|
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 5
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3848 - 2012 / 9 / 12 - 00:13
المحور:
الادب والفن
3 لم يكن السمّاك يورگن ، من الناحية الأخرى ، رجلاً حالماً . كان سمّاكاً دبّر نفسه بفضل تكييف حاجاته لتتلاءم و مدخولاته عبر مد ساقيه على قدر لحافه ؛ فامتلك داراً ، و بعض المال ، مع ثلاثة أطفال رائعين و مكتنزي الأجسام . إنه رجل ميسور على وفق كل المقاييس . و من جانبها ، كانت ليديا امرأة متهورة و سريعة الغضب . و على الرغم من اقتدارها ، فقد بدت جارحة كحد ألموسي بلسانها الذي يشبه المبشرة ، مع شيء من قوة المنشار ، و المسحاج ، و الفرشاة الفولاذية الأسنان . مع ذلك ، فلم يكن بمستطاع زوجها و أطفالها الاستغناء عنها . أما الناس في المدينة ، فقد دأبوا على التهكم عليها خلسة لكون غرورها الفظيع و تطلعاتها الارستقراطية قد تجاوزت تخوم السخافة . كان أطفالها أجمل من أطفال الناس الآخرين ، و هي نفسها أجمل من بقية زوجات جيرانها . أما خيلاؤها ، فهو مرض اكتسبته و هي ما تزال شابة ، و بقيت تحمله منذ ذلك الحين . آنذاك ، كانت تعمل عند أغنى أسر المدينة حصراً : عند آل هايبرگ في البدء ، ثم عند آل جونسون صاحب المرفأ - ألم تكن تنتمي حينذاك إلى مجتمع تلك الطبقات الراقية ؟ ألم يضع ك . أ . جونسون عينيه عليها عندما كانت شابة ؟ إنها ما تزال تتذكر ذلك جيداً . و إذا كان جونسون لم يوفق في الفوز بأي شيء منها ، فليس ذلك بسبب ضعف محاولاته . ثم تعرفت إلى يورگن ، فأبقته معلقاً طوال أربع سنين قبل أن تقبل الزواج به أخيراً . و هو إن لم يكن بالفتى الوسيم ، إلا أن تقاطيع وجه العادية و الصغيرة كانت مقبولة ، تميزها لحية سوداء ناعمة . أما سلبياته ، فقد اشتملت على ثقل مشيته ، و من ثم فشله راقصاً ، و هو ما كان يعرفه القاصي و الداني . و لم يكن ممكناً عدّ عمله جالساً في الزورق ملائماً لزيادة رشاقة حركته ، و لكنه كان رجلاً مثابراً و مخلصاً . لم تندم ليديا يوماً على زواجها به . و يورگن شغّيل مجد حريص ، يشعر بالحزن الحقيقي كلما منعه الطقس عن الخروج بقاربه . كان الربيع و الصيف المبكر يبعثان على السأم بعطلهما الطويلة و الصعبة على التحمل . و كانت أيام عيد الفصح و العنصرة تجربه مرة ؛ غير أن المدينة - على صغرها - كانت بحاجة مستمرة إلى السمك ، الذي راحت أسعاره ترتفع كل عام . و بوسع أوليفر التهكم على ضآلة الربح مثلما يريد ، و لكن صيد السمك على نطاق صغير كان يؤمن له بالفعل مورداً جيداً، إن لم يكن ممتازاً . و فضلاً عن ذلك ، فقد قرأ يورگن في إحدى الصحف أن صيد الأسماك عمل مبارك ، مثله مثل الزراعة ، لأنه يتطلب حصد الإنتاج . إذن ، فقد كان هو الآخر يعمل في خدمة الأرض . و لكنه أصبح محكوماً بأحوال الطقس الآن . كانت الأعياد الرئيسية قد ولت أخيراً : خميس الصعود ، و عيد الدستور ، و يوم الصلاة . إلا أن الله أرسل عواصفه على البحر بعد أن شاءت إرادته فرض إجازة أمدها ثلاثة أسابيع على حصاد المحيط لغاية حميدة ما . خرج يورگن يتسكع في أرجاء المدينة ، ممسكاً بيد ابنه الصغير ، فبللتهما مياه المطر بشدة . ثم تسلقا أرضاً مرتفعة ، و ألقيا بنظرهما إلى البحر ، و راحا يحصيان عدد السفن التجارية . بعدها نزلا ، و تفحصا الزورق للتثبت من سلامة موضعه ، و عدم الحاجة إلى سحب المياه من قاعة . لقد سيطرت على يورگن نوبة من القلق الشديد طوال تلك النوبة من التعطل . و التقى بأوليفر مصادفة . و لعدم وجود ما يشغلهما ، فقد انتحيا ركناً هادئاً لتبادل حديث ودّي قصير . كان أوليفر أبعد ما يكون عن حالة القلق التي تسيطر على رفيقه ، فقد تحسنت صحته كثيراً، كما سمح له الجو العاصف بمواصلة كسله ، فغادرته حماسته المؤقتة للعمل الجاد . لقد بدا و كأن يد العناية الإلهية قد عاجلته بوأد قراره على العمل لكسب المال اللازم لشراء بعض الملابس الجديدة له ، و اهتمامه الجاد أيضاً بتطوير عمله ، بفرضها تلك النوبة الطويلة من حكم الظروف الجوية التي بددت القرارات الجادة التي اتخذها من قبل . كان أسفه الوحيد يتمثل بعدم قدرته على تنفيذ تلك السفرة التي عقد العزم فيما مضى على القيام بها ، و اضطراره للذهاب إلى البيت بدلا من ذلك ، و التشاجر مع أمه . و كان قد أصبح بطلاً في التفلسف بفعل وعيه الداخلي الشديد و الممض لحقيقة وجوده الذاتي . أُنظر هنا الآن : أيبدو كل شيء جميلاً و مرصعاً بالألماس مثلما يعلمنا الكتاب المقدس ؟ خذ ذلك الرجل أولاوس الذي انفجرت شحنة من الديناميت في وجهه فأصبح أزرق مشوهاً ؛ و ما أن وجد لنفسه عملاً في المسفن بعد سنة من البطالة حتى صدمته رافعة ، فقطعت له ذراعه . و ها هو الآن يعب الخمر مثل سمكة ، و يقضي وقته بالعراك مع زوجته . "خذ من شئت من الناس ، و ستجد أن الحظ السيئ قمين بتغييره و إعطابه ، بغض النظر عن درجة صلاحه بوصفه مخلوقاً متقياً قريباً من الرب ." "حسنٌ ،" قال يورگن . "حسنٌ ، أليس هذا صحيحاً ؟ فقد تكون حائزاً على أرق الأرواح ، و لكن صلاحك هذا لن يفيدك بشيء إذا ما جاءتك كرة مدفع في حجرك . و لكن ، لعلك تظن أن تقواك ستفيدك في موقف كهذا ؟" "سيكون ذلك – حسنٌ- سيكون نوعاً من التطهير ، " رد يورگن بلطف. "إنك أحمق ! تطهير ؟ تستطيع أن تقول هذا لنفسك عندما تكتسحك موجة ربانية مثلما حصل لي ." كان وجه أوليفر قد إبيضّ فجأة من حدّة الغضب ؛ غير انه ما لبث أن أسف على ذلك عندما أظهر يورگن إشارات تنم على رغبته في المغادرة ؛ فبحث في جيبه عن غليونه ، و قال : "أيعجبك هذا الغيلون ؟ لقد قررت إهداءه لك". "هل أقلعت عن التدخين ؟" "منذ زمن بعيد ؛ منذ أيام رقودي في المستشفى . و كنت قد ابتعت هذا الغيلون من الخارج ، فإذا ما أعجبك - " "لا ، احتفظ به لنفسك ." و تحركا نحو البيت . "أوه ، ليست بل حاجة إلى إظهار نفسك رجلاً تقياً بفمك المتدلي يا يورگن ؛ لا حاجة إلى ذلك البتة ، و هذا ما أقول لك :" قال أوليفر في نوبة غضب أخرى ،"إنني لا أهتم بما تقول ، فلديك مشكلاتك التي ينبغي لك مقارعتها ؛ و لدي أنا مشكلاتي . ففي هذا الوقت ، هناك على سبيل المثال مشكلة عدم استطاعتك الخروج إلى الصيد في البحر- فهل ألمّت بك هذه المشكلة لأن الثروة قد أتخمتك و لم يعد بمستطاعك استيعاب المزيد منها ؟ سأقول لك : إن المولى دقيق في حساباته ، نعم إنه دقيق ، فهو يبدو لي و كأنه يتولى سرقة لقمة العيش من فمك !" عبّس يورگن ، و فتح فاه و كأنه يريد الإجابة ، مما أكسبه لحظة مظهر الرجل الغاضب ، و لكنه لم ينبس ببنت شفة . عاد الهدوء إلى أوليفر ، و مال إلى المداورة ثانية : "و لكن يبقى بيده كل الملك ، و أنا أدرك هذا بلا ريب : فإذا ما أردنا السير على صراطه المستقيم ، فلا شأن لنا بهذا الموضوع . ألن تأخذ الغليون ؟" يتلوى يورگن و يجيب :"نعم ، لا ينبغي لك التخلي عنه ." و لكنه يلاحظ أن سيماء جاره المقعد تمتلئ رجاء ، فيغير نبرة صوته و يقول :" لمَ يجب عليّ أن أحصل على غليونك الثمين ؟" "ستناله !" صرح أوليفر ،" إنني أريدك أن تناله . لقد فكرت فيك طويلاً ، فأنت تمتلك الكثير من الفرص لصنع المعروف لي بالمقابل ، و كلي ثقة بأنك ستنتهز تلك الفرص ." و الحق أن بيت أوليفر قد أتاح لجيرانه مؤخراً فرصاً كثيرة لصنع المعروف . فمع أن أوليفر دأب على ملازمة الدار، إلا أن أمه كانت كثيرة الخروج في المساء بعد غلق المخازن لأبوابها بغية استعارة كوب من بذور القهوة ، أو طاس من دقيق الجاودار ، بعد التعهد للجار بإعادة ما استعارته في اليوم التالي . و لم يكن يصعب على تلك المرأة إستعارة أي شيء ، و قد بلغ بها الأمر يوماً أن استدانت سمكة صغيرة من السماك العجوز مارتن . و هي على خلاف مستمر مع إبنها . "قل لي بحق السماء ، ماذا فعلت بأثمان تلك الأسماك التي بعتها قبل مجيء الطقس العاصف ؟" سألته . "آه كم ترغبين في معرفة ذلك !" رد عليها بخشونة . و لكن أمه واصلت محاصرته يومياً بلا كلل ، و لم تكن لتترك الموضوع إلا بعد إجباره على الفوران ؛ حتى حل ذلك اليوم الذي جاء فيه إليها ، و رمى كيس النقود على المنضدة . و كان كل ما استطاع إنقاذه منها هو ثمن ربطة عنق زرقاء . حسنٌ ، لم تكن لذلك المبلغ أهمية ، فقد كان قوامه نقوداً نحاسية جمعت بجهد كبير : سمكة بعد سمكة . و سواء أكان المبلغ كبيراً أم قليلاً ، فقد أصبح الآن في خبر كان ، بدلاً من صرفه على شراء ملابس جديدة ، و قبعة من القش . و بالطبع ، فإن أوليفر ما كان ليسلم نقوده لو لم يتكفل الجو السيئ بتعقيد الأمور عليه ، و يحول بينه و بين تحقيق أهدافه النبيلة - وداعاً أيها الحظ . و بصلافة قال لأمه :" دعيني الآن أحصل على بعض الهدوء ." "هل هذا هو كل شيء ! "أوه ، ستحصل مني على هدوء حقيقي ،" قالت له "و لكن إذا تعين عليّ دفع ديوننا فان هذه النقود لن تذهب بنا بعيداً، و أنت تعرف ذلك ." عندئذ إستخرج ما كان يغلي في داخله منذ وقت طويل :"لا يذهب بل التصور إلى توهم أن الموضوع يتعلق بي وحدي ، فما دام بمستطاعك فعل ذلك ، فالأمر سواء بالنسبة إلي أيضاً ." "ماذا تقصد ؟" "ماذا أقصد ؟ أقصد إنني رجل معاق عاجز عن استخدام أطرافه على النحو الأمثل ، أليست لديك عينان في رأسك ؟" "أيجدر بي أن أذهب إلى الأبرشية لتلقي الإعانات المعاشية منها ؟" قالت مستنكرة . "إلى الأبرشية ؟ ليس هذا تماماً . و لكن أليس بإمكانك مساعدتي قليلاً ؟" "عجباً !" صاحت أمه ، ثم أغلقت فمها بإصرار. "عجباً ؟ هل أصبح الموضوع متعذراً على الإفصاح بهذه الدرجة ، و أنا بي ما بي من عوق ؟" "عوق؟" صرخت ،" أصغ إلي جيداً ، إنك لا تريد عمل أي شيء أبداً . إنك لا تريد إنجاز وعد الله . ما منعك عن الخروج للصيد البارحة عندما كان البحر هادئاً قبل أن يشتد موجه اليوم ؟" "و لكن البحر كان عاصفاً البارحة أيضاُ ." "أوه، أتستطيع إعلامي إذن كيف خرج يورگن للصيد ؟" "هل خرج يورگن ؟ إن ذلك يسير عليه لامتلاكه قارب صيد جديد ،" تحسر أوليفر . صمت . كان الغضب قد استبد بأمه فأقلعت عن بذل أي جهد لرعاية مشاعره:" إنك تخلع الأبواب من البيت و تبيعها، و إنني لأعجب كيف انك لم تبع الحيطان حتى الآن .آه كم أتمنى لو كنت في قبري ." "و أنا أيضاً ." "أنت !" نخرت بوجهه ،"إن كل ما يعجبك عمله هو الاستلقاء في البيت . و أنا على يقين بأنني لو باشرت المساعدة في تدبير شؤون البيت لانتهى بي المطاف إلى التكفل بإطعامك أنت الآخر أيضاً ." إنفجر أوليفر ضاحكاً من كلام أمه غير المعقول ."لا ، أغلقي فمك . ها، ها ، ها ! لا ، اسكتي ، و ليكن الله في عوني . و من الآن فصاعداً ، فان بمقدورك التحدث إلى نفسك ." و سرعان ما أصبحت وجبة البطاطس خالية من السمك ، و الموقد خاليا من الخشب . و مرت أيام تحسن فيها الجو ، إلا أن أوليفر كان يفوّت كل فرصة سانحة ، لتليها دوماً الأيام العاصفة . و الحق أن الجو قد ساء أكثر من قبل ، فما معنى كل هذا ؟ لقد غابت رحمة السماء و راحت ترعد فوق المدينة الصغيرة على نحو غير معهود. تنقل أوليفر من كرسي إلى أخر في غرفة الجلوس ، ثم انبطح على المنضدة مدة غير قصيرة نائماً أو سارحاً بأفكاره و رأسه بين ذراعيه . و بين الفينة و الأخرى ، كان يهجم على القط بساقه الخشبية . و في أحد الأيام ، تاق إلى الارتقاء ثانية بوصفه بحاراً قديماً ؛ فصعد إلى سطح غرفة الجلوس ، و عبث بموصل عمود الصواعق ، و سوّى بعض البلاطات ، ثم نزل . كان قد أصبح في مضيق خطر بعد أن أمست الوجبات المنتظمة شيئا من الماضي . و في أحد الأيام، خرجت أمه من البيت ، و لم تعد حتى في اليوم التالي . و في غضون ذلك ، زار أوليفر أحد الفنيين ، و قال له :" إعمل معروفاً و تعال لفحص عمود الصواعق في بيتي . إنني أخشى أن أكون قد أتلفته و أنا أسوي بلاطات السطح ." "و هل الموضوع على هذه الدرجة من الإلحاح ؟" يسأل الرجل ، فيجيبه أوليفر : "أفضل أن تتكرم ، فتأتي معي الآن لأن حالة الجو هذه الأيام تجعلني أخشى الصواعق ." و ذهب الرجل معه ، فقد شعر- مثله مثل غيره من الناس- أن الواجب يفرض عليه مد يده لمساعدة رجل عاجز . صعد إلى السطح ، و نادى من هناك أوليفر الواقف تحته قائلا :"لو حصلت كارثة ، لشكرت نفسك جراءها !" "و كيف ذلك ؟" "بحق السماء، لا يوجد أي موصل هنا ، فالعمود يبلغ حد السقف ، ثم ينقطع ، ناقلاً الصواعق إلى موقد غرفة الجلوس مباشرة ." "عندما أتأمل الموضوع ، أشكر الحظ لأن والدتي قد غادرت الدار في زيارة لها طوال هذا الوقت ، و هذا ما يجعلني الضحية الوحيدة في البيت ." قال أوليفر. يركّب الرجل موصلاً جديداً . و بعد أن ينتهي من عمله ، يسأله أوليفر عن المبلغ الذي يريده . " لا شيء !" "أوه ، إلا أني أريد أن أدفع ." "بإمكاني التريث حتى تتوفر أسماك القد الصغيرة الزائدة عندك ، و ستستطيع حينئذ تزويدي بواحدة منها ." "ستحصل على خيط كامل ،" قال أوليفر . تلفَّظ تلك الكلمات بنبرة قوية عالية ليُسمع شخصاً معيناً كان ماراً بالقرب من بيته - إنها خطيبته السابقة پيترا . كان يروم إفهام الجميع أنه قادر على الدفع بسخاء ؛ أي نعم ! و أغلب الظن أن پيترا كانت مارة من هناك مصادفة في طريقها إلى بيت ماتيس الجديد - أو الأحرى بيتها الجديد . و بقي أوليفر واقفاً في مكانه يراقب مشيتها و هو يفكر في أن الواجب كان يقتضي منه في الأقل شراء قبعة ليستطيع رفعها إليها ، و لكنه لم يكن يمتلك شروى نقير . و لم تصله أية أخبار عن أمه - أين ذهبت ؟ هل ذهبت إلى الأبرشية فعلاً ؟ عاد أوليفر إلى جولاته حول المخازن بعد أن أمسك عن القيام بها بعض الوقت . و مرة أخرى ، قُدم له القفص للجلوس عليه ، مشفوعاً في بعض الأحيان بقطعة من كعك السفن للقضم . انتبه ! لقد لاك أوليفر تلك القطعة الصلدة كالصوان تفكهاً ، و ذا أمر لا يبعث على الدهشة ، فالبحار القديم ما زال قادراً على الاستمتاع بمؤن السفن ، و بأسنانه الممتازة . و بعد أن أنهى جولاته حول المخازن ، راح يوسع دائرة تحركاته ؛ فذهب إلى المرج ، وتناول القهوة والخبز مع العجوز مارتن . و تبادلا الحديث عن رداءة الجو ، كما اطلع أوليفر أهل مارتن على الشهرة التي حازها في المستشفى الايطالي ، و على قصة الممرضة . كم كان مغفلاً عندما رفض عرضها . و لكن تبقى الحقيقة التي لا مراء فيها تؤكد أن الرجل يؤثر أن يحيا و يموت على العقيدة التي فطر عليها . يضاف إلى ذلك أن أوليفر امتلك وقتئذ فتاة من قومه كان يؤمن بإخلاصها له . "هل انتهى ما بينك و بين پيترا ؟" سأله أهل مارتن . "أمنعكم من ذكر اسمها ، " أجابهم . ثم توجه يضلع إلى موقع بيت جديد كان العمل فيه يوشك أن ينتهي ، للثرثرة قليلاً هناك . نعم ، من المؤكد أن البناء يكلف أموالاً . و أكثر الأجزاء تكلفة هي لوازمه من الأبواب والشبابيك الباهظة الأسعار ، و ليس البيت نفسه . و لقد كان يمتلك زوجاً من الأبواب رائعاً . و من المرج ، قصد محل ماتيس . كان النجار منهمكاً في عمله كالمعتاد ، إلا أنه ترك مسحجه لتقديم كرسي لزائره المعاق . و تحدثا عن رداءة الجو التي طال أمدها في البر و البحر ، و كيف أصبح متعذراً على المعوزين التماسك جسداً و روحاً . و على أية حال ، فقد كان الوضع متشابهاً بالنسبة إلى الجميع ، بضمنهم يورگن و مارتن العجوز إذ اضطرا إلى لزم بيتيهما أيضاً . "أتمنى لو بقي عندي غليوني لأهديه لك ،" قال أوليفر . " لا ينبغي لك أن تفعل ذلك ." "فات أوان هذا الكلام ؛ لقد حصل العجوز يورگن عليه ." "ماذا ؟ هل حصل العجوز يورگن عليه ؟" "نعم، غيلون جديد من أحدث طراز كنت قد اشتريته من مكان ما في الخارج . ماذا أردت أن أقول - متى ستتزوج ؟" "حسنٌ ، لا بد أنك تعلم أنها أصبحت مسألة أيام قليلة ، ليس إلا ،" أجابه ماتيس بقليل من الخجل . "هكذا ." قال أوليفر ، و صمت مفكراً . أوه ، نعم . إن بمستطاع أوليفر استعراض صبره الجميل و حكمته العميقة . كان يقبل الرضوخ لما لا سبيل إلى تفاديه . و شعر النجار بالأسى على هذا الرجل العاجز الذي كان مثل نابليون في يوم ما . و ها هو يجلس هناك محدقاً إلى الأرضية في أسار لحظة سوداوية ، و عيناه شبه مغمضتين . و على حين غرة ، قطعت السكون خشخشة . كان ما يزال يحدق إلى الأرضية ، و لكنه أومأ بعكازه ، و قال :" أستطيع الإفادة من هذين البابين عندما تعيدهما إلي ." فغر ماتيس فاه ، و قال :"ماذا ؟" "أستطيع الإفادة من هذين البابين عندما تعيدهما إلي ." و حدّق أحدهما إلى الآخر . "سأحاول إيجاد الوقت اللازم لعمل زوج من الأبواب لك ،" قال ماتيس . "كلا ، " زجره أوليفر ،" أريد هذين البابين ، أو لا شيء ." هل هذا تهديد ؟ رفع أوليفر قامته وانتصب - نعم ، كان يستخدم عكازه لأغراض المشي فقط . و لاحت وقفته الآن ملأى بالتحدي . كان مثل هذا الاستعراض هو كل المطلوب للتشويش على أفكار ماتيس بخصوص الرجل المعاق . فَقَدَ وَجْه ماتيس كل تعبير تقريباً ، و بدا أنفه العظيم و قد إزداد طولاً . لقد كان مهزوزاً على نحو واضح . "حسنٌ ، باستطاعتك إن تأخذ البابين ، " قال . "انك تكرمني بهذا المعروف ،" قال أوليفر ، و قفل راجعاً إلى البيت ، تاركاً ماتيس يضرب أخماساً بأسداس . و في البيت ، عاود الجلوس إلى المنضدة - نائماً أو سارحاً- و رفس القط ، و مراقبه الشارع المهجور . مضت الأيام بطيئة . كانت البابان قد جُلبتا و وُضعتا هناك في الممر بعد أن أصبحتا جاهزتين للتركيب . لقد نقلهما ماتيس بنفسه على مرحلتين ، حاملاً الواحدة منهما فوق رأسه . كان النجار توّاقاً على نحو طبيعي إلى الظهور بمظهر السِكّيت . "إن عضلاتك على خير ما يرام يا ماتيس !" قال له أوليفر . و عادت أمه إلى البيت بعد ذلك بمدة قصيرة . دخلت دون أن تتلفظ بكلمة واحدة أو تصدر أي إيماءة بالتحية ، و دون أن ينم مظهرها أيضاً على عداوة صريحة . " هل استعدت البابين ؟" سألته . لابد أنها وجدت البيت أكثر ترحيباً من قبل . "أين كنتِ ؟" سألها إبنها . "أوه ، كنت أتجول في الجوار قليلاً ." "حسنٌ ، لا بد أنك ترين الآن أنني قادر على جلب شيء أو آخر إلى البيت حتى عندما تكونين غير موجودة فيه ؛ و ها أنا قد حصلت على هذين البابين ." "لست أبالي - قدر تعلق الأمر بي - بأي شيء تروم القيام به ، و بوسعك إبقاء البيت بأبوابه أو خلعها منه ، " قالت أمه و هي تزم شفتيها . "أوه ، انك لا تبالين بتفاقم حراجة الوضع في البيت – حسن ، تستطيعين الآن أن تصفري على روح البابين التاليين !" نهض أوليفر ، و التقط عكازه ، و خرج يعرج سريعاً خارج البيت. يا لها من فرصة- سيتحول إلى رجل متهور بالفعل ! أخذ الطريق المؤدية إلى المرج ، ليعرّج على البيت الجديد المقام هناك . و لقد انتهزت أمه فرصة خروجه من البيت لتتناول وجبة طعام من الأغذية المتنوعة التي كانت قد أتت بها تحت شالها قبل عودتها إلى البيت ، و التي اشتملت على الكعك و المقانق و سمكة رنكة مشوية و البيض و الرز و الخبز . و بعد فراغها من تناول وجبتها ، عمدت إلى رزم طعامها ثانية ، و أخفته تحت سريرها . عاد أوليفر إلى البيت يتبعه أحد الرجال الذي سارع إلى حمل أحد الأبواب على رأسه و خرج . ران الصمت على أوليفر و أمه . ثم عاد الرجل ، فحمل الباب الثانية إلى بيته الجديد . و لعل أوليفر أدرك عند ذاك تطرف مسلكه ، فقال على سبيل تلطيف الجو :" عندما تقرر شراء باب ، فإنها ستكلفك الأرض كلها ؛ أما إذا أردت بيعها ، فانك لن تحصل لقاءها حتى على ثمن وجبة طعام محترمة ." "لا بد أنك تريد إعلامي بكونك قد قمت ببيع البابين مرة أخرى ، أليس كذلك ؟" "و أي فائدة أرتجي منهما ؟" صاح أوليفر , " و على أية حال ، فانك لم تبالي بهما ." "عجباً ! ليحفظني الله منك !" انفجرت أمه . و في لحظة ، كاد يشتاط غضباً ، و يصب اللوم عليها ؛ و لكن غيَّر رأيه ، و راح يتحرك حول الغرفة بسرعة غير مبررة ، طارقاً الأرضية برجله الخشبية . آه ، حسنٌ ، يجدر به أن يستخدم عقله الذي وهبه الله له مذ كان صغيراً ."هذه عن الأبواب ،" قال واضعاَ النقود على المنضدة ،" تستطيعين أخذها ." و مرة أخرى لم تظهر أمه كبير إهتمام بالأمر . نظرت جانباً إلى النقود ، و طوّحت برأسها قليلاً . إبتدرها أوليفر محتجاً :" ماذا ؟ لعلك تظنين أنني قد بددت الباقي ؟ لا ، إنني لم أستبق إلا مبلغاً يسيراً للوفاء بمستلزمات سفرتي القادمة ." "أي سفرة ؟" "لأني أعتزم القيام بسفرة ، و أحتاج إلى التزود ببعض التجهيزات ، فقد استبقيت القسم الباقي ." "نعم ، إن الجو ملائم للسفر ،" قالت أمه متشككة . "لقد هدأ الجو ، و تغير اتجاه الريح ،" تمتم متقمصاً دور الرجل الأريب الذي يعرف كيفية استخدام عقله ." إلا أنني في كل الأحوال لن أنتهي إلى التشاجر معك ." "فعلاً ،" قالت أمه بنبرة جريحة . "كلا ، لأن كل ما أفعله هو خاطئ في نظرك ." ليأخذ الشيطان روح أوليفر إن لم يكن هو الطرف المغبون في قضية البابين !
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 3
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
-
السيد و العمامة
-
يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
-
كلاب أولاد كلب
-
بغداد : 6./ 6. /6.
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
-
قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 10
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 9
-
الزنبقة تموت عشقاً في الحياة .... و تحيا / مرثية الشاعر يحيى
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 8
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 7
-
مَثَلْ مَضْروب بيه تِتْحدّثِ النّاس : -جِزا الإحسانْ : بَكّا
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 6
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 5
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 4
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 3
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|