علي شفيق الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 3835 - 2012 / 8 / 30 - 11:02
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
كان القضاة وفقهاء القانون قد احتاروا في فرنسا مع تشييد أول مطار في باريس حينما عمد أحد أصحاب الاراضي المجاورة للمطار الى نصب عمود هوائي مرتفع جدا يعرقل حركة الطائرات بهدف شمول أرضه بالأراضي التي استملكت والحصول على مقابل مجزي, ولم يكن هناك نص قانوني يمنعه من تحقيق غرضه.
وسبب الحيرة أن القانون المدني الفرنسي كان ساكتا عن مثل هذه القضية, ولأن استعمال الحق في الأصل جائز ولا يوجب المنع أو التعويض بحد ذاته حتى لو تسبب بضرر للغير, حيث متى ما قيل أن الانسان يستعمل حقه فيعني أنه لا يستعمل إلا ما أجازه إياه القانون.
وبعد جدل طويل وعناء في البحث عن حل لهذه القضية, التي اعتبرت إحدى أهم القضايا الشائكة, اتبع القضاء النظرية المعنوية لسوء استعمال الحقوق متأثراُ بما توصل اليه فقهاء المسلمين منذ زمن بعيد : "ضرورة التحري عن نية مستعمل الحق فاذا كانت نيته غير حسنة ولم يقصد الا الاضرار بالغير فيمنع من ذلك ويكون مسئولاُ عن التعويض" تطبيقاً للحديث الشريف: "انما الاعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى".
ومن اوضح ما يدل على هذه المعرفة, ما كتبه العلامة "أبو اسحاق الشاطبي" أحد فقهاء الاندلس في القرن الرابع عشر للميلاد الذي ينظر الى الحقوق نظرة اجتماعية خالصة يفهم منها انها شرعت لغاية المصلحة العامة ومربوطة بنية مستعملها. (د. صبحي محمصاني, النظرية العامة للموجبات والعقود, بحث مقارن, دار العلم للملايين, ص 44 وبعدها).
واعتنقت معظم القوانين الحديثة النظرية المعنوية للتعسف في استعمال الحقوق المبنية على القصد وعلى نسبية الحقوق تأثراً بتراثنا التشريعي
, وتكاد تكون حالياُ عامة شاملة.
وكما يتبين أن بطلان أي سوء استعمال للحق يراد به الاضرار بالغير هو قمة العدل وسمو في الثقافة, حيث يسد باب الظلم على كل من يريد الإساءة للآخرين وإيذائهم حتى لو أنه استخدم حق مشروع له !, وهو "تطبيق استقر عليه الفقه الاسلامي مئات السنين, واخذت به حالياً غالبية التقنيات الحديثة" كما اشارت الى هذه الحقيقة المذكرة الايضاحية للقانون المدني الكويتي .
وليتنا اليوم نعي الدور الحضاري لقيمنا وموروثاتنا التشريعية ومدى استجابتها لمتطلبات العصر, لأن فيها, وكما يقول لامبير أبرز فقهاء القانون المقارن, "عناصر لو تولتها يد الصياغة فأحسنت صياغتها لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي والشمول ومسايرة التطور عن أفضل النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم".
وفي هذا الاطار لو أحسنا الصياغة واستنباط الأحكام, وتوفرت لدينا الإرادة الصادقة, سنجد أنفسنا كعرب ومسلمين أكثر الأمم قدرة على الانسجام مع التشريعات العادلة والمتحضرة وحقوق الانسان, بل ونحن أولى من غيرنا بها, لأن العدل والإنسانية هي من صميم معتقداتنا الأساسية.
#علي_شفيق_الصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟