|
البابا في شرحه الفلسفي ل -حرِّيَّة التعبير-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3855 - 2012 / 9 / 19 - 12:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جاءنا البابا بينيديكتوس السادس عشر و"الأزمة"، التي يمكن تسميتها "أزمة حرِّيَّة التعبير"، على أشدها؛ وبعدما عَرَفَنا، بفضل هذه "الأزمة"، آراء ووجهات نظر إسلامية في شأن هذا "الحق"، أو هذه "الحرِّيَّة"، أَحْسَبُ أنَّ من الأهمية بمكان أنْ نَعْرِف أيضاً وجهة النَّظر الفلسفية (الدينية) للبابا في الشأن نفسه. غير مرَّة، حَدَّثنا البابا بينيديكتوس عن "ثنائية الإيمان والعقل"، مُعَبِّراً لنا عن إيمانه بحقِّ البشر جميعاً في حرِّيَّة التعبير (أيْ في أنْ يُعَبِّروا بحرِّيَّة) عن آرائهم وأفكارهم ووجهات نظرهم ومعتقداتهم.. ومواقفهم؛ وأحسبُ أنَّ أحداً من الديمقراطيين في العالَم (وأنا منهم على ما أزعم) لا يستطيع إلاَّ أنْ يقول بما قال به البابا في شأن "حرِّيَّة التعبير". والآن، لِنَدَعْ البابا يُبيِّن لنا، ويشرح، "الأساس الفلسفي (الديني)" لإيمانه بهذا "الحقِّ الإنساني". يقول البابا إنَّ "العقل" يعلو ولا يُعْلا عليه؛ حتى "المشيئة الإلهية" يجب إخضاعها، بحسب إيمانه الإنجيلي، لـ "عقل الإنسان"؛ فلا إيمان (دينيَّاً) لا يُقِرُّه العقل (الإنساني). وفي هذا، بحسب وجهة نظره، يكمن "الفرق الجوهري" بين المسيحية والإسلام؛ فالمسيحية، على ما يقول البابا نفسه، تقوم على "العقل والمنطق"؛ أمَّا الإسلام فيقوم على رَفْض إخضاع إرادة الله لمحاكمة العقل والمنطق. وهذا الفرق يراه البابا جزءاً من كل؛ فالعقيدتان تختلفان، بحسب رأيه، في "صورة الذات الإلهية"، فالله ـ يقول البابا ـ في العقيدة الإسلامية "مطلق السمو، ومشيئته تعلو على عقل الإنسان، ولا تخضع له". عند البابا، ليس من إيمان ديني لا يقره العقل، أو يكون منافياً له؛ فالمنافي للعقل لا يمكنه إلاَّ أنْ يكون منافياً لطبيعة الله. ويفهم البابا "نشر الدين بالعنف" على أنَّه منافٍ للعقل، ومنافٍ، من ثمَّ، لـ "طبيعة الله"؛ مع أنَّ الإنجيل في أصحاح متى نسب إلى المسيح القول الآتي: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض بل سيفا". هذا هو الأساس الفلسفي "الصَّلْب" للتفكير المسيحي لدى البابا. "الإيمان الديني" أعْرِفه؛ أمَّا "العقل" الذي يقدِّسه البابا، ويريد له أنْ يحكم العالم، فهو الأحجية بعينها. إنَّه يحدِّثنا عن كائن خرافي، لم يوجد قط، ولن يوجد أبداً، هو العقل الإنساني "العام"، الذي يظل هو نفسه مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، ومهما اختلفت مصالح البشر وحاجاتهم، ومهما اختلف البشر أنفسهم في الخواص التاريخية والاجتماعية؛ فهل كان البابا يظن أنَّ أسلافه من المؤمنين بأنَّ الأرض مسطحة وليست كروية، وبأنَّها لا تدور حول نفسها، وبأنَّ الشمس هي التي تدور حولها، كانوا قوماً يؤمنون بما هو منافٍ للعقل في زمانهم؟! البابا يستطيع اليوم أنْ يأتينا بمئات الأفكار والمعتقدات التي قال بها أسلافه في القرون الوسطى والتي هي الآن، في رأيه، وفي رأي كثيرين من المؤمنين وغير المؤمنين، منافية تماماً للعقل؛ لكن هل كان أسلافه أولئك، وبما يملكون من موازين العقل والمنطق والصواب والخطأ، يرونها منافية للعقل؟! حتى "العنف"، أو "السيف"، لا يُفْهَم كما فهمه البابا، وكما أراد لنا فهمه؛ فما هو موقف البابا من العنف "المنافي لطبيعة الله" إذا ما استخدمه أناس ضدَّ من يحاول فرض معتقده عليهم بالعنف، أو السيف؟! هل، عندئذٍ، يصبح العنف الآخر، أو المضاد، موافقاً لـ "طبيعة الذات الإلهية"؟! البابا حرٌّ في قوله بأنَّ الإيمان الديني يقوم على إخضاع "المشيئة الإلهية" لمحاكمة العقل والمنطق؛ لكنَّه ليس حُرَّاً في أنْ يَدْعونا إلى وهم "العقل الإنساني المطلق"، الذي لا يخضع بأحكامه وعقلانيته ومفاهيمه لمحاكمة التاريخ. البابا بينيديكتوس السادس عشر يَعُود روحيِّاً إلى زمن الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني (1350 ـ 1415). ولقد استحضر موقف ذاك الإمبراطور من الإسلام من أجل استحضار الروح الأوروبية في العصر الوسيط؛؛ فما أشبه "روما الجديدة" بـ "روما القديمة".. إنَّ أحداً من المؤرخين لا يستطيع أنْ يأتي ولو بدليل واحد على أنَّ ذاك الإمبراطور، الذي شحن سلطته السياسية الزمنية بسلطة روحية إنجيلية، قد نشر عقيدته الجديدة بين رعاياه بـ "الحوار العقلاني"، فـ "الإيمان من طريق العقل" ما كان هو الأسلوب الذي اتُّبِع في نشر العقيدة الجديدة؛ لقد آمن الإمبراطور، فآمنت الرعية بما آمن؛ ومُذْ آمن الإمبراطور بدأ الزَّج بالسماء في حروب الأرض. وفي "روما الجديدة"، اشتد الميل إلى الإمعان في تهويد المسيحية التي يريدها "المحافظون الجدد" مسيحية متصالحة في الجوهر مع أوهام "العهد القديم". وقد اقتُرِفت الجريمة الأولى والكبرى سنة 1965 حيث برأ المجمع المسكوني الثاني اليهود من جريمة صلب المسيح، فبيع مرتين بثلاثين من الفضة. إنَّ أسوأ تفسير لتاريخ الأديان والعقائد هو هذا الذي جاء به، أو تبناه، البابا الألماني إذ صوَّر انتشار الإسلام على أنه ثمرة العنف وحدِّ السيف، وكأن العقائد، في انتشارها، تشذ عن القوانين الموضوعية للتاريخ، التي بحسبها يستحيل أنْ ينتشر فكر، ويستمر ويسود، إذا لم يلقَ سنداً قوياً له في حاجات ومصالح البشر. دعانا البابا الألماني إلى استخدام عقولنا في مناقشة "المشيئة الإلهية"؛ فهل استخدم عقله في مناقشة "الوعد الرباني" لإبرام العبراني؟! "الإيمان" و"العقل" متى اجتمعا وتصالحا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، التي في ربع الساعة الأخير من القرن العشرين فحسب اعترفت بأنَّ غاليلو كان على حق إذ قال بدوران الأرض؟! ولقد حان لـ "الديمقراطيين الأقحاح" من شتَّى المنابت والأصول أنْ يَقِفوا ضدَّ كل محاولة يبذلها رجال دينٍ، مهما كان دينهم، لإعادة تعريف قِيَم ومبادئ الديمقراطية، فلسفياً، بما يُحوِّلها من "الدنيوي" إلى "الدِّيني" من عقائد الناس.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-وسطيون-.. -سلفيون-.. -جهاديون-.. -تكفيريون-..!
-
-النووي الإيراني- يتمخَّض عن -هيروشيما سوريَّة-!
-
جواد البشيتي - كاتب ومُفكِّر ماركسي - في حوار مفتوح مع القار
...
-
كَمْ نحتاج إلى -التنظيم الذاتي المستقل-!
-
هل تأتي على يَدَيِّ مرسي؟
-
لله يا ناخبين!
-
كاوتسكي حليفاً لبشَّار!
-
البنك الدولي يقرع ناقوس الخطر!
-
مرسي مُتَرْجَماً بالفارسية!
-
رِحْلَة نظريَّة في أعماق المادة!
-
في -السقوط-!
-
موت -اللغة- في جرائدنا اليومية!
-
لهذه الأسباب لا أُشارِك في الانتخابات؟
-
أجَلْ ثمَّة ثورة في سورية ومصر وتونس!
-
-الجيوش- من وجهة نظر -الربيع العربي-!
-
سَطْوَة الدِّين!
-
قانون -الانتخاب الطبيعي- بنسخته الاجتماعية!
-
جُمْلَة واحدة.. هل ينطقون بها؟!
-
لا تَخْشُوا ما لا وجود له!
-
مرحى مرسي!
المزيد.....
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
-
المغرب: إحباط مخطط إرهابي لتنظيم -الدولة الإسلامية- استهدف -
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة في الميدان اعطى دفعا قو
...
-
الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة بالميدان اجبر العدو على التر
...
-
أختري للعالم: هدف الصهاينة والأميركان إقصاء المقاومة الإسلام
...
-
اسعدي أطفالك بكل جديد.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 ع
...
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|