|
امرأة منسية
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 3849 - 2012 / 9 / 13 - 06:43
المحور:
الادب والفن
عاشت طفولة مضطربة في كنف أسرة تؤمن بأفكار تقليدية قائمة على نظرة دونية للمرأة بصفتها تابعة للرجل … أدركت ذلك من أحاديث أمها ، كانت تذكرها دوماً بأنوثتها ، تردد عل مسمعها كلاماً من العصور الغابرة ، تؤكد لها فيه أنها عورة ، وصوتها عورة ، وأنها أقل قدرًا وقيمة من الرجال ، لهم أفضلية على النساء في كل شئ… أفهمتها أمها مبكراً حقيقة المرتبة السلطوية للجنس المذكر عامة ، وبينت لها ان دور المرأة في الحياة ينحصر في السهر على راحة زوجها ، تشاركه أفراحه وأحزانه ، وتوفر له أسباب السعادة ، وتنجب له ما يشتهي من البنين والبنات .
هكذا حددت لها أمها تصرفاتها وسلوكها ومعاملاتها ونمط حياتها بتقاليد وموروثات ضيقة بالية ومقاييس ذكورية لا تساير روح العصر الحديث … استمرت في سماع هذه المعزوفات من أمها في كل المناسبات بنغمة نمطية واحدة ، ومع الأيام أخذت تَسمعها أيضا بانتظام من أبوها ومن ثلاثة أخوة أصغر منها ... أخوها الأصغر الذي تكبره بعشر سنوات ، كان يمتلك حق السيادة عليها ، أكسبه الاب ثقة كبيرة بنفسه ، وطالبوها بالرضوخ إليه … كان يُشعرها دوما بذكوريته ويطلب منها أن ترى فيه مثلاً أعلى تحتذي به وتطيع ما يقوله لها .
تيقَنت مبكراً أن كل الذين حولها ينظرون لها كجسد أنثوي فقط ، يهمهم حمايته من التحرش والمعاكسة والانحراف والخطيئة ، لكي لا تُلحق الخزي والعار بأهلها وناسها وعشيرتها ،أبعدتها هذه الأفكار عن الطباع الانسانية السليمة ، اعتبرتها مجرد حاضنة للتوليد فقط ، وجعلت منها مرتبكة النفس والذهن والسلوك … سيطر عليها عالم أهلها الذكوري ولم تجد له حتى في الخيال بديلا .
في ظل هذه الظروف غير الطبيعية ، فرضت عليها أسرتها زوجاً من أقربائها يكبُرها باكثر من عشرين عامًا ، لم ترضه في اعماقها ، أجبروها على الزواج منه … عاشت معه محرومة من الحب والحنان ، لم يتسع قلبها له ، لم تعش معه لحظة واحدة هنيئة خالية من الأسى والاحزان … ثلاث سنوات عاشت معه صارعت فيها رغباتها النفسية ، وصارعت عقبات كثيرة واجهتها معه تحولت مع الايام الى أزمات مستفحلة أدت في نهاية الامر الى الطلاق .خرجت من حياته بدون ذكريات جميلة وبمسحة من الحزن رسمتها الايام على وجهها باتقان .
بعد طلاقها من زوجها أخذت تفكر جديا بالتعليم ، طلبت من والدها موافقته على مواصلة الدراسة ، واجه رغبتتها بالرفض في أول الامر ، لكنه وافق بعد ذلك على مضض بعد تدخل بعض المتنورين من أقربائه … تابعت في البداية الدراسة في المرحلة الثانوية ، أنهتها بتفوق كبير ، بعدها التحقت بجامعة وهران ، تابعت الدراسة في كلية العلوم الاجتماعية … تفوقت في جميع سنوات الدراسة … حصلت على شهادتي الليسانس والماجستير ، ودخلت بعدها حياة جديدة واسعة ثابرت فيها على العمل معيدة في نفس جامعتها … عادت في العمل إلى ذاتها ، انغمست في البحث في مجال علم الاجتماع ، وتحديداً في مجال الدراسات النسوية ودراسات النوع ( الجندر ) .
كانت صاحبة هدف عميق محدد، وهو الدفاع عن المرأة العربية … طالبت بفسح المجال لها كي تتمكن من حقوقها ، بدلاً من تكبيلها بالعادات والتقاليد البالية الموروثة ، كانت تصر في مناقشاتها مع زملائها على ضرورة تصحيح الصورة المغلوطة عن المرأة العربية التي لا تقل في قدراتها عن غيرها من نساء العالم … كانت حداثية واسعة الأفق في تطلعاتها وأفكارها ، أظهرت في بحوثها عاطفة حادة مندفعة نحو المرأة ، طالبت بإعطائها كامل حقوقها وتمكينها افتصادياً واجتماعياً وقانونياً ، ومساواتها مع الرجل ومجاراته في كل صغيرة وكبيرة .
تمكَنت بتفوقها في عملها وبحوثها من الحصول على منحة دراسية لمتابعة دراساتها في جامعة ميجيل الكندية الشهيرة لنيل درجة الدكتوراة ، عارضت أسرتها رغبتها بالسفر إلى كندا ، لكنها أصرت على قبول المنحة والسفر إلى كندا ، استطاعت إقناع أسرتها بصواب رأيها لأن شخصيتها كانت في حال غير الذي كانت عليه من قبل ، تفوقها في البحث والدراسة وعملها الأكاديمي زاد شعورها بالحياة قوة وقدرة على الدفاع عن حقها في اختيار ماتراه مناسبًا لها … أرادت أن تكون امرأة مهمة ، وأن تحقق أحلامها في الحياة عن طريق العلم .
امتلأت نفسها بالسعادة عندما وصلت مدينة مونتريال ، اختارت شقة في شارع دروموند للعيش فيها في مركز المدينة على مقربة من جامعة ميجيل ، سرعان ما تعرفت على الشوارع القريبة منها، زارت متحف الفن الحديث في شارع شيربروك المجاور لمسكنها ،استمتعت بالتنقل بالمترو ، تمكنت من تتابع خطوطه ... قامت بجولات كثيرة من محطة مترو " جاي / كونكورديا " الى مناطق كثيرة ، قادتها جولاتها الى حديقة البوتانيك المعروفة بتوهج الوان نباتاتها المشهورة عالمياً، والى الويست أيلاند ، وساحة الفنون ، و سان لوران ، و لا فال ، و منتزهات الجبل الملكي باشجارها العملاقة ، وبحيرة فينيسيا كيوبيك ، والى نهر سان لوران الذي ينطلق بتدفق يلامس أغوار النفوس ،بدوامة لا تهدأ منذ الاف السنين يلف جزيرة مونتريال برفق من كل جوانبها .
استمرت بالتعرف على المدينة ، شيئا فشيئا اكتشفت كل ما يهمها فيها ، توالت المفاجاّت ،تعرفت على طلبة عرب من الجنسين يفيضون حيوية ونشاطًا ، تعرفت منهم على خفايا كثيرة في المدينة أعانتها على ممارسة مجريات حياتها اليومية … تابعت اللقاء بانتظام مع حلقة ضيقة منهم ... فَتح اهتمامها بحقوق المراة شهيتها على الحديث معهم في هذا الموضوع ، كانت ترسم لهم دوماً صورة مثالية لحقوق المرأة العربية ،مقومات حياة جديدة في كل المجالات تتلائم مع روح العصر ومبادئ الحقوق الانسانية . ثمانية شهور قضتها في تعلم اللغة الانجليزية، اللغة الرسمية لجامعة ميجيل ، انشغلت بعدها بالتحضير لدخول الجامعة … مع انتهاء فصل الصيف في عام 1979 بدات السنة الدراسية … مشت في صباح يوم من ايام شهر ايلول عبر شارع شيربروك ببناياته الفخمة ، اتجهت شرقا الى جامعة ميجيل , وصلتها بعد خمسة تقاطعات مع شوارع رئيسية … شقت طريقها الى داخل الجامعة ، وسرعان ما دخلت في مكتب خاص بطلبة الدكتوراة ، لإتمام كل المعاملات الروتينيةالمطلوبة .
تمت الموافقة على موضوع رسالتها لنيل درجة الدكتوراة في علم الاجتماع ، حددته حسب رغبتها حول حقوق المرأة العربية ، بتفاصيل كثيرة تتعلق في عدم المساواة ما بين الجنسين ، وأدوار النوع الاجتماعي النمطية المترسخة في الدول العربية التي تحد من عمل المرأة وفرص مشاركتها في اتخاذ القرارات ، وتأخر المرأة العربية عن الرجل في مجال الحقوق السياسية والتمثيل البرلماني ،وأمثلة عملية عن الأزمات والتعقيدات المزدوجة التي تواجه المرأة العربية نتيجة حرمانها من حقوقها الأساسية في الحياة .
انشغلت ثلاث سنوات متواصلة بالبحث والدراسة واعداد رسالتها العلمية ، استكملت دراستها العليا لنيل درجة الدكتوراة ، ناقشت رسالتها امام اللجنة المختصة ، وحققت نجاحاً استثنائياً … تلقت بعد ذلك عرضاً من جامعة أوكام للعمل فيها في قسم علم الاجتماع … وافقت على العرض ، ومن ثم حصلت عى الجنسية الكندية ، واستمرت بالعمل والعيش في مدينة مونتريال .
مع ممارسة عملها الأكاديمي ،اهتمت كثيراً بنساء الجالية العربية ، أعدت دراسات ميدانية عن مشاكلهن في المهجر ، أشرفت على عقد ندوات ولقاءات كثيرة ،في مجال التنمية الانسانية العربية ، وفي مجال مستجدات الدول العربية السياسية، وبخاصة مستجدات القضية الفلسطينية .
دفعت بها نشاطاتها في رحاب الجالية العربية ، وتفوقها في أعمالها الأكاديمية ، الى أفاق رحبة مزدحمة بالنجاح والتقدير ، تذوقت بها الوجود بمشاعر فياضة ومستجدات كثيرة في كل يوم جديد ، اصبحت مثلاً طيباً يقتدى به بين المهاجرين العرب في كندا ... تميزت بالتسامح واتساع الذهن والعاطفة والتعامل مع الناس بمستوى عالٍ من السلوك النبيل … واصلت مد يد العون للنساء العربيات بحماس زائد على مدى سنوات طويلة ، مدفوعة بافكار ومبادئ انسانية نبيلة .
*********
وتمر السنون الواحدة تلو الاخرى ، وهي مشغولة ليلاً ونهاراً ببحوثها العلمية من أحل بنات جنسها … أصبح معنى الحياة الوحيد بالنسبة لها هو البحث العلمي... اهتمامها الزائد بالعلم أحدث فراغا عاطفياً في ذاتها … صدمة عاطفية انتابتها ، ظروف مضطربة نفسية غير مستقرة أثرت عليها ، اصبحت على حافة الإنهيار العصبي او الجنون ، فقدت جاذبيتها وتحولت الى امرأة لا جاذبية لها ، تتاثر من أي شيء وتغضب سريعا ً ، وتتعامل مع طلبتها واصحابها بفظاظة في التصرف والسلوك … مرضت ، فقدت ارادتها وسمحت للضياع أن يسيطر عليها .
شَخص الأطباء مرضها بأنها مصابة بتمزقات والام نفسية عميقة ، وحساسية مفرطة لكل ما يتصل بها ،أفقدتها التوازن في تعاملها مع الاخرين … تشعبت مع الايام تداعيات مرضها على كل ما يتصل بحياتها الشخصية ، على عملها و بحوثها واصدقائها ، عَمق في داخلها عقدها النفسية ، أدت الى شعورها بعدم الثقة بالنفس وبالاخرين والعالم المحيط .
ابتعد الناس عنها ، فقدت وظيفتها الجامعية … أخذت تهتم بالتصوف وحضور ليالي الذكر في التكية الشاذلية في شارع بارك … ظلت لسنين طويلة تتألم وتحاول معالجة نفسها بالتصوف والوصول للكمال الحقيقي … لم يساعدها التصوف في شئ .. استفحل مرضها النفسي ، سيطر تماما عليها ، شل قدرتها على مواصلة الحياة .
أدخلت للعلاج في مستشفى للأمراض النفسية ... لم يتم معالجتها ، ازدادت عقدها النفسية عمقًا ، غرقت فيها ، وبقيت علامة استفهام كبيرة في داخل أسوار المستشفى ، تتصرف تصرفات لا معنى لها ولا دلالة مثل تصرفات غيرها من النزلاء .
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فتاة الترومبون
-
ناجي علوش شاعراً ومفكراً
-
في ذكرى ناجي العلي ثانية
-
في ذكرى ناجي العلي
-
العرب لا يقرأون
-
كتاب - الإسلام وأصول الحكم - للشيخ علي عبد الرازق
-
رواية - الحاسة صفر - لأحمد أبو سليم
-
رواية فريدة للروائي نعيم قطان
-
حول ابداعات القاص عدي مدانات
-
حول التقشف والانضباط المالي في أوروبا
-
التنمية العربية في ظل الربيع العربي
-
عن فنِّ التصوير عند العرب ويحيى بن محمود الواسطي
-
هذه الارض لنا ...أنا وانت
-
رواية أيام قرية المُحسنة
-
مريم ذاكرة وطن
-
دينُ الحب
-
بنت عمي فاطمة
-
هيلين توماس
-
مآّذننا وأبراج كنائسهم
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|