|
- بغداد بلوجر - لسلام باكس:الفيلم الذي وُلِد مكتملاً، والمخرج الذي ذاع صيته كأشهر كاتب مفكرات على شبكة الانترنيت
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1124 - 2005 / 3 / 1 - 12:31
المحور:
الادب والفن
عدسة مُحايدة تُطارد المنتصر والمهزوم على حد سواء انبثق فيلم ( بغداد بلوجر ) من عالم ( المفكرّات ) أو المذكرات اليومية التي تُكتب على شبكات الانترنيت، وهذه الفكرة في مجملها حديثة زمنياً. وأول مفكرة مكتوبة على شبكة الانترنيت يرجع تاريخها إلى 7 أكتوبر " تشرين الأول " 1994 وقد ظهرت مذيّلة باسم ( مانيلا ) وهي تعود، في حقيقة الأمر، إلى دايف وينر، المتخصص الأمهر في فن البرمجة الأليكترونية، والذي فتح من خلاله آفاقاً واسعة قد لا تتوقف عند حدود معينة. ثم شاع فن المفكرات أو اليوميات الإليكترونية بين مستخدمي الانترنيت، لكنه تفجّر على حين بغتة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بحيث صارت هذه المفكرات الأليكترونية وسيطاً جماهيرياً شائعاً بين الناس في كل مكان. وقد بيّنت الاستطلاعات الصحفية أن %55 من مستخدمي الانترنيت في الولايات المتحدة الأمريكية قد تبادلوا رسائل أليكترونية تتمحور حول الحرب الإنكلو- أمريكية على العراق. وقد كشفت هذه المفكرات والرسائل الأليكترونية عن أخبار، وأحداث، ووقائع لم تستطع وسائل الإعلام التقليدية من الوصول إليها. ويعُد سلام باكس أشهر كاتب مفكرات أليكترونية في العالم لأنه استطاع أن ينقل بدقة وأمانة نادرتين عن حقائق مروّعة لم يستطع المراسلون الحربيون، والمحطات الإعلامية المتخصصة من الوصول إليها، أو تقديمها ساخنة كما كان يفعل سلام باكس الذي أذهل العالم في حينها، وجازف في رسم الصورة الحقيقية لحياة العراقيين في ظل الحصار، والحرب الوشيكة، ونظام صدام الشمولي. كان الجميع يشكك في إمكانية وجود هذا الشخص في بغداد لأنه يتكلم بجرأة وصراحة غير معهودتين في ظل نظام مُستبد، وكل الذي فعله لحماية نفسه، وتحصينها من أخطار المداهمة هو أنه لاذ خلف كُنية مُستعارة وهي ( باكس ) وتعني باللاتينية ( سلام ) ليكون اسمه الكامل ( سلام سلام ). وعلى رغم الزيادة المفرطة في الشهرة التي شهدتها مفكراته الأليكترونية إلا أن الكثير من القرّاء ظلوا يشككون في حقيقة وجود هذا الاسم، لذلك أُهيلت عليه التُهم من أطراف كثيرة، فقد اتهمه البعض بأنه عميل للمخابرات المركزية الأمريكية، بينما اتهمه بعض آخر بالعمالة لمصلحة نظام صدام، ولكن شفافية سلام باكس، وقدرته في التعاطي مع تُهم جاهزة من هذا النوع أجبرت قرّاءه، والمؤسسات الإعلامية التي تبنته لاحقاً، على تصديقه ومتابعة ما يكتبه بنهم قلّ نظيره. وحينما تنهال عليه مئات الرسائل المُشككه بوجوده، كان يبعث إليهم هذا الالتماس: "أرجوكم ألا تبعثوا رسائل إلكترونية تسألون فيها إذا كنت حقيقيا. لا تصدقون، إذن لا تقرؤوا. أنا لا أقوم بعمل دعائي لأحد. حسنا، تقبلوا دعايتي الخاصة بي". . وحينما قطع الناس الشك باليقين، بعد أن اكتشف Rory McCarthy حقيقة وجود هذا الشخص المجازف، تابع القراء ما يكتبه سلام باكس من رسائل وتقارير وصفها المتخصصون بأنها فضلاً عن مصداقيتها، وما تنطوي عليه من سخرية لاذعة، فإنها أكثر حيوية، ودقة من كل تقارير المراسلين الأجانب في بغداد قبل بدء الحرب، وفي أثنائها، وبعد انتهاء صفحاتها الأولى. لم تكتفِ العديد من المؤسسات الإعلامية الأمريكية والأوروبية بمساعدة سلام باكس أو نشر مفكراته سواء على الانترنيت أو في كتاب خاص، وإنما فتحت له صدر صفحاتها الأول كما فعلت صحيفة ( ذي غارديان ) البريطانية، وسمحت له أن يكتب افتتاحيتها مرتين في الشهر الواحد. ويبدو أن العاملين في ( الغادريان ) أدركوا أن سلاماً سريع التعلّم أيضاً، ومحب للمعرفة، ويمكن أن يخوض في غمار عالم الأليكترونيات ويخرج بنتائج سريعة لذلك اقترحوا عليه أن يواصل كتابة يومياته ولكن من خلال تصويرها بكاميرا ديجيتال أُرسلت له من لندن خصيصاً لهذا الغرض، وتركوا له حرية أن يصور ما يشاء من أحداث وأماكن يراها قادرة على استنطاق ورسم الصورة الحقيقية لهذه الحرب الكونية التي قيل إنها شُنّت من أجل البحث عن أسلحة الدمار الشامل، والقضاء على الإرهاب، وإقامة نظام ديمقراطي في العراق! المخرج والنزعة الاحترافية ليست فرصة ذهبية، أو سانحة حظ، أن يُعرض فيلم ( بغداد بلوجر ) في مهرجان من طراز الفيلم العالمي في روتردام، فالفيلم كان بمستوى الأفلام المحترفة تقنياً، وأكثر من ذلك فإن مضمونه كان ساخراً، وتهكمياً، ولاذعاً على رغم درامية الثيمة، وفجائعية الموضوع بشكل عام، إلا المخرج الدمث وقف بعد انتهاء عرض الفيلم على منصة صالة ( Pathé 7 ) في روتردام، وقال: " أَعتذرْ لكل المخرجين المدعوين لهذا المهرجان، فأنا لست مخرجاً، وإنما مجرّد هاوٍ للإخراج والتصوير." ولكن سلاماً نسي أن يقول بأنه " هاوٍ موهوب " وأن خبرته البصرية قد ساعدته كثيراً في مشروعه السينمائي الأول والذي سيفضي حتماً إلى مشاريع أخرى أكثراً تطوراً من هذا الوليد الأول. خصوصاً وأن شركة ( الغارديان ) قد شجعت هذا المخرج على دخول بعض الدورات السريعة في الإخراج والمونتاج. فكرة هذه اليوميات كانت مكرّسة لسلسلة " BBC s Newsnight " التي نالت استحسان المشاهدين، لكن الفيلم صار مشاعاً للجمهور في كل مكان تقريباً، فلقد شاهده الجمهور السينمائي في هولندا، وسوف يُعرض بعد أيام في مهرجانات مهمة في اليابان وسنغافورة وألمانيا وبقية بلدان العالم ليأخذ حقه كاملاً من الذيوع والانتشار. ربما يكون مثلب الفيلم الوحيد هو أنه صوّر من زاوية نظر ذاتية، وإن كانت هذه الذاتية غير مفرطة أحياناً، فالمخرج سلام باكس عاش في فيّينا لمدة ثماني سنوات قبل أن يقفل راجعاً على مضض إلى العراق عام 1996، وقد تزوّد بالثقافة الأوروبية، وأحبها، وانقطع إليها إلى درجة الشعور بأنه قد بات غريباً في وطنه، وغريباً في ثقافته، فهو لا يقرأ بالعربية إلا لماما، وإنما يفضل القراءة بالإنكليزية، ولا يستمع إلى الموسيقى العراقية أو الشرقية وإنما يجد ضالته في الاستماع إلى الموسيقى الأجنبية، ويعشق ارتياد المقاصف الليلية وما إلى ذلك. ومن أوجه هذه الذاتية أنه كعراقي لم يرَ الطقس الكربلائي، ذات الصيت ( عاشوراء )، ولم يرَ رؤيا العين كيف يُلهب أبناء الشيعة ظهورهم بالسلاسل الحديدية الثقيلة التي تتفجر منها دماء غزيرة، ولم يشاهد بأم عينيه الناس " صبياناً وشباناً وطاعنين في السن " يضربون رؤوسهم بالسيوف أو السكاكين الكبيرة " التي تسمى بالقامات أو الطُبَرات بالمحكية العراقية ". هذا المشهد المرعب أدهش سلام باكس نفسه حينما رآه أول مرة وهو في سن الثلاثين " لأن ممارسة هذا الطقس الديني كانت ممنوعة في عهد النظام السابق "، وقد صوّرها بنَفَسٍ تسجيلي صادم يؤذي المشاهد العراقي المعتاد على هذا الطقس، فكيف بالمشاهد الأجنبي الذي يعتبر هذه الظاهرة جلداً للذات، أو مازوشية مفرطة؟ لقد أراد سلام باكس أن يفيد من تسويق هذه الظاهرة سينمائياً، وهو يُعد المروّج الأول لها الآن بعد انقطاع دام أكثر من ثلاثين عاماً. وقد بذل جهوداً جهيدة من أجل تصوير مراقد الأئمة الأطهار علي بن أبي طالب، والحسين، والحسن، ومسلم بن عقيل ولكن السلطات الدينية منعتهم " هذه المرة " من التصوير لأسباب غامضة ظلت مقصية عن المتلقين. إن كل الأحداث التي توقّف عندها المخرج كانت مهمة، ومؤلمة، وخطيرة، لكن جاذبية الطقوس الدينية وغرابتها كانت الأكثر إثارة ودهشة وترقباً. لقد اعتمد الفيلم على بنية الرسائل الإليكترونية التي كان يبعثها تحت صيغة عنوان استفهامي: " أين رائد ؟" ورائد هذا زميل فلسطيني- أردني يواصل دراسته للماجستير في عمّان، وما يزال على صلة بصديقه الحميم باكس. وكان يبوح له بكل شيء، أو أن باكس نفسه لا يتورع من قول الحقيقة كاملة غير منقوصة سواء لصديقه أو لكل الناس الذين لا يعرفهم. كان سلام يتحدث في رسائله من دون خشية عن الجنس، والكحول، والرقص الشرقي، وعلب الليل، أما الآن فليس أمامه سوى رجال الدين، والعمامات الملونة التي تطوف في الشوارع، وكأن لسان حاله يقول تظهر العمامة المختفية أو يبرز دور شيخ القبيلة كلما انتكست السلطة أو توارت لمدة من الزمن. وكان القرّاء يتساءلون: كيف يعيش شخص متفتح في تلك الأجواء الكابية المنغلقة، وهم لا يدركون أن لهذا الرجل عوالمه الخاصة، وقناعاته التي صدمت الكثيرين. وفي لقطة من لقطات الفيلم نراه يشتري بالعملة الصعبة أنواعاً مختلفة من الويسكي خشية أن يختفي الويسكي من الأسواق، أو يرتفع سعره بجنون كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية. هذا الفيلم التسجيلي يكسر كل أنواع التابوات المتعارف عليها لذلك صرّح المخرج غير مرة بأنه لا ينوي عرض هذا الفيلم في العراق خشية من النتائج التي لا تُحمد عقباها. إضافة إلى أن المخرج كان محايداً طوال مدة الفيلم الذي يكشف من جهة أخرى هول الخراب الذي أحدثته الآلة العسكرية الأمريكية، كما يكشف الفيلم عن هيمنة الجانب الديني وتسيّده على الشارع العراقي، وإمكانية صعوده إلى سدة الحكم خلال مدة وجيزة، هذا ناهيك عن صور رجال الدين الكبار التي لُصقت بطريقة عجلى على صور وجداريات صدام حسين، وبدا بعضهاً كاريكاتورياً لأن الصورة الجديدة لرجل الدين لا تغطي سوى وجه صدام! لا يخشى سلام باكس من القول بأنه غير سعيد بتواجد القوات الأمريكية في بلده لأنهم يمعنون في استخدام القوة المفرطة، ويدهمون المنازل من دون سابق إنذار، ولا يحترمون خصوصيات هذا الشعب المضطهد، والمصادر لسنوات طوال. سأل أحد المشاهدين الهولنديين المخرجَ إن كان يشعر بالامتنان للأمريكان أم لا؟ فأجاب باقتضاب: أسقَطوا صدام، نعم، ولكن عليهم أن يحترموا الناس. فأنا أحترمك بقدر ما تحترمني، ولهذا لا أجدني ميالاً لشكر الأمريكان، فالأمور تقاس بنتائجها، و ها هم رجال الدين من السلفيين الذين بدأوا يحرّمون الخمور، ويحدّون من ارتياد السينمات، ويحجِّمون من حرية المرأة، ويضيّقون سبل الحياة. بقي أن نقول إن فيلم ( بغداد بلوجر ) 77 دقيقة، هو من إنتاج " Fiona Lloyd Davis, Guardian Films " وسيناريو، وتصوير، ومونتاج، وإخراج سلام باكس.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القصّاص الدنماركي الشهير هانز كريستيان أندرسون: في سيرة ذاتي
...
-
السلاحف يمكن أن تطير لبهمن قباذي: مرثية موجعة للضحايا الصامت
...
-
البرلمان الهولندي يعلن - الحرب - على التطرّف الإسلامي، ووزير
...
-
في الدورة الـ - 55 - لمهرجان برلين السينمائي الدولي: جنوب إف
...
-
الرئيس الأمريكي في خطابه الإذاعي الأسبوعي يؤكد على دحر الإره
...
-
العميان سيشاهدون مباريات كرة القدم في ألمانيا
-
الأميرة ماكسيما تؤكد على رؤية الجانب الإيجابي في عملية الاند
...
-
قوانين جديدة تحد من إساءة التعامل مع الأطفال الهولنديين
-
صورة محزنة لإعصار تسونامي تنتزع جائزة الصورة الصحفية العالمي
...
-
مجلس الوزراء الهولندي يتخذ إجراءات صارمة بشأن جرائم الشرف ال
...
-
اختتام فعاليات الدورة الرابعة والثلاثين لمهرجان الفيلم العال
...
-
فن الترجمة وملامسة المعاني الحقيقية والمجازية: آراء في ترجمة
...
-
في ندوة - المسرح والديمقراطية - في لاهاي: ناجي عبد الأمير، ي
...
-
الفنان والمخرج العراقي هادي الخزاعي. . أربعون عاماً من التمث
...
-
القاص والروائي العراقي فؤاد التكرلي: الكتابة عملية غامضة ومم
...
-
- صائد الأضواء - بين تطويع اللغة المقعّرة وكاريزما الممثل
-
مسرحية - تداعيات صالح بن زغيّر - لرسول الصغير وهيمنة البُعد
...
-
عصابة شاذة تختطف ثلاث نساء شمال أفريقيات من بروكسل، وتغتصبهن
...
-
الفنان والمخرج صالح حسن: قراءة في طفولة الجسد، وتفكيك - شيفر
...
-
الفيلم التسجيلي- غرفة التحكّم - لجيهان نُجيم والقراءة المحاي
...
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|