|
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية في فوضى الشرق الاوسط -5 الايديولوجية الرسمية ونمط السلطة في كردستان -1
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1123 - 2005 / 2 / 28 - 08:55
المحور:
القضية الكردية
5 – الأيديولوجية الرسمية ونمط السلطة في كردستان أظن أنه ستُخطى أهم خطوة في النظرية الحديثة للواقع الاجتماعي، في حال كتابة قصص الأيديولوجيا والسلطة. من الضروري الإدراك أن السوسيولوجيا عجزت عن تحليل ظاهرتَي الأيديولوجيا والسلطة. ستقود التحليلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في نهاية المطاف إلى أخطر أشكال الجهالة الاجتماعية، إنْ لم يوضَّح دور تسيير كل من الأيديولوجيا والسلطة كطراز فكر وهيمنة مشتركة في تكوين النسج الاجتماعية الأخرى. وستتعقد مشكلة المعرفة والتطبيق أكثر فأكثر، إنْ لم يلاحَظ الفرق الكامن بين تطبيق الأسلوب العلمي مع المجتمع من جهة، وتطبيقه لأجل عالَم خارج نطاق المجتمع من الجهة الثانية. تُعَدّ معرفة المجتمع لذاته منتمية إلى هذه الحقيقة الواقعة. ولربما كانت المزية الأساسية للمجتمع هي تعريفه لذاته. حيث من الصعب الحديث عن وجود مجتمع لا يقدر على تعريف ذاته. وبالمقدور وصف هذه الحالة بتحول المجتمع إلى جثة أو نعش. الاسم الآخر لتعريف الذات هو الأيديولوجيا الاجتماعية. أما الأيديولوجيا، فيمكن تعريفها بأنها مجموع الأفكار المشتركة البالغة مستوى الإرادة. الاسم الثاني لها أيضاً هو الأخلاق الاجتماعية، التي تتمثل فاعليتها الأولية في حسم الوجود الاجتماعي. والوجود الاجتماعي بدوره لا يتحقق إلا بتبني الذات، أي ببلوغ مستوى القوة الأيديولوجية. وهكذا تكتمل الحلقة. إلى جانب الأواصر الكثيبة للسلطة مع الأيديولوجيا، إلا إن الأولى هي المحدِّدة بشكل خاص في المجتمعات التسلطية، كظاهرة مختلفة بحد ذاتها. والسلطة بذاتها تعني تمأسس العنف في المجتمع. وهي وسيلة تمويه العنف. لذا، ربما لا يمكن تعريف السلطة بمفردها. فتعريف قناعٍ ما أمرٌ غير ممكن، إلا بتحديد الشيء الذي يكون ذاك القناع وسيلة لتمويهه. فالأقنعة لا تُعَرَّف بمفردها. والعنف لا يُفهَم إلا لدى انفجاره. حينها يسقط القناع، ويُدرَك أنه لم يكن شيئاً قائماً بحد ذاته. وحتى لو كان ذلك، فسيُرى بجلاء أكبر أنه شيء مُكمِل للعنف، وهو وجهه المخادِع. لا يكون المجتمع الذي يحدِّده العنف في حالة طبيعية، بل في حالة انفجار. ويندر وجود حالة الانفجار المستمر في المجتمعات، مثلما هي حال الطبيعة أيضاً. لكن فرصة تبادل العلاقات الأعظمية بين الذكاءَين العاطفي والتحليلي، واتحادهما، قابل لعرقلة حدوث الانفجارات الاجتماعية (الحرب، الثورة، الثورة المضادة، الانتفاضة، والنزاع). ولدى تحولها إلى مشكلة، فمؤكد إمكانية إيجاد الحلول الخالية من الانفجارات. أي أن الزعم بعدم وجود سبيل آخر سوى العنف والسبل العسكرية، هو غير واقعي. ثمة ضرورة لصياغة هذه التعاريف الوجيزة لأجل دراسة الأيديولوجيا الرسمية والسلطة في كردستان. الأيديولوجيا الرسمية هي وسيلة لصون الوضع القائم لسلطة الدولة الموجودة في المجتمع، وأداة لإضفاء المشروعية عليه. وهي أداة خلق الذهنية وتطبيقها، بغرض حظي سلطة الدولة على المصادقة الأحادية الجانب عليها، ومواصلة وجودها. وإذا ما أعطينا أمثلة عليها، نجد أن الميثولوجيا لدى السومريين، والفلسفة لدى الإغريق، والعلم في أوروبا الحديثة، والدين في عالم العصور الوسطى؛ تقوم كلها بنشاطاتها وفاعلياتها كأداة أيديولوجية أساساً. أما تطبيقاتها العملية (العبادة والطقوس والشعائر) فهي فاعلية ثانوية. المحدِّد هنا هو كونها قوالب الذهنية النواة. يتجسد الهدف الأولي للأيديولوجيات الرسمية في كردستان في تكوين سلسلة من الفرضيات القائلة بأنه لا وجود لظاهرة تسمى بالكرد، وإنْ وُجِدَت فهي غير مهمة، وإنْ كانت مهمة فكشف النقاب عنها أمر بالغ الخطورة. ويُجلَب الماء من ألف بحر لإثبات ذلك. وتُصَبُّ بعضها كالماء الجامد فوق الرؤوس، وبعضها الآخر كالماء المغلي. يُصَرُّ على هذه الفاعلية إلى أن يُعتَرَف بالسلطة الدارجة، ويُصادَق عليها وعلى كل شيء معني بها. أما الذريعة الأساسية المتوارية وراء هذه الفاعلية، فتتمثل في القول بأن كردستان قد فُتِحَت منذ أمد غابر، وأن الكرد – بالتالي – قد استسلموا معها. الغريب في الأمر أن الكرد غير متنبهين أبداً إلى هذه المآرب والمزاعم. بمقدور صاحب السلطة التركية أو العربية أو الفارسية أن يسرد بأفضل الأشكال كيفية فتحه للكرد وكردستان القابعة في ظل بنية سلطته، وعبر أية حروب شهيرة تم فتحها. بل وإنه يتلذذ ويغتبط لشرح حكايات البطولة لتلك الفتوحات أيضاً. أما الكردي (إنْ كان له وجه وفؤاد قادر على الزعم بأنه موجود)، فيصغي إلى هذه الحكايات بكل حماقة وبلاهة. ونادراً ما يُبدي مهارته في محاكمة ما (أو مَن) تم فتحه. إن حالته الراهنة هي النقطة التي تنتهي فيها الذهنية الاجتماعية والأخلاق المرتبطة بها، وتزول. تمتد الأيديولوجيات الرسمية حتى راهننا منذ قرون مديدة، متقمصة أشكالاً مختلفة، وكأنها حلقات سلسلة متتالية لا تعرف الانقطاع. على سبيل المثال؛ فالعرب أصلاً يطرحون زعماً بأنهم يمتلكون في حوزتهم أهم وثيقة إلهية، باعتبارهم فاتحو الإسلام. "لقد فتحناها، إذاً فهي لنا". وهل ثمة حق أعظم من الفتح باسم الإله؟! هذا هو الزعم الذي لا يزال يُطرَح بشدة وإصرار. أما الفُرْس، فيخطون خطوة أخرى إلى الأمام، ويَبدون واثقين من أنفسهم بأنهم – ومنذ أمد بعيد – أصبحوا أصحاب كل شيء عائد للكرد الذين هم أقاربهم من الدرجة الثانية، وأن الكرد قد صادقوا على ذلك منذ زمن غابر. وهم – الفرس – لا يجدون نفعاً من سرد الذرائع الطويلة لذلك، وكأنهم يتساءلون "هل ثمة زعم اسمه الكردياتية مقابل أيديولوجياتهم وسلطات دولتهم الكبرى؟!". وبالنسبة للأتراك فيطرحون نفس سيناريوهات الفتح المزعومة. حيث يزعمون بفتحهم لكردستان، كجزء من بلاد الأناضول، قبل ألف عام من الآن؛ دون أن يقوموا بمحاكمة ذلك أبداً. إنهم يتحدثون عن زعم معصوم عن الخطأ، وكأن الفتح يوَلِّد الحق المطلق!. في الحقيقة، قد يكون فتح بلاد البلقان أو إسطنبول أمراً ذا معنى. أما البرهنة على أن "ديار بكر" لم تُفتَح إطلاقاً، وأنه تم التحرك فيها بسياسات مشتركة منذ عهد السلاجقة، وأن مسار التاريخ الأصلي هو هكذا؛ فتُعَدُّ اعتداءاً على حق الفتح أو أيديولوجيته. بيد أننا أوضحنا كيف أن الكرد القاطنين في أراضيهم منذ ما يناهز الخمسة آلاف عاماً، وأسسوا ثقافتهم فيها، وصاروا أصحاب وطن (Welat) عليها؛ إنما هم أصحاب حق دارج يضاهي حق الفتح بآلاف المرات. كيف يصبح وطن الكرد بضربة واحدة مُلكاً للعربي أو التركي أو العجمي؛ بينما هو – على الأقل – مصدر الحق الأولي للكردي، الذي زرع أراضيه صيفاً شتاءً، وحوَّلها إلى حقول خضراء يانعة، وأسس القرى والمدن عليها، واجترّ آلامها وهمومها آلافاً من السنين، وقاوَم لأجلها، ومات على ثراها، وسَكَب نور عينيه على كل شبر فيها، وعاش فوق أراضيها، وكوَّن وجوده الاجتماعي عليها بكل أشكال الكدح، تماماً كمن يقوم بتطريز نسيج ما؟ بمقدور الكردي الزعم أمام هؤلاء قائلاً: لربما فتحتَ أنتَ هذه الأراضي عن باطل لمرة واحدة، ولكنني أفتحها كل يوم بإمدادي إياها بمئات الأجيال. أما الزعم الآخر للأيديولوجيات الرسمية، فيتعلق بإمكانية أن يكون مصطلحا الكرد وكردستان ذريعة للانفصالية التي لا جدوى منها، والخطيرة، بل وحتى المرتبطة بالإرهاب. بيد أنه أُثبِتَ تاريخياً أن مصطلحَي الكرد وكردستان كانا موجودَين قبل آلاف الأعوام، وقبل أن يتواجد العرب والفرس والترك في الميدان. علاوة على أنه تبين بأنهما ليسا بلا جدوى، بل يحتلان مرتبة الصدارة في المصادر الأولية للحضارة. أما الزعم بأنهما يتسببان في الانفصالية والعنف، فيبرهن على العكس. إن الموقف الأشبه بالسارق الذي طرد صاحب بستان الكرم، إنما هو موقف انفصالي. ولماذا يَقسِم الكرد أراضيهم التي خلقوها وبنوها بكدحهم وعرق جبينهم لآلاف السنين؟ هذا ولطالما هم الذين يتلقون الضربات، ويتعرضون للغزو والاحتلال والعنف الأصلي الخارجي؛ فلِمَ سيلجؤون إلى العنف؟ ولِمَ سيتحول الدفاع المشروع الاضطراري إلى عنف انفصالي؟ لا تنطق الأيديولوجيات الرسمية بالنقاط التي قمنا بصياغتها، بشكل علني. إلا إن مضمونها يفيد بهذا الشيء. وما يتبقى من الأمر يُصاغ على شكل مقولات ومُثُل شعبية من قبيل "هيا يا محمد الكردي، المحتال والقبيح، إلى الحراسة" و"ما الذي يفهمه الكردي من العيد؟ إنه يشرب اللبن الرائب ذليلاً خانعاً". تَعتَبِر الأيديولوجيات الرسمية تلقين مزاعمها الأساسية تلك في المدارس الرسمية كعِلم طويل الأمد معني بالتاريخ والاقتصاد والسياسة والأدب والقانون والفنون والعسكرتارية، بل ومعني حتى بالدين والأخلاق؛ تَعتَبِر ذلك أحد أهم الوظائف الأولية المكلفة بها. وهكذا تؤمِن بتحقيقها مشروعيتها الاجتماعية. تسعى الأيديولوجيا هنا إلى أن تقوم بفاعلية أخطر من المجازر ذاتها. إن الانتفاع من العمل على حَطِّ شأن مجتمع أو شعب ما، ومن إقحامه في وضع مغلوب ومهزوم، وبالتالي دحضه وإنكاره؛ لا يُعتبَر مجرد انتهاكٍ لحقٍ ما، بل يعني إنكار ذاك الحق كلياً، وبما يخالف وينافي – من حيث المضمون – كافة الحقائق الدينية والفلسفية والعلمية. وما من مشكلة اجتماعية أخطر من هذه قطعياً. فالناكر للشيء، بمقدوره أن يقضي عليه أيضاً. إن هذه الكتابة ليست مكلفة بالنقاش المطوَّل والمسهِب في كيفية تحويل تلك المراحل إلى مآرب أولية في الدول العربية والفارسية والتركية. نحن نقوم فقط بصياغة تعريف للفاعلية الأيديولوجية. بالإضافة إلى أنه ثمة مشكلة معنية بالوسائل الأيديولوجية. حيث يُسعى لتكرار هذه المزاعم الأيديولوجية وإضفاء المشروعية عليها ألف مرة في اليوم، وكأنها حقيقة واقعة أولية؛ وذلك عبر الإمام المتنقل أولاً، وعبر الدراويش والأسياد، ومن ثم عبر الكتب، وبوصولنا إلى يومنا هذا يتم ذلك عبر المذياع والتلفاز والصحف والمدارس الرسمية والجوامع. أما محاولة طرح أطروحة مناقضة لذلك، فتصبح موضوعاً لعقاب شديد الوطأة، بحيث تباشر قوات الأمن وأجهزة القضاء على الفور بالتحقيق فيها والاستقصاء عنها ومحاكمتها ومعاقبتها حتى بعقوبة الإعدام. وبعد إتْباع حق مجتمعٍ أو شعب ما في التعبير عن ذاته كشرفٍ أساسي له، بكل هذه العراقيل والعثرات، هل يبقى ثمة خير يتأتى من أولئك الناس أو تلك الجماعات، حاكمةً كانت أم محكومة؟ جلي جلاء النهار أن الأيديولوجيات الرسمية تخلق مشاكل حقيقية. حيث تُسخَّر في خدمة إضفاء صبغة المشروعية على جوهر العنف للسلطة، والعمل على بسط نفوذه وإكسابه أحقيته كوظيفة أساسية لها، لخلق وضع ثابت بموجب ذلك. إنها تُشكِّل البراديغما الأساسية للمجتمع – حاكماً كان أم محكوماً – وتعمل على بسطها كوجهة نظر أحادية الجانب ومهيمنة، سعياً منها إلى عرقلة استيعاب الحقيقة، وبالتالي إلى إعاقة بروز السلوكيات الصحيحة والسليمة. وتُفرِغ كل سِلم أو تعاضد اجتماعي محتَمَل من جوهره الحقيقي الواقع. بل، وخلافاً لذاك الاحتمال، تُشكِّل دافعاً حقيقياً لظهور المزاعم المضادة إلى الوسط في كل لحظة، وتُكثِر من دعوتها إلى أجواء مشحونة بالتنازع والعنف. إن الأطروحات غير الواقعية لتلك الأيديولوجيات هي التي تخلق الذرائع لشن الحروب المعرقِلة للسلم الاجتماعي في كل الأوقات، وعلى مر التاريخ. هذا ما يقود بدوره إلى فتح المجال أمام الأيديولوجيات المضادة، وبالتالي أمام ظهور البنى المضادة، والإبقاء على المجتمع في حالة من التوتر والحزازية والاشتباكات المحتدمة. يمر السلام الحقيقي في الميدان الأيديولوجي من حرية الفكر. لقد تنبه الأوروبيون إلى أهمية حرية الفكر، بعد خوض الحروب الأيديولوجية الكبرى الممتدة طيلة قرون عديدة، فجعلوها من أولويات الحقوق. تمهد حرية التفكير لإبراز نقاط الضعف والأخطاء الكامنة في مضمون السلوكيات الأيديولوجية، لتقود إلى هيمنة السلوكيات الأكثر واقعية. هكذا يتحقق العطاء الفكري. إن رفع الحصار الأيديولوجي المطوِّق للظاهرة الكردية في كردستان، ورفع الحظر عن الوسائل الإعلامية من كتب وصحف وسينما وإذاعة وتلفاز من أجل حرية التعبير؛ ليسا من دواعي الدمقرطة وحقوق الإنسان فحسب. بل يؤدي ذلك دوراً رئيسياً في المساهمة في خلق إمكانيات وفرص استيعاب المجتمع للحقيقة الواقعة، وتَعَرُّفِه على المعلومات العلمية، وبالتالي تَمَكُّنِه من أن يكون مجتمعاً معلوماتياً. إن اكتساب المعلومات الصحيحة هو الدرب الأسلم لحل المشاكل بالنمط السلمي الأكثر واقعية، وبالتالي الأكثر منطقية. وما أَكسَبَ أوروبا القيمةَ الأولية في العالم، هو رؤيتها بأن هذه الحقيقة تليق بمكانة مجتمعاتها. ما دامت الأيديولوجيات الرسمية الحالية مستمرة في الظاهرة الكردية في كردستان، فإنها تُسبِّب دافعاً حقيقياً لخطر بليغ، بإبقائها الأجواء ملائمة على الدوام لكافة أشكال الاستغلال الخارجي. وما يُعاش في العراق يُشِيد بهذه الحقيقة بأفضل أنماط التعبير. لا يمكن لِمَن يَحمِل حَدْبَة الأيديولوجيات الرسمية على ظهره، أن ينجو من العَرَج والكسح الدائم على درب العصرنة. بالتالي، فإن الأيديولوجيات الرسمية الدارجة – وعلى عكس ما يُزعَم تماماً – تُشكِّل مصدر مخاطر حقيقية من أجل تكامل الوطن والدولة، وذلك بتأجيجها الدائم لأوضاع حاملة بالعنف والانفصالية بين أحشائها. لهذا السبب بالذات، طالما شهد التاريخ عدداً كبيراً من المجتمعات والدول والأوطان المنخرطة في حروب عمياء همجية، والمتجزئة، والمتكبدة خسائر فادحة. إذا ما وضعنا نصب أعيننا الشكل الملموس للأيديولوجيا الرسمية المهيمنة على كردستان، سنجد أن النعرات الدينية والقوموية هي السائدة. حيث ينشط الإسلام في أجزاء كردستان الأربعة كأيديولوجية دولة. ورغم الجدالات العلمانية الدائرة، إلا إنه من المعلوم يقيناً أن الإسلام يلعب دوراً سياسياً مائة بالمائة، وأن العلاقة بين الفرد والله (هي في جوهرها علاقة بين الفرد من جهة، والدولة والسلطة من الجهة الثانية) ليست سوى خداعاً وزيفاً. وبينما تقوم بعض البلدان – كإيران مثلاً – بذلك علانية، تلجأ البلدان الأخرى إلى أساليب مستترة. ففي تركيا ثمة ما يناهز المائة ألف كادراً دينياً. ربما لا وجود لجيش ديني كهذا حتى في إيران ذاتها. ومدارس الإمام الخطيب أقرب إلى الثانويات الرسمية. وبإضافة دورات تعليم القرآن، والمعاهد وكليات الإلهيات (اللاهوت)؛ يظهر أمامنا حوالي نصف مليون كادراً. من المحال تحقيق الدنيوية بصقل التعليم بقناع العلمانية. ومن غير الممكن تحقيق الدنيوية الحقة، إلا بالتحليل السوسيولوجي للفكر الديني، وبتخطيه عبر الآداب. تُشكِّل العلمية والديانوية أسوأ أشكال الاختلاط والتمازج بين هذه البلدان. والانغلاق الموجود في الذهنية هو الذي يؤَمِّن هذا الاختلاط والتشوش، ويأتي في صدارة العراقيل المزروعة على درب التطورات الفلسفية المحقِّقة للفكر الخلاق والبراديغما الأدبية النبيلة. في الحقيقة، لم تمعن هذه البلدان في التفكير فيما ستفعله عبر الأيديولوجيا الإسلامية. حيث تنتفع منها كأداة في حسابات السلطة اليومية، وفي التحكم بالمجتمع والمرأة وضبطهما. إلا إنها في الوقت ذاته عاجزة عن الانتباه إلى الخسائر الفادحة المتعرضة لها، بسبب عجزها عن تطوير البراديغما العلمية. علاوة على ذلك، تُخلَق حالة لا يمكن النفاذ منها، أثناء امتزاج الطرائقية (كذهنية منظَّمة) والتحزب بأمور السياسة بشكل مباشر. فأنْ تكون مؤمناً أو لا تكون، لا يشكِّل أية قيمة بمفرده. فمثلما أنه بمقدور رجل الدين الحسن أن يلعب دوراً مهماً في المجتمع، فباستطاعة الرجل العلماني غير المؤمن إطلاقاً، أن يؤدي الدور عينه. لكن التحليل السوسيولوجي شرط أولي من أجل ذلك. حيث من المحال استصغار التقاليد الدينية أو ازدراؤها. بل من الضروري – وبكل تأكيد – استيعاب المعاني التي تمثلها. وفي هذه الحالة تكون ذات قيمة، كتعريفٍ هام لهوية المجتمع. أما إذا لم يُعمَل بذلك، بل وأُسقِطَت إلى مستوى استظهاري حفظي مؤلَّف من طقوس وشعائر وعبادات وأدعية فحسب؛ فلن تؤدي دوراً أبعد من تخدير الأذهان والعواطف، وشل تأثيرها، وتأمين انغلاقها أمام العلم والمعرفة. لهذا السبب بالذات يتم الالتفاف حول الدين في الأزمان التي تتصلب فيها الإدارة الكيفية (الاستبدادية) وتقسو. حيث يُسعى عبرها إلى تخدير وعي المجتمع وإرادته. ولطالما استُخدِم الدين بموجب ذلك – وبكثافة – في العراق وسوريا وتركيا، بقدر ما هي عليه الحال في إيران. ثمة مضمون سوسيولوجي في سياسة أتاتورك الدينية. وتفضيله المنحاز للذهنية العلمية أمر واضح. هذا ولا يُنكَر أنه خاض صراعاً ذهنياً أيضاً. إلا إن العجز عن القيام بالتفسير العميق للتقاليد الدينية، وعن تلقيح الدين بالفلسفة، بل والتحكم بالأخيرة عبر التشكيلات والأجهزة الدينية؛ لم يُجْدِ نفعاً كثيراً من حيث النتيجة على المدى الطويل. لقد بدا العجز عن تحقيق علمانية من الطراز الأوروبي. أما في المرحلة اللاحقة لأتاتورك، فتَمَّت تعرية وإفناء مكتسبات الجمهورية في هذا الاتجاه بنسبة ملحوظة، مع فرض التردي والانحطاط على البراديغما، وتطلعها إلى المآرب السياسية. لقد عُمِل بتسييس الدين بكل علانية في عهد حُكم كلٍ من الحزبين DP وAP. وتم تقميصه رداءً أيديولوجياً رسمياً في انقلاب 12 آذار وانقلاب 12 أيلول، تحت ستار التركيبة التركية – الإسلامية الجديدة. هكذا دخلت تركيا بُعَيد عام 1980 درباً من تقليد إيران ومحاكاتها. ومع استلام حزب AK مقاليد الحكم مؤخراً، باتت الأيديولوجية الإسلامية سلطة رسمية. لقد غدا الإسلام السياسي سلطة، حصيلة السياسة الدينية التي مارستها الدولة منذ زمن طويل، وليس – كما يُظَن – بمجرد انتقاء وتفضيل. بل وتحقق هذا التحول عبر المدرسة السُّنّية النقشبندية، التي هي التفسير المذهبي الأكثر تزمُّتاً في الإسلام. أما التناقض مع إسلام إيران، فيكمن في الشكل، لا الجوهر. فالمذهب الشيعي الذي يغلب عليه الجانب الاجتماعي، في خلاف وتصادم مع التفسير السُّنّي النقشبندي الذي يطغى عليه الجانب الدولتي المتزمِّت.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية القضية ، الكردي
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردي
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
المزيد.....
-
الجامعة العربية تبحث مع مجموعة مديري الطوارئ في الأمم المتحد
...
-
هذا حال المحكمة الجنائية مع أمريكا فما حال وكالة الطاقة الذر
...
-
عراقجي: على المجتمع الدولي ابداء الجدية بتنفيذ قرار اعتقال ن
...
-
السعودية.. الداخلية تعلن إعدام مواطن -قصاصًا- وتكشف اسمه وجر
...
-
خيام غارقة ومعاناة بلا نهاية.. القصف والمطر يلاحقان النازحين
...
-
عراقجي يصل لشبونة للمشاركة في منتدى تحالف الامم المتحدة للحض
...
-
-رد إسرائيل يجب أن يتوافق مع سلوكيات المحكمة الجنائية الدولي
...
-
مياه البحر تجرف خيام النازحين في منطقة المواصي غرب خان يونس
...
-
مصرع عشرات المهاجرين بانقلاب قواربهم قبالة اليونان ومدغشقر
-
الجنائية الدولية تطالب الدول الأعضاء بالتعاون لاعتقال نتنياه
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|