محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1121 - 2005 / 2 / 26 - 12:54
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
عندما نتناول القهر والإرهاب السيلسي في سورية كتاريخ لآثار الفترة الممتدة على مدار أربعين سنة من حكم البعث نلتقي في المخيال الجمعي مخزون ذاكرة شعبية للسجن السياسي, والملاحقة, والمنفى, والتصفيات الجسدية, والدسائس, والمكائد, ورتلا طويلا لكوكبة من الشهداء قضت على يد جلاديها هناك في أقبيته تحت التعذيب أو قهرا أو مرض....وكوكبة كبيرة جدا من زوار أقبيته الذين غيبهم عالمه السفلي معظم سنوات عمرهم, تجاوزت كل منطق ومعقول في عهد الحركة التصحيحية, بحيث لم توفر آلة إرهابهم عائلة سورية أولبنانية أوفلسطينية تقطن سورية ولبنان, قتلا أو سجنا أو اغتصابا أو سرقة أو ملاحقة أو منفى أو أبسط الأمور تهديدا و استدعاءات لزيارة المراكز الأمنية لترهيبهم وتذكيرهم أن الذئب يسكن بين ظهرانيهم, ونتيجة المقاربة بين هذه المجموعات, تحضرني كوكبة منها قلما نذكرها ونذكر تضحياتها ودورها الهام الذي مارسته على مدار محاولات الجلاد في تفريغ الساحة السورية من اي نشاط سياسي خارج إطار الولاء لها خاصة في مرحلة الثمانينات والتسعينات, كوكبة أخفت نفسها في ظل عمل تنظيمي سري للغاية رهيب لم تستعمل خلاله أسماءها الحقيقية خشية بطش النظام وانكشافها, فظلت طي النسيان لنا وللجمهور العريض, هي التي تابعت النضال في سبيل ترسيخ الخط الديموقراطي بعد الإعتقالات الموسعة للقوى الديموقراطية, في ظل الصراع الدموي الذي ساد بين النظام وعنفه وإرهابه وممارساته الطائفية وبين العنف والإرهاب المضاد والإغتيالات الطائفية المضادة التي مارسها إخوان المسلمين آنذاك, الخطان الوجهان لعملة واحدة من الفكر القمعي والتصفوي الإرهابي الطائفي...فإل جانب تنطحها في تحمل كل المسؤولية التي القيت على كاهلها إثر الإعتقالات الشاملة حاولت هذه الكوكبة أيضا رفع معنويات أهالي المعتقلين, وأحيانا تقديم بعض الدعم المادي الموفر من لقمتهم وقضاء أمورهم الشخصية, كوكبة تستحق من وجهة نظري عن جدارة تسمية الجندي المجهول...يحضرني من الذاكرة أحدهم هو صديقي ورفيقي عبد الكريم شيخ الشباب, أبو الفهد....شاب دمشقي من حارات المزة القديمة, عجنته تلك الحارات بشهامتها وعنجهيتها وتاريخها وحميمية جدرانها الطينية...أبو الفهد هذا لأني من نفس مجموعته العمريةاستهلينا دراستنا الجامعية معا على مدرجات ومخابر كلية الهندسة الكهربائية والميكانيكية كطلاب معهد عام 1975 هو إختصاص ميكانيك_تدفئة و أنا كهرباء_الكترون..... كيف تعرفت عليه؟؟ كان من خلال مناقشة حادة جرت في أروقة مؤتمر اتحاد الطلبة الذي صادف انعقاده بعد اتمام تسجيلنا ضمن اطر المعهد بفترة وجيزة, بيني وبينه من جهة, وبين البعثيين في اللجنة الإدارية من جهة أخرى, امتد هذا الخلاف إلى مشادات بيني وبين البعثيين أدت إلى اصتدامي معهم بالأيدي, فعرضت بعضهم للإهانة مما طاب هذا الأمر للمعارضين من الشيوعيين والآخرين. فأبدو تعاطفهم معي من خلال دعوتي إلى الإنضمام إليهم في الجلوس إلى طاولاتهم في الندوة لنحتسي القهوة والشاي معا, وبذلك تعرفت على أبو الفهد ورجاء ومحمد ومحي الدين وزياد ومريم, وأستاذينا في المعهد جهاد مسوتي وعلي محمد, ووردة التي أصبحت فيما بعد حبيبتي, ولتبدأ في حياتي مرحلة جديدة كل الجد تعتبر انطلاقتي في الإندماج في البنية الإجتماعية والسياسية السورية....تعرفت أنا وأبو الفهد معا على الحزب الشيوعي السوري من خلال صديقتنا, زميلتي في المجموعة, رجاء ومن خلال محي الدين, الزميل القديم في الكلية, ثم بعد بعد اطلاعنا على برنامج الحزب ونظامه الداخلي قررنا الإنخراط به قبيل مؤتمره الخامس وكنا نسمي أنفسنا لهذا أنا وهو تفكها, جيل المؤتمر الخامس...ترسخت علاقتي مع أبو الفهد أكثر بعد حادثة لي مع الأمن السوري تعتبر الإنطلاقة الأولى لعلاقتي الصدامية معهم , وجرت كالتالي:: يبدو أن عناصر اتحاد الطلبة البعثيين لم ينسوا لي ما كنت قد سببت لهم من إهانة أمام الطلاب, فقرروا الإنتقام مني والُثأر لكبريائهم المدلوق, ففي إحدى الأيام كنت وأبو الفهد ووردة نجلس في الندوة ولما هممت لإحضار شاي نشربه أثناء جلستنا تحولق البعثيين حولي بشكل يدل بوضوح أنهم قرروا ضربي, ولما اندلعت المعركة وبدأ الطاخ والطيخ صرخت وردة خوفا علي وانطلقت تريد الإنضمام إلي ماكينة الضرب للدفاع عني ولكن أبو الفهد منعها وحملها إلى خارج الندوة لأنه قد انتبه أنني قد سحبت سكينا للدفاع عن نفسي أمام هذه الكثرة فأدرك أن عناصر الأمن في قدوم بعد قليل, وفعلا جاءت عناصر الأمن واقتحمت الكلية بأسلحتها وحتى دخلت الندوة بكامل اسلحتها وساقتني إلى سيارتهم, وساروا بي وهم يوسعوني ضربا إلى حد الإغماء فرموني على قارعة الطريق في إحدى طرق مخيم اليرموك لا استطيع حراكا, فتعرف علي إحدى زملاء المعهد وأخذني إلى منزله, وطببني من جراحي ثم بت عنده خوفا من ملاحقة عناصر الأمن, وفي اليوم التالي قدم إلي أبو الفهد ووردة, وبقوا يترددون علي إلى أن شفيت...وبدأت مع أبو الفهد مرحلة حزبية سياسية مشتركة, كنا معا في فرقة حزبية واحدة مع رفيق ثالث, أطلق الرفاق على فرقتنا حينها اسم الفرقة الفدائية لخشونتنا ولجرءتنا وسرعة تنفيذ المهام الموكلة إلينا...خشونة وسمتنا, أدت أن نرفض أي أمينا لفرقتنا ذو شخصية ناعمة أو هادئة, إلى أن تم إختيار أستاذنا في المعهد جهاد مسوتي ذو الشخصية القريبة من تركيبتنا أمينا لفرقتنا....وهكذا سارت الأيام بيننا أنا وهو, ندرس معا, نعمل معا, نأكل معا, ونقضي معظم الوقت معا, إلى أن تم إعتقالي ...هناك بين براثن الجلادين خضت صراعا فظيعا مع الجلاد للإعتراف باسمه, تعاملت مع اسمه كتابو ومقدس لي يجب الحفاظ عليه داخل قلبي, فباءت محاولاتهم بالفشل ولكن إلى حين....لقد جمعني معه حبا رفاقيا ثوريا رومنسيا تجاوز السحاب...هناك كنت لما أشتاقه خلف قضباني أقول لزوجتي مازحا: لقد اشتقت إليه ولرؤيته, قولي له أني سأطلب إعادة التحقيق معي وأذكر أسمه لكي يأتيني فأضمه وأتمكن من رؤيته...لقد كان أخي الذي لم تلده أمي...احتضن عائلتي الصغيرة من نوائب الحياة بعد إلقاء القبض علي, كان متعهد فاتورة سجني فيؤمن لي كل متطلباتي خلف القضبان, وعندما كان كبرياء زوجتي يدفعها للإمتناع عن قبول المساعدة منه كان يقول لها أنت ليس لك علاقة خذي وسجلي وعندما يخرج محمود من سجنه يسدده لي...كيف سأسدد يا رفيقي لك هذا الدين..أنت الذي منعت نفسك من الزواج طيلة وجودي في المعتقل ولم تتزوج إلا بعد الإفراج عني...أنت الذي كانت ابنتي تناديك بابا لكثرة ما دلعتها وعودتها عليك.....عبد الكريم شيخ الشباب طلبوه زوار الفجر في عام 1986 فهرب وانضم بذلك إلى كوكبة الملاحقين, ولما أخبرتني زوجتي ذلك خفت عليه من الإعتقال بعد أن ذقت مرارته, فطلبت منها أن تتوجه إلى أحد رفاقي العزيزين في الجبهة الشعبية تطلب منه حماية أبو الفهد وتهريبه وتغطية هروبه من سوريا بأي طريقة, و هذا طلب شخصي , فكان أن انخرط أبو الفهد في صفوف المقاومة الفلسطينية على الساحة اللبنانية فأبلى بلاءا حسنا في مواجهة العدو الصهيوني وأعوانه في لبنان, وأصيب في إحدى المعارك ومازالت في فخذه شظايا كذكرى لتعمده فلسطينيا كما يحلو له أن يقول, كان يبعث لي مع زوجتي قائلا:يا محمود انت تعمد سوريتك وانتمائك لسوريا في سجونها من أجل الحرية لسوريا , وأنا أعمد فلسطينيتي بقتال العدو الصهيوني من أجل حرية فلسطين, فكما رفعت راسنا هناك سأرفع راسك هنا, آثار تعذيبهم وسامك, ووسامي هذه الشظايا...أين أنت الآن يا أبا الفهد...أنت الذي أصريت أن تعرض نفسك للخطر عندما أتيت للسلام علي شخصيا ومعانقتي حين تم الإفراج عني وتهنأتي....و أنت الذي بذلت كل جهدك لإصلاح ذات البين مع زوجتي, وعندما فشلت كنت الوحيد الذي تفهمني, وقلت لي: عليك أن تعيش ولكن لا تنسى ما قدمت أم الورد من جهد لك وللتغيير الديموقراطي في سوريا , لن أذكر أسماءك المستعارة , لن أذكر اسماء المدن التي قابلتك فيها خفيا, لن اذكر اسماء الشوارع ولا البيوت التي ضمتك مقيما مؤقتا... حبيبان كنا, لهذا اشتاقك دائما في غربتي كما كنت في زنزانتي, لأنك صديقي العزيز ولأنك من كوكبة كبيرة حاولت أن تبذل ما تستطيع من أجل سوريا كجندي مجهول.....
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟