|
ربيع الأمنيات الطيبة
أحمد مُعِز
الحوار المتمدن-العدد: 3852 - 2012 / 9 / 16 - 04:40
المحور:
كتابات ساخرة
مع نهاية عام 2010، شهدت الكثير من عواصم و بلدان "العالم العربي" تظاهرات عاتية ضد أنظمة الحكم السائدة في ذلك الوقت، مطالبة بالتغيير و بالديمقراطية، و تمت على الفور تسمية تلك التظاهرات بـ "الربيع العربي"، تيمنا بـ "ربيع براج" سنة 1968، مع تفاؤل عالمي-غربي بحلول الديمقراطية –أخيرا- في هذه المنطقة، و ما يعنيه هذه بالضرورة من سيادة الحريات و القيم الإنسانية "العالمية".
التبسيط المخل في اختيار مصطلح "الربيع العربي" قد يبدو هامشيا و لكنه شديد الرمزية، و يشي بالتضحية بالحقائق لصالح اختيار مصطلحات جميلة تكسب تعاطف الشارع و توجّه المشاعر نحو استنتاجات بعينها ليست لها علاقة بالواقع بالضرورة. إن مصطلح "الربيع العربي"، و رغم إدراكنا استخدامه تيمّنا بـ "ربيع براج"، فإنه لا يخفي الجهل الواضح بحقيقة بسيطة مثل مناخ و جغرافيا المنطقة العربية في فصل الربيع، حيث ترتفع درجات الحرارة بفصل الربيع بعد أن كانت معتدلة، و تهب على البلاد العواصف المتربة و العواصف الرملية من الصحراء، و يصاب الكثيرون بالحساسية، حتى ان نجيب محفوظ كان يتوقف عن الإبداع في فصل الربيع نتيجة إصابته بالرمد الموسمي.
ربيع براج على العكس من ذلك لا يشبه ربيع القاهرة، في براج تبدأ درجات الحرارة في الارتفاع التدرجي لتجلب الدفء و تتفتح الأزهار و تصبح الحياة أكثر احتمالا و بهجة. الربيع الأوروبي ربما يبشر بالجمال و البهجة و الفرحة، بينما الربيع العربي بضرورة "أخذ ساتر" و الصبر على الأذى القادم مع الرياح الموسمية، القادمة من الجنوب الشرقي، و بدء "موسم الهجرة إلى الشمال" هربا من لهيب الشمس.
الرمزية المستترة في مصطلح "الربيع العربي" و الداعية للتفاؤل و الفرح إنما تستلهم الرموز الأوروبية - الشمالية و تستهدف المتابع الأوروبي - الشمالي، و تصلح فقط في سياق أوروبي شرقي أو غربي، و لكن استيراد هذه المصطلحات السياسية المعلّبة هي أشبه ما يكون باستيراد أنظمة الحكم المجففة من الشمال حتى و ان اختلف الواقع و التاريخ في المنطقتين، و حتى مع تسليمنا باختلاف المستقبل، فهناك من يصر على أن هناك قالب مصمت تصب فيه الفوضى السياسية الساخنة لينتج عنها لاحقا –حين تبرد الفوضى- سبيكة تشبه التي سبقتها. إنك مهما برّدت الماء فلن ينتج عنه معدنا.
أنظمة الحكم في العالم العربي فشلت في مواجهة مثلث الفقر و المرض و الجهل (أو حافظت عليه، حسب اختلاف التفسيرات)، و أبقت على نسبة الأمية –بمعنى الجهل الكامل بالقراءة و الكتابة- تتراوح بين نسبة الثلث و الثلثين، و السكان العرب الذين يسقطون تحت خط الفقر كل سنة يزدادون بشكل مخيف، و يستتبع ذلك إصابة هؤلاء الفقراء الغير متعلمين بالأمراض نتيجة الأحوال المعيشية المتردية و ارتفاع الأسعار بشكل عام و من بينها ارتفاع أسعار الأطباء و الدواء بعد تخلي الدولة عن دورها في تأمين العلاج المجاني الحقيقي للمواطنين الفقراء. يحدث هذا في العالم العربي في القرن الحادي و العشرين، و في حين يحتفل الإعلام بالربيع العربي، تبقى هذه الحقائق مجهولة أو متجاهلة، و بشكل يعمي المتابعين عن هذه الحقائق و يغير من قناعاتها.
مقارنة سريعة بالأحوال في جمهورية تشيكوسلوفاكيا سنة 1968 ليست في صالح الجمهوريات و الدول العربية في 2011. نسبة التعليم المرتفعة في ذلك الوقت، و النظام الاشتراكي الحقيقي الذي كان يكفل العلاج للمواطنين، و القرب الجغرافي لأوروبا الغربية، و الاختلاف الثقافي و التاريخي و اختلاف التطور السياسي لا يمكن تجاهله لصالح تجميل أحد المصطلحات السياسية. عودة إلى الرمزية اللفظية، دولة تشيكوسلوفاكيا كانت أحد دول العالم المسمى بالعالم الثانين بينما مصر و الدول العربية هي دول من العالم الثالث.
ليس هناك اختلاف كبير بين مواطن عربي لا يعرف القراءة أو الكتابة، و آخر لا يمتلك مصادر حرّة للمعرفة، و ثالث لديه كل هذا و يرفض الالتفات إلى الحقائق و يفضل أن يتمنى ألا تؤثر هذه الحقائق في معادلته السياسية. الحكم الخاطئ هو حليف هؤلاء، و الأحكام الخاطئة هي التي تدعم القرارات الخاطئة، و القرارات الخاطئة لن تأتي لك بنتائج إلا بتلك التي تخيب الآمال التي عقدتها على قراراتك.
أن يكون على رأس السلطة في كل من مصر و تونس حكومة إسلامية و هيئة تعمل على كتابة دستور إسلامي، حتى لو أتى ذلك بصناديق الانتخاب، فليس هذا ما ينبغي مدحه و التهليل له بحجة "انتصار الديمقراطية و إرادة الشعب"، هذا التهليل لهذه النتيجة التي أتت بصناديق الانتخاب يبدو أشبه بالتهليل لحلول رياح الخماسين في الربيع، كلاهما غير منطقي و لا يمكن قبوله. حقيقة أن الأغلبية اختارت هذا عبر صناديق الانتخاب لا يبرر الفرح بهذه النتيجة، التي من المفترض أن تكون مخيبة للآمال لكل من فرحوا بـ"العملية"! الحقيقة أن الكل تخلّى عن النتائج لصالح "العملية"، رغم أن العملية (الانتخاب هنا) وسيلة و ليست هدف في حد ذاتها. إن الفرح لحلول الربيع في القاهرة لأن مرجعيتك عن الربيع هي قصص الأطفال المصورة المدبلجة إلى العربية هي في الحقيقة دوبلاج سئ للموقف السياسي.
للأسف يسود الاعتقاد بوجود اختيارين لا ثالث لهما في المنطقة العربية، إما أن تختار النظم السياسية السابقة لـ"الربيع العربي" أو تؤمن بـ"العملية" و تدافع عن التطور السياسي، بحجة أن حتما ما أدى إليه ربيع براج هو ما سينتهي إليه ربيع القاهرة. الحقيقة هو أنه إن كان ما يلي الربيع هو الصيف –عودة إلى الرمزية- فإن الوصول إلى صيف عربي (نحن على مشارفه!) هو آخر ما ينبغي أن يصبو إليه أي مدافع عن الحريات. من حقك دوما أن رفض جميع الاختيارات المتاحة –اثنين في هذه الحالة- و تعمل من أجل خلق نظام بديل ثالث، و رابع و خامس، فلا تنخدع بقصص الأطفال المدبلجة عن الربيع و تفتح نوافذك لاستقبال رياح الخماسين لأنك بهذا تردم بيتك بالرمال.
ان كنا بصدد التعامل مع "الربيع العربي"، فعلينا أن نعيد النظر في الحقائق المطروحة أمامنا لنعيد تقييم الموقف السياسي و الاجتماعي، و بناء عليه نقوم برسم خريطة للتحول الثقافي المأمول و نعيد كتابة خارطة الطريق في سبيل تحديث مجتمعاتنا و تطويرها.
إن حقيقة أن التغيير الملموس سيستغرق وقتا طويلا لا تبرر الانخداع بضرورة احتمال التدهور السياسي الحادث و التفاؤل بالقادم بحجة أن ربيع برج أثمر بعد عشرين عاما، بل إن هذا في الحقيقة أقرب لقصة "جحا" الذي وافق أن يعلم حمار الوالي القراءة و الكتابة على شرط أن يأخذ مهلة عشر سنوات مقابل مبلغ كبير من المال، فحين سئل عن هذا قال "في عشر سنوات إما أن أموت أنا، أو يموت الوالي أو يكون الحمار قد مات". قد لا نكون قادرين على التنبؤ بالمستقبل السياسي بدقة و لكننا ندرك أي المسارات السياسية يشيع الخوف و الفزع و النفاق و أيها يروّج للحرية و الإبداع و الابتكار.
تغيير سياسات العمل الثقافي و الفني و الاجتماعي يبدأ بإعادة تقييم السياسات السابقة، و نقدها بجدية بدلا من الدفاع عنها بحجة مناصرة تيار التنوير أيا كانت أخطاؤه، لأن تكرار الأخطاء لن ينتج عنه سوى تكرار النتائج المخيبة للآمال. لا بد من إعادة تقييم الاحتياجات الثقافية لكل بلد على حدة، فليس من المتصور أن تكون الاحتياجات الثقافية في مصر و السودان –مثلا- متشابهة نظرا لاختلاف التطور الثقافي و السياسي و الاجتماعي في البلدين الجارتين و اللتين شكلتا دولة واحدة حتى وقت قريب! التقارب اللغوي ليس يعني التقارب الثقافي، و إلا كانت الاحتياجات الثقافية لأسبانيا و الأرجنتين متقاربة.
هناك حاجة أيضا لإعادة النظر في مصطلحات تم اتخاذها كمسلّمات، كمصطلحات "الهوية العربية" و ما تعنيه، و مصطلح "الفن الذي يدمج المجتمع" و الذي يتم تطويعه لصالح ممارسات شكلية في أغلب الأوقات لإرضاء الجهات المانحة بدون عائد حقيقي على المجتمع، بل لا بد من إعادة النظر في ضرورة دمج المجتمع نفسها كحاجة و هل على الفنان أن يتخذ دورا إضافيا إلى جانب دوره الإبداعي أم أن هذا الدور هو من صميم دوره كفنان .. الخ
لا بد أن تكون هناك أولوية للحوار الغائب عن كيفية حماية الحرية الجزئية التي تمتع بها الفنانون في ظل أنظمة ما قبل "الربيع العربي" و البحث في كيفية توسيعها، بدلا من الحديث بالأمنية عن ضرورة عدم الخوف من الرقابة لأنه ليس بالإمكان أسوأ مما كان. هناك أدلة حية على أن الرقابة القديمة مستمرة، لاحظ ما حدث في مصر لفرقة حالة و لمشروع كورال حين تم منعهما من العرض في مسرح الهناجر التابع للدولة في يوليو 2012، و ذلك بسبب المحتوى السياسي، و أضف على ذلك الرقابة المحتملة القادمة على الأعمال الفنية التي تتخذ رداء الدين و تقرر نيابة عن الله ما ينبغي و ما لاينبغي عرضه على المسارح و في قاعات العرض، خصوصا و مع الاتجاه نحو دسترة مواد مقيدة للحريات من قبل التيار الديني المحافظ المسئول عن كتابة الدستور في مصر و تونس.
التشاؤم و التفاؤل عاطفتان ينبغي تجنبهما ان كنا بصدد كتابة المستقبل على أسس علمية و منطقية. المطلوب هو اعتماد الحقائق و البحث عن حلول لمشاكل الواقع بعيدا عن الأمنيات الطيبة الخالية من الفعل، الأمنيات الطيبة لا تبني وطنا
لن يمكنكم الإبحار عبر المتوسط ثقافيا باستخدام الجمال و الإدعاء بأن من حق الجمل أن يعوم لأنه "سفينة الصحراء". اعقلها و توكّل
#أحمد_مُعِز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الزي الكاكي لا يحمي الفاسدين
-
لماذا لا ..
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|