|
أعلام المسلمين في روسيا (3)
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 3859 - 2012 / 9 / 23 - 11:49
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
زكي وليدوف(1890 – 1970)
إن الإيحاءات المفتعلة لا تؤدي إلى اليقين، كما لا يؤدي الجري وراء الأوهام إلى تأصيل فكري راسخ هو المقدمة الضرورية لكل فعل حي، والذي يتخذ أحيانا صيغة الاندفاع الإرادي، و"الالتزام المقدس"، و حركة الروح المضطربة، ولكنه يظل يدور في فلك العالم الثقافي والسياسي، باعتباره مقدمة الصيرورة الشخصية واستمرارها التاريخي. وليس أمام الأجيال سوى مهمة تأمله المتجدد، من اجل اكتشاف ماضيها وعناصر وعيها الخفية. وسوف تنتصب أمام كل حركة جديدة مهمة الرجوع إلى مصادر الوعي القومي، لأنه لا طريق أمام الذات المعرفية والسياسية لبلوغ خبايا الروح غير طريق تثوير السمو الأخلاقي الفعلي: أي التوبة أمام "الأنا" الماضية. ولا يعني ذلك التخلي عن الحاضر، ولا الإقبال الكلي على الماضي. فللأطلال سحرها في الخيال الشعري، وكآبتها في التأمل الروحي ، وقيمتها في الوعي التاريخي. وسواء كانت هذه الأطلال تعبيرا عن حطام الهزيمة أو شموخ الدفاع الأبي، فإنها تتخذ هيئة البطولة المهضومة أو الفروسية المظلومة. وتبقى مع ذلك رمزا يمكن تجاهله ولا يمكن نسيانه. ولعل مثال زكي وليدوف أحد النماذج البارزة لهذه الظاهرة في تاريخ الشعب البشكيري المسلم. فقد بقي لنصف قرن من الزمن مجهولا بين ذويه، بسبب الدراما التاريخية التي أثارتها الثورة البلشفية بالنسبة لمصير شعوب القيصرية الروسية البائدة، والتاريخ العالمي المعاصر أيضا. إن التجربة الفكرية السياسية لزكي وليدوف هي أحد النماذج المثلى لمصير أعلام الفكر والثقافة والسياسة عند الشعوب الإسلامية الصغيرة، التي قمعتها السيطرة الروسية، وصيرتها الثورة البلشفية، وأهلكها الصراع، وأغراها على نسيان رموزها التاريخية والثقافية الكبرى. وهي حالة تعبر عن الصيغة المجردة للمسار الفكري ـ العلمي والسياسي لزكي وليدوف ومصيره في الوعي التاريخي لقومه. فقد كان حتى الأمس القريب، غريبا في وعي شعبه، لا لشيء إلا لتصنيفه في خانة "العملاء" و"أعداء الثورة" و"ممثلي النزعة الانفصالية". وتجاهله أهل الثقافة البشكيرية في كتاباتهم ومخيلتهم. ومع ذلك لم يستطيعوا نسيانه لأنه "حجر الصوان" الذي رمته مصالح "السياسة لا "مصالح" التاريخ. من الصعب القول بان زكي وليدوف مثل "المصالح المطلقة" للبشكير، ولكنه مثلها بالصيغة التي اعتقد أنها الأكثر حقا. فهو لم ينتقل من عالم السياسة إلى عالم الفكر، بل بالعكس، من عالم المعرفة إلى عالم السياسة. وكان ذلك يعني موضوعيا تجسيد الرؤية التاريخية ـ العلمية لمصير الشعوب التركية ـ الإسلامية في ظل السيطرة الروسية، والآفاق التي فتحتها ثورة شباط ثم أكتوبر لعام 1917م. ولد زكي وليدوف في 10/12/1890 م في عائلة رجل دين إسلامي، وخطيب قريته (كذن) في محافظة ايشناباين (بشكيريا المعاصرة). وقد لقنه والده إلى جانب لغته الأم كلا من العربية والفارسية. ثم درس بعد ذلك في المدرسة العثمانية في قازان والتحق بصفة مستمع بجامعة قازان وبطرسبورغ. وأثار اهتمامه منذ وقت مبكر تاريخ الشعوب التركية لمنطقة الفولغا والاورال، وظل امينا له حتى آخر أيام حياته. وسعى شأن أمثاله من مفكري تلك المرحلة ، ذوي الأصول الإسلامية ـ التركية الخاضعة للسيطرة الروسية، لنفض الغبار عن جسد تلك الشعوب، من اجل رؤية لمعان روحها الثقافي الأصيل. وقد وقع لحسن حظه العلمي وسوء حظه السياسي في أحضان علماء مرموقين بالدراسات التركية مثل رادلوف، وميليارانسكي، وصمايلوفيتش، وبارتولد، الذين ادخلوه عالم العلم، وفتحوا له الباب على مصراعيه لدخول دهاليز السياسة لاحقا. فقد نشر عام 1911 أول أعماله العلمية، ثم استمر ينشر أعماله حتى ثورة شباط عام 1917م. حيث كان اهتمامه قبل الثورة منصبا على التنقيب والبحث عن المخطوطات التركية في فرغانه (1912م) وبخارى (1915م). وبغض النظر عن اشتراكه السياسي المبكر بصفة وكيل لأحد الأعضاء الستة المكونين للفرقة الإسلامية في الدوما الرابعة (1912م) فانه لم ينهمك في النشاط السياسي إلا بعد ثورة شباط 1917. فقد صنع الشباب الثورة. وكان عمره 27 عاما. حين وجد نفسه في رئاسة الحركة التحررية الوطنية للبشكبر. اذ سبق وان أفرزت الثورة الروسية الأولى اتجاهين عند ممثلي الشعوب الإسلامية. الأول هو الاتجاه الوحدوي الداعي إلى "الوحدة الإسلامية"، والثاني هو الاتجاه الاستقلالي الداعي إلى تشكيل جمهوريات مستقلة فدرالية مع الدولة الروسية. وقد شاطر زكي وليدوف آراء الاتجاه الثاني دون أن يرفض ما في الاتجاه الأول من عناصر الوحدة التراثية للمسلمين. مما جعله مدى الحياة هدفا لانتقاد الجميع. في أول مؤتمر للشعوب الإسلامية في روسيا (10/5/ 1917) طرحت أربع مسائل جوهرية: مستقبل روسيا، طبيعة النظام السياسي المقبل، مسألة الأرض والمسألة القومية. واتفقت الآراء حول ضرورة النظام الجمهوري والديمقراطي، بينما اختلفت حول المسائل الأخرى. وأدى هذا الخلاف إلى قطيعة في المواقف. أما بالنسبة لزكي وليدوف فقد تركزت هذه المسائل حول قضية الأرض، التي لم تعد بالنسبة له قضية اجتماعية واقتصادية، بقدر ما هي قضية قومية. ووضع ذلك في فكرته عن ضرورة تأميم الأرض وتسليمها لشعوبها. لم تكن هذه الفكرة حصيلة تكتيكية، بقدر ما كانت خلاصة ما تراكم في تاريخ مشكلة الأرض البشكيرية. إذ جرى ضم بشكيريا بالقوة إلى الدولة الروسية شكليا منذ القرن السادس عشر. ولم يجر إخضاعها التام إلا بعد صراعات دموية استمرت قرونا عديدة، تحولت بشكيريا خلالها إلى "درع" واق أمام تغلغل الروس في تركستان. ولما لم تستطع الدولة الروسية آنذاك اخضاعها نهائيا بالقوة لجأت إلى إعلانها "محافظة عسكرية" موحدة. وبهذا خطت الدولة الروسية خطوة جديدة في اتجاه "الاعتراف الضمني" ببشكيريا وفي نفس الوقت تحويل امكانيات لبشكير العسكرية إلى جزء من قواتها "الأمامية". ومنذ ذلك الوقت اخذ البشكيري يولد ويموت عسكريا. واستمرت هذه الحالة حتى ستينات القرن التاسع عشر، عندما ألغيت القنانة رسميا في روسيا. وبعدها بدأت عملية "سرقة الأرض" . فكون البشكير عساكر جعل أراضيهم عرضة للنهب السريع. وليس مصادفة أن توضع مسألة حدود بشكيريا في أولى القضايا التي ناقشها المؤتمر البشكيري الأول في مدينة اوفا بتاريخ 19/7/1917م. لان التاريخ الروسي الذي تمخض في غضون اشهر عن ثورتين كبيرتين، ساهم أيضا في خلق شخصياته السياسية التي لم تظهر من فراغ. فقد ساهم زكي وليدوف مساهمة فعالة في صياغة البرنامج الوطني، وعمل جاهدا على توحيد القوى الوطنية. وبهذا يكون قد مثل صوت الضمير الوطني. فهو لم يكن قوميا متطرفا، لان معرفته العميقة بالتاريخ ساعدته على إيجاد الصلات الطبيعية الممكنة مع ممثلي القوميات الأخرى. إضافة إلى واقعيته في السياسة. إذ ارتبط نشاطه بشخصيات كبيرة معاصرة له مثل مصطفى جاكايف، وجعفر احمد، وسلطان علييف، الذين أنجزوا كل بطريقته الخاصة نفس المهمات العملية. غير أن شخصية زكي وليدوف مثلت الظاهرة التي تحول فيها الميثاق الوطني للحركة الاجتماعية والقومية من أيدي السياسيين المحترفين إلى أيدي المفكرين المحترفين. فإذا كانت ثورة شباط قد وضعت حدا لانهماكه العلمي، بإدخاله دهاليز السياسة، فان الثورة البلشفية أيقظت فيه وحدة العلماني ـ السياسي والوطني ـ الوجداني. وتجلى ذلك بوضوح في محاولته تجميع القوى من اجل إعلان الحكم الذاتي المستقل لبشكيريا في 15/11/ 1917. فكانت تلك التجربة الأولى في تاريخ روسيا والسلطة السوفيتية. كان برنامجه السياسي الأول بسيطا وواضحا: بشكيريا يقودها البشكير، إيقاف سرقة الأرض، حكم ديمقراطي برلماني. وفيما بين إعلان الاستقلال السياسي وتطبيقه العملي توزعت نضالاته وشخصيته السياسية. فقد كان إعلان الحكم المستقل فعلا سياسيا استجاب لمطالب الشعب، ولكنه واجه في نفسه الوقت صعوبات املتها مواقف وتوازن القوى المعارضة والمؤيدة. كما عارض اتباع الجامعة الإسلامية والجامعة التركية ، الذين وجدوا في كل حركة "انفصالية" خيانة للمبادئ الكبرى (الإسلامية والتركية) بينما وضع هو بالضد منهما فكرة الاستقلالية الديمقراطية. وفي الوقت الذي تجاوبت بعض طروحاته مع سياسة البلاشفة وشعاراتهم المعلنة، أدى الخلاف معهم لاحقا إلى مواجهات حادة. فالبلاشفة رفعوا شعارات حية وسليمة حول الحرية والاستقلال والحكم الذاتي وتقرير المصير، إلا أن انها ظلت، كما برهن التاريخ السوفيتي اللاحق، شكلية في كثير من جوانبها. ولم يكن ذلك معزولا عن حصر هذه الشعارات بمصالح "الكادحين" فقط، وتقديم العامل الطبقي والاممي على الوطني والقومي في ظروف لم تتكامل بها هذه الشعوب قوميا. إضافة الى ذلك فان نشاط زكي وليدوف جرى في واقع تداخلت فيه القوى القيصرية المتحللة (والباقية والفاعلة في شتات الواقع الروسي المترامي الأطراف)، والبلشفية الحاكمة (والتي لم تكن قد تحكمت بالأمر كليا) والحركات الوطنية والقومية العديدة (الضعيفة في إمكانياتها، القوية في آمالها). ارتبط تعقيد الخلفية السياسية لنشاطه في بداية الأمر، بواقع تجزئة بشكيريا سياسيا واداريا. فقد أدمجت أراضي وطنه الأم في محافظات اورنبورغ واوفا ويكاتيرينبورغ (سفيردلوفسك المعاصرة). وأعلنت استقلالها في وقت لم تنتصر فيه القوى البلشفية بعد في كل هذه المحافظات. مما جعل وحدتها السياسية عرضة للتبدل. فقد أراد "البيض" وحدة روسيا "البيضاء" وأراد "الحمر" وحدة روسيا "الحمراء". وبغض النظر عن حوافزهما المتباينة إلا انهما التقيا في النقطة التي كان ينبغي البحث فيها عن مخرج بالنسبة لممثلي الشعوب غير الروسية. لهذا عقدّت دراما الصراع بين "البيض" و"الحمر" مواقف ممثلي هذه الشعوب إلى درجة كبيرة وتحولت قضية "الشعوب الصغيرة" إلى لعبة بين أصابع القوى المتصارعة الكبرى. فقد سجن البلاشفة زعماء السلطة البشكيرية في كانون الثاني 1918م، بينما حررهم "البيض" في نيسان من العام نفسه. وكان من الصعب على زكي وليدوف، باعتباره رئيسا للجمهورية، "العمل الإرادي" المستقل كليا في ظل ظروف كهذه، فان استقلاليته الفكرية ـ السياسية دفعته صوب الاتجاه الأكثر أمنا، أي البحث عن الواقعية في الممارسة. إذ كان من الصعب عليه السير إلى جانب المعارضين المطلقين للسلطة السوفيتية والبلاشفة لاعتبارات سياسية وديمقراطية، كما انه لم يستطع الثقة بهم ثقة مطلقة، لاعتبارات سياسية وديمقراطية أيضا، انه سعى لتجسيد مبدأ سيادة الوطن واستقلاله. لهذا نفهم سر موقفه المعارض لأخذ الثأر من البلاشفة الذين كانوا قد سجنوه قبل اشهر، مما جعل معارضيه من كتلة اليمين تتهمه بالتواطؤ مع البلاشفة. بينما سعى هو في الواقع إلى إلا تتحول بشكيريا إلى حلبة للصراعات السياسية "الخارجية". لقد أدرك "سر الوسيلة" في تكتيكات القوى المتصارعة من اجل السلطة. وجعله هذا الإدراك في بداية الأمر يميل الى البلاشفة، بفعل معرفته (وهو الضليع بمعرفة التاريخ القيصري وسياسته تجاه الشعوب التركية الإسلامية)، بان انتصار القوى المعارضة للبلاشفة لا يعطي لبشكيريا اية ضمانة جدية في الاستقلال. وجعله ذلك يبحث عن صلة جديدة بالسلطة السوفيتية. ولم يكن ذلك حصيلة ضرورية لواقع القوى الصغيرة في بحثها عن "حلفاء" أقوى، بسبب الهيمنة الخفية للعقلانية والواقعية السياسية التي تفرض نفسها في حالات الأزمات الشديدة. وانه لم يتصرف هنا كماكر سياسي، ولم يحبذ "الألعاب القذرة"، بل أدرك الخط الفعلي بين الحق والباطل، الإمكانية والفعل، الحياة والموت. ولم يكن وحيدا في توصله إلى هذه النتيجة. فقد انضم إلى هذه "الديناميكية السياسية " الباحثة عن حلفاء من بين حركات "الأطراف". وليس مصادفة أن يتفق مع ممثلي الكازاخ (حركة آلاش أردي) للانضمام إلى جانب السلطة السوفيتية، في وقت كان فيه الجيش الأبيض على قدر كبير من القوة والانضباط. واستجابت هذه المواقف لمرامي البلاشفة، الذين أدركوا واستوعبوا "مرارة" التكتيك السياسي القائل بأنه إذا كان من الصعب كسب القوى "المتذبذبة" المعارضة إلى جانبك، فلا بأس على الأقل، من تحييد انتقالهم الى جانب الأعداء أو المعارضة. لهذا اصبح من الممكن انتقال القوى البشكيرية (العسكرية والسياسية)إلى جانب الجيش الأحمر في 18/2/ 1919. وبعد شهر من هذا التاريخ (19/3/ 1919) جرى توقيع الاتفاق الرسمي بين جمهورية روسيا السوفيتية والجمهورية البشكيرية اعترفت روسيا بموجبه بكيان بشكيريا الوطني والسياسي المستقل. بهذا اصبح زكي وليدوف في تاريخ البشكير الممثل الاول لنهوضهم السياسي والقومي المستقل. مما ألقى على عاتقه عبء المهمة "التاريخية" التي عادة ما تناط بشخصيات من هذا الطراز.غير أن "مجده" السياسي، كان أيضا مقدمة لعملية معقدة طويلة رافقت صيرورة الدولة السوفيتية ومؤسساتها الجديدة. فالبلاشفة استلهموا أيضا تقاليد " الروح القيصري". ولم يؤد " نفيهم الشامل للماضي إلا إلى نتائج لم تختلف في اغلب عناصرها عما هو مميز للسيطرة القديمة. فبلشفة وسفيتة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وضعها في مواجهة صدامية مع البراعم الناضجة للتشكيلات القومية ـ السياسية الجديدة. وإذا كان زكي وليدوف، باعتباره رئيسا للجمهورية، قادرا على تقديم تنازلات أمام البلاشفة بسبب ظروف الحرب الأهلية، على أمل الحصول على مكاسب مقابلها في وقت لاحق، فان آماله اصطدمت بالنتائج التي بدأت تتراءى له بوضوح متزايد: اضمحلال السلطة الفعلية للجمهورية الفتية وتحولها إلى سلطة باهتة اللون. واتخذت هذه العملية مراحل متداخلة ثلاثا: عرقلة مؤسسات الدولة الجديدة، تعطيلها الفعلي، واخيرا محاربتها وتصفيتها النهائية. ولم يكن ذلك نتاجا للتكتيك البلشفي فقط، بل ونتيجة "للنية البروليتارية" وأيديولوجيتها الصارمة، التي وجدت في الحركات الاستقلالية والقومية تعبيرا عن "التطرف الانعزالي" والنزعة الانفصالية". وليس مصادفة أن تجد السلطة السوفيتية على سبيل المثال في نشاط حكومة زكي وليدوف الرامية إلى إقامة وتعميق الصلات المستقلة مع التشكيلات القومية ـ الحكومية (الإسلامية خصوصا) نوعا من "الخطط" الرامية "للانفصال عن روسيا". وفي نفس الوقت لم تنجح محاولات زكي وليدوف في تخطي الصعوبات الجديدة، ولم يثمر حتى لقاؤه بلينين عام 1920م . ومنذ ذلك الوقت اخذ يتعرض لمضايقات وإهانات اضطرته في اذار 1920م ، بعد اتفاق مع أعضاء حكومته، للاستقالة والهروب عبر الغابات إلى الخارج من اجل الاشتراك في حركة المناهضة الجديدة للسلطة السوفيتية. إذ هرب من موسكو إلى تركستان دون المرور بوطنه، لينظم من جديد الى القوى المعارضة. خريف عام 1920 وصل تركستان ، التي كانت آنذاك القطاع الأضخم من آسيا الوسطى، إلى جانب خانات خوى (خوارزم) وإمارة بخارى، والتي احتلها الروس كليا في 60 ـ 70 القرن الماضي. ووضعه دخوله إلى تركستان من جديد أمام دوامة "الجهل السياسي" و"السذاجة الواقعية" لممثلي الحركات السياسية (بما في ذلك الإسلامية) وخصوصا ممثلي الحركة الجديدية. فقد كان هولاء (أصحابه القدامى) في حمى الدفاع عن السلطة السوفيتية، وهم الذين شاركهم أعمال المؤتمر الثاني للكومنترن في عام 1919. وإذا كان هو قد أدرك حقيقة البلاشفة في هذا المجال عندما رفضوا الموافقة على تشكيل الحزب اليساري الاشتراكي الإسلامي، وكذلك في مجرى تجربته السياسية عندما كان في رئاسة الحكومة البشكيرية، فان أصدقاءه القدامى ما زالوا سكرى الثورة. فقد استغل البلاشفة شخصيات الحركة الجديدية لإسقاط خانات خوى (خوارزم) عام 1920، ومهدوا لمجيء بلوان نياز يوسف إلى رئاسة الدولة، وفيما بعد لتدمير إمارة بخارى والمجيء برئيسها الجديدي (من ممثلي الحركة الجديدية) فيض الله خواجه. لقد أدرك زكي وليدوف سياسة البلاشفة على مثال تجربته الشخصية. وحاول جهد الإمكان إقناع رفاقه القدماء رؤساء الحكومات الجدد بالخطر الكامن في تكتيك البلاشفة حول "الصراع الطبقي" الذي كان يستهدف أضعاف القوى المعارضة كلها من اجل أن تكون لقمة سائغة أمام "الهجوم البروليتاري" اللاحق. لقد حاول إقناعهم استنادا الى تجربته السياسية، باعتباره رجلا متمرسا في العيش بين "البيض" و"الحمر". وكان من الصعب عليه الاتفاق مع ممثلي الحركة الجديدية، رغم دفاعهم عنه. ودفعته هذه الحالة للبحث عن "حلفاء" جدد عثر عليهم في الحركة البصماجية. من الصعب القول بان اختياره الجديد سذاجة سياسية أو مغامرة يائسة جعلته يبحث عن "أشقاء" جدد بين "العصابات" و"القتلة" و"الحثالات". لقد اضطر بفعل الدوافع السياسة نفسها للبحث عن الإمكانيات المتاحة. وبغض النظر عن احتقاره للكثير من مكونات الحركة البصماجية، الا انه وجد فيها قوة قادرة في حال توفر قادة نزيهين على أن تعطي ثمرها. الأمر الذي يفسر دخوله في هيئة أركان "دماغها" السياسي والتنظيمي، التي ترأسها آنذاك أنور باشا ( نهاية عام 1921). ومع هزيمة أنور باشا العسكرية أدرك نهاية الوجود السياسي للحركة. وجعله ذلك يبحث عن مخرج آخر وجده في الخروج من"حمام الدم" الثوري. لقد توصل إلى إدراك الحقيقة القائلة بان الحرب الأهلية لا يمكنها أن توصل إلى نتيجة سليمة؛ وان الحرب الأهلية لا تؤدي إلا إلى تعطيل وفقدان القيم البسيطة والحقيقية كالضمير والحق وما شابه ذلك؛ وأنها تشوه المفاهيم والقيم؛ وان المسيطر فيها ليس المبادئ والعدالة بل المكر والاغتصاب، لان الجميع يشتركون في سرقة "المسروق" من اجل إعادة "توزيعه"؛ وان القادة عادة ما يتحولون فيها إلى أمراء وخانات جدد. عندها ترك هذه اللعبة، إلا أن البحث عن أسلوب جديد للصراع القادم ظل ساريا في أعماقه. فبعدما غادر تركستان إلى أفغانستان ثم إلى إيران فان حياته الجديدة لم تبخل عليه "بهدية" التاريخ القديم. إذ عثر في مدينة مشهد على مخطوطات (رسالة أبي دلف) و(رحلة ابن فضلان) ومخطوط (ابن الفقيه الهمداني). لقد "رفضه" عالم السياسة، وأهمله تاريخ وطنه، إلا انه وقع من جديد في أحضان البحث العلمي التاريخي حيث ذاق لذة العلم ومرارة الغربة. أما استقراره النهائي في تركيا فلم يعن انعزاله التام عن السياسة. فهو لم يشاطر آراء وسياسة كمال اتاتورك، كما لم تكن علاقته بالقوى المعارضة لاتاتورك (الإسلامية) جيدة لأنهم لم "يغفروا" له ما كانوا يعدّونه في سياسته السابقة تحطيما "للوحدة الإسلامية". أما في الواقع فانه كان يجتهد ضمن رؤية خاصة مستقلة تجلت أيضا في مواقفه أثناء الحرب العالمية الثانية. فقد وقف إلى جانب تركيا وألمانيا ولكن ليس لاعتبارات أيديولوجية أو قناعات ضمنية بالفاشية. فهو يشبه هنا بعض ممثلي الحركات القومية العربية والإسلامية في تلك الفترة. وهذا ما يفسر المضايقات والاتهامات التي وجهت له في تركيا بما في ذلك محاكمته وسجنه. وبعد الإفراج عنه في عام 1947 عاد من جديد الى دراساته العلمية. حيث قضى البقية الباقية من حياته بالبحث والدراسة والتنقيب. فقد نشر وحقق وكتب باللغات التترية والتركية والروسية والألمانية والإنجليزية والعربية. ولعل كتبه "الوجيز في تاريخ الترك والتتر" (1914) و"اثنوغرافيا أذربيجان 1927" و"الجغرافيا السياسية لأذربيجان" (1930) و"المغول وجنكيزخان والأتراك" 1941 و"تاريخ تركستان"(1942) و"مقدمة في تاريخ الاجتماع التركي" (1946) و"أصول التاريخ" (1950) و"الأتراك ـ تركستان" (1960) وتحقيقه ونشره للمؤلفات العربية مثل "رحلة ابن فضلان" (1939) و"صفة المعمورة" للبيروني (1941) و"مقدمة الأدب للزمخشري" (1951) وغيرها من الاعمال لشاهد على اهتماماته الواسعة وفضله العلمي. لقد شاطر زكي وليدوف تجربة القرن العشرين في انعطافاته الكبرى، وكان في أعماله ومواقفه نموذجا للاجتهاد المخلص للحقيقة ومصالح الشعوب الإسلامية وثقافتها. وكان شان كل اجتهاد عرضة للصواب والخطأ. *** *** ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أعلام المسلمين في روسيا (2)
-
أعلام المسلمين في روسيا
-
الاستشراق والاستعراب الروسي (6-6)
-
الاستشراق والاستعراب الروسي (5- 6)
-
الاستشراق والاستعراب الروسي (4-6)
-
الاستشراق والاستعراب الروسي (3-6)
-
الاستشراق والاستعراب الروسي (2- 6)
-
الاستشراق والاستعراب الروسي (1-6)
-
منهج الشهرستاني في الموقف من الأديان
-
النقد الظاهري للدين النصراني عند ابن حزم
-
النقد الظاهري للدين اليهودي عند ابن حزم
-
النقد الاشعري للأديان في الثقافة الإسلامية
-
النقد المعتزلي للأديان في الثقافة الإسلامية
-
التقاليد الإسلامية العامة في نقد الأديان
-
نقد الأديان والبحث عن الوحدانية في الثقافة الإسلامية
-
فلسفة الإيمان عند الغزالي (2-2)
-
فلسفة الإيمان عند الغزالي (1-2)
-
منهج الشهرستاني في تقييم وتصنيف الفرق الإسلامية
-
المنهج الجدلي لابن حزم في تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية
-
تصنيف وتقييم البغدادي للفرق والمدارس الإسلامية
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|