .
#عادل_سالم_عطية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا يحدث في دمشق بعد عملية طرطوس الأمنية؟
-
أذربيدجان تقيم يوم حداد وطني غداة مقتل 38 شخصا في حادث تحطم
...
-
لقطات جوية لشاطئ دينامو في أنابا بعد كارثة بيئية
-
سلطات البوسنة والهرسك تعتقل وزير الأمن
-
إغلاق مضيق البوسفور أمام حركة السفن
-
-كلاشينكوف- تختبر مسيّرة عسكرية ضاربة
-
في اليوم الـ447 للحرب: الرضّع يتجمدون من البرد في غزة واليون
...
-
القضاء الإداري يقبل طعن المبادرة ضد إلغاء انتداب موظفة بالمج
...
-
-يجب علينا ألا ننتظر ترامب لإتمام الصفقة مع حماس- - هآرتس
-
وفد استخباراتي عراقي يزور دمشق للقاء الشرع (صور)
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|