أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صلاح سليم علي - تحولات مردوخ















المزيد.....



تحولات مردوخ


صلاح سليم علي
(Salah Salim Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 3845 - 2012 / 9 / 9 - 00:01
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تحولات مردوخ

على الرغم من الغموض الذي يكتنف منشأ مردوخ [بعل] في سومر أو انتقاله اليها من حواضر سامية أو فينيقية ضاربة في القدم وتسميته السامية التي تعني عجل الشمس أو عجل السماء او ابن الشمس أو (الأبن) و(الشمس) في الوقت نفسه، فأن ارتباط عبادته ببابل تضفي دلائل كثيرة على طبيعته وشخصيته..ونحن لانعرف، تحديدا، إن كان مردوخ اسما سومريا لكن مدينة بابل (باب ايلو) أي بوابة الإله، تسمية سومرية المنشأ، وبابل هي مركز عبادته التي انتشرت في الشرق الأدنى القديم بدءا منذ عهد حمورابي وحتى عهد نبوخذنصر الثاني، ويكنى مردوخ بملك السماء وكلمة القوة المجيد، والحكيم الصالح، وحارس الجهات الأربع، وراعي النجوم وسيد الحياة وحصن العبادة وراعي الآلهة وسيد السحر ومعيد البهجة الى الأنسان من بين خمسين اسم آخر عرف بها من دون الألهة الأخرى في العالم القديم وكانت الآلهة العراقية قديما قد خلعت هذه الأسماء عليه بعد انتصاره على تيامات وقبولها أياه ملكا عليها..ووالد مردوخ هو (أيا) أو (انكي) إله الماء والخلق والحرف والمكر.. ونظيرا مردوخ في الأساطير القديمة هما [برومثيوس الأغريقي] وآدابا العراقي الذي انقذ الأنسانية من الطوفان؛ وام مردوخ هي دامكينا اي داماأيجينا (سيدة الأرض) اما زوجته فتدعى [ساربانيتوم] التي انجبت له إله الحكمة والكتبة (نبو) الذي نعرفه من معبده الشهير في كالخو (النمرود) ذلك المعبد الذي يزين مدخله تمثالان لحوريتي بحر (أضاعت أيدي الزمن والغزاة رأسيهما) مما يذكرنا بصلة جده أيا (انكي) بالمياه..ويؤكد رمز المجرفة او المزعقة (المسحاة اوالكرك في جنوبي العراق) التي يحملها مردوخ، من جهة أخرى، الدور البناء لمردوخ باعتباره إله القنوات والترع ومجاري الأنهار..ومردوخ بحكم احتفاظه بلوح القدر يمتلك قوة انليل وأيا مجتمعتين..ولأنه بطل [الأينوما ايليش] (اسطورة الخلق) التي انتصر فيها على [تيامات]، فأنه يمثل انتصار النظام على الفوضى والتحضر والتمدن على البدائية والظلام وبذلك فأن ارتباط عبادته بالمراكز الحضارية الكبرى في وادي الرافدين يشكل استمرارا للتمدن السومري والأكدي متمثلا من الناحية السياسية بقوة الدولة العراقية في الألف الثالث ق.م. وبعبادات الآلهة الرافدية انو وايا وانليل في تلك العهود الغابرة ..وعندما ورثت بابل دور اوروك وشروباخ وكيش ولاكش ونيبور واور وأكد وغيرها من المدن السومرية، تبنت العقيدة الدينية السومرية نفسها متمثلة بمردوخ من الناحية الدينية وبرز الملك حمورابي مؤسس السلالة البابلية الأولى من الناحية السياسية..غير ان مردوخ الذي يقترن ببابل وبحمورابي في الألف الثاني ق.م. ظهر قبل ذلك بقرون أي في المرحلة السومرية..فقد تواتر ذكر مردوخ في النصوص السومرية القديمة كما في مسرد الآلهة التي عثر عليه في ابو صلابيخ (ربما كانت كيش او ايريك السومرية)..مع ذلك فأن الفضل في انتشار عبادته يعود الى النجاحات السياسية والعسكرية لحمورابي مؤسس السلالة البابلية الأولى، فقد كان مردوخ ابرز الالهة في بابل على عهد حمورابي إذ ورد ذكره في ديباجة قوانين حمورابي المحفورة في مسلته الشهيرة (مسلة حمورابي) التي سرقها العيلاميون ونقلوها الى عيلام..
وكان مردوخ من اكثر الآلهة الرافدية المحببة على قلب العراقيين لما عرف به من سمات العدالة والنزاهة والرحمة فهو يشكل مع ابيه [انكي] وعمه [أوتو] (إله الشمس) مثلثا قويا للتبرئة من السحر ودرء التعاويذ الشريرة وصرف تاثيرتها المميتة..وهو بموقفه المناصر للبشرية يشاكه [ايتانا] في تحالفه مع الرخ في صراعه مع الحية التي تحاكي بطبعها وخلقها الشر الكوني المتمثل بتيامات..ويماثل دور مردوخ في تصديه لتيامات وقتلها، دور نينورتا في تصديه للأنزو الشرير وقتله بأمر من الآلهة المجتمعة في الأيكور مقر تجمع الآلهة الكائن في نيبور (نفر) [القريبة من قضاء عفج في الديوانية]..
ونستمد الجانب الأكبر من معلوماتنا عن مردوخ من [الأينوما أيليش] أي (أسطورة الخلق البابلية) التي تحدثنا عن ميلاده وكيف انه رضع من اثداء ربات السماء كلهن لكي ينشأ مكينا وقويا بإرادة الآلهة الرافدية كلها وبأعينها، وعندما اصبح صبيا منحه إله السماء جده لأبيه [أنو] الرياح الأربع ليلهو بها فأصبح سيد أمراء [الأنوناكي] أو آلهة السماء وكأن الآلهة التي ترى الماضي والمستقبل معا كانت تعرف مسبقا المهمة الكبرى التي تنتظره فباتت تعده اعدادا خاصا يتناسب مع جسامة المعركة التي سيخوضها وبالتالي خلقه العالم من جديد..وكانت تيامات تتجسد المحيط بمياهه المالحة والأبخره المخيمة فوقه وكان ان امتزجت مياه المحيط التي تتجسدها تيامات بالمياه العذبة التي يمثل اليها بإله هو [أبسو]- في الأسطورة السومرية - فتمخض الأتحاد عن خلق الآلهة الأوائلية (لحمو) و(لاحامو) اللذان انجبا أنشار وقيصار، اللذان انجبا، بدورهما، أنو، وأيا -انكي (والد مردوخ).. وكانت الآلهة الجديدة في الجيل الثالث تتسبب بازعاج شديد لأبسو وتيامات اللذان قررا نزولا عند نصيحة [مامّو] او الأبخرة المحيطية تدمير هذه الآلهة..ولكن [أيا] عرف بالمؤامرة فلجأ الى السحر لأفشال محاولة تيامات وأبسو الرامية الى التخلص منه ومن أخيه [أنو]؛ فعمد الى قتل الأبسو مما اسخط تيامات فأعدت لشن حرب كونية عشواء مما أذعر الآلهة ..فلجأت تيامات (أم الألهة) الى زوجها الآخر كينكو واعدت جيشا من التنانين والأفاعي العملاقة ورجال العقارب لتدمير الكون وآلهته..فانتشرت الفوضى في العالم ..فاقترح أنشار ان يعين مردوخ بطلا إلهيا وان يتم تجهيزه من قبل الآلهة بأسلحة قوية منقطعة النظير لمواجهة الخطر الهائل الذي ينتظر العالم..فوافقت الآلهة على اقتراح أنشار وعلى طلب مردوخ بأن يكون الأول بين الآلهة ..فامتطى مردوخ عربته متسلحا بالقوس والنبال وبالحربة المثلثة وبهراوة وشبكة وحمى نفسه بالدروع فضلا عن الرياح الأربع والسحر..فقاد عربته وسط خصومه ليلتقي تيامات وقد فتحت فكيها لأبتلاعه فأرسل سهما في حلقها ثم عاجل بذبحها..والتفت الى جيشها من التنانين والثعابين ورجال العقارب فأسره برمته ..ثم عمد الى شد لوح القدر - وهو هدية زواج تيامات بكينكو - على صدره و شطر تيامات الى نصفين خلق منهما الأرض والسماء ..ثم أقتلع عينيها ليزرعهما في الأناضول فيتدفق منهما نهرا دجلة والفرات ثم أخذ دم الكينكو ليخلق منه الأنسان قبل عودته الى معبده في بابل..
وبعد موت تيامات وخلق العالم قررت الآلهة منح مردوخ 50 اسما ينطوي كل واحد منها على قوى وقدرات خلعتها عليه الآلهة فاصبحت بابل مقرا ابديا للملوكية وبوابة للآلهة وعاصمة للكون وارتقى مردوخ ليصبح ملك الأيجيجي و النانووكي معا أي (آلهة الأرض والسماء) واصبح شريكا مماثلا بالقوة لأبيه [أيا] أنكي وعمه [أنو].ومن قدراته الخاصة القدرة على معرفة المستقبل والسحر والتطبيق الصارم للقانون مما يتضمن على صعيد التاريخ والإدارة الأهتمام الهائل لدى حمورابي بالتشريع والإدارة..فمردوخ يكرر دور [انليل] الذي فصل الأرض عن السماء وأسس للنظام واضطلع بشق الترع وحفر حوضي دجلة والفرات وروافدهما ..كما تتردد في حكاية مواجهته الكونية لتيامات اسطورة الصراع بين نينورتا والأنزو والصراع بين أدابا والريح الجنوبية ..حيث يسترد نينورتا لوح القدر الذي سرقه الأنزو من انليل فمردوخ يعكس في اسطورته نظرة العراقيين قديما الى العالم وهي نظرة ثنوية ترى الكون على انه مؤلف من قوتين خيرة وشريرة وان الأنسان لاخيار له سوى الوقوف الى جانب الخير ضد الشر، والنظام ضد الفوضى، والتمدن ضد البدائية والظلام.. ولأن الفوضى ليست عاطلة عن الفعل بل هي واعية بأهدافها وهجومية في طبيعتها، فلابد والحال هذه من مواجهتها بطريق الحرب التي تؤسس بدورها للنظام وعمارة الأرض..وقد تأتي اطوارتتراجع فيها الحضارة و تغيب فيها هذه النظرة الى العالم فتسود الفوضى ويتوقف التفكير وتصاب الحضارة بالعطل الذاتي كما يحدث في حالات الغزو الأجنبي او الخمول الحضاري او الانحراف وراء آلهة غريبة او مزيفة لاتنتسب الى النمط الحضاري الذي تأسس الوعي الرافديني عليه ..عندئذ وفي نقطة الصفر تبدأ الذات بالتقاط الخيوط الحضارية التي صارت الى فقدها..لأن خطرا ما يهددها وجوديا ويعرضها كطبيعة الى التغيير الذي قد يعني الذوبان في الآخر وفقدان الهوية الحضارية..فالأساطير وفي قلبها اسطورة الخلق وبطلها مردوخ ليست نسيجا باهتا في ظلام الوعي بل انماطا وجودية متوهجة ضرورية لحياة الأمم فهي تصمم الوجود الأنساني في إطار الحضارة وتبني هياكلها المعرفية التكوينية في جوهر الوعي وهي هياكل لايمكن استرجاعها الا عندما تتعرض الهوية الحضارية للأمة لخطر الضياع او الذوبان في الآخر..وعبادة مردوخ تعني في جوهرها تقديسا للنظام الذي اسسه السومريون وشيدوا حضارتهم عليه..فليس من كلمة اكثر اهمية لدى السومريين من كلمة [النظام] الضروري لبناء الحياة المدنية وارساء اسس التمدن كالتشريع الذي يضمن العدالة والمساواة؛ والأمن الذي يؤسس لمفهوم الدفاع والجيش؛ والأقتصاد الذي ينظم الزراعة والتجارة ويحدد معالم التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى..
وقد جسدت بابل حمورابي التمدن الرافدي في بناء بابل ووضع القوانين وتنظيم التجارة وادارة الدولة في السلم والحرب وكان مردوخ راعيا للتمدن والأخلاق المدنية في بابل "فمردوخ يغمر باشراقته الذهبية الناس، وقوته تختلف عن قوة عشتار اللاهبة والمشبوبة بالعاطفة ..اما قوته فراحمة تنشر الأمان في نفوس الناس"..ورحمة مردوخ تنبثق من جبروته كما نقرأ في نص قديم: "فمن ذا الذي يقدر ان ينبيء بقوته ومن ذا الذي يقدر ان يطال جبروته؟ فبمشيئته تواصل النجوم مسارها وبه يتجذر النظام في العالم فتتجلى بذلك طبيعته وتصبح قدرته بينة للجميع..وتلك قدرة على التحول وابقاء الكائنات حية بقوة الموت..فكل شيء يتغير بإرادته وكل المخلوقات [حية وميتة] تصدر عنه ويعتمد احدها على الآخر من اجل البقاء..فهو اصل الخلق وهو يعطي خلقه هيئاتهم الجميلة من عدم..مع ذلك فمردوخ ليس سوى اداة بيد والده وقوته انحدرت اليه من إنليل ثم أيا وهو من يتجسدها"..وحقيقة مردوخ تتجلى في الحب متعدد الأشكال فبمقدوره ان يضيء كل شيء في الأرض والسماء؛ فهو مغير الهيئات وهو الإله الذي لا يقيده شيء..فهل تحب الأرض الشمس او يهوى القمر الأرض؟ وهل تحب الشمس النجوم أو تحب النجوم الأعماق؟ نعم! بقوة مردوخ وبقوته تحب نباتات الأرض الخضراء المخلوقات التي تقتات عليها ويحب الفأر العقاب [الذي يأكله]..وعندما تتلاشى الرياح فهل يتلاشى الحب؟ والطوفان اتراه يحب الأرض والبحر؟ فأذا تمكنت من ان ترى ذلك كله، ستعلم ان التفاحة التي تتناولها تحبك..فهي تشتعل مع العاطفة التي تصنع منك كائنا أرقى..فالحياة تحب الموت وكل الموجودات مشدودة احدها الى الآخر بقوة الحب فلا شيء يفصلها ولاشيء سوف يفصلها" نفهم من هذين النصين المكرسين لمردوخ انه يمتلك قوى الحياة والموت، الرحمة والنقمة، وهو واهب الموجودات هيئاتها بل هو من اوجد القوة التي تحرك عجلة الكون وبهذا يصبح مردوخ سيدا للآلهة وتصبح بابل، مركز عبادته، سرة العالم ومركزا للكون ..ومردوخ بصفاته الخمسين وسيادته على بقية الآلهة وقتاله قوى الشر وانتصاره للخير يعد نواة للديانات التوحيدية التي خلعت كثيرا من صفاته على اربابها..
وتتجسم في مردوخ طبائع الآلهة الرافدية وسماتها المميزة فمردوخ أضافة الى خصائصه الشمسية، إله أنواء ومياه يهب النبات خضرته والحقول والبساتين اثمارها وغلالها الوفيرة وهو يفعل كل ذلك بما له من قدرة على التحكم بالأنواء كالصواعق الرعدية والغيوث الغزيرة والسيول الغامرة..ولأنه يسيطر على حركة الأفلاك والنجوم يمتلك القدرة على التحكم بمصائر البشر..فمشيئته هي التي تحدد مسارات الحياة وتمد العالم بعوامل الأزدهار والبقاء..ولم يغب عن الخيال العراقي القديم ان يمنح مردوخ رمزا مناسبا لوظائفه الأحيائية والإنباتية..فوادي الرافدين ارض تغمرها المياه ولابد من إدارتها بطريق شق الترع والقنوات وفتح المبازل وحفر الصهاريج والكهاريز..لذا اصبح للمجرفة (المسحاة) اهمية خاصة في وادي الرافدين ولاسيما في الوسط والجنوب حيث تكثر المياه والقنوات وتهيمن النخلة على المشهد الممتد من جنة عدن (اراضي سومر وأكد وبابل) وحتى ديلمون (البحرين) حيث كان السومريون يدفنون موتاهم..فالمياه والمياه وحدها وبكل تحولاتها المدمرة والباعثة للحياة هي مايميز آلهة الرافدين واهل الرافدين..وسهول الرافدين وثقافة الرافدين..ولأن هذه الأرض الطيبة عرضة للطامعين من اقوام الجبال وبدو الحمير من الفرس واليهود الحاقدين، ترتب على العراقيين الدفاع عنها بطريق اعداد الجيوش الدائمة وتطوير اساليب الحرب..وتنظيم الحياة المدنية وهياكلها الإرتكازية على ذلك عد مردوخ إلها حاميا للأرض وأهلها ومدمرا لأعداء العراق بكل اساليب الحرب المتوفرة وبضمنها السحر..فهو عندما يتحدث ينبثق اللهيب من جوفه..وهو بقوة مالديه من سحر يحرك السيول المهلكة ويرسل الصواعق المحرقة وتلك وظيفة ميزت الإله الآشوري ادد والبطل العراقي نينورتا وتتضمن اسلحة مردوخ الهراوة والقوس والنشاب والشبكة السحرية التي يقيد بها الأشرار ويشل بها قدراتهم..ويعتمر مردوخ خوذة على هيئة تاج ويضع في بنصر يده او في اصبعه الوسطى خاتم السيادة الملكية المفصوص باللازورد وربما الكرنلين الأحمر او الجيد ذي الخضرة الكاشفة البهيجة مما يفد العراق من اقاصي الغرب ومن اقاصي الشرق على التوالي..وقد يتجلى احيانا على شكل ثور (هو غير الثورالمجنح الآشوري الحارس على بوابات المعابد والقصور الآشورية) أو يمثل بهيئة آدمية عملاقة بعيون وآذان عديدة تشير الى قدرته على رؤية كل شيء وسماعه كل شيء في الوقت نفسه..ويصور مردوخ في الفن مرتديا مئزرا تزينه النجمة الثمانية المتكونة عن مربعين متداخلين و ترمز الى النظام وسيادة الدولة وقوتها..وهو رمز يتكرر في العصور الأمبراطورية العراقية منذ العصر السومري وحتى العصر الحديث وتحديدا حتى الأحتلال الهمجي الأخير للعراق حيث إئتمرت قوى البدائية والظلام على تهديم الصروح كافة التي تحمل نجمة مردوخ الثمانية وتجريد العلم العراقي منها ايضا..ويشاطر مردوخ الآلهة افضل قدراتها فهو رب الأرباب او هو إله الآلهة مما يؤسس لعقائد التوحيد التي تتمحور عليها الأديان الكبرى الثلاثة حيث نطالع في أحد النصوص القديمة الآتي:
نينورتا هو مردوخ المزعقة
نركال هو مردوخ الصولة
زوبابا هو مردوخ القتال بالسلاح الأبيض
انليل هو مردوخ السيادة والمشورة
نابيوم هو مردوخ الحساب
سين (القمر) هو مردوخ الذي ينير الليل
شمش هو مردوخ العدالة
ادد هو مردوخ الغيث
يعكس هذا النص الميول التوحيدية لدى العراقيين القدماء من خلال النظر الى مردوخ على انه تجسيدا للميزات النموذجية الأفضل لدى الالهة الرافدية كلها ونلاحظ ابضا ان مردوخ اصبح اسما مرادفا للإله الواحد الذي يحمل صفات الآلهة الأخرى فهو إله الخصوبة والقتال والمطر والرعد والقمر والشمس والحكمة والسيادة..
ويعد بيت مردوخ او معبده [الأيساجاليا] اي (البيت المرفوع او مرفوع الرأس) في بابل واحدا من اضخم المعابد واعظمها وأكثرها قداسة في العصور القديمة..وهو معبد شيده مردوخ بعين الآلهة وبأشرافها..وذلك لأن مردوخ قاتل في سبيل الآلهة الوحش الشيطاني تيامات التي ترمز الى قوى العطل الذاتي والفوضى مجسمة .. وبعد ان تم له قتلها شطرها مثل سمكة الى نصفين خلق منهما الكون وكان اول شيء عمله في بابل انه شيد الأيساجاليا ثم عمد الى خلق البشر. وعندما يحتفل البابليون بعيد راس السنة (الأكيتو) يتذكرون بناء مردوخ للكون وتأسيسه للنظام في العالم وينشدون الأنوما أيليش تخليدا لبطلها ..وكيف ان بابل اصبحت مركزا للكون واصبح الأيساجاليا مركزا لبابل مما يجعل الأيساجاليا مركزا للكون وسرة للعالم..وقد تطرق هيرودوتوس الى الأيساجاليا في معرض وصفه لبابل:
(ويقع المعبد بثمانية طوابق الأعلى منها غرفة منام مقدسة او هي غرفة التجسم المادي للإله مردوخ وتحتوي على سرير هائل ومنضدة ذهبية والبشري الوحيد الذي يمضي الليل هناك امراة وحيدة اختارها الإله لتضطلع بدور خليلته..ويخبرنا هيرودوتوس أن كهنة كلديين هم من أخبره أن الإله يمضي الليل شخصيا هناك..ولو إني [ والكلام لهيرودوتوس] لااصدقهم..وثمة تكهنات تذهب الى افتراض ان الملك هو من يقوم بلعب دور الإله في المهرجانات الدينية وانه هو من يقوم بممارسة طقوس الزواج المقدس مع الكاهنة في الغرفة..ويواصل هيرودوتوس وصفه للزقورة فيقول ان الطابق قبل الأخير كان مزارا آخر لمردوخ يحتوي على تمثال عبودي كبير من الذهب الخالص يمثل الإله مردوخ نفسه وفي مدخل المعبد يوجد نصبين احدهما من الذهب الخالص..وكان المعبد منذ ايامه قد نهب مرات عديدة لمايحتضنه من مواد بناء نادرة من قبل اقوام عديد ومن ضمنهم البنائين في جيش الأسكندر المقدوني)..
ولأن شيئا لم يبق من هذا المعمار الضخم، يعد وصف هيرودوتوس واحدا من النصوص القليلة الباقية التي نتمكن بواسطتها من التعرف على شكل ووظيفة هذا المعبد البابلي الشهير في العصور الغابرة ...فمردوخ كان إلها بالغ الأهمية جدا في الألف الأول ق.م. وكان اسمه من القدسية بمكان بحيث لم يجرأ على لفظه احد وبدلا من ذكر اسمه صريحا كانوا يشيرون اليه بعنوانه [بعل]..اي الرب..فقد كان مجمع الأيساجاليا في قلب بابل وكان الداخلون اليه اول ما يرون قاعة عظيمة تأخذهم الى قاعة أكبر تقودهم الى المزار المؤلف من غرفتين مقدستين غرفة هي قدس الأقداس حيث تمثال مردوخ فغرفة مقابلة مخصصة للكهنة الذين يخدمون تمثال مردوخ وتمثال زوجته ساربانيتوم..ويقع برج بابل أي قصر الأرض والسماء [ألأيتيمينانكي] الى الشمال من الأيساجاليا وهو في سبعة طوابق ارتفاعها 92 مترا..ويخبرنا هيرودوتوس ان قورش نهب تمثالا من الأيساجاليا في اثناء غزوه بابل وتدميرها ولكن لاندري ان كان التمثال هو تمثال مردوخ ..غير ان الأسكندر امر بارجاع التمثال الى مكانه في الأيساجاليا)..
لقد اشار هيرودوتوس الى سرقة تمثال الإله مردوخ ثم ارجاعه الى الأيساجاليا و الأرجح ان سرقة قورش هذه كانت الأخيرة في سلسلة طويلة من حالات سرقة هذا التمثال وإرجاعه الى معبده عبر آلاف الستوات من الصراع والإقتتال بين بابل والدول الغازية في التاريخ القديم..وتتعدد دوافع واسباب سرقة تمثال مردوخ الا ان سرقة تماثيل الآلهة في العصور القديمة ترتبط بطبيعة التفكير الديني في العصور القديمة من جهة واهمية الإله الذي يتعرض تمثاله الى السرقة ثم يرد الى معبده، من الناحيتين السياسية والدينية..فالدين يمثل اساس الدولة ومصدر المشروعية في الحكم لأن الحكم في العالم القديم كان أولا للآلهة ثم لمن تمنحه الآلهة السلطة..فالعالم في منظور القدماء لم يصدر عن فراغ بل قامت الآلهة ببنائه مما جعل الناس يضعون وراء كل ظاهرة إلها فللسماء آلهتها وللأرض آلهتهاوللظواهر الطبيعية والكواكب والنجوم آلهتها..وترتبط الآلهة نفسها باواصر قربى فمنها الآباء ومنه الأبناء والأحفاد وألأخوة والأعمام.. والآلهة تخوض حروبا كونية وتشترك بالحروب مع الأمم التي تصون عبادتها وتقدم النذور لها في معابدها ولها طرائق في توصيل رسائلها للبشر مما اعطى للكهنة والتكهن اهمية كبرى في العصور القديمة وللبشرية تصوراتها عن الكيفية التي خلقت بموجبها الآلهة الكون ومن هنا الملاحم الكبرى التي تتطرق الى دور الآلهة في حياة الأمم وخلق العالم..
وتعد اسطورة الخلق البابلية [الأينوما ايليش] أحدى اقدم الملاحم الى جانب ملحمة كلكامش واتراحاشيش (نوح البابلي) في وصف الكيفية التي خلق فيها العالم..ويحتل مردوخ موقعا بالغ الأهمية في (الأينوما ايليش) فهو البطل الذي اختارته الآلهة لمواجهة تيامات التي ترمز الى الفوضى والخراب ..,كان على مردوخ مجابهتها ودحرها بطريق الحرب التي انتصر فيها كما اسلفنا..وكان من نتائج الحرب ان اصبح مردوخ ملكا شرعيا لمجمع الآلهة كلها أي آلهة الأرض والسماء ...وهو خالق الكون الجديد من جسد تيامات وبيده مفاتيح القوة والمشروعية وعنه تصدر قوة الدولة وبه تتحددمصائر الأمم في الحرب والسلم ..وعندما تكرس الأمة معبدا لعبادته وتعده سيدا على كل شيء بما يرقى الى التوحيد، يقوم بدوره بحماية هذه الأمة وتكريمها بتحقيق انتصاراتها في الحرب وازدهارها وامنها في السلم..على ذلك اصبحت سرقة تمثاله وهو اقدس شيء في المدينة موازيا لتجريد المدينة اي بابل من قوتها الحامية ومن ربها الراعي هذا فضلا عن تصور ان حمل التمثال الى مدينة اخرى، سيجعل الإله يزور تمثاله في المدينة الجديدة مما قد يتضمن احتمال حمايته لمقره الجديد وحاضنته الجديدة..وكنا نشاهد الإله آشور وهو المقابل الآشوري لمردوخ البابلي يحمل كنانة ويرمي بسهامه اعداء الآشوريين في المعارك التي يخوضونها...فالإله يحارب الى جانب امته ويحقق لها الأنتصار..ومن من احدى نتائج الأنتصار تكريس النذور للإله الحامي وبناء معبد جديد او معابد جديدة له في عواصم الدولة المنتصرة.. وكانت سرقة تمثال إله من طراز مردوخ وهو رئيس الآلهة كلها في بابل وحمله الى عاصمة الدولة الغازية تتسبب بضرب من الهزيمة النفسية لدى البابليين الذين سيشعرون ان المدينة جردت من حمايتها وان الإله خذلهم عندما لم يقاوم الغزاة الذين انتزعوا تمثاله من المعبد وقد يترتب على نهب التمثال شعورا بالذنب يعم الناس بانهم قصروا في عبادته فلم يؤدوا النذور او غير ذلك ..وكانت سرقة الإله جسيمة في آثارها على الدولة الغازية ايضا فالسرقة قد تترتب عليها نتائج وخيمة لأن الإله لن يسكت على الإزعاج الذي تسبب به الغزاة له بسرقتهم تمثاله..وفي كل مرة تتعرض الدولة الغازية للخراب او يكون مصير ملكها الأغتيال، يفسر ذلك بأنه انتقام مردوخ..ولعل من قبيل الأتفاقات التاريخية النادرة ان يصار الى اغتيال الملك الذي غزا بابل ونهب تمثال مردوخ..وبينما ينتسب مردوخ نفسه وتمثاله الى العالم الأفتراضي او الميتافيزيقي، ينتسب الأغتيال الى التاريخ الفعلي أي الى عالم الحقائق او الوقائع التاريخية الأكيدة مما يعطي لمردوخ وتمثاله اهمية تاريخية خاصة تتصل باهمية مردوخ باعتباره خالق العالم من جهة وقدرته على تطهير المدينة من الأرواح الشريرة والشياطين حيث قضت عقائد الأقدمين الى تفسير الأوبئة والأمراض والشرور وسوء الطالع على انها تصدر بسبب الشياطين التي تغزو الأجساد وتقيم في المدن وتعطل عوامل الخير..وماالى ذلك من تصور يعزو الى الآلهة طرد الأرواح الشريرة وصرف آثارها السيئة على الحرث والنسل من جهة ثانية؛ ولمردوخ قصب السبق في هذا المضمار لأته يمتلك اسباب السحر فضلا عن قدرته الهائلة على طرد الشياطين ومنع نفاذها بقوته التي ورثها عن ابيه أيا وعمه أنو ..ويعرف العراقيون والأمم الأخرى مآثره في دحر تيامات وجيوشها التي تضمنت امما من الشياطين ورجال العقارب والتنانين..لذلك ساد لدى الملوك الأعتقاد بأن سرقة تمثال مردوخ وأعادة تنصيبه في إحدى مدنهم او عاصمتهم سيفضي بنتائج ايجابية على الصعد كلها فضلا عن الأهداف السياسية والسيادية الأخرى فتدمير المعبد حلقة مهمة يفرضها منطق الحرب فبعد سلب كل شيء واسر الناس وتدمير مدينتهم لايبقى سوى نهب المعبد والآلهة لأستكمال النصر العسكري بهزيمة نفسية تعطل روح المقاومة تماما لدى الأمة المغزوة..كما ان الغازي يريد بذلك ان يفهم الجانب المدحور ان قدرته تتجاوز الناس الى الآلهة مما ييسر استسلامه ويجعل هزيمته قدرا إلهيا حتميا وكان اول من لجأ الى اسلوب سوق الآلهة او أخذها مع الغنائم الملك الآشوري تكلاثبليزر الأول الذي يخبرنا في حولياته انه بعد ان دفع بالسلاح الاشوري الاقوام القاطنة في مرتفعات وان وملاطيا عند منابع الفرات :
(عندئذ قدمت قوات [الآخي] – "وهي اقوام قفقاسية" لنجدة كوموخا [كوماجين] او [سمساط التركية التي غمرتها مياه سد اتاتورك حاليا]" فدحرتها ومعها قوات كوموخا التي انتشرت جثامينهم مثل القش في اكوام على قمم الجبال وجرفت المياه الهادرة في دجلة جثامين مقاتليهم وسقط حفيد ملكهم في اسري ومعه زوجاته واولاده قرة عينيه فسقتهم مع اواني من الحديد والنحاس وعددا من الآلهة من الذهب والفضة وأرائكهم واثاثهم الى آشوروأخذت ممتلكاتهم اما مدينتهم وقصورها فاحرقتها ودمرتها)
يظهر من هذا النص ان تكلاثبليزرالأول نقل الآلهة الكوموخية من سمساط ليضعها تحت عين الإله آشور في العاصمة الآشورية...وبذلك يعقد النصرالآشوري كاملا على كوموخ بملوكها وآلهتها ولايبق لدولتها مكان في التاريخ اذ تصبح جزءا من الأمبراطورية الآشورية الممتدة من البحر الأسود وحتى الخليج العراقي ومن قبرص حتى بحر قزوين وبضمنها جبال زاكروس وطوروس ...وتكرر غزو الآلهة في ناعيري (أرمينيا) على عهد سرجون الثاني الذي دمر معبد الإله خالدي في مصاصير[آرتين-أرديني] او مشاشير [التي تعني مدخل مغارة الحية في اللغة الاكدية] مما دفع بالملك الأرمني روسا الأول الى الإنتحار كمدا لخسارته الفادحة وتهديم سرجون لمعبده خالدي في مشاشير وحمل كنوزالمملكة الأرمنية المخبأة هناك الى مدينة سرجون العاصمة الاشورية القريبة من الموصل..
ولم يكن هذا الإجراء غريبا على الأمم المجاورة فقد سرق مرشيليش الأول ملك حاتوشا الحيثي تمثال مردوخ من الأيساجاليا وحمله الى عاصمته حاتوشا القريبة من أنقرة بعد ان يسر له القزوينيين (الكاشيين) الدخول الى بابل وتخريبها في 1531 ق.م. ومرشيليش الأول في غزوه لحلب فبابل بعدها يعد نموذجا اوليا للغزاة المغول الذين أغارواا في العصور اللاحقة على وادي الرافدين.. فهو لم يقصد الاحتلال الدائم بل السرقة والقتل والتخريب وكما انهى هولاكو من بعده بقرون الدولة العباسية، انهى مرشليش هذا حكم السلالة البابلية الاولى التي اسسها حمورابي ومهد السبيل للغزو الكاشي لبابل وتاسيس سلالة حاكمة اجنبية في بابل استمرت قرابة ثلاثة قرون لحين تمكن الآشوريون من ازاحتها وارجاع الحكم الى سلالة عراقية فيها. وكان قدر مرشيليش الأول الأغتيال الذي اعقبه عهد من الفتن والمؤامرات الداخلية التي تمخضت عن اضطرابات اجتماعية وانهيار السلطة المركزية للحيثيين وخروج االأراضي التي ضمها مرشيليش الأول عن الهيمنة الحيثية واستردادها استقلالها ثم وصول لأمبراطورية الحيثية الى حافة السقوط..ويفسر اغتيال مرشيليش الأول وما تبعه من قلاقل في دولته بأنه بسبب نقمة مردوخ الذي اعيد الى بابل من قبل الملك الكاشي اكوم كيكريمي او اكوم سيف الرحمة الذي يعزو لنفسه ارجاع تمثال مردوخ من حاتوشا بعد 24 سنة من اختطافه وفي نصوص اخرى ان مردوخ عاد من تلقاء نفسه الى بابل على اعتبار ان الآلهة تتنقل ولها القدرة على التجسم كيفما تشاء والإقامة اينما تريد..
وحدثت السرقة الثانية لتمثال مردوخ في اثناء غزو الملك الآشوري توكولتي نينورتا الأول لبابل ودحره الكاشيين فيها...ويعد توكولتي نينورتا الأول المؤسس الأول للسيادة الآشورية على عموم العراق أواخر الألف الثالث ق.م. فبعد دحره الحيثيين في معركة نهريا وهي واحدة من اعظم المعارك الحاسمة في تاريخ العراق، زحف نحو بابل فدحر الملك الكاشي قشتلياش الرابع الذي اسره توكولتي نينورتا الأول واقتاده الى العاصمة آشور منهيا بذلك الحكم الكاشي على بابل عام 1225 ق.م...ولكن فتنة اعقبها عصيان في بابل دفع توكولتي نينورتا الأول الى دخول الأيساجاليا وحمل تمثال مردوخ ونقله الى العاصمة الآشورية آشور وربما الى مدينته الجديدة (كار توكولتي نينورتا) [ تلول العقر] ولتبرير غزوه لبابل ذكر توكولتي نينورتا ان مردوخ كان ساخطا لمقاومة قشتلياش الكاشي للآشورييين وأنه – اي مردوخ قرر لهذا السبب مغادرة بابل والإقامة في آشور لحين الإطاحة بالكاشيين..و لكن القدر الذي حاق بالملك الحيثي تكرر مع توكولتي نينورتا الذي تآمر عليه ابنه آشور نادين آبلي مع نبلاء من آشور تضررت مصالحهم بسبب سياسة توكولتي نينورتا ممن لم يرق لهم نقل العاصمة الى كار توكولتي نينورتا فقرروا حبس توكولتي نينورتا في قلعته في المدينة الجديدة ثم اغتياله بذريعة تدنيس المقدسات لحمله مردوخ من بابل الى آشور وماصاحب ذلك من فوضى في العاصمتين الكلدية والآشورية..
وكانت المرة الثالثة التي حمل فيها تمثال مردوخ من بابل في اثناء الغزو العيلامي للمدينة في اثناء حكم قدور ناخونته ملك عيلام الذي حمل تمثال مردوخ الى سوسة غير ان نبوخذنصر الأول ( 1225- 1105 ق.م.) اعاد بابل الى السيادة العراقية بطرد العيلاميين منها ومطاردة فلولهم الى سوسة نفسها حيث دمر سوسة واعاد تمثال مردوخ الى مكانه في الأيساجاليا في بابل ...وكان مصير قدور ناخونته هو الآخر الأغتيال وسط عائلة سادتها الدسائس والعلاقات الزيجية المحرمة التي تلتقي بالبابكية وغيرها من حركات اباحية فارسية المنشأ ظهرت في العهود اللاحقة..ويعتقد الناس قديما أن مردوخ هو من أختار الأقامة لمدد وجيزة في حاتوشا ثم آشور على التوالي فتوصف هاتان الأقامتان على انهما جلبتا الخير والبركة في بابل وفي تركيا وآِشور لأن مردوخ وافق على مصاحبة تمثاله في زيارة للمكانين بينما رافق نهب تمثاله الى سوسة القحط والخراب لأن الآلهة الأخرى صاحبته الى عيلام وهجرت بابل مما جعلها موطنا للمجاعة والوباء...وكان الأعتقاد الآخر المترتب على غيبة مردوخ انه سيعود الى بابل وأن عودته ستكون على يدي ملك يعيد الخير الى الأمة ويهلك اعدائها وكان هذا الملك الجديد هو نبوخذنصر الأول..وقد أرخ العراقيون القدماء لهذه الرحلات الثلاث لمردوخ تحت عنوان (نبوءة مردوخ) .. أما المرة الرابعة التي حمل فيها تمثال مردوخ من بابل فكانت على عهد سنحاريب الذي غزا بابل بعد اخفاق محاولاته المتكررة في احتوائها للحيلولة دون تحولها الى موطيء قدم للعيلاميين وأعداء العراق ووكرا للتآمر والعصيان مما دعاه الى انهاء وجودها السياسي وبسط السيادة الآشورية على العراق بأكمله قلبا لأمبراطورية قوية تمتد من عيلام التي انهى دولتها وحتى جزيرة قبرص وبضمنها منابع الأنهار العراقية في طوروس وزاكروس وحتى ديلمون (البحرين) العراقية في الخليج العراقي..وكانت آخر حملات سنحاريب على بابل عام 693 ق.م. وهي السنة عينها التي حمل فيها جنده فيما يخبرنا هو تمثال مردوخ الى نينوى: (المدينة وبيوتها واسسها واسوارها قمت بتدميرها واحرقتها بالنار..والسور والسور الخارجي والمعابد والآلهة وبرج المعبد من التراب والطابوق بأجمعها وهي عديدة سويتها مع الأرض وغمرتها بقناة أراهتو وحفرت قنوات في قلب المدينة وغمرت المدينة بالمياه التي قوضت اسس مبانيها...وحمل الجند الإله مردوخ الى بلادي بلاد آشور) ...ولكن مصير الملوك الذين حملوا تمثال مردوخ الى بلدانهم تكرر مع سنحاريب الذي اغتيل في اثناء الصلاة للإله نسروخ في معبد قصره في شريخان القريبة من الموصل مما وفر لأبنه أسرحدون فرصة مصالحة البابليين بطريق ارجاع تمثال الإله مردوخ اليهم..وبذلك نجحت الدبلوماسية في مسألة اخفقت حروب كثيرة في معالجتها وهي المصالحة بين البابليين والآشوريين وتوحيد معتقداتهم...ويعد ارجاع اسرحدون مردوخ الى بابل واحدا من المواقف التاريخية المهمة التي يتناولها المؤرخون في معرض حديثهم عن العلاقة بين الدين والسياسة وتوظيف الدين لتحقيق اهداف سياسية واجتماعية..هذا فضلا عن القاء ضوء على الأهمية الكبرى لمردوخ بصفته رمزا قوميا للبابليين فالآلهة العراقية ترتبط بعلاقات اسرية وفيها الآباء والأمهات والأبناء والأحفاد ..ويشاطر الآشوريون البابليين الآلهة نفسها فالإله آن (أنو) إله السماء وممثل السلطة شقيق ايا (انكي) وجد مردوخ والإله نبو هو ابن مردوخ ولكل مدينة إله يميزها ويعد إلها حاميا لها ورئيسا للآلهة الأخرى التي تعبد في المدينة عينها فالإله شمش (أوتو) كان الإله الرئيس في سيبار امنانوم (الدير) ومعبده المعروف بالأيبابار يوجد هناك ..والإله آشور مقر عبادته مدينة آشور (الشرقاط) التي تحتضن معابدا لإلهة أخرى وتعد نيبور (نفر) مقرا للإله إنليل وفيها معبد الأيكور الذي يشيه مجلس الآلهة وتلك فكرة اخذها اليونانيون وغيرهم من الأمم عن اسلافنا..وقد يكون لإله مزار في معبد إله آخر تربطه به قرابة او علاقة ما ولهذا نجد ان مردوخ غالبا ما يعبد في معبد ابنه [نبو] كما هو الحال في كالخو -النمرود) التي تحتضن معبدا كبيرا هو معبد إبنه نبو..ولكل أمة آلهتها..غير أن للبابليين والآشوريين آلهة مشتركة هي الآلهة القديمة ولكن لكل منهما مجال قوة مختلف ودولة مختلفة في توجهاتها وتحالفاتها وأهدافها عن الدولة الأخرى.. وبينما لم تطور بابل فكرة الأمبريالية والتوسع بطريق إخضاع الدول الأخرى أو ضمها الى الأمبراطورية ربما بأستناء حمورابي ونبوخذنصر الأول ونبوخذنصر الثاني تحديدا، أرتكزت العقلية الآشورية على فكرة الأمبريالية فكان الملوك الآشوريين يسعون الى توسيع امبراطوريتهم في امة دينها الحرب وكانت بابل المرشح الأول للضم الى جسد الأمبراطورية الآشورية الذي لم يتوقف عن النمو لحظة واحدة...فكانت اولى محاولات الآشوريين الهيمنة على بابل على عهد شمشي أدد الأول الذي أغار على بابل قبل تولي حمورابي الحكم فيها تبعتها محاولة تكلاثبليزر الأول الذي غزا بابل لفترة وجيزة وغادرها فتوكولتي نينورتا الأول الذي انهى الحكم الكاشي لبابل كما أسلفنا فتكلاثبليزر الثالث الذي اخضع بابل وفرض عليها الإتاوة..فسنحاريب ومن بعده اسرحدون الذي حكم بابل مباشرة وعين ابنه شموكين حاكما على بابل وآشوربانيبال أبنه الآخر ملكا على نينوى ليحكما الأمبراطورية من بعده في اثناء مايعرف بالملكية المزدوجة.مما جعل بابل تحت الهيمنة الآشورية خلال الجزء الأكبر من الألف الأول ق.م. ولحين عهد القائد الآشوري نبوبلاصر مؤسس الأمبراطورية البابلية الحديثة فالغزو الميدي الفارسي المشترك الذي انهى استقلال بابل واحالها الى خرائب لحين مجيء الأسكندر المقدوني الذي امر باعادة تمثال مردوخ من بلاد فارس مما يؤكد استمرار عبادة مردوخ حتى عهد الأسكندر المقدوني نحو 300 عام قبل ميلاد المسيح..حيث اتخذ مردوخ بعدئذ اسم [بعل] وانتقلت عبادته بهذا الأسم الى مناطق مختلفة في الشرق الأدنى...

ولابد ونحن في معرض الحديث عن تمثال مردوخ ان نميز بين الدوافع الآشورية وراء نقل تمثاله عن الدوافع الحيثية والعيلامية الأجنبية وراء سرقة التمثال ونقله الى عواصم اجنبية معادية كحاتوشا وسوسة..فلقد كانت السيطرة على بابل ومعها حواضر الجنوب العراقي هاجسا مقيما لدى ملوك آشور وذلك لأن جنوبي العراق يحتضن الجذور التي نشأت منها الآلهة والعبادات الآشورية وتعد أور ونيبور وأوروك وسيبار بمعابدها العظيمة وعباداتها وماتحتويه من تراث ديني مقدس وآداب وكهنة ومنجمين ومايتصل بهم من تشريعات ونفوذ ومبتكرات حضارية المهاد الأم الذي بنيت عليه ألمعتقدات والحضارة الآشورية ..وعلى الرغم من تبدد السلطة السياسية لمدن الجنوب وانتقالها الى بابل ثم من بابل الى الآشوريين، بقيت للحواضر الجنوبية اهميتها الدينية...وبحكم الأكيتو اصبحت بابل مقدسة تحج اليها الآلهة والبشر ولهذا لم تتجه إرادة الملوك الآشوريين الى اخضاع بابل والجنوب بالقوة العسكرية على الرغم من لجوئهم المتكرر لها بل كانوا أكثر ميلا إلى عزو اعمالهم وطموحاتهم في ضم بابل الى الإرادة الإلهية لمردوخ نفسه والآلهة القديمة..وكان تكلاثبليزر الأول قد ضم اسم مردوخ بعد آشور في ديباجة حولياته و ذكر ايضا ان مردوخ هو من سمّاه لإدارة بلاد بعل [بابل] ..وسار الملوك الآشوريين ممن جاء بعدهعلى النحو نفسه في زعمهم أن الإله مردوخ الذي وصفوه ببعل هو من فضلهم على غيرهم في بابل وغيرها من مدن الجنوب..وكان شلمنصر الأول يعلن انه دخل بابل نزولا عند أوامر تلقاها من مردوخ..وقد تميز تعامل الآِشوريين باللين مع اهل الجنوب ومدنهم مقارنة بالقسوة المفرطة في تعاملهم مع الأمم الأخرى كالحيثيين والأسرائيليين والعيلامين واضرابهم..وكانوا يولون بابليين دفة الحكم في بابل ولم يتدخلوا بالعبادات البابلية بل عملوا على تثبيتها والإهتمام بها ولاسيما عبادة مردوخ فقد دخل شلمنصر الثالث الأيساجاليا ليصلي الى هذا الإله ويقدم له الأضاحي ريثما أنهى غزوه للمدينة وكان أسرحدون يولي اهتماما خاصا ببابل وإدارتها..فقد ارسل ممثله الشخصي [مار عشتار] وهو كبير الكتاب والمستشارين الملكيين في نينوى الى بابل ليمهد لأستقبال تمثال مردوخ ولينظم العلاقة بين الكهنة والسلطة الآِ شورية ممثلة بالملك الآشوري على بابل آنذاك شموكين أبن الملك الآشوري أسرحدون..وتعد رسائل مار عشتار الى اسرحدون حول الأوضاع في بابل من اندر الوثائق واكثرها اهمية في تاريخ العراق لما تنطوي عليه من معلومات حول الفساد الإداري والمالي في بابل وطبيعة ألإدارة الآشورية الحازمة وميلها الى فرض العدالة والنظام (وهي الأهداف الحقيقية لمردوخ) على بابل وتعكس في الوقت نفسه الشخصية البابلية مقارنة بالشخصية الآشورية في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ العراق..بينما كانت دوافع الأمم المجاورة في سرقة تمثال مردوخ إذلال البابليين والآشوريين في الوقت نفسه واتمام تخريب بابل ونهبها فمردوخ هو رمز المدينة والسيادة البابلية العراقية وسرقته تعني انجاز الغزو بكل اهدافه ومراميه بإنهاء الوجود البابلي مرة وإلى الأبد لذلك لم يعمل اي اجنبي بأستثناء أكوم الثاني الكاشي على إعادة تمثال مردوخ فقد اعاده نبوخذنصر من أسره الميدي واعاده أسرحدون في موكب الهدف منه استمالة البابليين ومصالحتهم ..غير أن أسرحدون توفي قبل أتمام المهمة التي قام بها ابنه آشوربانيبال..وكان مردوخ في تصور الآشوريين حل ضيفا عند آشور الذي استضافه استضافة الأب لأبنه وقد اعيد ترميم التمثال وزينته في آِشور وكان الموكب الذي امر بنقله الى بابل مسيرة مصالحة تضمنت تقديم الأضاحي والأحتفالات على طول الطريق من آشور الى الأيساجاليا وكان أسرحدون قد توج تمثال مردوخ بتاج من الذهب الأحمر المرصع بالحجارة الكريمة وقد ورد في معرض الحديث عن التاج وعن موكب ارجاع الإله مردوخ الى بابل: (ذلك التاج المحفوف بالنور والذي يحمل رموز حكم آشور رصعته بالحجارة الكريمة واكملته بأتقان ماهر من الذهب الأحمر المتلألأْ بالكبرياء والمتوهج بالضياء الأخاذ البهيج، وضعته في مكانه فأستبشر آشور الذي دخل السرور الى قلبه وتلأ لأ وجهه ببريق الرضى عندما وقعت عينه على مردوخ..وانطلقوا من قلب الأيهورساك كوركورا [معبد آشور] في طريقهم الى شوانا [بابل] في موكب من الأبهة تماما في مسار الإله شمش الئي يغادر من بلاتيل (غربي آشور) حتى مرفأ القوارب في بابل حيث تشتعل أكوام الأحطاب الشجرية العطرية في كل ثلث من مسافة كل ميلين في الطريق الى بابل ويذبح ثورا سمينا قربانا لمردوخ وقمت أنا أ بالسير على رأس الموكب ممسكا بيد الإله العظيم لندخل قلب بابل مدينة الألهة المشرفة وببهجة فسحت لهم [للإلهة] سبيل الدخول)..
إن أولى ملاحظاتنا على هذا النص أن أسرحدون في وصفه عبارات التبجيل والتوحيد بين الإلهين آشور ومردوخ [في بداية النص الذي تعزا بقيته لآشوربانيبال] تمهد مع الإجراءات الأخرى الى توحيد البابليين والآشوريين وتؤكد طبيعة التوجهات الآشورية القوية نحو توحيد العراق في ظل إدارة و[إرادة] سياسية سيادية واحدة...ويبدو ان تماثيل الآلهة المعادة تشمل زوجة مردوخ وابيه [أيا] وآلهة أخرى كان سنحاريب او كما يخبلرنا هو [جنده] هم من حملها الى آشور..وقد اعقب ارجاع تمثال مردوخ إعادة أعمار بابل وتجميلها كما كانت في سابق عهدها على وقت حمورابي مؤسس السلالة البابلية الأولى..
ويبدو ان اسرحدون انتهج سياسة الترضية والمصالحة مع البابليين نزولا عند مشورة امه الآرامية نقية زاكوتو التي يرجح ان يكون اقاربها من القبائل الارامية التي انتقلت من سورية الى بابل وانها لعبت دورا مهما في توجيه السياسة الآشورية منذ عهد زوجها سنحاريب وحتى افول القوة الاشورية بعد وفاة حفيدها لأبنها أسرحدون آشوربانيبال..ويرجح ان دوافعها وابنها اسرحدون في مصالحة البابليين كانت سياسية أكثر منها دينية..وفي القرون اللاحقة اختفى اسم مردوخ ليحل محله لقبه (بعل) ويتخذ صتما له انتقل الى الساحل السوري وجزيرة العرب والعراق..,قد ورد ذكره في القرآن الكريم : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ) ...باشارة الى استمرار عبادة بعل في المنطقة العربية في العهود الميلادية وفي عصر صدر الإسلام وبتأثير انتقال عبادته الى الآراميين والكلديين والفينيقيين الذين نقلواعبادته الى شمالي افريقا ..و تكثر في الشرق الأدنى معابد مردوخ تحت تسمية [بعل] كمعبده في بعلبك وفي البتراء والحضر اما في مكة فقد اصبحت كلمة (بعل) مرادفة لكلمة (صنم) بالأضافة الى معانيها العامة ولعل هبل هو عينه بعل صحفت من بهل المصحفة من بعل..ثم اصبح بعل الإله الحامي لمدينة صور لينتقل بعدها الى الصحراء الجزائرية ويعبد عند البربرالأمازيغ باسم بعل حمون ويصل بعدئذ الى قاديش الأسبانية بأسم آخر هو ميلقارط حيث يوجد تمثاله حتى الوقت الحاضر ويخبرنا المؤرخ الروماني (بلايني) أن هانيبعل غادر قرطاجنة (قرطاجة الجديدة) في اسبانيا لزيارة قاديش ليتبرك ببعل قبل غزوه ايطاليا فجاء اليه بعل في الحلم وشجعه وأظهر له رؤية عنه وهو يطارد تيامات التي تحرق ايطاليا بينما يطاردها هو وكأننا بمردوخ يقود حملة هانيبعل الفينيقي في ايطاليا بعد عصور من خلقه العالم وتأسيسه للملكية والنظام والدولة ذات السيادة في بلاد الرافدين..
ويجمع بعل (مردوخ) عند الفينيقيين والكنعانيين بين الخصوبة والحرب كما يصور على أنه ابن دجن إله سرجون لأكدي ويطلق عليه تسميات مختلفة كبعل حداد وبعل شميم وبعل عمون وبعل حمون ويعتقد اهل صورانه يقيم في جبل زافون شمالي اوغاريت على الساحل السوري..وإنه إله حي ينقذ ضحايا الكرب في مجاهيل البحار والبراري مما يشكل نواة لشخصية الخضر (ع)...
وعلى الرغم من نظر البابليين لمردوخ على انه كوكب المشتري نفسه نجد ان مردوخ في الأينوما ايليش وفي عدد من التأويلات الأستسرائية للمجموعة الشمسية يعد كوكبا مستقلا بذاته وان تصادما حدث بين كوكب نيبيرو (مردوخ) اي الكوكب الثاني عشر وفق تلك التأويلات وتيامات الكوكب العاشر في مدار الأخير بين المريخ والمشتري وأن التصادم بين الكوكب الثاني عشر اي مردوخ وتيامات تسبب بنشوء شريط من الأجرام الصغيرة بين المريخ والمشتري، وتذهب هذه التاويلات الى القول إن جزءا من تيامات القديم صار القمر. إلا إن كوكب (مردوخ) الجبار الذي هو اكبر بكثير من تيامات قد نجا من كارثة الارتطام غير انه سبب كوارث لكواكب المريخ والأرض والزهرة وعطارد. وفي النهاية لم يستطع التخلص من قوة الجذب في منظومتنا الشمسية وصار جزءا منها أي الكوكب الثاني عشر أو العاشر بعد كوكب تيامات المدمر. ومدار مردوخ شبيه بمدار الكثير من المذنبات المعروفة. فدورة واحدة حول الشمس تستغرق عشرات الآلاف من السنين ..مما فتح المجال امام تاويلات أخرى ترتبت عليها ضجة عالمية من احتمال ارتطام وشيك لكوكب نيبيرو (مردوخ) بالأرض في كانون الأول إما في عام 2011 أو في عام 1012.. غير ان تصادما كهذا لم يحدث بين مردوخ والأرض مما وضع تلك الفرضيات تحت طائلة التكهن والتهويل الكوارثي...مع ذلك فأن من المثير للإعجاب ان يكون البابليون وقبلهم السومريون قد تعرفوا على كواكب لايمكن رؤيتها بالعين المجردة هي اورانوس وبلوتو ونبتون كما يظهر من ختم اسطواني سومري يمثل المجموعة الشمسية ومعها الكوكب الثاني عشر (مردوخ) الذي اثار الذعر في العالم قبل سنتين..
إلا أن أخطر تحولات مردوخ وأكثرهالاأهمية على الأرض كان تحوله الى إله الحرب العراقي آشور..وهو تحول مهد لتوحيد العراق بخارطته السيادية التي لم يجروء البريطانيين الذين وضعوا حدود العراق الحديث على تغييرها على الرغم من اختزالها الشديد باقتطاع اراض واسعة منها في الخليج العراقي وبلاد فارس ومنابع دجلة والفرات في زاكروس وطوروس ..وفي الواقع التاريخي فأن مردوخ لم يتحول الى آشور بل أكد ملامحه فحسب .. فالعراقيون عندما يكونون في يقظة ووعيهم الذاتي والسياسي مكتملا كالقمر في تمامه، يفكرون مثل سرجون الاكدي وحمورابي وعظماء الملوك الآشوريين ونبوخذنصر الأول والثاني مما يجعل التماثل بين آشور ومردوخ انعكاسا للشخصية العراقية والتطلعات التحررية والسيادية لهذه الشخصية فالألهين يتماثلان بتدشين حكمهما مع هيمنة كوكب الحرب المريخ وكلاهما إله مقاتل يتسم بالقيادية والأمرية والأهتمام بالحرب والتوسع في الأرض..وكلاهما أله محارب يشاطر جيشه القتال ولا يرض بغير النصر الكامل على العدو وسحقه؛ وكلاهما يجمع بين الألوهية والملكية وكلاهما زار معبد الآخر؛ ولكليهما الرموز القتالية نفسها فمردوخ يعرف بعجل السماء ويعرف آشور بصورة الثور المجنح وكمايرأس مردوخ آلهة بابل ، يرأس آشور آلهة آشور ونينوى وكالخو وغيرها من العواصم الاشورية، و لكليهما ،مردوخ وآشور، تاج يرمز الى الملكية على الكون والأرض؛ وحيثما يوجد اي منهما توجد سرة العالم ومركز الكون ، وكلاهما يعد خالقا للكون وللبشر؛ كما يلتقي الآلهان مردوخ وآشور برمزية الماء والأنواء..واخيرا كلاهما يعد رمزا للدولة ذات السيادة وعنوانا لسيادتها ووحدة أراضيها..مما يدعونا الى التفكير بالآلهة على انها انعكاسات لأرادة الملوك والأمم وأن ضعفها من ضعف الملوك وتراجع الأمة، وأن قوتها من قوة الملوك وتقدم الأمة ..وبكلمة أخرى أن العقيدة الدينية تتبع العقيدة السياسية للأمة وتعكس الأهداف الرئيسة للإرادة الحاكمة..وهذا مايفسر غيبات مردوخ في حاتوشا وعيلام وآِور ورجعته الى بابل وهي الرجعة عينها التي غذت ومنذ آلاف السنين قبل ظهور الإسلام فكرة الغيبة والرجعة المصاحبة للتغيير في الحاضرة الإسلامية في العهود اللاحقة كم تفسر قوة المؤسسة الدينية على عهود الملوك الأقوياء في العراق القديم كون السماء كانت ومابرحت المصدر الأقوى للسلطة السياسية في العالم...يتضح ذلك من خلال متابعة للتداخل بين السلطتين ألإلهية والأرضية على عهد حمورابي ونبوخذنصر ثم سنحاريب وأضرابه من قبل ومن بعد ممن حاول توظيف الآلهة سياسيا وعسكريا فحمورابي الملك القوى في العراق بعد سرجون الأول بدأ حكمه بسلسلة من الحروب انتهت بدحر ماري وضم أعالي الفرات اتبعها باعادة اعمار بابل واصلاح ادارتها بتشريع قوانين تحمي الناس وتنظم العلاقات فيما بينهم وقد يسر خصب بلاد الرافدين وغزارة مياهها وقنواتها وطرقاتها التجارية تقبل الناس للتشريعات التي نظمت حياتهم وحققت قدرا من الرفاهية والأمن ممهدا لذلك ببناء القوة العسكرية وتثبيت حدود المملكة بدحر ماري وتأمين الفرات من اعالي بلاد الشام حتى التقائه بدجلة وفي المسلة الشهيرة التي حفر فيها تشريعه المدني وضع حمورابي منحوتة تمثله وهو يتلقى التشريعات من الإله مردوخ.. إشارة واضحة الى المصدر الإلهي للسلطة السياسية وتأكيد لأستناد مشروعية القوانين الى إرادة الآلهة التي خلقت الكون وحفرت مجاري الأنهار وفي يدها مفاتيح القضاء والقدر والموت والحياة...في ربط واضح للسلطتين الإلهية والملكية، للسماء والأرض، و لمردوخ وحمورابي...وهي الآصرة عينها التي تتكرر في العالم القديم واستورثتها تحت مظاهر مختلفة الأديان اللاحقة، فلكي يكون القانون قويا وساري المفعول لابد ان يكون مقدسا مما يطلق المقدس من دائرة الإلهي ليصبح في متناول الملكي ويجعل المسافة بين الإله والناس مماثلة للمسافة بين الملك والرعية في الحالة الأولى سيادة مطلقة وفي الثانية عبودية مطلقة ...وهذا يفسر استهداف الثوار في العديد من الثورات عبر التاريخ للمؤسسات الدينية الى جانب المؤسسات المدنية باعتبارهما الوجه الثاني لعملة السلطة وتجسيمها في العالم...وفي الحلقة الأخيرة لتحولات مردوخ في العهود القديمة، نقابل الأسكندر المقدوني وتكرر اسطورة [ايرا] الذي دخل تمثال مردوخ ليحكم العالم في غياب ألإله وهي حكاية تذكرنا بأنتحال الجني صخر لعرش النبي سليمان وحكمه العالم بدلا منه وقد أشار القرآن الى ذلك بالآية (وألقينا على كرسيه جسدا ثم اناب) وفيما يخبرنا المؤرخ الروماني ديوديروس ويؤكد ذلك بطليموس الذي اصبح فرعونا لمصر بعد مصاحبته للأسكندر المقدوني الى بابل ( أن الأسكندر غادر عرشه يوما للأستحمام وفي رواية أريان انه خرج لتفتيش الجند وبينما كان العرش خاليا دخل احد السجناء هاربا من سجنه الى القصر ووضع ردااء الأسكندر واعتمر تاجه واختلس خطواته ليجلس على عرش الآسكندر..وعندما سؤل عما يفعل قال ان الإله العظيم مردوخ أطلق سراحه..فاستشار الأسكندر حكماء بابل فقالوا ان مثل هذا الحادث يمثل سوء طالع وأن على الأسكندر الأمر بقتل هذا الغريب لكي يكون سوء الطالع من نصيبه ، فيما يروي ديودوروس..ولكن الأسكندر بقي في حال من القلق متذكرا ماتنبأ به الكلديين وكان غاضبا على فلاسفة اليونان لأنهم شجعوه على الدخول الى بابل اعتمادا على نبوءة كلدية قديمة .وبينما يؤكد المؤرخ الروماني بلوتارك أن الأسكندر ظل مكتئبا بسبب الحادث وانه فقد ايمانه بالآلهة واصبح يتشكك في اخلص اصدقائه..يجمع المؤرخون على ان غريبا دخل غرفة العرش وجلس على عرش الأسكندر المقدوني في بابل وان مصيره كان القتل كما نعرف ان الحادث تسبب في ارباك الأسكندر وأقلاقه) ..ويرى ديودوروس (ان كهنة مردوخ قاموا بإطلاق سراح السجين قصدا ليمارسوا بذلك طقس الملك البديل)..وكان المنجمون البابليون يعرفون مسبقلا ان خسوفا للقمر سيحدث وان لهذا الخسوف تاثيرا سلبيا على الملك مما جعلهم يحددون بدقة فترات الخسوف والتي تستغرق 223 شهرا قمريا..وفي مثل هذه الحالة اعتاد الملوك البابليون على نقل سلطتهم الى سجين مدان او الى شخص مختل عقليا فيرتدي مئزر الملك ويضع تاجه ويجلس على عرشه بحيث يقع الشر المتوقع على السجين او المجنون ويكون الملك في مامن من سوء الطالع الذي يستجابه الخسوف..وكان البابليون قد نقلوا الملك عن عرشه وانزعوه مظاهر الملوكية قبل ايام من الخسوف وهيئوا السياف ليقتل الضحية بدلا عن الملك ).. ويرجح من اختفاء اي ذكر لطقوس استبدال الملك في النصوص الرومانية ان المؤرخين الرومان كانوا يجهلون جوانب كثيرة من الممارسات الطقوسية لدى البابليين ..فالغريب الجالس على العرش كان على الأرجح كبش فداء او ضحية للقمر أو للحوت الذي سيبتلع القمر ..وكان كهنة بابل واثقين بما لديهم من قدرة على التنبوء أن أزمة لابد واقعة في بابل بعد ثمانية سنوات من غزو الأسكندر للمدينة..فعمدوا لهذا السبب وعلى لسان [مردوخ ابلاايدينا] الذى نصح الأسكندر بالإختفاء بعيدا عن بابل..وكان الأسكندر شديد الأيمان بالآلهة فقد أمر بأعادة ترميم برج بابل ومعبد مردوخ لتفادي غضب الإله إثر حمله الى بلاد فارس ولأيمانه ان الألهة غالبا ماتكون عشوائية في نقمتها فتحرق الأخضر واليابس، ولكنه غير رأيه فخالف نصيحة الكهنة الكلديين بمغادرة بابل الكهنة ودخل بابل في اليوم المتوقع لخسوف القمر مما دفع كهنة مردوخ الى اتخاذ قرارعاجل بإطلاق الملك البديل في 12 مايس اي يوم الخسوف وأمروه بالجلوس على العرش وبعد ان اكتشف أمره، نصحوا الأسكندر بقتله ...غير أن ذلك لم يجد الأسكندر نفعا فبعد أيام على الخسوف، مرض الأسكندر ليموت في مساء 11 حزيران عام 323 ق.م. وكان تعقيب كهنة بابل على موت الأسكندر (لقد مات الملك والغيوم هي التي حجبت عنا تماما رؤية السماء) ..ونعلم من الواقع التاريخي ان الملك العظيم الذي غز ا العالم القديم واسقط الأمبراطورية الفارسية لم يقتله السيف بل قتلته بعوضة اطلقتها بساتين بابل وسحبها الضوء المنبثق من فصر نبوخذنصر الثاني آخر الغزاة العظماء في العراق القديم.. ولعل تلك اللسعة التي اصابته بالحمى القاتلة هي عينها لعنة مردوخ العراقي يلحقها بالغزاة الذين تسول لهم انفسهم او توسوس لهم شياطينهم الأعتداء على ارض الرافدين او المساس بسيادتها..







#صلاح_سليم_علي (هاشتاغ)       Salah_Salim_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العنكبوت والذباب
- الجثة والطوطم:قراءة في قصة ربطة الأرجوان لأنور عبد العزيز
- أنساب وذباب
- شخصية ابن الموصل في ضوء الأمثال الشعبية الموصلية
- أبراج الكبد والأميرة النائمة


المزيد.....




- الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج ...
- روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب ...
- للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي ...
- ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك ...
- السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
- موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
- هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب ...
- سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو ...
- إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صلاح سليم علي - تحولات مردوخ