رحمن خضير عباس
الحوار المتمدن-العدد: 3865 - 2012 / 9 / 29 - 08:26
المحور:
الادب والفن
اللوحة
رحمن خضير عباس
كان يلعق قهوته السوداء بصمت . بينما المقهى توشك على اغلاق ابوابها , وحيدا يحدق في الفراغ . يهرش شعره الأسود الذي استطال حتى دثّر اذنيه . ضباب كثيف ونثار من الثلج , تتراقص حباته كفراشات مجنونة يعبث به الريح فتصطدم بالزجاج البارد . ازاح بعض الضباب المترسب على صفحة النافذة فراى فراشات الثلج تلسع وجوه المارة المسرعين .وشيئا فشيئا يتراكم الثلج على الأرصفة.
- اول عاصفة خريفية تجتاح اوتاوة ..
قالتها نادلة المقهى وهي تمسح الطاولات لصباح آخر .. شعر انها تستعجل خروجه . المقاهي في (باي وورد ماركت ) تغلق ابوابها مبكرة , بعكس أيام الصيف حيث يصبح هذا المكان قلب المدينة الحيوي الذي يزدان بالمقاهي والبارات والمطاعم . تمتلأ الأرصفة بأكشاك باعة الفوكه والخضار وباعة الورود . هؤلاء الذين يعرضون بضاعاتهم بشكل أنيق وتصميمات جذابة تغري السابلة بالشراء وتغري السواح بالتقاط الصور التذكارية.كما تصطف اكشاك اخرى لهواة بيع الخواتم والحلي الرخيصة , والملابس التقليدية و والنحت الأفريقي على الأخشاب , وتلوين الزجاج , ورسامي البورتريت وبائعي الصور الفنية والبضاعات المكسيكية .ولاننسى الفرق الموسيقية اللاتينية . التي تعزف الموسيقى اللاتينية من السلفادور وكولومبيا . حركات الباسكر الرشيقة تصنع حلقات من الفرجة الضاحكة حيث يقدمون عروضا سخية ومجانية سوى ماتجود به ايدي السواح ومدمني التسكع والتسوق .كل ذالك تبخر في هذا الخريف وبدت اروقة (باي وورد ماركت ) خاوية الأ من خطواته المتعثرة .. خرج من المقهى وهو يتحسس رائحة الأشياء التي اختفت تحت ركام الثلج الخريفي الذي ولج المدينة مبكرا . موجة من الضجر تتغلغل فيه وهو يطوف في في الشوارع المهجورة . وحينما استغرقه الثلج بكثافة تذكر احلامه عن هجرة ستنقله الى الفردوس الأرضي الذي سيحقق كل رغباته المستحيلة , عن نساء شقراوات يجعلن اجسادهن ملاذا لفحولته الشرقية , سيبحر في زرقة عيونهن الى الأبد ,حاملا شراع الرغبة المحمومة الأزلية والمتأصلة . سيسفح حرمانه ودموعه التي اختزنها ايام الحصار حيث بغداد الشقية تتضور جوعا. تلك التي تركها بين مخالب اليأس , ليرحل الى ألأردن وكأنه يمني النفس بأنه سيودع الشقاء والكآبة الى الأبد ,أهي تلك الهجرة التي تمناها وحلم بها وانتظرها لحظة حجرية بعد اخرى؟ . كانت عمّان محطة للتشرد والشجن واسترجاع الذات التي تشظت في الوطن .. عّمان اضحت مخيّما للعراقيين من كل الأجناس والأعمار والأفكار والأمزجة . كانوا يطرزون ليلها الهاديء باغاني الحنين , بقصائد الشعر , بالرسومات الزيتية التي تكدست على ارصفة المدينة تبحث عمن يشتريها .وحينما اتته الموافقة على الهجرة الى كندا , احس بأنه يرقص حبورا . احتفل تلك الليلة مع بعض من رفاق الفاقة المزمنة . بعضهم حسده وبعضهم هنأه , وتصور أنه سيودع الحزن والألم والوحدة الى الأبد . تذكر كل ذالك وهو يرتشف ما بقي من كأس قهوته الباردة .
تلقفته شوارع اوتاوة المكسوة بالوحدة والثلج . اتجه نحو الشارع الرئيسي , وكأنّ خطواته الوحيدة الشاحبة المتعبة هي فقط من تؤكد وجوده . هاهوَ يسير على ثلج هشّ يلتصق بكونكريت غير مرئي .. تناقض بين القسوة والرقة .اين يضع روحه المتعبة بين هذين القطبين ؟ هل ثمة فرصة لألتقاط الذات من هذه الفوضى الداكنة التي تجتاح الروح بوحشية . اين هي النوافذ التي يطل منها الى هذا الواقع العسير والممتنع ؟ ليس ثمة إلفة بشرية تستغرق لهاثك الراقص . لتبق المدينة مقفلة أمام وجهه دلف الى محل بيع المشروبات الروحية قال لنفسه وجدتها وهو يتأبط زجاجة النبيذ .ربما تكون مفتاحا ينتشله من رتابة هذه الروح الغجرية التي تغزوه احيانا .
حينما دلف الى شقته القصية عن المدينة , لم يجد غير الفراغ وفوضى الكراسي , والملابس المهملة , والكتب التي تكومت على بعضها . خلع معطفه وهو يكتم لهاث الطريق . فتح الراديو ليضع قرصا لأغنية منسية رافقته سنينا " يا طيور الطايرة .. ردي الهلي ..سلميلي ياطيور .." صب كأسا من النبيذ الأحمر وهو يرمق اللوحة الفارغة التي انتظرته اياما وهي مسمرة على الحائط ,كًنفاس ابيض لاروح فيه .. كلما اقترب منها ليبدأ الرسم تخونه ذاكرته وارادته وحتى مزاجه , فيهرب منها .. اما في هذه الليلة الخريفية الباردة فقد صمم أن يقفز في فضاء اللوحة متعثرا بين خطوطها الباهتة . انزلها من الحائط ووضعها على الحاملة الخشبية . انهمك في تحضير ادواته , فكرقليلا وهو يهمهم : انها فرصة للهروب من لحظته المعجونة بالأحباط والخوف والمذلة . ثمة امل ان تستيقظ روحه من اوهام الظل والضوء , وان تتمرد على الأفكار المعلبة في فترينات العرض والطلب . كم حاول ان يعثر على ضالته في اكثر كاليريهات الفن في مونتريال واوتاوة , وكان في قرارة نفسه غاضبا متبرما محتجا للحفاوة التي تتلقاها بعض اللوحات الفنية , وهي لاتستحق مثل هذا التبجيل . لقد أدمن زيارة "ناشيونال كًالاري " حيث الأعمال الفنية التي تحلق في سماء الكًالري البهية وهو يطل على نهر اوتاوة .ويتقاطع في الجانب الآخر من النهر بالقصور الأثرية التي تمتد الى بقايا عصر النهضة . واصبحت – الآن - مكانا للبرلمان الكندي . هل كانت الأعمال الفنية اسيرة للمجد . ام انها نتاج لأوجاع بشرية لا يمكن ان تندمل او تهدأ ؟
بدأت الألوان تنتشر على جسد اللوحة , متغلغلة في ثناياها والفرشاة تتسلل من لون الى نقيضه ما بين الظلمة والنور , لقد كان انغماره مذهلا جعله ينسى نفسه وكأن الألون تشع روائح كالبخور المتصاعد , تقترب من عبق الغابات المتوحشة والمبلولة بالمطر . كان وجهها يطارده في ثنايا الكتب , في زحام الطريق , في نثار الرياح الباردة العتية التي تجعله يتطهر من اوثانه . تلك المرأة حفيف خافت يستوطن ضلوعه . أفرد فرشاته وجعلها تنحدر بين جذيرات شعرها الذي تبعثر بوحشية , تداعب وجهها المرقط بحمرة الشمس ولوعة المطر.. الفرشاة اصبحت تداعب نهدين نافرين بلمسات فاجرة تغلغلت بين اثوابها الباهتة والتي تشفّ عن انوثة متوحشة .
إعتقد أنّ لوحته شارفت على الأنتهاء. احس بان الكآبة تغادره , وان فرحا طفوليا يجتاحه ,عبّ من كأس نبيذه وهو يتأملها عن بعد . امرأة سامقة الطول , عيناها بحيرتان هائلتان تستحم بهما مئات النوارس الفضية , تتطايرعلى افق مزدان بشعاع وردي اما جسدها فكان يتمرد على اثوابه وينغمر في عتمة الشجر المدلهم .. جسد ثري بلون الطين والماء الخابط وسموم الرياح اللافحة التي تهبّ في جنوبنا العراقي صيفا ,حيث شاخت الأرض وشحت الأهوار ومات الشجر. هل ينتمي هذا الجسد الى هذا الزاوية التي تقترب من سقف العالم القطبي ؟ ارتمى على الأريكة وهو يرنو الى خصلات شعرها المدلهمة كليل بغداد . ثم وجد نفسه غارقا في نوم عميق .
حينما استيقظ في ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي .. كان مثقلا بالكسل والكآبة .و اللوحة ماثلة امامه بكل بهائها .. هرش شعره الكث بقرف وهو يقترب من اللوحة , حاول ان يتلمس ملامحها بيديه . لم يكترث حينما تلوثت انامله بالزيت الذي لم يجف بعد . تجاهل الضرر الذي سببته لمساته لهذه اللوحة التي احبها .. تراجع قليلا الى الوراء وكأنه يريد ان يرتكب إثما . ثم اندفع اليها كعاشق مجنون , وقام بتمزيقها قطعة قطعة .. حتى انهارت تحت وابل ضرباته . وحالما هدأ قليلا مسح دمعة هاربة استقرت على وجنته . وبهدوء جمع ما تبقى فيها والقاها في حاوية الأزبال ...ثم لبس ملابسه وعاد الى ذات المقهى ليلعق قهوته السوداء بصمت .
أوتاوة /كندا
#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟