|
بؤس المثقف وثقافة البؤس.. د. رفيق حبيب نموذجا
هانى جرجس عياد
الحوار المتمدن-العدد: 3867 - 2012 / 10 / 1 - 13:13
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
القراءة الأولى لدراسة د. رفيق حبيب بعنوان «البديل الإسلامى.. هل من بديل»، هى نموذج صارخ للثقافة البائسة، أنتجها مفكر مرموق متمكن من أدواته، إلا أنه قرر -فى لحظة بائسة- أن يسخر المثقف فيه لخدمة السياسى. وعندما يصبح الباحث والمفكر د. رفيق حبيب فى خدمة الأخ رفيق حبيب نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، فهو يقدم لنا نموذجا نموذجيا لبؤس المثقف والثقافة، فى تزامن مع أجواء أشد بؤسا راحت تخيم على البلاد منذ لاحت فى الأفق مؤشرات استحواذ الإسلاميين على السلطة، بعد ثورة يناير 2011. المرجعية الإسلامية.. لماذا هى أصلية؟ دون أى جهد فكرى يبحث فى المقدمات ليستخلص النتائج، يقفز الباحث/الأخ رفيق حبيب مباشرة إلى نتيجة مفادها أن «سقوط الأنظمة المستوردة الملتحقة بالغرب بسبب ثورات الربيع العربى، يؤدى إلى استعادة النظام الأصلى، أى المرجعية الإسلامية»، ما هى المرجعية الإسلامية؟ (سنعود إلى هذا السؤال لاحقا)، ومن قال إن هذه المرجعية هى «النظام الأصلى»؟ لا يعنى ذلك أننا نرفض أو نقبل ما توصل إليه حبيب، لكننا نتساءل –مجرد تساؤل- كيف توصل حبيب إلى هذه النتيجة القاطعة؟ لا يقدم الباحث أية إجابة، تاركا القارئ الذى لم يطوع ذاته لخدمة السياسى، يبحث بنفسه عن الإجابات. هل يعود اعتبار «المرجعية الإسلامية» هى المرجعية الأصلية، إلى حقيقة أن مصر كانت من بين البلدان التى طالها الفتح الإسلامى، فكانت فى زمن ما وفى ظروف ما، جزءا من الدولة الإسلامية؟ وهل يعنى ذلك أن علينا أن ننتظر عودة كل بلدان الدولة الإسلامية، من أسبانيا وحتى الصين، إلى مرجعيتهم الأصلية، الإسلامية؟ أم أن المرجعية الإسلامية هى الأصلية لأن أغلبية المصريين، والعرب عموما، ينتمون إلى الدين الإسلامى؟ هل الانتماء الدينى، وهو موروث، يفرض ويحدد بالضرورة الانتماءات الإيديولوجية و«المرجعية»، وهى اختيارات واعية، يذهب إليه الفرد بمحض إرادته متحررا من كل الضغوط الاجتماعية والمجتمعية، وبما يعنى أن المرجعية قدر لا فكاك منه؟ وإذا كان الباحث/الأخ حبيب قد اختار لنفسه المرجعية الإسلامية، وهو مسيحى الديانة، فلماذا ينكر على المسلمين حقهم فى اختيار مرجعيات أخرى لا علاقة لها بانتمائهم الدينى؟ أم أنه انصاع إلى المرجعية-القدر دون أن تكون لديه القدرة على الاختيار الحر الواعى، وبالتالى دون قناعات حقيقية؟ ثم قبل ذلك وبعده، هل صعود المرجعية الإسلامية بعد سقوط «الأنظمة المستوردة الملتحقة بالغرب» هو ضرورة حتمية؟ نتيجة تلقائية؟ عملية ميكانيكية؟ كيف يمكن البرهنة على ذلك وإثباته؟ ولماذا لم يبذل الباحث/الأخ رفيق حبيب بعض الجهد الفكرى لإثبات مقولاته؟ وإذا كان هو فى موقعه السياسى يراها مسلمات، فما الذى يجبر الآخرين على التسليم بها؟ البديل والأصلى: نزاع.. وتكامل؟ يرى الباحث/الأخ رفيق حبيب أن الواقع فى مصر لم يكن نزاعا بين نظام مبارك وجماعة الإخوان المسلمين، بل كان نزاعا بين المرجعية الغربية المستوردة والمرجعية الإسلامية الأصيلة، وهذا –من وجهة نظره- يمكن أن يقودنا إلى التحديد الأفضل لمسار التحولات بعد الربيع العربى. علينا أن نعترف هنا بدقة تشخيص الباحث لطبيعة العلاقة بين «نظام مبارك المستورد» والجماعات التى تمثل «المرجعية الإسلامية الأصيلة»، فما كان بين الطرفين نزاع وليس صراعا، اختلاف فى وجهات النظر أو فى بعض القضايا الثانوية، وليس تناقضا جوهريا يعكس اختلافات جوهرية، لا تحتمل حلول وسط ولا تقبل المساومة. والقراء السريعة –غير المتسرعة- لمسارات العلاقة بين القوى الإسلامية ونظام مبارك، تكشف لنا أن هذا الأخير قد استفاد من تجربة الرئيس الأسبق أنور السادات، الذى أطلق سراح الإخوان المسلمين، وقد كانوا وحدهم على الساحة آنئذ، ومنحهم حرية العمل، معتقدا أن حجب الشرعية القانونية عنهم، كفيل بإبقائهم تحت السيطرة أو «صباعهم تحت ضرسى» حسب التعبير الشائع المنقول عنه. لكن ما حدث أن الجماعة نمت وترعرعت وتفرعت وأصبح لها أذرع متعددة، استطاعت استخدام أحدها للقضاء على السادات نفسه، وكان مبارك شاهدا، وكان أيضا مستفيدا من التجربة وما تضمنته من رسائل وخبرات. والحاصل أن مبارك، وقد وجد نفسه يعبر فوق جثة رئيسه المقتول بجواره، إلى القصر الرئاسى، اكتشف أن حجب الشرعية وحده لا يكفى لإبقاء «صباعهم تحت ضرسه»، فراح يتعامل مع القوى الإسلامية المختلفة وفق نظرية «الانفراد والتقليم»، الانفراد بالجماعة الأم، مع العمل المستمر على تقليم أظافرها، وبما يحمى الرئيس من «خربشة» قد تودى بحياته، مثلما حدث مع السادات، ويجعل منها –فى الوقت نفسه- فزاعة تخيف الغرب وتدفعه للموافقة على مشروع التوريث، أو على الأقل عدم الاعتراض عليه، وخصوصا بعد أحداث سبتمبر 2001، التى ضربت قلب الولايات المتحدة وأصابت الغرب مجتمعا بما هو أكثر من الفزع. وكذلك خرجت كل القوى الإسلامية من الساحة، ولم يبقى سوى الإخوان (الجماعة الأم)، التى ظلت تخضع باستمرار لعملية «تقليم أظافر» -اعتقالات، محاكمات عسكرية، مصادرة أموال..الخ... «الجماعة الإسلامية» وتحت وطأة التعذيب، أو بإغراء الترغيب، استجابت للترويض وتراجعت عن مبدأ القتل والترويع، ونبذت أفكار تكفير المجتمع والحاكم، وذلك فى إطار ما اصطلح على تسميته «مراجعات فقهية»، ويبدو لافتا أن تلك المراجعات «الفقهية» لم تجر بالتشاور مع فقهاء الإسلام وعلمائه، بل تحت إشراف ورقابة اللواء الراحل أحمد رائف نائب رئيس جهاز أمن الدولة. وتحولت إلى جماعة لينة يحركها النظام، بيد حبيب العادلى وحسن عبد الرحمن، كما يشاء وقتما يشاء. ولم تشذ الجماعة السلفية عن المسار، فقد استسلمت بدورها للتطويع، واكتفت بما منحه لها النظام من مساحة عمل خدمى واجتماعى، مقابل ضمان استقرار النظام وتوريث الحكم، وقد بقيت الجماعة على عهدها للنظام حتى أيام الثورة الأولى، حيث أبلوا بلاء حسنا فى الدفاع عن مبارك ونظامه، فخرج قادتها ورموزها الكبار يصفون الثورة بأنها فتنة وخروج على الحاكم، واستعانوا بكل ما فى جعبتهم من فتاوى عن المفسدة الكبرى والمفسدة الصغرى، مطالبين الثوار بالعودة إلى منازلهم درءا لشرور المفسدة الكبرى، وليبقى مبارك وولده فى السلطة، فتلك هى المفسدة الصغرى. أما الإخوان المسلمين، أكبر القوى الحامية للمرجعية الإسلامية حسب د. حبيب، فلقد تقبلت بروح رياضية وصدر رحب ما تعرض له أعضاؤها من اعتقالات ومحاكمات عسكرية ومصادرة أموال (تقليم مستمر للأظافر)، مدركة أن النظام يستخدمها، موافقة على لعب الدور، ناظرة إلى النصف الأخر من الكوب، حيث تتمتع بعلنية الوجود دون شرعيته، وتنعم بحرية الحركة والعمل دون رخصته، وعلى مدى ثلاثين عاما، يصعب على الباحث المدقق أن يعثر على موقف «إخوانى» واحد معارض للسياسات الاقتصادية الاجتماعية التى انتهجها نظام مبارك «العلمانى المستورد»، وخياراته وتوجهاته السياسية، فضلا عن مشروع التوريث، بينما يمكن للتابع المعادى أن يقع على عشرات المواقف والتصريحات «الإخوانية» المؤيدة لمبارك شخصيا وولده. (لمزيد من التفاصيل فى هذا الجانب، يمكن مراجعة مقالنا «والإخوان أيضا فلول» المنشور يوم 30 مايو 2012، موقع الحوار المتمدن). فإذا ما حلت «المرجعية الإسلامية الأصيلة» محل «النظام العلمانى المستورد» فإن شيئا لن يتغير، فقط مجرد أن تقلب العملة على وجهها الأخر. وكذلك فإن الثورة التى أبهرت العالم بإسقاط مبارك، تعود لتبهره مرة أخرى بإعادة مبارك، ملتحيا، إلى السلطة، وهكذا تكون مسارات الربيع العربى قد نجحت وحققت أهدافها عند الباحث/الأخ رفيق حبيب. الأصيل والمستورد.. وفقط!! تنقسم الصورة عند رفيق حبيب إلى شقين لا ثالث لهما، مرجعية إسلامية أصيلة فى مواجهة نظام علمانى مستورد تابع للغرب، فلا يعود بوسع أحد أن يجد مكانا للمرجعية الإسلامية السعودية، التابعة للغرب بامتياز، ولا للمرجعية الإسلامية عند طالبان التى نشأت وترعرعت فى أحضان المخابرات المركزية الأمريكية، ولا يستطيع أحد أن يصنف الهرولة الإسلامية برعاية جميع المرجعيات الإسلامية -العربية والعالمية، لنصرة أفغانستان فى مواجهة الاحتلال السوفييتى، بينما فلسطين، بما فيها من مقدسات إسلامية، تعانى من احتلال استيطانى صهيونى دون أن تجد من ينصرها فى كل المرجعيات الإسلامية، ببساطة لأن «المتبوع» الغربى كانت له مصلحة فى قتال السوفييت فى أفغانستان، فاستجابت كل المرجعيات الإسلامية مهرولة إلى هناك، بينما المتبوع ذاته يبسط حمايته على إسرائيل فلا يعود بمقدور أيا من المرجعيات الإسلامية الأصيلة، أن يتذكر فلسطين، فضلا عن أن يحارب من أجل نصرتها!!. ثم إذا كان الرئيس الإخوانى محمد مرسى قد أعلن براءة الجيش من قتل الثوار (لم تجر أية تحقيقات حتى الآن مع العسكر) بعد أن سبق له تكريم قادة المجلس العسكرى (رجال مبارك) بالأوسمة والمناصب، وإذا كان الإخوانى سعد الكتاتنى عندما أصبح رئيسا لمجلس الشعب، احتفظ بكل مساعدى فتحى سرور، وإذا كانت وزارة الدكتور مرسى الأولى جاءت مزيجا (متجانسا فى الواقع) من الإخوان ورجال نظام مبارك، أقول إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فأين يمكن أن نضع تنظيرات الدكتور/الأخ رفيق حبيب عن المعسكرين المتنازعين، معسكر المرجعية الإسلامية الأصلية، والإخوان المسلمين أكبر القوى الحامية له، فى مواجهة معسكر نظام مبارك العلمانى المستورد من الغرب؟ لكن بؤس المثقف عند رفيق حبيب يصل إلى إحدى ذراه المأساوية عندما يرفض الفكرة العلمانية فقط لأنها فكرة مستوردة، وهو مبرر قد يليق بطغاة ومستبدين، وأجهزة استخبارات، فضلا عن دعاة الفضائيات فى عصر الريال والدينار، لكنه لا يليق على الإطلاق بمفكر وباحث، كان يتعين عليه تشريح وتفنيد الفكرة العلمانية ليصل إلى نتيجة أنها لا تصلح لنا فى بلاد «المرجعية الإسلامية». ثم تكتسب المفارقة بعض أبعادها الدراماتيكية المثيرة عندما نكتشف أن المفكر والباحث يرفض الأفكار والنظريات «المستوردة» من الغرب، لكنه يتعايش –فى نفس الوقت- بأريحية وضمير مستريح مع المنتجات المادية «المستوردة» أيضا من الغرب. ما أنتجته الحضارة الغربية من فكر وثقافة رجس من عمل الشيطان، حرام، ممنوع، مستورد، بينما ما أنتجته من أجهزة كومبيوتر ومحمول وسيارات تكييف، مطلوب ومرغوب ومحبوب، وربما يقودنا –أيضا- إلى الجنة. أكذوبة صراع الحضارات إذا كان من حق الباحث/الأخ رفيق حبيب أن يستعير فكرة صراع الحضارات ويصور لنا الحضارة الإسلامية فى صراع حاد مع الحضارة الغربية، وإذا كان من حقه أيضا أن يبشرنا بعودة الحضارة الإسلامية للنهوض مجددا، فقد كان من واجبه –أولا- أن يرصد لنا بعض مظاهر وأشكال ذلك الصراع بين الحضارتين، الإسلامية والغربية، ما هى أشكاله؟ وسائله؟ أساليبه؟، كما كان من واجبه –ثانيا- أن يقول لنا من أية نقطة سوف تستأنف الحضارة الإسلامية نهضتها؟ هل من النقطة التى توقفت عندها قبل أكثر من سبعة قرون؟ أم من حيث وصلت إليه – حتى الآن- الحضارة الغربية؟ إن فكرة صراع الحضارات التى يقيم عليها الدكتور حبيب بناءه الفكرى، هى فكرة هشة، تحمل تناقضاتها فى داخلها، إذ لا يوجد فى العالم سوى حضارة إنسانية واحدة، والصراع الدائر فى العالم هو صراع ثقافات وليس صراع حضارات، وما اصطلح على تسميته حضارة إسلامية، بدأت من حيث انتهت إليه «الحضارات» السابقة على قيام الدولة الإسلامية، مستفيدة مما توصل إليه العقل البشرى، منذ عصر الفراعنة وحتى الدولة اليونانية والرومانية، من علوم وآداب وفنون وعمارة، إذ ليس من المفهوم كيف يمكن أن تكون هناك حضارة «إسلامية» مستقلة وقائمة بذاتها، وقد قامت على ما أنتجته شعوب ودول لم تعرف الإسلام أصلا، كما ساهم فى نموها وازدهارها كثير من غير المسلمين؟. وعندما بدأت النهضة الأوربية، بدأت من النقطة التى توقفت عندها الحضارة «الإسلامية»، ووصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. وفيما لو قدر لتخمينات الدكتور حبيب أن ترى النور، وشهدنا استئناف مسيرة «الحضارة الإسلامية»، فالمؤكد أنها لن تبدأ من حيث انتهى ابن الهيثم وابن سينا وابن النفيس والخوارزمى، بل من حيث وصل أحمد زويل وبيل جيتس وستيف جوبز. الحديث عن حضارات مختلفة، فضلا عن كونها متصارعة، لا يسنده شيء فى الواقع، بل يتناقض مع حقائق التاريخ. «المرجعية الإسلامية».. هل من معنى؟ مصطلح المرجعية الإسلامية واحد من المصطلحات التى استخدمها د. حبيب دون أن يقول لنا ما الذى يقصده ويعنيه منها، فالمصطلح مازال حديثا، ولم يستقر بعد على معنى متفق عليه، وبالأخرى فإن أحدا حتى الآن لم له تعريفا ولا معنى، ولم يسبق أن وضع فى محل اختبار وتجريب، مثلما هو الحال مع مفاهيم الاشتراكية والرأسمالية، وحتى الناصرية حديثة العهد. وتزداد أهمية تحديد ما هو المقصود بمصطلح المرجعية الإسلامية عندما تصبح هذه المرجعية –عند د. حبيب- أساسا لبناء دولة، ومظلة لاستئناف حضارة وقاعدة لنهوض أمة، فنحن لا نعرف كيف يمكن للمرجعية الإسلامية أن تنهض بالبحث العلمى، وتوفر مقومات تطوير العلوم الطبيعية والأحياء وتقدم إسهاماتها «الإسلامية» فى تطوير وإغناء ثورة الاتصالات التى تجتاح العالم، ثم ماذا عن طبيعة نظام الحكم الذى يتوافق مع «المرجعية الإسلامية»، هل هو نظام الشورى «وأمرهم شورى بينهم»؟ وفى هذه الحالة ما هو الإطار المؤسسى لممارسة الشورى؟ أم أنه توريث وفق قاعدة «المُلك العضوض» و«الرداء الذى ألبسنيه الله» التى حكمت مسار الدولة الإسلامية بعد عصر الخلفاء الراشدين، وهى القاعدة التى أثبتت نجاحا فى توسيع رقعة الدولة وقيام ما سمى بعد ذلك «الحضارة الإسلامية»، وفى هذه الحالة ما هى القواعد والأسس التى تضعها «المرجعية الإسلامية» لاختيار الحاكم الأول الذى سيؤول الحكم بعدها لأبنائه، أو بالأحرى اختيار العائلة التى ستصبح «الحاكمة»؟. لكن ربما كان الأولى والأكثر إلحاحا الآن أن نعرف كيف يمكن للمرجعية الإسلامية حل مشاكل البطالة والغلاء والتعليم والعلاج والسكن... إلى أخر ما هنالك من مشاكل وأزمات ترهق كواهل المصريين؟. غاية ما صدر عن الجماعات الإسلامية، وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، حامية حمى المرجعية الإسلامية، مجرد أحاديث إعلامية متناثرة –لا ترقى حتى إلى مستوى مقالة صحفية- عن الشريعة الإسلامية، وليس عن المرجعية الإسلامية، اقتصرت على منع الخمور وتحريم المايوهات وقطع يد السارق، وعندما أصبح الإسلاميون فى البرلمان، أضيف إلى تلك المهام دعوة لإلغاء تعليم اللغة الإنجليزية وتشفير القنوات الإباحية. وقد كان متوقعا من الباحث والمفكر د. رفيق حبيب أن يشرح ويُشَرِح مفهوم «المرجعية الإسلامية» ومدى ارتباطه بالشريعة من جانب، وكيفية تعاطيه مع كل هذه القضايا، تمهيدا لاستئناف مسير الحضارة الإسلامية من جانب آخر، لكن لسوء الحظ جاءنا الأخ رفيق حبيب ليغرقنا بحديث طويل عن «المرجعية الإسلامية» دون أن يقول لنا شيئا من هذا، قال كثيرا لكنه لم يقل شيئا. التيار السائد وتخريجات المثقف البائس مهمة الباحث والمفكر لا تقف عند حدود سك المصطلحات وطرحها للتداول، لكنها تمتد بالضرورة لتوضيح معنى المصطلح والمقصود به، لكن د. حبيب لا يكتفى بطرح المصطلحات الغامضة، بل يسحب القارئ معه فى جولة، هى أقرب إلى المتاهة، يكف بعدها هذا الأخير (القارئ) عن التفكير فيما يعنيه الكاتب، وحسبه أن يخرج سالما من تلك المتاهة. مصطلح «التيار السائد» هو النموذج لما يفعله صاحبنا بالمصطلح والقارئ معا. فى أول ظهور لمصطلح «التيار السائد» يبدو أن معناه هو التيار الذى يكشف عن ذاته عبر صناديق الانتخاب (يطلق عليها الباحث التجربة الديمقراطية!!)، لكن سرعان ما يتبين للقارئ أن «التيار السائد» الذى أفرزته صناديق الانتخاب فى «التجربة الديمقراطية» الأولى حصرا وتحديدا، يبقى سائدا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، بصرف النظر عما يمكن أن تأتى به الصناديق فى «تجارب ديمقراطية» لاحقة من نتائج مختلفة جذريا. وكأنى بالباحث يغنى مع الشاعر القديم «إنما الحب للحبيب الأول». عند هذا الحد لا يعود مجديا إعادة تذكير الدكتور حبيب أن نتائج الانتخابات (أية انتخابات) ليست شهادة صلاحية للحكم، بقدر ما هى تصريح بدخول تجربة الصلاحية. لكن لماذا التجربة الديمقراطية الأولى تحديدا، وليس الثالثة أو الرابعة، على الأقل حتى يكون الشعب قد اعتاد ممارسة الديمقراطية، بعد حرمان طال وامتد لسنوات وعقود؟، ويكون بالتالى قد رأى ولمس النتائج العملية لاختياراته؟ لا يقدم د. حبيب إجابات، وإن كان ليس عصيا أن يربط القارئ بين هذا التحديد القاطع القطعى لاختيارات التجربة الديمقراطية الأولى تحديدا دون غيرها، وبين ما أسفرت عنه صناديق من نتائج فى تلك التجربة، وبما يعنى أنه كان من الصعب على الباحث أن يصل إلى تلك النتيجة القطعية، فيما لو كتب ما كتبه قبل الانتخابات البرلمانية، تماما مثلما كان من الصعب عليه أن يصل إلى ذات النتيجة فيما لو كانت نتائج «التجربة الديمقراطية الأولى» قد جاءت بغير ما جاءت به من نتائج. بهذا الفهم لمعنى «التيار السائد»، لا يعود مهما أن تتراجع الأصوات التى حصلت عليها القوى الإسلامية، من 18 مليون صوت فى الانتخابات البرلمانية إلى خمسة ملايين صوت فى الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، حيث أن نظرية التيار السائد كفيلة بتكبيل الملايين الثمانية عشر، وتكبيل الوطن أيضا، بالاختيار الأول، حتى لو تراجع 13 مليون منهم، واعترفوا بخطأ اختيارهم، واتجهوا نحو خيارات أخرى، فلقد أصبح الجميع، الوطن والشعب والثقافة والسياسة والعلاقات الاجتماعية والمستقبل، أسرى الاختيار الأول، ولا معنى ولا قيمة لتراجع أصحابه عنه واعترافهم بحماقة اختيارهم. (لاحظ أننا نغض البصر عن ما يقرب من 25 مليون مواطن، لم يجدوا فى مرشحى جولة الإعادة الرئاسية من يمثل طموحاتهم وأمانيهم، فكان خيارهم الامتناع عن التصويت أفضل من انتخاب مرشح الإخوان!!). وكذلك تصبح نظرية «التيار السائد» -عند الباحث الأخ- بمثابة الباب الملكى الذى ينفذ منه الإسلاميون، وقد أصبحوا تيارا سائدا، لكتابة الدستور الذى يريدون وتشكيل هوية الوطن وتحديد طبيعة الحكم حسب هواهم، أو حسب هوى «المرجعية الإسلامية»!! دون أن يكون من حق أية أغلبية لاحقة أن تعيد النظر فيما كتبه وما استقر عليه الإسلاميون، بعدما اكتسبوا، مرة وإلى الأبد، صفة «التيار السائد» عام 2012. البديل الإسلامى بين الفشل والإفشال يحذر الباحث/الأخ رفيق حبيب من مؤامرات علمانية يسارية ليبرالية تستهدف إفشال البديل الإسلامى، مستعيرا منهج الباحث د. عبد المنعم سعيد (وهو بدوره باحث مرموق، طوع ذاته لخدمة انتمائه للحزب الوطنى ولجنة جمال مبارك للسياسات) الذى كان يلقى بمسئولية فشل حكومات مبارك، وخاصة حكومة د. أحمد نظيف، على عاتق المعارضة، وخاصة الناصرية والشيوعية، والتى يعلو صوتها بمعارضة من أجل المعارضة، حسب قوله، الأمر الذى يؤدى إلى تشوش الحكومة وارتباكها وعجزها بالتالى عن تنفيذ برامجها التنموية. لم يكن بوسع الدكتور عبد المنعم سعيد، وقد سخر الباحث فيه لخدمة السياسى، الاعتراف أن الفشل لم يكن فى حكومة أحمد نظيف، وإنما فى البناء الهيكلى للنظام الحاكم وتوجهاته الاقتصادية الاجتماعية، فلم يجد أمامه سوى أن يحصر الفشل فى الحكومة، ويلقى بمسئوليته على ما أسماه ضجيج المعارضة. ولا غرابة عندى أن يسلك الباحثان (عبد المنعم سعيد ورفيق حبيب) نفس الطريق، ويستخدمان ذات الأدوات، ويتوصلان إلى ذات النتائج، ليس فقط لأن كليهما قد طوع الباحث فيه لخدمة السياسى، لكن لأنهما أيضا ينتميان إلى وجهى العملة الواحدة، العملة الرديئة التى ليس لديها القدرة على، أو الرغبة فى حل مشاكل الجماهير، وإعادة بناء الوطن، وليس من قبيل المصادفة أن الفريقين استخدما شعارات بدت براقة وجاذبة للناس لكنها أثبتت فشلا ذريعا عندما جاء أوان وضعها فى التطبيقى العملى، وإلا فعلى من يشاء أن يثبت لنا الفارق بين «مصر بتتقدم بينا» و«الإسلام هو الحل»!! الثورة والبديل الإسلامى لا أعرف أين كان الدكتور رفيق حبيب خلال أيام الثورة الثمانية عشر، لم يقل الرجل إنه كان فى ميدان التحرير، ولم يشاهده أحد هناك، فى حدود ما أعلم، لكن فى عصر ثورة الاتصالات، الغربية المستوردة أيضا، لم يكن ضروريا أن يذهب المرء إلى ميدان التحرير ليعرف أن الشعب الثائر خرج مناديا ومطالبا بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، ويعرف الجميع أن هذه شعارات يسارية اشتراكية علمانية بامتياز، تلتقى عندها –أيضا- بعض قوى يسار اليمين، وقوى الرأسمالية «الرشيدة أو العاقلة»، فيما لو جازت التسمية، بينما أظن أنه ليس بوسع الدكتور رفيق حبيب أن يقدم لنا وثيقة واحدة صادرة عن أى من الجماعات الإسلامية (حامية حمى المرجعية الإسلامية)، منذ تأسيس الإخوان المسلمين عام 1928 وحتى ثورة يناير 2011، تتضمن أيا من هذه المطالب. ورغم وجود الإسلاميين، قادة وقواعد، فى ميادين الثورة خلال الأيام الثمانية عشر، إلا أن أحدا لم يسمع أى هتاف إسلامى، وأحدا لم ير لافتة واحدة مرفوعة بمطلب أو شعار إسلامى، رغم أن بعض من هم أكثر حماسا من الإسلاميين حاول أن يفعل ذلك، لكن عملية إسكاته كانت دائما أسرع من قدرته على إكمال الشعار أو الهتاف الذى كان يريد إطلاقه، والمفارقة أن الإسلاميين أنفسهم كانوا دائما فى مقدمة من يتصدى لإسكات هذا الإسلامى الأكثر حماسا، وكان منطقهم الواعى والعقلانى أن مثل هذه الشعارات سوف تؤدى إلى إخافة الناس من التيارات الإسلامية ونواياها، فضلا عن أنه ليس مطلوبا (الآن) أدلجة الثورة (وقد أصبح هذا مطلوبا بعد سقوط مبارك، وبما يتجاوز حدود الأدلجة وصولا إلى الاقتناص). ومع ذلك يأتينا الباحث/الأخ رفيق حبيب ليقول إن الثورة إنما قامت لإزاحة البديل العلمانى المستورد وإعادة البديل الإسلامى الأصلى، الذى تتوق إليه الجماهير، إلى موقعه الذى يراه طبيعيا، وكأن ملايين الجوعى والمشردين والعاطلين عن العمل والمرضى فى مصر، لم يكن يؤرقهم إلا غياب المرجعية الإسلامية!!. جوهر الصراع.. بين الحقيقة والوهم الذين يرفضون المرجعية الإسلامية عند الباحث/الأخ رفيق حبيب هم قلة شاردة، إما أنهم من بقايا نظام مبارك، أم مجموعات محدودة من اليساريين العلمانيين، وحيث أن هؤلاء يرفضون المرجعية الإسلامية، فإن الصراع يتحول بالضرورة إلى صراع دينى، وهى صورة شائهة، لا تعكس أى قدر من الحقيقة، وليس معروفا من أين استقاها الباحث. ذلك أن جوهر الصراع فى المجتمع المصرى الآن ليس صراع المرجعيات ولا الأيديولوجيات، بل هو صراع الأزمات. جوهر المسألة ليس الإيمان والكفر، فحتى لو سلمنا بنظرية التيار السائد كما صاغاها الباحث، واعتبرنا أن هناك 18 مليون مصرى يؤيدون المرجعية الإسلامية (وفق نتائج الانتخابات البرلمانية) فمن غير المنطقى وغير المقبول أن يكون فى مصر ما يقرب من 70 مليون كافر، فضلا عن أن يكونوا أقلية غير مؤثرة (باعتبار أن عدد السكان تجاوز 85 مليون نسمة)، ولا حتى 32 مليون كافر، ومرة أخرى: فضلا عن أن يكونوا أقلية غير مؤثرة (باعتبار أن من لهم حق التصويت يتجاوز بقليل 50 مليون مواطن). المصريون وقد تجاوز عدد من يعيش تحت خط الفقر منهم 40%، لا يعنيهم أن تحكمهم مرجعية إسلامية أو مرجعية اشتراكية، أنما يعنيهم من يقدر على توفير الحد الأدنى من الحياة الإنسانية الكريمة، المرجعية التى يطلبها المصريون هى تلك القادرة على حل أزماتهم ومشاكلهم فى التعليم والعلاج والسكن والبطالة والأسعار. وظنى أن ما يجب أن يشغل المفكرين الإسلاميين، ومنهم د. رفيق حبيب، هو صياغة «البرامج الإسلامية» المتوافقة مع «المرجعية الإسلامية»، والقادرة على حل هذه الأزمات وتلك المشاكل، على طريق إعادة بناء مصر، ثم الانطلاق نحو نهضة حقيقية، بدلا من الوضع المعكوس الذى تعيشه الجماعة الآن، حيث يتولى تجار ومتعهدو تنظيم معارض السلع المعمرة، صياغة المشروعات الفكرية والترويج لنهضة مزعومة (على الأقل حتى الآن) بينما ينغمس مثقفو ومفكرو الجماعة فى مناقشة قضايا نظرية لا تغنى ولا تسمن من جوع.
#هانى_جرجس_عياد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بديع يتكلم...!
-
حكم الإخوان.. بين قرض الصندوق ومشروع الفنكوش
-
... ومازال الإخوانى عصام العريان يتجلى!!
-
«الشريعة».. أزمة مجتمع أم أزمة إسلاميين؟
-
كل عام وانتم بخير
-
بعدما أصبح المشير مستشارا
-
جريمة سيناء والرئيس منقوص الصلاحيات
-
عودة «مجلس باطل»: المعركة الخطأ فى التوقيت الخطأ
-
تأملات فى حالة سعادة
-
هوامش على دفتر وطن مضطرب
-
عن الرئيس «اللى سمع»... وأشياء أخرى
-
رسالة مفتوحة إلى الرئيس المصرى الجديد
-
الثورة مستمرة حتى إسقاط العسكر... ومحاكمتهم
-
لا جديد تحت الشمس... قاطعوا تصحوا
-
بين المباركيين والإخوان: من ينقذ مصر من كوارث قادمة؟
-
رسالة مفتوحة إلى الإخوان المسلمين: بعد الحكم فى قضية القرن ا
...
-
لا تجهدوا أنفسكم... شفيق هو الرئيس وهذا هو السيناريو
-
والإخوان أيضا فلول
-
بين مرسى وشفيق: للثورة خيار أخر
-
ملاحظات أولية على نتائج شبه نهائية
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|