محمود جلال خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3865 - 2012 / 9 / 29 - 02:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لم يكد الاستاذ ضياء مدرس مادة الفلسفة بالمدرسة الثانوية ينتهي من كوب الشاي الذي اعتاد أن يشربه مع سيجارته المفضله بعد وجبة الغداء , حتى القى بجسده المنهك على كنبة الانتريه أمام التليفزيون وراح في نوم عميق يطرد من جسده المنهك تعب العمل ومعاناة يوم طويل , لا يدري كم مضى من الوقت عندما سمع صوت جرس الباب يخترق أذنيه , فسحب الغطاء فوق رأسه وغاص في جوف السرير , الا ان الجرس عاد يرن وباصرار كأن الطارق على يقين انه بالداخل , وانه لن ينصرف الا بعد ان يحادثه , نطر الاستاذ ضياء الغطاء من فوق جسده وقام منتفضا وهو يتمتم بكلمات غاضبة كأنه عزم على ان يشتبك مع من بالباب , فهو قد يتسامح في اي شئ الا مع من يقلق منامه , فتح الباب وقبل ان يرى الواقف صاح بغضب : نعم !!!!
وفي ضوء السلم دقق النظر في وجه الرجل ثم ابتسم وهو يقول له :
- أهلاااااااااااا ازيك حمد لله على السلامه
كان الطارق هو المهندس مصطفى الذي كانت تربطه به صداقة قوية, وتقابل الاثنان بالاحضان وهما يضحكان
زلف مصطفى الى داخل البيت وجلس على أول كرسي قابله وهو يقول له :
- يا راجل حد ينام دلوقت
- ضحك ضياء وقال له : لو اعرف انك جاي ما كنتش نمت
- انا قلت اعملها لك مفاجأة
- مفاجأة جميلة فعلا , حمد الله على السلامة عمرة مقبوله ان شاء الله
- الله يبارك فيك , انا من زمان نفسي ازور بيت الله الحرام , ولما تيسرت الامور سافرت انا والمدام مع احدى الجمعيات عن طريق البر , عقبالك
- ربنا يكتبها لنا مرة تانية ويتقبل منك ان شاء الله , ثم قال له بعشم وهو يضحك ولو اني زعلان !!
كانت تجمع بين ضياء ومصطفى صداقة قوية جادة , الا ان الحديث في الامور الدينية التي طغت على المجتمع وأصبحت مادة الحوار بين الناس اوجدت نوع من الحساسية عند مصطفى وتسببت في فتور العلاقة بينهما ثم انقطعت وغاب مصطفى فجأة عن ضياء ولم يعاود الاتصال به كما كان يفعل من قبل .
- ابتسم مصطفى وقال له عندك حق تزعل لأني لم اخبرك قبل السفر , الموضوع كله حصل بسرعة ولم يكن هناك وقت لآتي اليك واخبرك .
- المهم تكون استمعت بالاماكن المقدسة والا تكون نسيتني من الدعاء
- يضحك مصطفى بشدة وهو يقول له : أنساك ؟ ده كلام ؟ أنا تذكرتك منذ ان دخل بنا الاوتوبيس الاراضي الحجازية , وقررت وانا هناك ان ازورك بمجرد عودتي
- يبتسم ضياء ويقول له : المهم تكون تذكرتني بالخير
- يدخل مصطفى في نوبة ضحك طويلة ولا يرد
- يقف ضياء ويقول له : واضح انه مش بالخير !!! مش مهم
- يستمر مصطفى في الضحك ويقول له : خير طبعا الحمد لله , لكن الحكاية مش زي ما انت فاهم , حاجات كتير دخلت في بعضها ولم اعرف لها اول من آخر
- يقف ضياء وهو يقول : يبدو ان هناك موضوع وموضوع كبير كمان , تعالى نعمل اثنين شاي وبعدين نكمل كلامنا ... الليلة ليلتك يا قمر
دخل الاثنان الى المطبخ لعمل الشاي وعاد كل منهما يحمل كوبه في يده ثم جلس ضياء في مواجهة مصطفى وقال له :
- احكي يا درش ... هات ما عندك .. انا كلي آذان صاغية
- انا مش عارف ابدأ منين
ابدأ من المكان اللي يعجبك , لكن اسمع لازم تقول كل حاجة وبصراحة وبالتفصيل انت عارف انا بحب التفاصيل أد ايه
- طبعا ها احكي كل حاجة وبالتفصيل , دا انا جاي النهارده يا قاتل يا مقتول
- يضحك ضياء ويقول له : مقتول باذن الله يا درش , اتفضل
- بعد ما دخل الاوتوبيس الاراضي الحجازية وعند مدينة تبوك , قال المرشد السياحي او الدليل بتاعنا : نحن الآن في منطقة تبوك وهي تبعد عن مدينة رسول الله (ص) بحوالي 600 كيلومتر
- جميل وبعدين !
- تذكرت سيدنا ابو ذر عندما خرج جيش المسلمين الى تبوك وتركه في المدينة ثم خرج وحده ماشيا على قدميه حتى لحق بهم وعندما رآه رسول الله (ص) قال ( رحم الله ابا ذريعيش وحيدا ويموت وحيدا ويبعث وحيدا )
- جميل وبعدين !
- منذ هذه اللحظة وانا اسأل نفسي , هل لو كنت مكان أبي ذر هل كنت ستقطع هذه الصحراء الطويلة القاحلة بمفردك ماشيا على قدميك ؟
- جميل وبعدين !
ثم سالت نفسي هل لو كان من مناسك العمرة او الحج ان تمشي هذه المسافة على قدميك , هل كنت ستعتمر او تحج الى بيت الله الحرام ؟
- جميل وبعدين !
- وبعدين ايه ؟ وما هو الجميل ؟
- التساؤلات دي جميلة , المهم ماذا كانت الاجابة ؟
- هي دي المشكلة , انا مش قادر اجاوب
- ليه ما تجاوب
- اجاوب اقول ايه ؟
- قول لا بالفم المليان وخليك صريح مع نفسك ومع الناس ها تحترم نفسك وها تحترمك الناس وعيش حياتك وقضيها زي الناس ما هي مقضياها
- لا استطيع ان اقول ذلك
- مش احسن ما تبقى منافق ولا كداب
- يصمت مصطفى طويلا ثم يقول له : ماذا تعني ؟
- يعني انت اكيد استشعرت وفهمت ان الذي نصر الدين وابقاه حتى اليوم هي جهود وتضحيات رجال مثل ابي ذر رضي الله عنه وليس اداء الصلاة في اوقاتها وصوم رمضان وحج البيت و... كما يردد فقهاء اليومين دول المنتشرين زي .....
- يقاطعه مصطفى : بلاش نغلط فيهم الله يخليك .....
- هو انا غلطت في احد , اليس من الأولى ان يحدثوا الناس عن حقوقهم التي منحهم الله اياها وواجباتهم نحو مجتمعهم وبلدهم , والتصدي للظلم والمفسدين ومجاهدتهم بالنفس والمال من اجل حياة حرة شريفة كريمة يسود فيها العدل والمساواة بين الناس و....
- يتجهم مصطفى ويسال : يعني بلاش نصلي ونصوم ونلغي الحج الى بيت الله ؟
- انا لم اقل ذلك , هو سيدنا ابو ذر ترك الصلاة والصوم ؟
هذا الدين انما شرعه الله ليحقق للفرد كل طموحاته وآماله ويضمن له حياة حرة كريمة , هذه الفرائض والمناسك اذا لم ترتقي بالفرد وتسمو به الى العمل الصالح والجهاد في سبيل الله من اجل ان يصل المسلم الى المكانة التي ارادها الله له فهي تفقد قيمتها وأهدافها ...
- يتنهد مصطفى ويقول : كلام جميل لكن كيف
- الصلاة والصوم والزكاة والحج ... ليست هدفا في حد ذاتها كما تعتقد وانما لهدف أكبر وغاية اسمى فالصلاة يجب ان تنهاك عن الفحشاء والمنكر فاذا لم تنهك فلا صلاة لك وكذلك الصوم , رب صائم ليس له من صيامه الا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه الا الركوع والسجود , ارجع فانك لم تصل ... كما قال رسول الله (ص) وهكذا , كما ان تحصيل المال أو العلم اذا لم يحققا للفرد طموحاته واحتياجاته فما فائدتهما إذن ؟
- والحج ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- لو اننا اقمنا هذه الفريضة كما ارادها الله تعالى لكنا أكبر واقوى واسعد الامم
- كيف؟
- مثلا كم هو عدد الحجيج كل عام ؟
- ما يقرب من خمسة او ستة مليون حاج ؟
- اليس هؤلاء هم صفوة المسلمين وأغناهم وأقدرهم و... ؟
- نعم
- الا تستطيع هذه الملايين هزيمة اسرائيل ؟
- قادرون على محوها من الوجود
- لماذا لا يفعلون ؟
- الله اعلم
-لماذا لا يخرجون بعد انقضاء موسم الحج الى فلسطين ويحرروها , والاسلحة موجودة والطائرات والمدرعات والدبابات وملايين المسلمين في كل بلاد العالم مدد لهم ؟
- يسكت مصطفى ويدخل في صمت طويل
يقطع ضياء صمت مصطفى ويقول له:
- لماذا دخلنا في الحديث مباشرة عن الحج والجهاد وهي من الامور العظيمة التي لا يقدر عليها كل الناس , خذ مثلا ابسط الامور , هل رأيت أكوام القمامة المكدسة في الشوارع وامام البيوت ؟
- نعم
- هل سمعت قول رسول الله (ص) : الايمان بضع وستون شعبة , اعلاها شهادة ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ؟
- نعم
- اين سمعته ؟
- يجيب مصطفى باستغراب في المسجد , وفي خطبة الجمعة , وفي الدروس التي يلقيها الدعاة في الفضائيات
- لماذا لا يجتمع الناس ليزيلوا هذه الاكوام التي شوهت منظر المدينة وعبات الجو برائحتها الكريهة ؟ او على الاقل ان يكفوا عن القاء فضلاتهم في الشارع , فإن لم أتقدم لاماطة الاذى عن الطريق فليس اقل من الا ألقي به ! ولا تقل لي هذا واجب الحكومة , فليس معنى ان الحكومة قصرت في اداء عملها ان اقابل هذا التقصير بالاهمال
- ومن الذي سيوجهم ويجمعهم ؟
- امام المسجد او خطيب الجمعة
- هو عليه النصيحة وتعليم الناس وتوعيتهم
- هل عملوا بكلامه ؟
- لا
- هل عمل هو بما يقوله ؟
- لا
- كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لاتفعلون
- لا حول ولا قوة الا بالله , فلماذا لا يعمل الناس بكلامه ؟
-لأنهم لا يثقون به ويعلمون انه ابعد ما يكون عما يقوله ويدعو الناس اليه , وانه ليس الا موظف يقوم بعمله من اجل راتبه الشهري , وهم لم يأتوا الى المسجد الا لاداء الفريضة كما اعتادوا كل جمعة ثم ينصرفون الى اعمالهم
- فكيف اذن ؟
- خطبة الجمعة فقدت قيمتها ومعناها الذي شرعت من أجله وهو الاهتمام بأمور الناس ومدارستها , وحل مشكلاتهم والعوائق التي تعترضهم في حياتهم , وليس فقط خطبة يستمع اليها الناس ثم يقومون الى الصلاة وينصرفون الى بيوتهم , يجب على امام المسجد الذي وقف في هذا المكان ليعلم الناس امور دينهم وبحكم المنصب او المكانة التي تبوأها ان يراجع الناس في الجمعةالتالية فيما أمرهم به ووصاهم بعمله , هذا ان لم يضع يده في ايديهم ويشاركهم العمل وتحمل المسؤولية
- واين يحدث هذا ؟
- قديما كان هاك طائقة من الناس يخرجون بعد اداء صلاة الفجر في المسجد الى الشوارع فيقومون بتنظيفها بالمكانس ويلقون القمامة خارج البلدة في مكان مخصص لها , ويمهدون الطرق الوعرة للناس والدواب ويساعدون الفلاحين في حقولهم و....أو اي عمل من شأنه تسهيل معيشة الناس دون أجر ولا شكر من احد , كانوا من البسطاء الفقراء الذي لا يلتفت اليهم ولا يعرفهم احد وهم كانوا لا يريدون ان يعرفهم أحد
- قرأت عن أمثال هؤلاء , لكن هذا كان منذ زمن بعيد
- ليس ببعيد , كان عندما كانت البلاد جميلة والناس على خلق والاغنياء متواضعون , والفقراء لهم احترامهم والرحمة والحب يسودان المجتمع , عندما كانت الاخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة هي راس مال الرجل , عندما كان هناك شئ اسمه العيب .... يصمت ضياء طويلا ثم يقول :
- كان هناك شئ تعارف عليه الناس اسمه ( قاعدة رجاله ) أو( مجلس عرب ) , هذا المجلس كانت كلمته سارية على الجميع من اكبر راس في البلد حتى اصغر طفل , كان يحل فيه المشاكل والخلافات ان وجدت , وترد فيه الحقوق لاصحابها ويرفع فيه الظلم بين الناس , هذا المجلس كان له من الاحترام والقدسية ما ليس لدار القضاء العالي اليوم , كان مثل حلف الفضول الذي كان فيه الجاهلية قبل البعثة النبوية الشريفة , هل يوجد مجلس عرب او قاعدة رجالة او حلف فضول في مجتمع اليوم ؟ هل يوجد عندك رجال اليوم مثل الذين كانوا في حلف الفضول الذين كانوا ينصفون المظلوم من الظالم ولو كان من أكبر رؤوس قريش؟؟؟؟
- حلف الفضول قال عنه رسول الله (ص) : لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في الإسلام لأجبت
- هل يوجد عندك رجال اليوم مثل الذين كانوا في حلف الفضول الذين كانوا ينصفون المظلوم من الظالم ولو كان أكبر رأس في قريش؟؟؟؟
- الحقيقة لم اجد
- لذلك بُعث رسول الله (ص) في مكة , مجتمع كافر جاهلي , لكنه كانت به بقايا من موروثات النخوة والرجولة والكرامة والنصرة التي عُرف بها العرب , كانت اللات والعزى عندهم لها مكانهتها وحرمتها , كانوا لايقسمون بها كذب ابدا , بينما نحن نقسم بالله والقرآن كذب جهارا نهارا , كان لهم دين ولو انه دين شرك وكفر الا انهم كانوا يحترمونه ويقدسونه ويدافعون عنه باموالهم وابنائهم كما كان من ابي سفيان وعتبة والوليد وأمية في غزوة بدر وأحد , وليس كأحدنا الذي يسب الدين على الملأ دون ان يجد من يردعه او يحاسبه
الا ان هذا المجتمع عندما صدّق محمد بن عبد الله (ص) وآمن بدعوته نصرها ودافع عنها بنفس الكيفية التي كان يدافع بها عن مقدساته الجاهلية واشد آلاف المرات , وحملها من بعده (ص) وقدم للعالم الدين المحمدي الاصيل الذي يدعو الى مكارم الاخلاق والرحمة والتواضع والعدل والمساواة بين الناس سواء من آمن بهذا الدين او من لم يؤمن به
- فما الذي جرى اذن ؟
يمد ضياء يده على علبه سجائره ويتناول منها سيجاره يأخذ منها نفسا عميقا , يخرجه محملا بكل آلامه واوجاعه ثم يردف قائلا
- نحن نتعامل مع الدين كما تتعامل المرأة مع علبة الميك أب , عارف الميك اب ؟
- يضحك مصطفى ويقول له .. يعني ... شوية
- الميك اب .. المكياج يعني , نحن نستعمل النصوص المقدسة للتجميل كما تستعمل المرأة المساحيق والبودرة , وقلم الروج , والآي لاينر , والآي شادو للتجميل ايضا , مع بعض الاكسسوارات .. سبحة , لحية , سواك , جلباب أبيض , والشيخ راح والشيخ حضر , ومولانا سافر ومولانا عنده ندوة ...وهكذا
يقف ضياء ويتجه الى النافذه ويزيح الستارة عنها ثم يفتح النافذة ليستنشق بعض من هواء المساء عله يجد فيه بعض الانتعاش
- يبتسم مصطفى ويقول : يبدو اني اثقلت عليك
- انت قلّبت علي المواجع وافسدت دماغي منك لله
- يضحك مصطفى ويقول له : ليه دا انا حبيبك !
- حبيبي تقلّب علي المواجع وتعكنن مزاجي ؟
يستمر مصطفى في الضحك ويقول له :
- حبيبك يا كلك الظلط
- وانا لحد امتى ها آكل لك الظلط
يستمر مصطفى في الضحك ويمد يده على كيس بجانبه أحضره معه يعطيه لضياء وهو يقول له دي حاجة بسيطة كده من الاراضي الحجازية
يفتح ضياء الكيس فيجد به سبحة وطاقية بيضاء وسواك و......
يضحك ضياء ويصيح في مصطفى : تاني .. برضه , شوف انا اقوله ايه وهو جايب لي ايه , على العموم يا سيدي شكرا , هدية مقبولة
#محمود_جلال_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟