حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 3847 - 2012 / 9 / 11 - 09:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نرتحل في هذا النص إلى عوالم فلسفة الرياضيات لنرصد النظريات الفلسفية المختلفة في تحليل الرياضيات و تفسير نجاحها في وصف العالم. و بفضل المقارنة الفلسفية بين النظريات المتصارعة نشهد تفوق فلسفة السوبر حداثة في تفسير طبيعة الرياضيات و نجاحها في وصف عالمنا.
يسأل الفيزيائي ماريو ليفيو سؤالاً أساسياً في فلسفة الرياضيات ألا و هو : لماذا تنجح الرياضيات في تفسير الكون؟ يجيب ليفيو على هذا السؤال قائلاً : في ميادين العلوم يتم اختيار الأدوات الرياضية القادرة على التنبؤ بالمشاهدات و التجارب الواقعية في عالمنا الفيزيائي , لذا من الطبيعي أن تنجح الرياضيات في وصف الكون و تفسيره. بكلام ٍ آخر , يختار العلماء العمل على حل المشاكل التي من الممكن بنجاح حلها رياضياً بدلاً من اختيار المشاكل التي من غير الممكن النجاح في حلها رياضياً , و لذا من غير المستغرب أن تنجح الرياضيات في تفسير و وصف الكون و أن تنجح بذلك أيضاً النظريات العلمية المُعبَّر عنها رياضياً في وصف و تفسير عالمنا الفيزيائي ( Mario Livio : Is God A Mathematician? 2009. Simon & Schuster (.
لكن السؤال ذاته يعيد طرح نفسه على النحو التالي : لماذا هذه المشاكل التي يختارها العلماء من الممكن أن يتم حلها رياضياً بنجاح؟ لنسلّم بأن العلماء يختارون المشاكل التي من الممكن لهم النجاح في حلها رياضياً. رغم ذلك يبقى السؤال: "لماذا من الممكن حل تلك المشاكل رياضياً؟ " أي لماذا لم تكن كل المشاكل غير قابلة للحل رياضياً بدلاً من أن تكون منقسمة إلى مشاكل ذات حلول رياضية يختارها العلماء و مشاكل لا حلول رياضية لها و لا يختارها العلماء؟ هكذا لا ينجح موقف ليفيو في تفسير لماذا تلك المشاكل لها حلول رياضية بدلاً من أن تكون كل المشاكل بلا حلول رياضية. و بذلك يفشل ليفيو في تفسير لماذا الرياضيات ناجحة في وصف و تفسير عالمنا. بالنسبة إلى ليفيو , الرياضيات ناجحة في وصف و تفسير الكون لأن العلماء يختارون المشاكل الفكرية و العلمية التي من الممكن بنجاح حلها رياضياً. لكن ليفيو لا يفسِّر لماذا تلك المشاكل التي يختارها العلماء قابلة للحل رياضياً بدلاً من أن تكون كل المشاكل العلمية و الفكرية غير قابلة للحل الرياضي. و بذلك لا يفسِّر ليفيو لماذا تنجح الرياضيات في وصف و تفسير العالم الفيزيائي.
من جهة أخرى , تتمكن السوبر حداثة من الإجابة على سؤال " لماذا تنجح الرياضيات في وصف و تفسير الكون ؟ ". بالنسبة إلى السوبر حداثة , من غير المُحدَّد ما هو الكون. و بما أن الكون غير مُحدَّد كما تقول السوبر حداثة , إذن من الممكن أن نعبّر عنه بنجاح من خلال لغات عدة مختلفة كلغة الرياضيات و لغة الفيزياء و لغة البيولوجيا ... إلخ. لذا من غير المستغرب أن تنجح الرياضيات كما الفيزياء و العلوم الأخرى في وصف و تفسير الكون. هكذا تفسِّر السوبر حداثة نجاح الرياضيات و العلوم كافة. فلو كان الكون مُحدَّداً ما هو لوجدت لغة واحدة فقط ناجحة في التعبير عنه. لكن ثمة لغات عديدة و مختلفة ناجحة في التعبير عن عالمنا كلغة الرياضيات و لغة الفيزياء و لغة الكيمياء و اللغة التي نتحدّث بها يومياً. و بذلك الكون غير مُحدَّد ما هو. و لو كان الكون مُحدَّداً ما هو لوجد حينها نموذج رياضي واحد فقط ناجح في التعبير عن الكون. لكن ثمة نماذج رياضية عديدة و مختلفة ناجحة في وصف الكون و تفسيره ؛ فمثلاً بالنسبة إلى نموذج إقليدس الرياضي زوايا المثلث تساوي 180 درجة بينما بالنسبة إلى نموذج رياضي معاصر زوايا المثلث تساوي أكثر من 180 درجة و بالنسبة إلى نموذج رياضي معاصر آخر زوايا المثلث تساوي أقل من 180 درجة. و بذلك الكون غير مُحدَّد ما هو. من هنا , لا محددية الكون أساس نجاح الرياضيات في وصف و تفسير الكون. بكلام ٍ آخر , من الممكن علمياً و نظرياً صياغة عدد لا متناه ٍ من النظريات و النماذج الرياضية المختلفة و المعارضة لبعضها البعض. لكن إذا كان الكون مُحدَّداً فثمة نموذج رياضي واحد ناجح في وصف و تفسير الكون ما يجعل احتمال أن نكتشف هذا النموذج الناجح من بين عدد لا متناه ٍ من النماذج الرياضية التي من الممكن صياغتها احتمالاً ضعيفاً جداً . و بذلك يستحيل علينا اكتشاف أو صياغة النموذج الرياضي الناجح في وصف و تفسير الكون. لكن طبعاً تمكنت البشرية من اكتشاف أو صياغة نماذج رياضية قادرة على التعبير عن عالمنا. و بذلك عالمنا غير مُحدَّد و إلا ما تمكنا من بناء نماذج رياضية ناجحة في وصف الكون و تفسيره.
بالإضافة إلى ذلك , يقدِّم الفيلسوف كواين تفسيراً داروينياً لنجاحنا في الحصول على المعرفة فنجاح الرياضيات و العلوم في وصف و تفسير العالم. بالنسبة إلى نظرية داروين , تحيا الكائنات الحية في صراع دام ٍ فيما بينها , و فقط الأفضل و الأقوى في صفاته و قدراته يبقى و يستمر لتغلبه على الأضعف. من هذا المنطلق , يعتبر كواين أن الأفراد الذين تمكنوا من الوصول إلى المعرفة من خلال الاستقراء نجحوا في البقاء أحياء و أنجبوا لأنهم عرفوا ما المفيد في الطبيعة و ما المضر فيها. أما الذين لم يتمكنوا من الحصول على معرفة الطبيعة و ما يحيط بهم فشلوا في التكيف مع محيطهم و في الاستفادة من الطبيعة و تجنب ضررها و لذا لم ينجحوا في الاستمرار و التوالد. من هنا , بالنسبة إلى كواين , المعرفة ممكنة و علومنا و رياضياتنا ناجحة في وصف العالم و تفسيره و إلا ما كنا استمررنا كجنس بشري ( Quine : Ontological Relativity & Other Essays. 1969. Columbia University Press ( . لكن ما ينسف هذا الموقف الفلسفي هو التالي : ليس بالضرورة أن تكون لدينا معرفة كي نستمر على قيد الحياة , بل يكفي أن تكون لدينا معتقدات مفيدة في تجنب الضرر و الاستفادة من المفيد في محيطنا لكي ننجح في البقاء. من المنطلق نفسه , ليس بالضرورة أن تكون علومنا و ما تتضمن من رياضيات ناجحة في تفسير العالم و محيطنا لكي نستمر كجنس بشري , بل يكفي لتحقيق البقاء أن تكون علومنا و رياضياتنا مفيدة لنا في تجنب ما يضرنا و الاقبال على ما يفيدنا. من هنا , لا تنجح نظرية كواين في تفسير لماذا نملك معرفة و لماذا تنجح رياضياتنا و علومنا ما يبقي لنا اتجاه السوبر حداثة و ما يتضمن من موقف فلسفي.
بالنسبة إلى السوبر حداثة , لدينا معرفة و من الممكن الحصول على معارف علمية و رياضية لأنه من غير المُحدَّد ما هو الكون. فبما أن الكون غير مُحدَّد , إذن من الطبيعي أن نتمكن من وصفه و تفسيره بنجاح من خلال نظريات مختلفة و أن نكتسب المعرفة. فلو كان الكون محدَّداً لكانت ثمة نظرية واحدة فقط ناجحة في وصفه و تفسيره من بين عدد لا متناه ٍ من النظريات التي من الممكن صياغتها أو التفكير فيها. و بذلك حينها سنحتاج إلى معجزة كبرى كي نصل إلى تلك النظرية الناجحة ضمن العدد اللامتناهي من النظريات الممكنة أي سنحتاج إلى معجزة لنصل إلى المعرفة. هكذا الكون غير مُحدَّد و من خلال لا محدديته يمكننا من اكتساب المعرفة و صياغة نظريات علمية و رياضية ناجحة. فبفضل لا محددية الكون من الممكن وصفه و تفسيره من خلال أوصاف و نظريات عدة و مختلفة (كنظرية النسبية لأينشتاين و نظرية ميكانيكا الكم و نظرية الأوتار العلمية ) ما يجعل من المتاح لنا أن نبني تلك النظريات من دون أن نكون سجناء نظرية واحدة أو سجناء البحث عنها.
الآن , تتنوع النظريات الفلسفية حول الرياضيات و تختلف. من تلك النظريات نظرية تقول إن حقائق الرياضيات و معادلاتها و عناصرها ( كالأعداد ) مجردة و توجد فقط في عالم مجرد منفصل عن عالمنا المادي الفيزيائي. نظرية أخرى تقول إن حقائق الرياضيات قائمة في عالمنا الواقعي المادي بينما تعتبر نظرية فلسفية أخرى أن الحقائق الرياضية مجرد بناءات فكرية موجودة في العقل فقط و معتمدة في وجودها عليه. أما نظرية فلسفية أخرى في فلسفة الرياضيات فتصر على أن الرياضيات موجودة فقط على أوراق العلماء. لكن كل نظرية من هذه النظريات الفلسفية تعاني من مشكلة قاتلة. فمثلاً , إذا كانت الرياضيات مجردة , و بما أن المجرد لا قدرة سببية له لكونه مجرداً , إذن الرياضيات و حقائقها لا تستطيع أن تسبب معرفتنا بها و بذلك يستحيل معرفتها ما يناقض حقيقة أننا نستطيع معرفتها. أما إذا كانت حقائق الرياضيات كامنة في عالمنا المادي الواقعي فحينها يغدو عالمنا متناقضاً بسبب تنوع و اختلاف النظريات و النماذج الرياضية المقبولة علمياً. لكن طبعاً عالمنا غير متناقض و إلا استحال وجوده. من هنا تفشل نظرية أن الرياضيات كامنة في عالمنا المادي الواقعي. أما إذا كانت الرياضيات مجرد بناءات فكرية موجودة في العقل فقط أو مجرد بناءات كتابية موجودة فقط على أوراق العلماء فحينها من المستغرب كيف تنجح في وصف و تفسير عالمنا Editors : Paul ) Benacerraf and Hilary Putnam : Philosophy of Mathematics. 1984. Cambridge University Press ).
لكن السوبر حداثة في فلسفة الرياضيات تختلف عن المذاهب الفلسفية السابقة و تتجنب مشاكلها ما يدعم صدق الفلسفة السوبر حداثية. بالنسبة إلى السوبر حداثة , اللامحدَّد يحكم العالم. من هنا تقول السوبر حداثة إن من غير المُحدَّد ما هي حقائق الرياضيات و معادلاتها و عناصرها ( كالأعداد ) و من غير المُحدَّد أين توجد. و لذا تتصرف الرياضيات و كأنها مجردة و موجودة في عالم مجرد و تتصرف كأنها كامنة في عالمنا المادي الواقعي و تتصرف كأنها مجرد بناءات فكرية موجودة في العقل و معتمدة في وجودها عليه. فقط في حال كانت مُحدَّدة تكون إما مجردة و إما في عالمنا المادي الواقعي و إما بناءات عقلية. لكنها غير مُحدَّدة ما هي و لذا كأنها مجردة و كأنها مادية موجودة في الواقع من حولنا و كأنها بناءات فكرية. و بما أن حقائق الرياضيات غير مُحدَّدة ما هي و أين توجد , إذن تتقلب حقائق الرياضيات بين أن تكون مجردة و أن تكون واقعية و أن تكون بناءات عقلية تماماً كما تتقلب ( fluctuate ) الجسيمات في نظرية ميكانيكا الكم العلمية بين أن تكون جسيمات و أن تكون موجات. و متى تتقلب حقائق الرياضيات لتصبح مجردة حينها يتمكن العلماء من صياغة نماذج رياضية منسجمة و مقبولة رياضياً رغم كونها غير مرتبطة بعالمنا الواقعي كما نختبره. و حين تتقلب الرياضيات لتمسي كامنة في الواقع تنجح النماذج الرياضية في التعبير عن الواقع. أما حين تتقلب الرياضيات فتكون بناءات فكرية حينئذ ٍ من الطبيعي أن تتمكن عقول العلماء من معرفتها. على هذا الأساس , تنجح السوبر حداثة في التعبير عن إمكانية معرفة الحقائق الرياضية كما تتمكن من التعبير عن نجاح النماذج الرياضية في وصف الواقع و بذلك تكتسب السوبر حداثة مقبوليتها.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟