|
من يكون المتطرف؟
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3853 - 2012 / 9 / 17 - 00:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هو المؤمن بفكرة أو نظرية أو عقيدة ما إيماناً تاماً كاملاً دون أن يأتيه أي شك في صحتها وصوابها بالمطلق. ليس هذا فقط، لكن المتطرف يسعى باستماتة أيضاً لنشر وفرض ما يؤمن به إيماناً مطلقاً على كل المحيطين به، وعلى كل العالم إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. المتطرف غير مكتفي بذاته، لكنه في سعي دائم لتحويل كل من حوله إلى مؤمنين بنفس ما يؤمن به بالمطلق مثله. إلى أن يتحقق له ذلك- يتحول كل من حوله إلى متطرفين مثله- يعيش المتطرف حالة من التوتر والاضطراب والقلق المرضي كمن يعاني عقدة نقص وغير قادر على التكيف والتعايش مع من حوله والبيئة المحيطة به. في المراحل المتأخرة من هذه الحالة، خصوصاً عندما لا يصادف المتطرف نجاحاً مشهوداً في نشر وترسيخ أفكاره ومعتقداته وسط أهله وبيئته المباشرة، يدفع اليأس المتطرف إلى الانخراط في العنف، لكي ينشر نفس الرسالة المتطرفة التي فشل في إيصالها عبر الدعوة بالحسنى والكلمة الطيبة.
المتطرف يعيش دائماً أبداً داخل سجن ذاتي، منغلقاً ومكتفياً بنفسه على فكرته أو نظريته أو عقيدته، لا يمل ولا يكل من الحديث "عنها" وحولها من خارجها، إلى نفسه وإلى كل من يبدي اهتماماً للاستماع إليه، لكنه لا يطيق أبداً الحديث "فيها" ذاتها من داخلها أو مناقشتها أو مساءلتها أو التسوية والقبول بحلول وسط فيها. دائماً وأبداً أفكار المتطرف ونظرياته ومعتقداته مسلمات بديهية لا تقبل الكلام أو الحديث أو النقاش أو الجدال في ذاتها، لكنه دائماً وأبداً على أتم الاستعداد للكلام والحديث والنقاش والجدال حولها وحول صوابها المطلق، وربما حتى قدسيتها، في كل لحظة وكل ساعة وكل يوم. المتطرف مغرم وهائم بفكرته أو نظريته أو عقيدته، لدرجة أنها لا تفارقه لا في منامه ولا في يقظته. رغم ذلك، المتطرف لا يفكر أبداً في فكرته أو نظريته أو عقيدته ذاتها، من حيث خطئها أو صوابها، أو مقدار الخطأ أو الصواب فيها. المتطرف لا يعرف النقد الذاتي.
المتطرف أنواع وأصناف كثيرة، منه الديني ومنه اليساري ومنه القومي ومنه حتى التحريري (الليبرالي) والديمقراطي والتنويري. بشكل أو بآخر، تنطبق خصائص التطرف على جميع أتباع الأديان المختلفة من المتدينين المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وبالأخص رجال الدين والنشطاء الدينيين، ذلك لأن العقيدة الدينية هي في الأصل فكرة متطرفة، مبنية على التسليم والإيمان بالقلب دون المناقشة والمجادلة والمساءلة والنقد والمراجعة باستخدام العقل. كل مؤمن بدين، أي وكل دين، هو بالضرورة شخص متطرف، في المعتقد لكن ليس في الممارسة بالضرورة. كل متدين مؤمن هو متطرف فكرياً، بمعنى أنه يؤمن إيماناً مطلقاً بصحة وصواب فكرته، لكن في أغلب الأحيان تطرفه يقف عند هذا الحد ولا يتحول إلى العنف لفرض فكرته بالقوة. الفكرة الدينية هي فكرة متطرفة في أصلها ومنشأها وطبيعتها، ومن ثم المؤمنون بفكرة متطرفة هم متطرفون بالنتيجة. هؤلاء هم المتطرفون الدينيون، منهم المسالم الذي يدعو إلى فكرته المتطرفة بالحسنى والموعظة الحسنة، ومنهم، بعد يأسه من جدوى وسائل الدعوى السلمية، من يلجأ إلى وسائل عنيفة من أجل نفس الغاية الواحدة في الحالتين: نشر وفرض فكرة متطرفة في أصلها.
مثل المتطرف الديني، هناك أيضاً المتطرف اليساري، ذلك المؤمن إيماناً مطلقاً بحتمية المساواة المطلقة بين البشر، وفي سبيل هذه الغاية النبيلة قد لا يتورع عن استعمال وسائل عنف بشعة ومروعة. إنه نفس الإيمان المطلق بصحة وصواب النظرية، ورفض أي مناقشة أو مراجعة لها. في التاريخ القريب، كانت النظرية الماركسية الشيوعية تجسد هذا التطرف اليساري، الذي استخدم أبشع وسائل العنف وسفك الدماء والسيطرة الاستعمارية من أجل فرضها وتطبيقها بالقوة على دول الاتحاد السوفيتي السابق. ومثل المتطرف اليساري هناك المتطرف القومي بنظرياته وتطبيقاته المتطرفة، المؤمن إيماناً مطلقاً بسمو ورفعة سلالته وعرقه وقومه على كل السلالات والأعراق والأقوام الأخرى، مثل النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
حتى الأفكار التحريرية (الليبرالية) والديمقراطية والتنويرية يمكن أن تصاب بداء التطرف هي الأخرى، عندما يصل إيمان أصحابها بها إلى حد الانغلاق عليها والاكتفاء بها وعدم مساءلتها ونقدها وتعديلها وموائمتها بتطورات الواقع باستمرار، ومحاولة فرضها بالقوة على من يظنون أنها السبيل الوحيد إلى عتقهم من الفقر والعوز والتخلف والأمراض. نفس هذه الأفكار التحريرية والديمقراطية والتنويرية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كانت مطية دول أوروبا الغربية لفرض سيطرتها الاستعمارية الاستغلالية على أغلب الدول الفقيرة والضعيفة في آسيا وأفريقيا.
أينما كانت الفكرة أو النظرية أو العقيدة، في اليسار أو الوسط أو اليمين، مجرد الإيمان المطلق بها والانغلاق التام عليها دون فتح ولو نافذة صغيرة لإعادة النظر فيها ومراجعتها وتحديثها من وقت لآخر، تصبح متطرفة، وحاملها متطرف مثلها، سواء كان هذا الشخص متدين أو متحرر، يساري أو يميني أو وسطي، استبدادي أو ديمقراطي، ظلامي أو تنويري.
التطرف هو الانغلاق. المتطرف هو الشخص المنغلق.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مربع سياسة ومربع دين، أيهما فوق الآخر؟
-
نزاع قديم على السيادة بين الآلهة والعامة في مصر
-
في معرفة الله...والنص
-
أم عزباء أم امرأة عانس؟
-
في الزواج وممارسة الجنس
-
حقيقة الصراع السلمي حتى الآن على الوطن مصر
-
الدين والديمقراطية والاستبداد
-
شهوة الجسد
-
حرية الجسد
-
حرية الفكر والاعتقاد والإلحاد
-
عدل ظالم...ومساواة حرام
-
مساواة في الدين؟
-
بكائية الخضيري على البرلمان المسكوب
-
مرجعية الأزهر...لبنة في بناء قديم
-
يوم الفرقان: الجمعة 28 يناير 2011
-
الديمقراطية كفر بالله؟
-
المشروع الإسلامي التجريدي وإشكالية الصراع المحتوم
-
-حكم بين السلطات-، أضلولة أخوانية
-
الدائرة الأخوانية الإسلامية المغلقة
-
سلطان الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
المزيد.....
-
المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات
...
-
أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم.
...
-
كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك
...
-
الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق
...
-
فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ
...
-
نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
-
عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع
...
-
كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
-
آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
-
العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|