علي موسى حسين
الحوار المتمدن-العدد: 3843 - 2012 / 9 / 7 - 23:10
المحور:
الادب والفن
الليلة الفاصلة
انطلقت .. تمزّق الظلام بكفيها وسواد عباءتها قد ذاب في صبغة ليل قاتمة . ابتعدت باتجاهات غير معرّفة, تتعثر بصرخاتها المبعثرة, ويكاد يغرقها سيل الدموع فتنشجه لهبا ينضّج الخدين احمرارا - كم تتمنى الشفاه قطافهما – فلقد أنهكتها أنفاس توشحت بالأنين, وتهشمت صخور من الصبر فوق رأسها, كدمات على وجهها المنضد كحبات رمان, أو كفتاة ألبستها رعشةَ الخجل رداءَ الورد بحضرة أبيها ويد الحبيب تمتد لخطوبتها. وحوش الوحدة قاسية, تتناولها مخالبها أينما دنت. توقعت أن تكون هي الليلة الفاصلة بينها وبين أبيها, بعد أن انخفضت أصوات أنينه وتوالت صفعات الألم عليه بقسوة دون رحمة , وعلى شبابيكها الخاوية تشتد أعاصير العزلة تضغط عليها بصمتها المدوي لتنبئها عن سرعتها القصوى وهيجانها الأبله بدورتها الأخيرة.
كأنما قلبها قد تجرد من جسدها قليلا, لتتذكر حبيبها المفقود, فهمست إليه في تلك اللحظات معاتبة:
ـ لقد امتنعت الأبواب أن تفتح إليّ لبخل أو سوء حظ.
ـ أما آن لك أن تنسى عناد أبي؟
ـ صدقني إن رجعت لا يرفضك..
وكأنها نسيت الموت الذي تركته يضاجع أباها مسترخيا ليكسر الغصن الوحيد المتبقي في شجرة عائلتها. وتداركت تفكيرها:
ـ لا أقبل غصنا غيرك يتطعّم في شجرة عائلتي ليعيد إليها الحياة.
أصابعها تَتَكَسَّرُ في راحتيها تَكَّسُرَ الأغصانِ برياح الخريف وهي ترتجف من سُهيل يخطف فوقها, تغمسها في ألم يتساقط من عينيها بأقسى من مطر الربيع وهو يغار من الثريا فوق رأسه, فتتركه لعله يجرف من غبار أيامها الصدئة المتراكم على وجهها وكأنها اقتنعت بحظها.. ولا تعلم هل أن الليل قد أغمض عينيه أم أن الدموع الثقيلة ولطمات الأصابع أعمت عينيها .. لم تستطع التمييز , وهل أن يديها قد كلّت من طرق البيوت؟ أم أن البيوت قد أنهكت من فتح أبوابها لها في أوعية الليل وطوفان ظلمته؟
رجعت إلى أبيها بعد أن جفت مآقيها, وأتربة الطريق كالجراد لازالت تهرس برجليها.. لعلّه يستفيق ويضمها الى صدره, ويمتص قليلا من لهب تصحر أحلامها.. وتعاتبه:
ـ أبتي .. لا تتركني غريبة..
ـ أبتي .. أوراق الليل ممزقة تشتت فيها كل حروفها, وانقلبت منها كل أسطرها.
ـ أبتي .. الحبيب الذي طردته من بين يدي .. كنت متوهما بأنك تملأ فراغه.
ـ أبتي.. أتعلم أي فراغ داخل صدري بعدكما.. ؟ أرجوك أن ترجع أوراقي التي مزقتها فوق رأسي قبل أن ترحل.
استمرت تصرخ ملهوفة, فراغ بين دفتي قدرها, متوهمة, تريد أن تملأه من دموعها, وتضغطه بشتات اتجاهات أحلام متكسرة .. حتى الأحلام تيبس عودها, كالهشيم يصب فوقه زيت وحدتها وتنفخ عليه نوافذ الليل المشرعة فتخشى أن تتقد بنيران الوداع الأخير. خرجت من أبيها ولهى تصرخ..
فتحت لها أبواب خجولة , لكنها غلّقت وكأن تلك الليلة أفرغت أوعية الرحمة منها وجفت نواصيها . أرادت أن ترجع خائبة بعد أن قطّع صراخ الليل الأبكم كل حبال الأمل التي شدت نفسها عليها وهي تعرف أن القدر المحتوم ينتظرها عند والدها, يريد أن يتلو أمامها كلماته الأخيرة دون أن يسمع اعترافاتها واعتراضاتها, إنها تحسب بيقين ما تخفي الدقائق لها حال عودتها, فتتردد في الرجوع ابتعادا عن القدر الذي لابد منه وتشبثا بخيوط العنكبوت لسحب أثقال ضاغطة على متنيها فيحتث تفكيرها بفوضى الاتجاهات كالسكاكين تخرق قلبها وأنصال الوهم متضادة تتقاطع فوق رأسها.
.. باب جميل , تقربت منه بارتباك .. إضاءات باهتة مصبوغة بألوان شتى تزين عارضة فوق الباب, وداخل البيت أنوار تتقد بوضوح خلاف البيوت الأخرى, وكأن ليلة ميلاد به ولدت. أهابها ذاك التوهج وهذه الإنارة, لكنها دنت مرغمة.
.. فُتِحَ الباب, فانفتحت أضلاع صدرها لتصب فيه تيارات توجس وومضات أمل إحتثت ارتداداتها فوق قلبها.. وإذا بصوت مرتقب أحاطها بهالة من الترحيب والعتاب على التأخير, أحبت أن تتقبله ليحميها من وحش الليل, لكن لا تريد أن ترمي نفسها لوحش آخر فيحكم عليها الغلق بإطباق المخالب. خجلت من هذا الذي لا تعرفه, وامتنعت من مناقشة غير الذي جاءت تطلبه, مسكها من يديها, وسحبها داخل البيت, يريد أن يضغطها الى صدره, ويحملها بين ذراعيه.
شباب وسيم , العطر يفوح من جسمه وملابسه, وصوت الموسيقى يملأ البيت كله يمنع كلماتها أن تصل الى مسامعه.
قال لها بصوت واثق الأداء والتقبل :
ـ اشتقت إليك كثيرا .. فكم عاتبت الكأس على تأخرك , وكم صارعت الليل بانتظارك .. لكن ويلك لو كنت عرجت على باب قبلي لأنتقم منك .
هاج غضبها وقد أحست بالخطر الذي يواجهها وهو يمسكها من ذراعيها يريد أن يرميها تحت صدره أو على الأريكة . صرخت به ولطمت وجهها حتى مزّقت خديها بأظافرها, وفاح الدم يملأ صدره وصدرها.
نفر مذهولا من هذا الذي لا يتوقعه وانهارت طاقاته الورقية أمام اهتزازاتها الارتدادية, اندفعت إلى الباب كالرياح الغاضبة من اتقاد بارود شرفها, وهرولت كالضبي الجريح تسبق عباءتها السوداء , فتراجع الى الوراء, كمن سقط خارج مدار إعصار يبحث عن عقله في عتمة الليل ومن بين فوضاه بكلتا يديه , مستهجنا انحراف بصره بزاوية تحت الصفر. ركض خلفها كصياد أغرمه الصيد لكن دون سهام وشباك, وتتبع خطواتها , بعد أن نفض من يده ما كان مغموسا فيه.. رآها تدخل بيتا خاملا معتم الخطوط والإنارة. أراد أن يدخل وراءها لكنه كره أن يتكرر تنكيره ثانية, وقد أعاد اتزان آنية عقلة ليثبت سائلها, سأل عن البيت , فانتكس رأسه الى الأرض.
لقد حركت عقله هذه الفتاة التي لم يلحظها بكامل صورتها , فأبى على نفسه إلاّ أن يعرفها , ليس من باب الفضول أو اللهو , بل طاقة كامنة صارت تحركه بعنف واختلاج يريد أن يعرف نفسه الحقيقية بعد أن أشرت عليه تلك الفتاة وهزته بعنف.
صباح اليوم التالي زاده الفضول إلحاحا, فرجع الى بيتها ليقرأها من جديد .. فاستوى إلى الأرض جالسا متألما لتلك القطعة السوداء التي تنعى شيخا كبيرا.
عاد الى بيته مهموما نادما يقلب صفحاته الماضية , وسبابته تحمر بين أسنانه , وهو يسترجع بألم مر ليلة البارحة, وكأنه بدأ يقرأ ترجمة نفسه الصحيحة.. فانتفض قائما , وأشر منها خطا فاصلا بين تلك الصفحات الماضية وأخرى لم تدون بعد.
.. في الليلة الثانية..
.. طُرِقَ البابُ.. فتحه .. فبصق.. وأغلقه بعنف.. هرول الى جارور في مكتبته ومزق كثيرا من الصور.. وأشر كلمات بإصبعه على راحته.. وختم عليها بضربة قاسية..
#علي_موسى_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟