|
وطأة العقل العربي
عبدالواحد الفقيهي
الحوار المتمدن-العدد: 3832 - 2012 / 8 / 27 - 18:07
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يبدو أن العقل العربي خلال عقود ممتدة وهو يفكر تحت وطأة مجموعة من الثنائيات التي تخلق لديه توترا عميقا في تنعكس على وعي وممارسة الإنسان العربي: على مستوى الذات: نحن والآخر ـ على مستوى الدين: الإسلام والمسيحية ـ على مستوى الجغرافية الحضارية: الشرق والغرب ـ على مستوى الزمن: الماضي والحاضر ـ على مستوى الانتماء: الأصالة والمعاصرة ـ على مستوى التفكير والسلوك: التقليد والتحديث… أو القدامة والحداثة… هناك رؤى وأطروحات متباينة في مقاربة هذه الثنائيات. هناك من يضعهما على طرفي نقيض برؤية النرجسية: الطرف الأول(نحن الأصالة…) يمثل النموذج والمثال والإيمان والجنة والخير والفضيلة….والطرف الثاني (الآخر المعاصرة…) يمثل الكفر والمرض والنار والرذيلة…إلخ. وهناك أيضا من يضعهما على طرفي نقيض برؤية عقدة النقص: (نحن التقليد والتخلف والانحطاط …)، والآخر/الغرب(النموذج والتقدم والمستقبل…). إن الفكر العربي لم يراوح مكانه بين هاتين الرؤيتين إلا فيما ندر. ذلك أن المنحى الذي يميز الفكر العربي الحديث والمعاصر في مختلف تياراته يميل إلى تقديس النموذجين معا: أي اتخاذهما مرجعا ورافدا يستمد منه الحلول لمشاكل الحاضر والمستقبل. تيارات تقرأ الحاضر بعين الماضي العربي الإسلامي، وهناك تيارات أخرى تقرأه بعين غربية. وإذا كانت العين الأولى تنتمي إلى الماضي العربي الإسلامي كزمن ينتمي إلى الماضي نفسه، فإن العين الثانية تنتمي إلى الماضي الغربي كزمن ينتمي إلى الحاضر ( أليس هناك فجوة زمنية تفصلنا عن حاضر الغرب الذي يتجاور معنا جغرافيا). مشكلة العين الأولى أنها تقع في رأس لا يلتفت إلا خلفه بعيدا. ومشكلة العين الثانية أنها ترفع بصرها إلى السماء. ( هل نحتاج ياترى إلى عين ثالثة؟). العين الأولى استعارت نظارات تراثية لتقرأ بها تراثها وواقعها ومستقبلها في نفس الوقت. هذه العين لا ترى المفتاح السحري إلا في النموذج الديني الذي من شأن بعثه الوصول إلى تسلم قيادة البشرية(سيد قطب). والعين الثانية لن تجد هذا المفتاح إلى في النموذج الغربي الحديث الذي يفرض علينا الواقع تمثله لنعود إلى مسرح التاريخ ونؤدي رسالتنا للعالم ( إلياس فرح). هذان نموذجان نجد نسخا لهما ـ قوية أو باهتة ـ في العديد من الكتابات لأسماء كبيرة تحمل نفس الشعارات. ما الذي تفتقده العينان؟القراءتان؟ الشرط المفتقد هو الاستقلال التاريخي عن النموذجين معا، أي التحرر من سلطتهما المرجعية. والاستقلال عن النموذج العربي الإسلامي هنا لا يعني القطيعة مع التراث، بل مع الفهم التراثي للتراث، وبالتالي ضرورة تبني الفهم الموضوعي للتراث. كما أن الاستقلال عن النموذج الغربي لا يعني رفض كل ما هو غربي، بل يعني التعامل معه نقديا.
في كلتا الحالتين ( الفهم الموضوعي للتراث والتعامل النقدي مع الغرب) يتطلب الأمر توجيه الأعين نحو الواقع كمنطلق لذلك الفهم ولذلك التعامل. لا يمكن السير نحو المستقبل ما لم يتم حل مشاكل الماضي من خلال تحرير البصر من ضبابية رؤية هذا الماضي، وانبهار رؤية الآخر. والمسألتان متلازمتان.
والرؤية الواضحة ( أي القراءة الموضوعية) للتراث تتطلب فصلا مزدوجا: فصل القارئ عن المقروء( بتحقيق الانتقال من التذكر الاتباعي إلى الفهم الإبداعي) وفصل المقروء عن القارئ ( بتحقيق الانتقال من تقديسه القبلي إلى تشكيله البعدي). والرؤية الواضحة ( أي التعامل النقدي) للغرب تتطلب وصلا مزدوجا: وصل الناقد بالمنقود ( بتحقيق الانتقال من الانفعال بقراءته إلى فعل قراءته) ووصل المنقود بالناقد ( بالانتقال من ترجمته التحصيلية إلى ترجمته التأصيلية). في القراءة والترجمة على السواء تطرح مسألة اللغة والتفكير في اللغة. هل يمكن أن نفهم الغرب باللغة العربية أكثر مما يفهم نفسه بلغاته? سأعرض واقعتين: ـ الواقعة الأولى تنتمي إلى الحاضر. تشهد الواقعة على أن الألمان ـ من أجل فهم "فينومينولوجيا الروح" لهيجل ـ لجأوا ولاذوا إلى الترجمة الفرنسية التي أنجزها جون هيبوليت ( بعد قرن ونصف من ظهور الكتاب باللغة الألمانية). لقد تمكنت هذه الترجمة من جعل هيجل يتكلم الفرنسية كي يفهمه الألمان. ـ الواقعة الثانية تنتمي إلى الماضي. وتشهد على أن الفلسفة اليونانية ترجمت في البداية إلى العربية بتوسط من اللغة السريانية وليس عن اللغة اليونانية مباشرة. ولا يمكن التنكر للدور الذي لعبته هذه الترجمات في إغناء وتغذية الفكر العربي. وقد أعاد التاريخ نفسه عندما قامت اللغة العربية بنفس الدور بنقلها الفكر اليوناني إلى العالم اللاتيني. الغرب لم يعرف الفكر اليوناني إلا في ومن خلال اللغة التي كان هذا الفكر يحيا وينتعش فيها. يمكن أن نقدم وقائع أخرى تشهد على قدرة اللغات المترجم إليها على أن تعطي للنص المترجم حياته وتاريخه. إن الترجمة ـ عندما تكون تأصيلية ـ بقدر ما تمنح النص المترجم إمكانات جديدة تكشف في نفس الوقت عن قوة وحيوية اللغة المترجم إليها. بهذا المعنى ليست الترجمة مجرد نقل من لغة إلى أخرى، ليست كتابة ثانية، بل هي تأليف وإبداع…بل يمكن أن تكون أصلا أكثر أصالة من الأصل نفسه. هاهنا تكون الترجمة تأصيلية.
#عبدالواحد_الفقيهي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين وصمة الجنون وسلطة العقل
-
هل هناك كتابة نسائية ؟
-
وعي الحداثة وضرورة التحديث
-
الجنس بين التحريم والكتابة
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|