|
النقد المعتزلي للأديان في الثقافة الإسلامية
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 3834 - 2012 / 8 / 29 - 11:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إن سعة انتشار الكتابات المعتزلية في الرد على الأديان يعكس أولا وقبل كل شيء نقدية المعتزلة وتمثيلهم العقلاني للثقافة الإسلامية من حيث الانتماء لها والتعبير عنها بمعايير الانفتاح والتسامح والرؤية العلمية. وسوف اكتفي هنا بتحليل ودراسة آراء الجاحظ بسبب نموذجه النقدي والعقلي وتمثيله للفكر الحر. ففي رسالة الجاحظ الصغيرة في (الرد على النصارى)، نعثر على بواعث كثيرة تكشف لنا الخيوط غير المرئية القائمة وراء الجدل المباشر بين النصرانية والإسلام. والاهم من ذلك أنها مؤشر على مستوى التسامح الديني والفكري. إذ لا نعثر عند الجاحظ بشكل عام على اهتمام بقضايا الجدل الديني، بل أن فصاحته الأدبية وبلاغته مؤشران على جمال العقل والضمير، بينما يكشف في مواقفه وأحكامه من مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسة والأخلاقية عن انفتاح عقلاني ومتسام بنفس القدر. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يورده ياقوت الحموي، عن أن الجاحظ كتب هذه الرسالة بطلب من أمير المؤمنين، حينذاك ستبدو واضحة مهمتها . لهذا السبب علق ابن قتيبة في (مختلف تأويل الحديث) على عدم ثقته بانتقادات الجاحظ للأديان الأخرى، واتهمه بالاستهزاء بالأديان جميعا بما في ذلك في القرآن والحديث. وكتب عن رسالته في الرد على النصارى، قائلا "ويعمل كتابا يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار الرد عليهم تجوز في الحجة كأنما أراد تنبيههم على ما يعرفون، وتشكيك الضعفة من المسلمين" . وبغض النظر عن مواقف ابن قتيبة المتحاملة على الجاحظ، فان ملاحظته لها أهمية بالنسبة لفهم إحدى خصائص انتقادات المعتزلة للأديان. فالجاحظ يرد انتقاد النصارى ومهاجمتهم للقرآن، من حيث أن ما يورده القران يختلف عما تقوله التوراة والأناجيل من الأحداث المتعلقة بهامان وفرعون وكلام عيسى في المهد، بينما لا إشارة لذلك في الأناجيل ولا عند اليهود ولا حتى عند الصابئة والبوذيين. والشيء نفسه يمكن قوله عن قضايا أخرى مثل ما أورده القرآن عن دعوى اليهود بان عزير ابن الله. وعندما يأخذ الجاحظ بالرد على هذه الآراء، فانه ينطلق من تحديد طبيعة العلاقة بين الإسلام والمسلمين ومواقفهما من النصرانية والنصارى واليهود. ويجد مقدمات هذه العلاقة والمواقف في صدر الإسلام. ويربطها الجاحظ بما اسماه بعداوة القريب. فاليهود كانوا جيران المسلمين في يثرب. وعداوة الجيران شبيهة بعداوة الأقارب من حيث حدتها وثباتها. وإنما يعادي الإنسان من يعرف، والعيوب تبدو من خلال المخالطة. وعلى قدر الحب والقرب يكون البغض والبعد. من هنا استمرار العداء بين المسلمين واليهود. وعلى عكس ذلك يبدو الخلاف مع النصارى. إذ للعلاقة الطيبة بين المسلمين والنصارى مقدماتها القائمة في مساعدة نصارى الحبشة للمسلمين الأوائل . إضافة لذلك كانت النصرانية منتشرة بين العرب. فقد كان بعض من ملوك العرب نصارى، مثل ملوك الغساسنة واللخميون والمناذرة. كما أن العرب كانت تتعامل في تجارتها مع نصارى الشام واليمن والحبشة. ثم أن بينهم الكثير من الأطباء والمتكلمين والمنجمين والحكماء. كل ذلك يجعل المسلمين أكثر عطفا على النصارى، على عكس تعاملهم مع اليهود، الذين كرهوا العلم والمعرفة. إذ هم يرون "النظر في الفلسفة كفر، والكلام في الدين بدعة، وانه لا علم إلا ما كان في التوراة وكتب الأنبياء" . ويضيف الجاحظ إلى الأسباب الدينية والعلمية – الثقافية سببا اجتماعيا، يقوم في ما اسماه بالانعزال الذاتي لليهود. فهو يقرر واقع عدم تزاوجهم مع الآخرين، مما أدى إلى "ضعف عقولهم وأرواحهم، كما نلاحظ ذلك في الخيل والإبل. بينما عوام اليهود على خلاف النصارى الذين بينهم كتاب السلاطين والملوك وأطباء الأشراف، لا تجد اليهودي إلا صباغا أو دباغا أو حجاما أو قصابا، مما توهم الناس بان دين اليهود في الأديان كصناعتهم في الصناعات" . غير أن ذلك لا يعني وجود علاقة عضوية بين النصارى والعلم والحكمة. ففيما لو نظرنا بصورة متفحصة، كما يقول الجاحظ، إلى الحقيقة النصرانية والروم، لتبين لنا بأنهما كلاهما ليس له حكمة (فلسفة) ولا بيان ولا بعد رؤية، سوى "حكمة النجر والتصوير والحياكة"، كما يقول الجاحظ. وهو أمر يعطي لنا إمكانية محوهم من "ديوان الفلاسفة والحكماء". إذ ليس لهم علاقة بما يحاولوا البرهنة عليه مما يدعوه بتراثهم وهو لليونان لا لهم. فلا أرسطو ولا اقليديس ولا جالينوس ولا ديمقريط ولا بقراط ولا أفلاطون كانوا نصارى أو روم. ووضع ذلك في حكمه النقدي الصارم القائل، بان "دينهم غير دين النصارى، وأدبهم غير أدبهم. أولئك علماء وهؤلاء صناع" . إضافة لذلك لقد شوه الروم والنصارى حقيقة الفكر اليوناني وافسدوا فلسفتهم. وبالتالي فان حكماء المسلمين ليسوا على مثالهم، إذ لا علاقة لليونان بالنصرانية، كما لا علاقة بالنصارى الذين يتكلم عنهم القران بنصارى الملكانية واليعقوبية. ثم أن الفكر النصراني تقليدي لا مجال للعقل فيه. وتقليديته ليست من حرص العوام وتبعيتهم التامة للأسلاف، بل وبسبب لا عقلانية النصرانية نفسها. فمن الصعب عقل حقيقتها، وبالأخص مواقفها المتناقضة من المسيح. فالأناجيل يختلف ويعارض ويناقض بعضها الآخر في مواقع عديدة. غير أن أكثر ما يثير فيها هو لا عقلانية أطروحتها بصدد ألوهية المسيح. ولم يجد الجاحظ في التأويلات العديدة لهذه الألوهية سوى تلاعب بالألفاظ لا معنى له. وبالتالي ليست آراء الاتجاهات النصرانية سوى شكل من أشكال التشبيه الفج. ويستغل الجاحظ هذه الحصيلة لمهاجمة الحشوية والمشبهة بين المسلمين وللدفاع عن آراء المعتزلة وتأويلاتها العقلانية بهذا الصدد . إذ لا معنى لألوهية المسيح، كما يقول الجاحظ، لا من حيث طابعها التجريدي الفكري، ولا من أي جانب ما آخر. وبالتالي فهي ألوهية لها معناها وثباتها ويقينها بالإيمان العادي والتقليد الأعمى لا بالعقل الفاحص . وذلك لان مفاهيم "الأبوة" و"البنوة" النصرانية ليست نتاجا "لسوء العبارة" و"طبائع الأمم" في المخاطبة والتعامل مع لغاتها، ولا "لخصوصية اللغة" التي كتبت فيها الأناجيل. إذ ليست هذه التفسيرات سوى تأويلات محبوكة من الوهم والتبرير. إذ أن مجرد تجويز الأبوة والتبني على الله ومعه هو بحد ذاته جهل عظيم، كما يقول الجاحظ. فلو جاز أن يكون الله أبا ليعقوب لجاز أن يكون جدا ليوسف. وإذا كان ذلك لا يعيب في البشر وبينهم، فانه يؤدي تجاه الله إلى حماقات لا تحصى . بل أن ذلك ممكن بحق من لا يعرف قدر الله وقدر الإنسان. إذ ليس بحكيم من ابتذل نفسه، وليس من الحكمة أن تحسن إلى عبدك بان تسيء إلى نفسك. ولم يمجّد الله ولم يعرف الهيبة من جوّز عليه صفات البشر. فإذا كان الله لا يقدر على رفع قدر غيره إلا بنقص قدر نفسه فهذا هو العجز، وإذا كان قادرا على ذلك وعمله فهذا هو الجهل" كما يقول الجاحظ. ثم يوجه الجاحظ هذه المواقف النقدية العامة تجاه شخصية المسيح بصيغتها الإنجيلية (النصرانية). ويحاول البرهنة على انه لا خصوصية فيها وفرادة ولا تميز خالص، بما في ذلك ما يتعلق منه "بالمعجزات". ورد على "معجزة" خلقه من "دون ذكر"، قائلا، بأنه "لو صار عيسى ابنا لله لأنه خلقه من غير ذكر، فآدم وحواء أولى". ولا يقف الجاحظ عند هذه الحدود، بل ينتقل منها إلى القضايا اللاهوتية الفلسفية المتعلقة بمسائل اللاهوت والناسوت في شخصية المسيح. وانطلق في نقده العقلاني لها من مجادلة المفاهيم العامة للاهوت والناسوت نفسها. فالمسيح أما أن يكون إنسانا خالصا أو إلها خالصا أو أن يكون جامعا لكليهما. فإذا تقول النصارى بأنه اله بلا إنسان، فإننا نعرف من الأناجيل بأنه كان صغيرا ثم شبّ والتحى، وكان يأكل ويشرب وينجو ويبول. فأي شيء يا ترى هو الإنسان إن لم يكن ما ذكرناه؟ وكيف يمكن أن يكون إلها خالصا وهو الموصوف بجميع صفات الإنسان. وفي حالة زعمهم بأنه لم ينتقل عن الإنسانية ولم يتحول عن جوهر البشرية، ولكنه سمي إلها (خالقا) بسبب صيرورة اللاهوت فيه. غير انه هنا تبرز أمامنا معضلات عديدة مثل هل أن قيام اللاهوت فيه أو في غيره؟ فإذا أقررنا بالحالة الأولى، فان المسيح ليس بأولى من غيره في أن يسمى إلها. وإذا أقررنا بالحالة الثانية، فان اللاهوت صار جسما. وبالتالي لا معنى للاهوت هنا. ومع أن الجاحظ يشير إلى الاختلاف والتباين بين المتكلمين (أصحاب اللاهوت) النصارى وفلاسفتهم، إلا انه يعتبر هذه التصورات بمجملها إحدى صيغ التشبيه والتجسيم، الذي يمكن العثور عليه في مختلف الأديان، كما نراه عند اليهود (الذين يعتبرهم الجاحظ مشبهة ومجبرة) وعند الرافضة المشبهة والحشوية في الفرق الإسلامية. لقد كانت آراء الجاحظ الانتقادية موجهة من اجل إظهار التباين بين الإسلام والنصرانية واليهودية عبر انتقاد ما في الأديان الأخرى من فقدان للعقلانية وكذلك نقد ما فيها من التشبيه والتجسيم. وهو نقد يعكس أيضا التوجه العام للفكر المعتزلي في نقد هذه الجوانب في الفرق الإسلامية أيضا.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التقاليد الإسلامية العامة في نقد الأديان
-
نقد الأديان والبحث عن الوحدانية في الثقافة الإسلامية
-
فلسفة الإيمان عند الغزالي (2-2)
-
فلسفة الإيمان عند الغزالي (1-2)
-
منهج الشهرستاني في تقييم وتصنيف الفرق الإسلامية
-
المنهج الجدلي لابن حزم في تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية
-
تصنيف وتقييم البغدادي للفرق والمدارس الإسلامية
-
تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية عند الاشعري
-
الفلسفة والبحث عن الاعتدال العقلي (2-2)
-
الفلسفة والبحث عن الاعتدال العقلي (1-2)
-
الطائفية السياسية – الأفق المسدود (التجربة العراقية)
-
المصير التاريخي للغلو السلفي السياسي في العالم العربي
-
الكواكبي ومرجعية الدولة السورية
-
الكواكبي- الإصلاح والثورة!
-
فلسفة الإصلاح والحرية عند الكوكبي
-
الخطأ والخطيئة في المعادلة السورية
-
سوريا وإشكالية موقعها في الصراع العربي والعالمي
-
الأبعاد الجيوسياسية في الصراع الروسي - الأمريكي حول إيران وس
...
-
الفيتو الروسي والقضية السورية
-
رد على مقال الطيب تيزيني (دبلوماسية في خدمة الجريمة)
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|