|
أحلام بعمر الفراولة-2
سوسن العطار
الحوار المتمدن-العدد: 1117 - 2005 / 2 / 22 - 10:40
المحور:
الادب والفن
لم انتظر طويلا أتى الصاروخ، كان أعمى بالفعل وقصف سيارتي التي كان يقودها أخي في تلك الظهيرة، منذ أسبوع أتعمد الخروج لوحدي تماما وأتجنب لقاءاتي مع الناس، لا امكث في أي مكان طويلا خوفا أن يأتي الصاروخ الاعمى وهم معي، أخر شيء أريده موت احد بسببي، كان هذا الأحد أخي. لم اقترب من الكيس لذي كوم فيه، لا أستطيع لست حديد ولست بلاستيك، لم ابك كنت استجدي دموعي أن تنزل، وتغسل قلبي ولكنها تخذلني كالعادة، أين تذهب حين احتاجها، جف الشلال الذي تسقط منه مدرارا، هل هي نقمة أم نعمة على أن اشكر الله عليها، سيكون كارثيا رؤية الملا دموعي على الملا ولكن حزني و ثقتي بنفسي يبرر لي ولن تقلل من شأني. إحساس طاغي بالذنب، استشهد بسببي، حقيقة علي ألا انكرها ، كنت أخاف على المارة ، أخاف على الجيران ، أخاف على المرافقين الذين صرفتهم ولم اعد أتنقل برفقتهم ،كنت سأخجل من تساؤلات الأطفال و الأبرياء الذين سيموتون معي " الم تختر إلا أن تمر بجانبنا اليوم " ، واليوم اعتزلت الأهل واعتزلت الشارع و تلبسني الخجل من أمي وزوجة أخي وأطفاله، كيف سأواجههم، لماذا أتى لماذا اخذ السيارة دون أن ادري لماذا ! مشيت في الجنازة وبقيتت صامت في خيمة العزاء، أتلقى التعازي إلى أن مال علي مرافقي " عليك أن تغادر" تذكرت أمي أريد أن أراها، قبل الجنازة مباشرة كنت على وشك دخول الغرفة حين سمعت نواحها المر وطلبها المستحيل أن ترى وجهه، لم أجرؤ على الاقتراب خطوة أخرى، تراجعت، كم مرة يقتلنا الصاروخ وكم شخصا يقتل غير من مات وانقضى أمره، أضفت أمنية جديدة لاماني السابقة اعلم يقينا أنها لن تتحقق: أتمنى أن يبقى جسدي سليما أو على الأقل متماسك، ووجهي واضح المعالم حتى تتمكن أمي من تقبيلي في وداعي.
ذهبت لرؤية أمي تماسكت ومشيت باتجاهها، رفعت راسي إلى الأعلى وأغمضت عيني وأنا امشي كي لا تلمح زوجة أخي أو ا ي من أطفاله، سقطت على أمي اقبل رأسها ووجهها ويديها، وهي لا تكف عن البكاء والنواح ، لماذا أمي ليست كباقي أمهات الشهداء ، يكن صابرات متجلدات ، يبكين بصمت دموعا من قاع القلب ، يزغردن ويعلن تفاخرهن وانتظار الأمل القريب ، سحبت نفسي من حضنها وأنا متأكد أنها لن تحتمل الصدمة الثانية بغيابي المتوقع قريبا.
** و صلني الخبر الذي كنت أخشاه، الطائرة تقصفني أنا أيضا، تراجعت إلى الخلف وارتطمت بأول حائط صادفني، أغلقت على نفسي باب الغرفة ليخرج الألم السري ويأخذ مكانه في عالمي الضيق المفتوح للأوجاع، أين كنت اخزن كل هذه الدموع، سأفرغها ولا ابقي شيئا فبعد قليل علي الخروج إلى العالم الذي لا يدري بي وعلي أن أبقيه كذلك. سمعت صوت الصاروخ لم يكن بعيدا، كم انفجارا نسمع في اليوم وكم شهيد نحصي وننقصهم أحبائنا ومن يخصنا، نستبعد الموت عليهم، الصاروخ اجبن من الاشتباك معهم، ولكن الصاروخ هذه المرة لم يكن جبانا على الأقل كان دقيقا. صوت الانفجار يئز في أذني يفجر دماغي ويفجر قلبي، يفجر ندمي، كم أنا رديئة وقاسية، أنا أبقيت شعرة معاوية و جعلته يفهم أنها حبلا متينا لا ينقطع، أنا أحرقت السفن و وأبقيت له شراع أوهمته انه يستطيع به اختراق ضفافي، أنا لم اقتنص الفرص لم أعامله كما ينبغي، أردت الخروج من الزاوية التي حشرت نفسي فيها أو حشرني فيها بإرادتي، وخرجت إلى زاوية أضيق بإرادتي أيضا. رغم استعدادي وتدريب نفسي جيدا على الخبر لم احتمله ولم يخفف عني ان اعلم فيما بعد أن الصاروخ أخطا وأصاب شقيقه الذي اعرفه جيدا وأكن له كل محبة واحترام، شكرت الله طويلا على نجاته ولكن تأكدت الآن انه قد لا ينجو في المرة القادمة، ووقفت نفسي عارية أمامي، الآن اعرف أين أقف وأين يقف هو مني، أمامي أيام وربما ساعات لأبوح أو ليكتشف وبعدها...... ليأت الصاروخ
الحصار يحاصر روحي، طوال الأيام الماضية أفكر كيف سأتصل به، ماذا أقول لأواسيه، لا أجيد المواساة التي احتاجها أنا أيضا، أخاف إن رأى رقمي ألا يرد، يحق له أن يغضب، مؤكد أن آخر ما يحتاجه هذه الأيام الصعبة هو صوتي، اعلم انه قوي وصلب ومتماسك ولكن هناك كوارث وغيا بات لا يحتملها مهما كانت متوقعة ودرجة استعداده لها، واعتقد أن اغتيال شقيقه كان خرج حساباته.
لا يترك لنا الحصار متسع للتفكير في غير الحصار والدمار الناتج عن القصف، كان الجنود يتسلون بأعصابنا، بعد قليل أصبحنا نحن نتسلى على أزيز رصاصهم، نضبط خطواتنا على الدرج بين رصاصتين، ونحزر ان أصاب القناص زر كم القميص الأيمن المنشور على الحبل لليوم الرابع كما تراهن مع زميله أم انه لم يصبه.
**
يرن هاتفي لم يتوقف طوال الأيام السابقة عن الرنين، أرد، يا الله صوتها، لم انتبه للرقم، لم يخطر ببالي اتصالها، على شقيقي أن يستشهد نيابة عني كي تتذكرني وتمن علي باتصال، لو رأيت الرقم مسبقا لا اعلم إن كنت سارد، ولكن الآن أنا أتحدث معها، كان صوتها مرتعشا، ومترددا، تبدو تحاول التركيز وتبذل جهدا للملمة الكلمات التي تحاول إيصالها لي، اعتذرت مني عن عدم اتصالها منذ سماعها الخبر، اعذرها فأنا اعلم أنها كانت محاصرة وعلى مرمى نيران الاحتلال مباشرة، شعرت أنها تحتاج مواساة اكثر مني، يظهر ضعفها وهشاشتها واضحا و لأول مرة المسها، لا اعلم هل هو بتأثير الحصار ومقاربة الموت طوال الأيام الماضية أم حزنا على شقيقي الذي اعلم أنها تقدره، طمأنتها أن كل ما يحدث متوقع ونتقبله تماما، مصيرنا وخيارنا بكامل إرادتنا، كنت متماسك، فاليوم هو اليوم الرابع لاستشهاده، كان لدي متسعا من الوقت لتقبل الكارثة التي لم احسب لها حساب بالمرة، أبلغتها أيضا أنني أسال دوما عن أخبارها واطمئن عليها عن بعد، رسالة تفهم محتواها جيدا ولا انتظر الرد عليها، اعلم أنها تتعاطف معي وتقدر حزني وتشردي وخواء قلبي، واعلم أيضا أنها لن تعاود الاتصال بي ، ولو ارتكبت حماقة كالسابق واتصلت بها ربما لن ترد . الآن سأرتكب حماقة مختلفة سأركن إلى زاوية واثقب غشاء الدمع في عيني واترك النهر يجري مدرارا ولا يهم من يراني حتى لو كانت هي.
** ليل اسود و صامت كقبر بارد كقلب مهجور ، القمر الغبي غادر ولا نجوم تجرؤ على الظهور،لم اعد أتسلى برؤية الجندي الذي يصوب سلاحه نحوي من تحت الشجرة في القمر ولا أحدق في النجوم التي تشكل وحش يتربص بي كما كنت أراها وأنا صغيرة، ولا أعدها أو أعيد ترتيبها وكتابة أسماء من احبهم بها، توقف القصف ولا صوت يشق بهيم الليل المتوحش ولا قنابل مضيئة أتسلى بمراقبتها تتوهج ويذبل ضوئها إلى أن ينتهي ، و الآن أنا وجها لوجه مع هواجسي وأفكاري، انه الأرق مرة أخرى ، يرافقني خطوة خطوة حتى حدود الفجر، أمر على كتبي كلها ما قرأته وما لم أقراه بعد ، على التلفزيون الممل ومحطاته الغبية ، القهوة وجميع أنواع المسكنات لا تطرد الألم ولا تهدئ روع وحش كامن في دماغي ينقض على أفكاري ويهيجها فكرة فكرة، انظر إلى الهاتف الملقى أمامي أفكر أن اطلبه، امسكه في يدي، أفتش على الرقم القي به لا أستطيع لا تطاوعني يدي ، لماذا لا يتصل هو … سارد مهما كانت الساعة وأينما كنت، ولكنه لا يتصل،منذ مدة أعيش أيامي بلا حياة إلا من انتظار اتصاله ، بلا هدف إلا سماع صوته، لهفته للحديث معي ضيعتها وبقيت لهفتي أنا للحديث معه، الهاتف لا زال أمامي أفكر أن اطلبه أو لا اطلبه ، الآن فقط أتخيل تساؤلاته حين كان يطلبني هل سترد هل ستواصل الحديث ، هل ستكون لطيفة ، الآن دوره ليرد لي الصاع صاعين وعن عمد وهو يدري ما الذي يفعله بي ،لو يدري أيضا حاجتي لصديق قريب بقلبه ويديه ، لو يفهم حاجتي لصديق افرغ له ما في قلبي ، صديق اشرب معه القهوة صباحا أذوق فيها مشاعره قبل مرارها ، واشم فيها عطره ، أتحدث إليه مباشرة عن أحلامه ليلا أماله نهارا قبل أن نناقش نشرة القصف ليلا والاغتيالات ليلا ونهارا،يسمعني دون أن أتحدث يتفهم صمتي وانزوائي ويقدر أحزاني. هو…ماذا يقصد بهذا الصمت ، هل انتهينا ؟ اللقاء الأخير أراد أن يقول وداعا ولم يودع ، واتصالي الأخير أردت أن أقول أريدك ولم اجرؤ، و الآن أنا بانتظار وداعه ،هل ينتظر هو اقترابي؟
**
جو ربيعي رائع، دفء وشمس والعصافير لا تزال تطير في السماء، لم يبدأ أي اشتباك بعد ليرهبها و تهرب، أود السير بهدوء وخيلاء في الشارع كفتى ودع المراهقة توا ويستقبل باكورة شبابه ، أضع يدي في جيوبي واسرح بصري على امتداده حتى يرى البحر أو يثقب ملابس الفتيات في الشارع ، أريد أن اجلس بهدوء لامبالي في أول مقهى يصادفني اشرب قهوة وأدخن ارجيلة وأنا أمد ساقاي للشارع ولا أفكر في الموت أو أفكر فيها ، أو اذهب إلى البحر برفقة أصدقاء مرحين نسبح ونشوي سمك وندخن حتى الليل ، أريد... و اريد... ، أشياء كثيرة لم انظر إليها كذات متعة عندما كانت متاحة ، والآن أي منها يساوي عمري ، هل عمري قيم؟ من يهمه عمري سوى أمي، هي؟ لا تهتم وان اهتمت متأخر جدا، التنظيم يهتم، موتي بالنسبة له نيل من هيبته ولن يؤثر فيه، فألف رمز وألف مقاتل غيري ينتظر ليحل محلي، أنا دربت نفسي ألا يهمني عمري، سيكون أسهل علي عندما يغادر ني ألا افتقده كي لا اشعر أنني خسرت، بعد قصف سيارتي لم يعد لي وسيلة أتلقى فيها الموت، عمدت إلى استخدام تاكسيات الأجرة، تغير شكلي قليلا ، تركت للحيتي العنان ونزل وزني كثيرا تحولت إلى شبح كالذي أكونه بعد انتهاء معركة إضراب عن الطعام ولا أغير اللون الأسود كفاشستي أو استشهادي يحب أن يعلن عن حضوره، أحاول قدر الامكان أن أكون في التاكسي لوحدي ، وانزل منه قبل وصولي إلى المكان المراد إذا وجدت شارعا يخلو من المارة وذلك لتقليل الخسائر حين يأتي الموت الأعمى ، في الحقيقة هذه الأيام الموت ارحم من النظر في عيني أمي وارحم من رؤية زوجة أخي وأطفاله، كم تمنيت لو كان الصاروخ الذي أصابه من نصيبي، صحيح حوله لأشلاء ولم يبق على شيء في السيارة المتفحمة، غير انه أصابه لوحده، لم يرافقه إلى الموت أحد كما كنت أتمنى، تنقلت خلال الأيام التي تلت استشهاد شقيقي بثقة أن الصاروخ بعيدا عني ليس لأنه يحترم حزني ويرأف بقلب أمي، بل لأنه يريد أن أتجرع اكبر مقدار من الحزن أو أموت حزنا قبل أن أموت به،
كنت في التاكسي بجوار السائق، طلبت منه أن يتوقف لأتراجع إلى المقعد الخلفي محاولا قدر الامكان الابتعاد عن السائق الذي لا يتمنى الموت بآي حال من الأحوال، اعلم أنني لا ابتعد ولكن أريد أن يكون ضميري مرتاحا قدر الامكان، لحظة توقف التاكسي وخروجي منه أتى الصاروخ، شعرت به يضرب التاكسي وأنا ابتعد عن كتلة اللهب ولم اسمع الانفجار، أغمي علي قبله مباشرة، وافقت على انفجار عويل أمي في المستشفى ، يبدو أنني لازلت في هذا العالم . وجدتني مشبوحا ، أنبوب التغذية الإجباري في انفي يسقط سائل في معدتي أو رئتي ، يداي مربوطتان بحبال إلى السقف أو إلى الحائط ، السجانين وممرضي السجن يلتفون حولي ، يحقنونني أو يجرحونني في محاولة كسر إضرابي عن الطعام ، كيف سمح لهم زملائي بسحبي من القسم ، أنا آخر من يتعب آخر من ينهار أنا لا انهار ، كيف أراني مستسلما لا حول لي ولا قوة في عيادة السجن.... فتحت عيناي تبينت هلاوسي وكوابيسي، تبينت أنبوب الأكسجين الذي في انفي، ويداي المربوطتان إلى كيس محلول وكيس دم، ومجسات تربطني الى شاشة جهاز يكشف عن حالة قلبي كما يراه الطب.
أمي تبكي وأخي يسحبها خارج الغرفة، طبيب شاب يهناني بالسلامة لقد نجوت، أردت أن اسأل عما حدث، من مات معي، كم شهيد سقط، كم طفل كم امرأة ... فتحت فمي محاولا الحديث، ابتسم الطبيب: لا تتحدث ، استرح نم قليلا، ونمت قليلا وأكثر قليلا كنت على وشك الانتقال للعالم الآخر، سأرى أخي الذي مات نيابة عني، سأجده باسما يفتح لي ذراعيه: أهلا انتظرك ، لم تغب طويلا ، أجده قد رتب لي متكئا في أخرته ،ويعدني بلقاء قريب مع أبي الشهيد ، سيحتاج اللقاء وقتا ليمر بكل الشهداء على مر السنين حتى يصل أبي الذي استشهد في سنة ال 67، ساطمانه على زوجته وأولاده ، وأقول له أترى لم أتزوجها ، اعلم أنني سألحق بك بعد قليل وأقول له أنني لحين تركي لها تعيش دور أرملة الشهيد وتفتقده وتهرق دموعها على ذكراه، وأهيئ أنا بدوري متكئا لامي التي لن تطيق فراقنا في أربعين يوما. الآن أفيق تماما ، اسأل عما حدث ، عرفت بعد لأي وعدة أسئلة تحمل نفس المعنى أن السائق استشهد واخذ معه ثلاثة أولاد كانوا في طريقهم إلى مدرستهم أو هاربين منها، فأنا كنت أمر في شارع طويل من المدارس ولم أمت.
** أحبها فائرة وكذلك بعد الذروة وهي تفيض ، تكون الرائحة في قمتها والطعم كذلك،هل اشربها الآن أم اتركها تهدا، سأشربها… لا سأتركها، لا أستطيع القرار في فنجان قهوة كيف أقرر لحياتي … يا للارتباك، سأجعل الأغنية القادمة هي الفيصل إن كانت سألتك حبيبي سأشربها وان كانت غيرها سأنتظر، صوت فيروز الرائع في سألتك حبيبي يعطي القهوة عمق مذاقها، ويفعل رائحة الهال الطاغي، لا شيء يساوي دفء القهوة في الفم ودفء الأصابع من الفنجان في صباح بارد نحاول وفيروز التخفيف من كآبته، تنقطع الأغنية وإشارة خبر عاجل تنتهك جو الصباح البارد الذي يبدو انه سيستمر كذلك، قصف سيارة ... اعتدنا ذلك ... في شارع ... يقترب الخطر أكثر..... ، صوت المراسل من موقع الحدث لم نعلم الناشط من يكون ... لا أجرؤ على رشف القهوة أكثر الطعم يزداد مرارة لا أستطيع تجرعها، أصابعي تبرد والفنجان كذلك، ولا اثر لصوت فيروز، احبس أنفاسي بانتظار معرفة الهدف وحالته، يواصل المراسل:السيارة تتفحم أشلاء تتطاير .......... لا أريد السماع أكثر. نجا مرة أخرى، هذه المرة عرفت بخبر النجاة مباشرة ، كان الجميع سعداء من القط و يضحكون ، بقي له خمس أرواح فقط فهذه هي المرة الثانية لمحاولة اغتياله، أما أنا أتخيل المرة الثالثة التي ستكون القاضية ، اشكر الله الذي وفر علي الألم أو اجله إلى حين ، حزنت كثيرا على السائق و الأطفال الذين استشهدوا ،بقي لي الآن أن اقلق على مدى خطورة جروحه هل سينجو تماما أم أن غيابه مؤجل لعدة أيام ، وان نجا هل سيعود الإنسان الذي اعرفه جسديا ونفسيا هل سيكون بكامل قواه دون إعاقة تؤثر على حياته اليومية وأداءه النضالي، اللعنة على النضال ورق السيلوفان الشهي الذي يغلف غياب أحباءنا الأبدي الوجع ،الموت موت ،الغياب غياب،الدموع دموع والحزن حزن ولا يخففه أو يسهل تجرعه تغليفه بورق سيلوفان أو غيره ، هل سيخرج من الموت مرة أخرى سليما نفسيا إلا من حقد يزداد على الاحتلال ،أتراه يسخر الآن من الموت كما يظن الغير أم يزداد قلقا و اقترابا منه و يعيش أسير التفكير في حياته شبه الغائبة ،كيف نواسي الآخر بموته ، كيف نهنئه بسلامة غير مكتملة و الغياب لم يزل شبحه يحوم ويزداد إصرارا ، حتى وان فشلوا هم يقتلون جزءا منه وجزءا مني ، استمتاعه بالحياة وإجباره على التفكير بالغياب وتأجيل أحلامي أو إجبارنا على إلغائها ، فوضى تعم حياتنا ،تخربش مشاعرنا تخلط ألوانها ،هكذا الأمور إذن كنت أراها إما اسود و إما ابيض ولا ألوان بينهما و الآن أراها إما اسود و إما اسود ولا ألوان بينهما،اللعنة على الاحتلال الذي يحدد لنا متى نحب ومتى لا نحب ،اللعنة على الاحتلال الذي يحدد لنا متى نبوح بمشاعرنا ومتى نكتمها ،يبرمج لنا جدول أيامنا يحذف أحلامنا،يزيد قهوتنا مرارة لم نعد ننتشي بها على موسيقى يقطعها خبر عاجل وان كان فشل للاحتلال ، أو شكرا للاحتلال الذي أتى بالمناسبة للاتصال به على غير ما انتظرها ، هذه المرة ستكون فرصة لأبوح، لن ادعها تمر كالمرة السابقة سوف استعد جيدا و أرتب كلماتي و أرتب مشاعري قبل أن أرتب باقة الورد التي أريدها أن تتحدث قبلي وتمهد لي الطريق الشائك إلى قلبه الذي لم اعد أتبين مكاني فيه بوضوح ، آمل أن تكون أصابته خفيفة و أتمكن من زيارته و الحديث إليه مطولا دون تدخل الأطباء.
**
تصادقنا سريعا أنا والطبيب الشاب، بعد انتهاء دوامه كان يأتي إلى يتسامر معي ، قال انه يعرفني جيدا ويسمع بي منذ دراسته الثانوية،ومعجب بي أيضا، وقال ضاحكا انه يشكر الصاروخ الذي مكنه من كسر الحاجز بيني وبينه ، أخبرته انه ليس بيني وبين الناس حواجز و يستطيع أي كان اختراقها ، يأتي لزيارتي الأهل والأصدقاء ويحاولون التخفيف عني ، لا ادري مدى خطورة جروحي لاعرف تسارع تعافي منها ، لا ممرضات كثر يمررن بي ومع ذلك أصبحت مثار تندر الأصدقاء من لحيتي التي صحوت بدونها وبدون الملابس السوداء قالوا أي ممرضة جميلة وضعت لمساتها على لحية كاسترو الخشنة لتصبح بهذه النعومة،أكيد بدون مقاومة قبلت ارتداء البيجاما الزرقاء ، ضحكت بصعوبة الجروح في شفتي ووجهي المخربش تمنعني من الضحك ملء فمي، أعجبني دور المريض الرومانسي ، يعرفون جيدا أنني صحوت هكذا، اقدر لهم محاولة التخفيف عني فهم يعلمون جيدا أن ممرضات هذه الأيام لم يعدن حمامات بإمكاني أن اردد سجعهن كما يقول إبراهيم طوقان، دخل علي الطبيب صبيحة يوم يحمل أصيص ورد ابيض جميل قال لي انه غار دينيا ، شكرته طويلا الورود فعلا كانت جميلة والأصيص رائع ، تلقيت عدة باقات باسم مؤسسات وشخصيات وقيادات ولكن لهذه الورود حضور مختلف ضحك الطبيب ملء فمه حتى شعرت كأنها زلزلا يدك الغرفة، وقال لي ليست مني، أنا اهدي مثل هذا الأصيص لحبيبتي وليس لك اخذ الطبيب يتحسس الأصيص بعمق ويشمه بعمق ويطلق تعليقات أخجلتني وقدمه الي ، قلت ممن قال لا يمكن أن تحصل على مثل هذا الورد ولا تعرف من أرسله او.. او قلت لو كانت باقة تحتوي على فل أو ياسمين أو حتى أوراق العطرة لعرفت ممن ولكن…. قال أنها من الفل والياسمين والعطرة أحضرها الي، بحثت بيدي اليسرى السليمة عن بطاقة المرسل لتؤكد شكوكي لم أجدها ابتسم الطبيب وقال : منها مع تمنيات بالسلامة والشفاء العاجل بقي الأصيص إلى جانبي، أثار ما ظننته خبا في، أنا العاشق السيئ الحظ ، لماذا لم تأت هي حتى بدون أصيص ، وردة واحدة أو عود ياسمين واحد يكفيني ، حضورها بدونهما سيجعلني امشي على قدمي الملفوفة ، ماذا تقصد بهذا ، لو لم ترسل الورد لكان افضل ، لمشيت إلى موتي برضا اكبر وبحزن اقل اتركه بعدي بعد ساعة حضر الأصدقاء وبدأت النكات على الممرضة المفترضة التي تحلق لي لحيتي وتغير بيجامتي ، وتهديني أيضا أصيص غاردينيا ، دخلت نكاتهم منطقة السخافة والابتذال ، وأنا اعلم انهم يقصدونها ويدارون النكات بممرضة يعرفون جيدا عدم وجودها لذلك طلبت من الطبيب أن يحافظ على شفافية الأصيص من نكاتهم البذيئة بان يحفظه في غرفته حتى خروجي من المستشفى. **
دخلت غرفة الأطباء التي أفرغت لأجلي، ذهلت عندما رأيت أصيص الغاردينيا فيه، كانت زهوره لا تزال متفتحة، ورائحة الغرفة تعبق بعبيره، وتغطي على رائحة المستشفى النفاذة، دخل الغرفة ابتسامته ونظرته المندهشة ... لم يكن يتوقع أن يكون الزائر أنا، كان يتكأ على كتف الطبيب، اصفر شاحب هزيل، بيجاما زرقاء خفيفة، ستكون جميلة لو كانت غير ثوب المرض، تركه الطبيب الذي اعرفه والذي أوصل إليه أصيص الغاردينيا ، جلسنا قبالة بعض وعن قرب مد يده إلي التي أخذتها بيدي وبقيت لفترة طويلة اقبض عليها ، لم تكن باردة ولا حرارة فيها ، قال: اها توجد كيمياء تشعرين بها؟ ضحكت وقلت: تفكر بالكيمياء حتى و أنت تموت قال: من قال أنني سأموت، الصاروخ هو الذي مات والذي أطلقه مات غيظا لأنني لم أمت، كنت سعيدة بمعنوياته التي رايتها مرتفعة، طمأنني الطبيب أن جروحه ليست خطرة ويحتاج فقط وقت للتعافي، لم اصدق الطفل الذي أمامي هادئ مستكين كطفل يسرق لحظات يشاهد فيها أفلام كرتون قبل أن يجبر على النوم أو ينعس، قال انه يحب الصاروخ الذي آتي بي إليه ولو انه جعلني أراه ببيجامة مرض زرقاء قلت: أحب أن آتي إليك دائما واراك في كل أحوالك بيجامة مرض زرقاء أو لباس المطارد الأسود سألني لماذا أصيص الغاردينيا قلت:أنت تحب الياسمين وأنا أحب الفل قد تكون الغاردينيا ورد مشترك بيننا قال: أحبها الآن، ولكن لا أسال لماذا الغاردينيا اسأل لماذا الأصيص قلت : اسأله كنت فعلا سعيدة بنجاته وأخبرته أنني أريد أن آتي غدا وكل يوم حتى تخرج من المستشفى -لا، لا تأتي، ها أنت اطمانيت علي - اهاتفك - لا، تعرفين لا رقم لدي الاستقبال الجميل لم أتوقعه، الوداع الفقير لم أتوقعه، حتى كلمة احبك التي ينهي بها أي حوار ويبدأه لم يقلها كنت مستعدة أن أقول أنا أيضا احبك ولكن.... توقعت يدي في يديه وليس العكس، توقعت أن يكون أقوى مكابرا ومعاندا كعادته، يواسيني في إصابته كما واساني يوم استشهاد شقيقه، الصاروخ لم يصبه في جسده فقط ، الصاروخ أصاب ما بيني وبينه. تخيلتني استدرجه في الحديث واعترف له بلهفتي للارتباط به إلى الأبد بكل ما اوتينا من كيمياء وان هذه ليست ردة فعلي على موته ولا هدية نجاته. تركت يده، أجبرت نفسي على الابتسام وأرجو دموعي ألا تسقط، قلت فقط طمأنني عليك قال: سأفعل كلما تسنح الفرصة سيغيب عني ولن يتصل حتى لو سنحت الفرصة، لديه الآن سببان للتمنع :يده التي قرأت يدي وأصيص الغاردينيا.
Feb,2005 يتبع
#سوسن_العطار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحلام بعمر الفراولة
-
برد في أثينا …. مطر على الحاجز
-
حالة فصام – الجزء الثاني
-
قصة قصيرة : حالة فصام
-
شمعتين لياسر
-
قصة قصيرة: سائق تاكسي نزق
-
حياتي التي اعيشها
-
أحلام مستغانمي وأحلام الرجال.... عابرون في خيال عابر
-
قصة قصيرة : شرفة في القمر
-
الكوتا النسائية تمييز ضد المجتمع
-
طفلة في العائلة
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|