عبدالواحد الفقيهي
الحوار المتمدن-العدد: 3835 - 2012 / 8 / 30 - 21:51
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مع الانتشار النسبي للتعليم, وأمام متغيرات الواقع, كان من الطبيعي أن يسأل المسلمون عن قضايا الدين ومعاني النص. ولم يكن كل الصحابة ـ كما يقول ابن خلدون ـ مؤهلين لإصدار الفتوى وإعطاء التفسير, والتمييز بين الناسخ والمنسوخ, والمحكم والمتشابه, بل كان الأمر يقتصر على فئة معينة هي التي سميت بـ "القراء" باعتبارهم حفظة القرآن, قراءة وجمعا, وحملة العلم الإسلامي الأول. وكان السائد عندهم أن ?الأقرأ هو الأعلم? , وبالتالي فالأفضلية في القراءة تستلزم الأفضلية في العلم. وانطلاقا من هذا الدور سيعتبر "القراء" الرعيل الأول لعلماء الإسلام الأصوليين, أي الفقهاء الذين سيوجهون اجتهادهم فيما بعد, بل وفي كل زمان, إلى إرجاع الواقع جملة وتفصيلا إلى النص الديني..
وإذا كان القراء هم "حفظة النص", فإن الفقهاء سيتخذون من هذا النص الأصل الأول للتشريع. وسيكون الفقيه, بذلك, هو صانع الحضارة الإسلامية, من حيث أن الفقه سيحتل الدرجة الأولى ضمن منتجات هذه الحضارة كما وكيفا, وسيصبح موجها ومنظما للسلوك العملي للفرد والجماعة, وسيؤثر بالتالي في سلوكه العقلي, أي في طريقة تفكيره وإنتاجه الفكري. وإذا كان الشافعي بوضعه لأصول الفقه يعتبر المشرع الأول للعقل البياني العربي, فيمكن القول, من باب المقارنة, إن تأثير "هذه الأصول" في تكوين وفعالية العقل العربي لا يقل عن تأثير "قواعد المنهج" التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين العقل الأوروبي. وإذا كان النص في حضارة الفقه هو المركز أو المقياس الثابت الذي يجب أن تضبط وفقه إيقاعات وتغيرات الواقع بحكم سلطته المعيارية, فإن إنسان هذه الحضارة لن يكون بإمكانه أن يفكر إلا بالنص ومن خلاله ومن أجله, أي لا يمكن أن يفكر إلا بطريقة بيانية. لذلك ?لم يكن عجبا والحالة هذه أن تكون صفة البيان في هذه الثقافة هي العنصر المحدد لماهية الإنسان?لقد تحدد الإنسان في هذه الثقافة باعتباره كائنا لغويا, باللغة تتلخص ماهيته, إذ بواسطتها تمتد الأسباب بينه وبين الوجود, بها يتدبر الأدلة ويؤسس لمنهج النظر فيها, وبها ينتقل من معاناة الفكر إلى معاناة العبارة عنها?(النويري). بهذا المعنى يمكن القول بأن الإنسان الذي شكلته هذه الحضارة هو إنسان بياني في تفكيره, لا يفكر إلا تحت سلطة النص الذي ينطوي على باطن يحتاج إلى تأويل, ويحمل حكما يحتاج إلى استنباط, كما لا يفكر إلا بتوجيه من سلطة سلف تتحدد في الخبر والإجماع والاجتهاد والقياس. إن الإنجاز الذي حققه العقل العربي في مجال الفقه لم يكن فقط تشريعات توجه وتضبط السلوك, بل كان عبارة عن قيود تؤطر العقل وتحد من من نشاطه داخل إطار غير قابل للاختراق.
مجمل القول إذن, إن نموذج الإنسان البياني بدأ يتشكل مع ظهور "القراء" كفئة ذات مكانة في سلم الهرم الثقافي والاجتماعي والسياسي باعتبارها تحمل العلم الأول, ثم حلت محلها فئة "العلماء الأصوليين"/ الفقهاء التي عملت على ترسيخ الأصول الفقهية والقواعد البيانية المؤطرة لعقل وسلوك الإنسان البياني, وهو التأطير الذي كان, وما يزال في صلب أهداف ومضامين وطرق التعليم السائدة في كل مناطق العالم العربي الإسلامي. لكن تاريخ تشكل هذا النموذج البياني في الحضارة العربية الإسلامية لم يكن في منأى عن تأثير مرجعيات ومنظومات فكرية غير تلك التي حملها النص الديني والفقه المتمركز حوله. ويمكن إبراز هذا التأثير من خلال لحظيتين حضاريتين: الأولى استمرت في عقل الإنسان البياني, والثانية اختنقت في مهدها.
أما اللحظة التي استمرت فيمثلها أبو حامد الغزالي الذي هاجم الفلاسفة وأصدر فتوى في تكفيرهم وتبديعهم, كما أفرغ المنطق من مضمونه ليوظفه كآلية جدلية دفاعا عن كلام الأشعري وفقه الشافعي, وأنكر وجود السببية كمبدأ عقلي بديهي?إلخ, ثم انتهى في نهاية المطاف إلى تبنى الهرمسية في رؤيته الصوفيه وفي قراءته للنص الديني, كما انتهى إلى العزلة الفكرية والصمت الإيديولوجي بعد احتلال القدس من الطرف الصليبيين. هكذا توارى العقل وقدم استقالته فكرا وسلوكا. ?فهل نحتاج بعد هذا إلى القول بأن انتصار "العقل المستقيل" في الغزالي قد خلف جرحا عميقا في العقل العربي مازال نزيفه يتدفق, وبشكل ملموس, من كثير من "العقول" العربية الآن??(الجابري). لكن بموازاة مع هذه اللحظة "الجارحة" انبثقت لحظة أخرى في الأندلس كان قد دشنها ابن حزم ، ثم نضجت مع ابن رشد الذي سعى إلى نقد وتجاوز عرفانية الغزالي وتخليص العقل البياني مما علق به من الهرمسيات الصوفية, وتأسيس علاقة جديدة بين البيان والبرهان في سياق الفضاء العقلي الذي فكر فيه. لكن هذه اللحظة سرعان ما انطفأت شرارتها واختنقت في المهد؛ إذ بعدها مباشرة ظهرت إلى السطح تيارات باطنية (ابن عربي) كانت من قبل تؤسس ذاتها في الخفاء, كما ازدهرت الطرق والطقوس الصوفية, وأصبح الفقه تمارين ذهنية صورية, وهيمنت الرؤية الأشعرية في فهم العقيدة, وتحول المنطق إلى صناعة شكلية ?إلخ. وبهذا الانتصار الذي حققه "العقل المستقيل", وبهذا التراجع الحضاري الذي تعرض له التشريع الفقهي والتفكير الديني والتفكير الفلسفي, بدأ "الإنسان البياني" يتوارى تدريجبا عن ساحة البناء الحضاري الإنساني, ليقبع تحت أغلفة سميكة من التشريعات الفقهية والشروح اللغوية والحالات الصوفية ( حسن حنفي). وبذلك دخلت الحضارة العربية الإسلامية, في المشرق والمغرب, مرحلة أخرى ستكون فيها السيادة للمتصوفة ومشايخ الطرق والفقهاء والنحاة والمتكلمين المتأخرين المحافظين على جمود التقليد. أما شرارة التجربة الأندلسية, الرشدية بالخصوص, والتي كانت مسنودة بالعلم العربي الذي لم يجد تربته الخصبة في موطنه الأصلي, فقد انتقلت وانتشرت فيما وراء الأندلس من الضفة الأخرى, أي أوروبا التي كانت غارقة في عصورها الوسطى. وبدا مفعول الشرارة قويا مع وصول العلوم اليونانية والعربية إلى أوروبا الشمالية في القرن الثاني عشر والتي غيرت رؤية الإنسان الغربي إلى ذاته والعالم والمجتمع بشكل عميق. ومن أهم ملامح هذا التغيير ظهور مجموعة من المثقفين عرفوا باسم "الرشديين اللاتين" الذين وظفوا نظرية ابن رشد في العلاقة بين الدين والفلسفة لتأكيد استقلال سلطة العقل عن سلطة الكنيسة, وهو التوظيف الذي تطور إلى دعوة الفصل بين الكنيسة والدولة.
#عبدالواحد_الفقيهي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟