أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - اختلافات التجربة الإلحادية: بول كليتيور















المزيد.....


اختلافات التجربة الإلحادية: بول كليتيور


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 3830 - 2012 / 8 / 25 - 02:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


((يتساءل الكاتب: إذا كان الملحد هو شخصاً لا يؤمن بالإله، فما هو الإله الذي لا يؤمن به))

ما الإلحاد؟ مع أنّ هذه الكلمة شائعة الاستخدام في اللغة الحديثة والمعاصرة، فأغلب الناس لا يحدّدون ما الذي يقصدونه بهذه الكلمة بالضبط. "فالإلحاد Atheism" له علاقة "بالدين religion"، على الأقل.
كل من يقرأ كتاب وليام جيمس William James (1842-1910) الطليعي الذي نشره عام 1902 ((اختلافات التجربة الدينية The Varieties of Religious Experience)) سيُعجَب بكمية الأفكار الدينية ونوعيّتها الواردة في الكتاب. غير أنّ تلك التشكيلة من الأفكار جاءت عن طريق مفهوم جيمس الواسع والعريض للدين إلى حدٍ معين. فالدين "الجيمسي" يشتمل على كافة الرؤى الأساسية والحيوية للحياة، ومن ضمنها تلك المواقف الفلسفية والإيديولوجية والسياسية. هذه النظرة شائعة بين أوساط أولئك الذين ينظرون إلى الدين من وجهة نظر سيكولوجية أو سوسيولوجية، كما فعل جيمس نفسه. ومن الواضح أنّنا نرصد هذه النظرة في تعريف جيمس للدين على أنّه ((مشاعر، أفعال، وتجارب البشر خلال عزلتهم وانفرادهم مع أنفسهم، على مدى فهمهم وإدراكهم لما هو مقدّس أو إلهي بالنسبة لهم وارتباطهم به)) [1]
إنّ ما أطلق عليه جيمس تسمية "التفاؤل الإيميرسوني Emersonian optimism" و"التشاؤم البوذي Buddhist pessimism" أيضاً يبدي العلاقة بالمقدّس أو الإلهي، لهذا فإنّ هذه المواقف هي عبارة عن مواقف "دينية"، حسب تعريفه:
((لذلك يجب علينا _من وجهة نظر تجريبية_ أنّ نسمّي هذه المذاهب اللاإلهية أو شبهها بأنّها "ديانات"، ووفقاً لذلك عندما نتحدّث في تعريفنا للدين عن علاقة الفرد بما يعتبره "مقدّساً"، علينا أن نؤوّل كلمة "مقدّس divine" بشكل عريض للغاية، على أنّه دلالة على أي شيء "إلهي أو شبيه بالله"، سواءٌ أكان إلهاً مادياً محسوساً أم غير ذلك)) [2]
وهذا ما أوصل جيمس إلى مفهوم عن الدين على أنه ((استجابة الإنسان الكلية تجاه الحياة)) [3]

 ما علاقة تعريف جيمس بالإلحاد
ما علاقة كل ما سبق بالإلحاد. النتيجة واضحة جداً: إذا كان معنى الإلحاد "نفي الدين"، فهذا معناه الانسحاب الكامل للإلحاد من العالم. ويقتبس جيمس مؤكّداً عن أحد زملاءه والذي تحدّث عن أحد طلابه ((الذي كان يظهر حماساً إلحادياً وغراماً شديداً بالإلحاد، فقد كان يؤمن بفكرة عدم وجود الإله، وكان يعبدها)) [4] [الإيمان بفكرة "عدم وجود إله" وعبادتها؟؟؟] هل هذا ممكن فعلاً؟ بالرغم من أنّها فكرة "غير ملائمة"، كتب جيمس يقول أنّ هذا التوصيف للطالب كان مبرّراً على "أسس وخلفيات منطقية".
إنّ توصيف الإلحاد أو عدم الإيمان كنوع خاص أو حالة خاصة بات أمراً واسع الانتشار. روجر سكروتون Roger Scruton، على سبيل المثال، يتحدّث عن "مذاهب أو طوائف cults مثل نوادي كرة القدم، والعروض القربانية كالأميرة ديانا والأولياء والقديسين كليندا مكارتني)) [5] التوجه التاريخي الحالي في مجال حقوق الإنسان يمكن تصنيفه حسب سكروتون على أنّه "الدين العلماني الجديد لحقوق الإنسان"
دين؟!! هل أصبحت الأمم المتحدة عقب إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 شكلاً من أشكال المنظّمات الدينية؟ حسب إستراتيجية جيمس الدلالية فلن تستثني فقط "الإلحاد"، بل أيضاً "العلمانية Secularism". "فالدين العلماني الجديد لحقوق الإنسان" عملياً سيكون رفضاً لأطروحة العلمانية.
بالرغم من أنّ الجميع سيختارون معاني لهذه الكلمة حسب أغراضهم ومقاصدهم الخاصة، إلا أننا يمكننا أن نتساءل عن الحكمة من وراء هذه النظرة الضخيمية لمفهوم "الدين". ألن يكون من الأفضل حفظ هذه الكلمة من أجل التوجّه نحو نوع من حالات "الواقع المتعالي"؟ عندئذٍ لا يكون الإلحاد ديناً، بل "غياباً" للدين. بشكل خاص، الإلحاد إلحاد: فهو رفض لمذهب اللاهوت، ولذي يعني بشكل خاص المفهوم التوحيدي لإله، أو "الله، الرب". (سأستخدم كلمة "لاهوت theism" و "توحيد monotheism" بشكل متبادل هنا).

 مفهوم محدود للإلحاد: نفي التوحيد
يمكننا أن نجد هذا التعريف المحدود للدين عند كتّاب ومفكّرين أمثال إرنست ناجِل Ernest Nagel (1901-1985). ويعبّر ناجِل عن تعريفه هذا في كتابه "دفاعاً عن الإلحاد A Defense of Atheism" (1957) على النحو التالي: ((أنا أفهم "الإلحاد" على أنّه نقد ورفض جميع مزاعم وادّعاءات كافة أشكال اللاهوت)). فالتوحيد وجهة نظر تنصّ على أنّ ((السماوات والأرض وكل ما تحتويه تدين بوجودها وبقاءها لحكمة وإرادة كائن إلهي خارق، مفارق، مُحسن، مستقيم، مطلق العلم والمقدرة، منسجم ذاتياً، وهو متعالٍ، ومستقل عن الأشياء التي خلقها)) يقول ناجِل، مقتبساً عن روبرت فلين Robert Flin، أستاذ اللاهوت والإلهيات في جامعة أدنبرة. إذن فالملحد هو من ينكر وجود الإله الذي يتمتّع بالصفات والخصائص التي ذكرناها. بمعنى آخر: إنّه ينكر وجود "الله، الرب". ونحن نجد هذه النظرة ليس فقط عند ناجِل، بل أيضاً عند روبين لوبوديفي Robin Le Poidevin، دانييل هاربور Daniel Harbour وبول إدرواردز Paul Edwards.
الإلحاد بصفته نفياً للاهوت له منافع كثيرة. ونحن نعلم حق العلم ما الذي نتكلّم عنه، وهناك تراث ملفت ومثير للإعجاب في تاريخ الفكر الغربي يمكن تفسير كمناقشة لفكرة وجود إله بسمات وخصائص محدّدة بوضوح. فالفلاسفة واللاهوتيين العظماء من أفلاطون، عبر أوغسطين، ابن سينا وتوماس أكويناس، إلى رينيه ديكارت، بليز باسكال، وحتى يومنا هذا، ريتشارد سوينبورن، دانييل دينيت، وريتشارد دوكينز، جميعهم كانوا مشاركين في هذه المناقشة التي تتعلّق بوجود إل لاهوتي ذو خصائص وسمات كالتي حدّدتها الكنيسة أو استناداً على تفاسير الكتب المقدّسة (القرآن والكتاب المقدّس). وهذا ليس مجرّد حديث عن المواقف المختلفة التي يتّخذها الناس فيما يتعلّق بـ "النماذج المثالية للحياة" (تعريف جيمس للدين)، بل حول صفات وخصائص الإله اللاهوتي، وإلى أي مدى تتوافق هذه المواقف مع بعضها البعض ومع باقي الأفكار الإنسانية الأخرى. على سبيل المثال:إذا كان الله يعرف المستقبل، فكيف ينسجم هذا مع فكرة أنّنا نمتلك إرادة حرة؟ [شيشرون]. ما الذي كان بفعله الله قبل أن يخلق العالم؟ [أوغسطين]. هل يجب على الله، إذا كان موجوداً في العقل، أن يوجد في الواقع؟ [أنسليم]. هل يمكن لإله مطلق القدرة والعلم أن يكون ملتزماً بالعدل والخير؟ [الغزالي]. وكما يصوغ مفكّر وجهة نظر جديدة لهذه الحجج على النحو التالي: ((إنّ مفكّري الديانات الكبرى الثلاث [اليهودية، المسيحية، والإسلام] لطالما صارعوا المشاكل الفلسفية العامة التي احتاجت إلى حلول إذا كان الفكر اللاهوتي التوحيدي الذي كانوا يبنونه معاً فعّالاً، يتطوّر ليس فقط من خلال براهين معقّدة لإثبات وجود الله، بل أيضاً مفاهيم مفصّلة لخواصّ الله الرئيسية المختلفة: مطلق القدرة [قوّة]، مطلق العلم [معرفة]، خير مطلق، أبدية، ثبات، وهلمّ جرا)) [6]. وهذا يشير إلى أنّ النقاشات حول وجود الله كان في أغلب الأحيان نقاشات حول انسجام الخواص والصفات المنسوبة للمقدّس في التراث اللاهوتي. هؤلاء الذين يقولون أنّ تلك الصفات أو الخواص منسجمة ومتوافقة يطلق عليهم لقب "اللاهوتيين أو الدينيين"، أمّا الذين يرون عكس ذلك فيسمون، "الملحدين".
إنّ رؤية الإلحاد كنفي أو إنكار المفهوم اللاهوتي الديني للإله (الله، الرب) من الواضح أنه أمر مختلف تماماً عن النظر إلى الإلحاد على أنه "رفض جميع الأشياء والأمور الغيبية و الخارقة للطبيعة". تماماً كما يصف جوليان باغيني Julian Baggini الملحد في كتابه "الإلحاد: مقدّمة مختصرة جدا" (2003): ((إنّ رفض الملحد الإيمان بالله يكون مصحوباً دوماً برفض أوسع لأي واقع غيبي متعالي أو خارق للطبيعة. على سبيل المثال، الملحد لا يؤمن عادةً بوجود الأرواح والأنفس الخالدة، الحياة بعد الموت، الأشباح، أو القوى الغيبية والقدرات الخارقة للطبيعة))[7] إنّه يعترف أنّ الملحد على وجه التحديد يمكن أن يؤمن بأي من هذه الأمور الأخرى، لكن، كما يؤكّد، ((الحجج والأفكار التي تدعم الإلحاد وتسنده تميل بشكل طبيعي لاستثناء المعتقدات الأخرى في عالم ما وراء الطبيعة المتعالي)).

 اعتراض شائع جداً
حسب التعريف الأكثر محدودية للإلحاد كرفض لإله التوحيد، فالذين يعبدون آلهة متعدّدة هم ملحدون. فمن وجهة نظر الإلحاد كرفض لفكرة وجود الله، يمكن أن نطلق على الديانات الشركية [ليس المقصود هنا إيراد كلمة شرك أو شركية بمعنى التقليل أو التحقير، بل لأنها المرادف الأصح لكلمة POLYTHEISM الإنكليزية والتي تعني عبادة آلهة متعدّدة _المترجم] لكلٍ من الرومان والإغريق بأنّها "إلحادية"، على سبيل المثال لا الحصر. إنّ تصوير الحقيقة النهائية على أنّها حقيقة لا شخصية (كما نلاحظ في الأوبانيشاد الهندية المبكرة) سيتمّ تصنيفها على أنّها "إلحادية". التيرافادا البوذية واليانية، والتي ترفض أيضاً فكرة الإله الخالق، ينبغي تصنيفها على أنها "إلحادية" حسب هذه النظرة أيضاً. وكذلك مذهب الحلولية أو وحدة الوجود، فهو رفض الإله الشخصي. وسبينوزا كان ملحداً من وجهة النظر هذه، مع أنّه قال أنّ الطبيعة هي الله.
أغلب الناس يرون ذلك لغزاً.
حتى أنّ هناك نتيجة غير مقبولة أكثر لتعريف الإلحاد على أنّها رفض لفكرة وجود الله، وهي أنّ المفاهيم الليبرالية التحررية للمقدّس سيتمّ اعتبارها إلحادية. ليس فقط سبينوزا، بل المعتقدات الدينية لدى رجال الدين المسيحيين المعاصرين كجون روبنسون (1919-1983) وبول تيليش (1888-1965) سيتمّ اعتبارها إلحادية أيضاً. بعض الناس يجدون هذا الأمر متوقع جداً، إن لم يكن عدواني ومهين. والاعتراض العام والشائع هو أنّ هذا الأمر يقدّم أرضية واسعة للأصوليين.
ويمكن استعراض هذا النقد مع الإشارة إلى عمل أحد أفضل ممثّلي التراث التحليلي في فلسفة الأديان المعروفين: الفيلسوف من جامعة أوكسفورد أنتوني كيني Anthony Kenny (1931- ). يقدم لنا كيني خلاصة مشرقة لآراءه حول الدين في كتابه "What I Believe" (2006). كان قد تمّ تعيينه ككاهن كاثوليكي عام 1955، لكنه لم يكن يعتقد أنّ فكرة وجود الله يمكن عرضها وبرهنتها. كانت هذه مشكلة لأنّ مرشّحي العباءات الأسقفية للدكتوراه كان لابدّ أن يقسموا على رفض كافة البدع والهرطقات الحديثة. وقد تضمّن القسم التصريح بأنّه كان من الممكن استعراض مسألة وجود الله. وبعد سنتين من الكهنوتية قرّر أنّه لم يعد قادراً على الاستمرار كمدرّس لمذاهب وتعاليم أخلاقية مشكوكٌ بصلاحيتها وموثوقيتها. فحصل على الإجازة من البابا للعودة إلى الحياة العامية. ومنذ ذلك الحين كان له عدّة مناصب أكاديمية في أوكسفورد. منذ عام 1969 وحتى 1972 ألقى كيني محاضرات في الدين الطبيعي. فقد قام بتحليل العلاقة بين الخواص الإلهية المقدّسة "مطلق العلم"، "مطلق القدرة" و"مطلق الخير والإحسان"، وكتب يقول:
((لقد جادلت بأنّ هذه الخواص الثلاثة كانت غير منسجمة أو متساوقة مع بعضها البعض، كما يمكن أن ترى من خلال الانعكاس على العلاقة بين القدرة الإلهية والحرية الإنسانية. فإذا كان الله مطلق العلم والمعرفة وعلى علم بكل الأفعال والتصرفات الإنسانية المستقبلية، عندئذٍ فالنظرة الجبرية هي الصحيحة. أمّا إذا تخلّص الله من مسؤوليته عن الشرور الإنسانية، عندئذٍ تكون الجبرية خاطئة وغير صحيحة. لذلك لا يمكن أن يكون هناك إله مطلق العلم، والقدرة، والخير)) [8]
خَلُصَ كيني من هنا أنّه لا يمكن أن يكون هناك وجود لما يسمّى "إله الفلسفة السيكولائية أو العقلانية". وبالرغم من ذلك، فإنّ ذلك لم يضعه في موقف الملحد الكلي.
لما لا؟ يجيب كيني: ((تركت السؤال مفتوحاً على احتمال ما إذا كان من الممكن الاقتناع، والإيمان في، إله معرّف عن طريق ألفاظ ومصطلحات ليست مطلقة)). هل ذلك موقف معقول يمكننا اتخاذه؟ لا، ليس كذلك من وجهة نظر الإلحاد كنفي لفكرة وجود الله. (مع أنّ بعض العلماء يزعمون أنّه يمكن للإنسان أن يتمسّك بالإيمان بالله ويرفض فكرة وجود إله مطلق القدرة). يبدو أنّ كيني يعتقد أّنّه رفض إله الفلسفة السيكولائية أو العقلانية، لكن هل هذا صحيح؟ أليس يفعل ما هو أكثر من ذلك بكثير؟ أنا أعتقد أنّه فعل. لقد رفض فكرة الإله التي جرى الدفاع عنها من قبل الكنيسة على مدى عصور طويلة، وأيضاً، كما كنت أميل بدوري للاعتقاد بالإله كما يظهر لنا في بعض الآيات والمقاطع من الكتب المقدّسة.
سواءٌ كان ذلك الزعم الأخير يعتمد طبعاً على السؤال ما إذا كانت خواص الله كما دافعت عنها الكنيسة لها ركيزة قوية ومتينة في الكتاب المقدّس. هل صحيح أنّ الإنجيل يعطينا صورة عن إله شخصي مطلق العلم، مطلق الخير، ومطلق المقدرة _أو أنّ الله هو اختراع الفلسفة السكولائية والعقلانية، كما افترض كيني؟
انطباعي هو أنّ الكنيسة تقف على أرضية أكثر ثباتاً هنا من علماء الدين الليبراليين الذين يريدون الاعتراف. أنا أعتقد أنّ السمات والخواص التي نسبتها الكنيسة وآباؤها والفلاسفة السكولائيين لله لها ركيزة متينة وثابتة في الكتاب المقدس. فالإنجيل لا يقدّم لنا إلهاً غير شخصي محدود في قو!ته، على سبيل المثال.
الشخص الذي يؤمن بإله يمتلك الخواص والصفات التي وردت في الأعلى يعتبر غالباً "متديّنا أو مؤمناً". هذا أمر لا خلاف عليه. فالتناقض يتركّز حول الملحد. ماذا نطلق على شخص لا يؤمن بذلك المفهوم المحدّد لله؟ أحد الأجوبة المعقولة، كما يبدو لي (حسب كل من هاربور، ناجِل، لو بوديفي، والعلماء)، هو "ملحداً". لذلك يبدو لي أنّ كيني هو شخص ملحد من هذا المنظور.

 تعريف أوسع للإلحاد
ليس فقط المؤمنون وحدهم يشعرون بقليل من الراحة مع هذا التعريف المحدود للإلحاد، بل أيضاً الملحدون الذين يعلنون إلحادهم أيضاً. غالباً ما يتمّ تمييز الإلحاد بطريقة واسعة. مايكل مارتن Michael Mrtin، أحد أهم الكتّاب المعاصرين في الإلحاد، يكتب قائلاً: ((الإلحاد في معناه الأوسع، من اللفظتين الإغريقيتين "بدون without" و "ثيوس theos =إله"، يشير قياسياً إلى نكران وجود إله أو أيٍ من الآلهة)) _أي إله أو آلهة. الإلحاد لا يشير فقط إلى نكران إله التوحيد، بل إلى نكران إله اللاهوت الليبرالي وآلهة الشركية والتعددية أيضاً.
ليسلي ستيفن Leslie Stephen (1832-1904) كتب يقول: ((الإلحاد الدوغمائي _المذهب القائل بعدم وجود إله، مهما كان معناه_ يمكن القول أنّه، على الأقل، مرحلة نادرة من الآراء". من الصعب جداً التثبت من كونها نادرة طبعاً، لكن يبدو من الحمق إنكار وببساطة وجود الإله مهما كانت ماهيته أو شكله: بدلاً من ذلك، نحن نحتاج أولاً أن نحدّد ما المقصود بكلمة "إله" _لنقل، "كائن شخصي مبدع وثابت ذاتياً". من الحماقة إثبات وجود إله لا نعرف عنه شيئاً_ غير المحدّدة أو المعرّفة بشكل كامل. أو دعوني أقول أنّ مناقشة مسألة وجود إله لا يمتلك أيّة خواص، أو ذو خواص غامضة للغاية أو من غير المقرّر معرفتها، يدلّ على أنّ تأكيد وجود مثل هكذا إله سيكون أمر بلا جدوى كإثبات عدم وجود هكذا إله. رجل الدين المتحرّر الذي يترك احتمال وجود هكذا إله غير محدّد أو معرّف مفتوحاً فهو يفعل ذلك بشكل طبيعي، لكنّ هذا الموقف أكثر إشكالية، كما أنّه بديهي أكثر بعض الشيء، أكثر بكثير ممّا يفترض.
التعريف الأوسع للإلحاد كإنكار أو رفض أي كيانات غيبية ما ورائية، كما جرى تبنّيه من قبل كل من مايكل مارتن، جورج سميث، وآخرين، له أضرار واضحة جداً: إذ ليس من الواضح ما إذا كانت هناك استراتيجية جدلية واحدة يمكن توجيهها ضدّ جميع الأفكار المختلفة عن الله. فعندما يقول أحدهم: ((أنا أعتقد أنّ بوسيدون قد أنقذ السفينة))، فليس من الواضح تماماً كيف يمكننا "إثبات" أنّ السفينة قد أنقذها بوسيدون أم أنّها نجت بفعل عوامل طبيعية. أو إذا قال أحد أتباع سبينوزا: ((أنا أعتقد أنّ الله والطبيعة هما نفس الشيء))، فكيف يمكننا تفنيد ذلك؟ مهما كان رأينا في هذين التصريحين الدينيين، من الواضح أنّ إنكار الشرك (بوسيدون ينقذ البحّارة) أو الحلولية أو وحدة الوجود (سبينوزا) يتطلّب حجة من نوع مختلف تماماً عن تلك المتبّعة في إنكار الإله بالمعنى الكلاسيكي الأرثوذكسي. إنّ النقاش حول استحقاقات الإيمان بالله الكلاسيكي وميزاته تمضي طبقاً لنمط الفلاسفة الكلاسيكيين، فبعضهم يحاول الدفاع عن الـعدالة الإلهية (مثل لايبنتز)، آخرون يحاولون مهاجمتها (مثل هيوم، على سبيل المثال). [ الـعدالة الإلهية Theodicy.... هي محاولة عقلنة خير الله المطلق وقدرته المطلقة في عالم شرير مليء بالألم والمعاناة].
أنا أعتقد أنّ جورج سميث يقف على أرضية أكثر صلابةً عندما يقول أنّ بعض اللاهوتيين تمّت تسميتهم "ملحدين" لعدم إيمانهم بإله (أو آلهة) "الأكثرية الأرثوذكسية". وهذا يركّز على التعريف الأضيق للإلحاد. والأمر هو نفسه عندما يكتب مارتن قائلاً: ((في المجتمع الغربي تمّ استخدام مصطلح الإلحاد غالباً للإشارة إلى إنكار اللاهوت ورفضه، وبشكل خاص اللاهوت اليهودي-المسيحي. هذا [اللاهوت] يتمثّل في الموقف القائل وجود كائن مفارق متعال كلّي العلم، كلي القوة، وكلّي الخير وهو خالق الكون، والذي يهتمّ كثيراً بالشؤون البشرية، ويرشد مخلوقاته عن طريق الوحي)) [9] كما أنّ تيار الإلحاد الجديد الذي يقوده كل من دوكينز، هاريس، هيتشنز، ودينيت هو أساساً إلحاد ينكر فكرة وجود الإله، أي أنّه، ضدّ إله التوحيد الكلاسيكي. ويوضّح دوكينز ذلك بجلاء عندما يكتب عن ما يسمّى "دين" ألبرت آينشتاين، على سبيل المثال. آينشتاين لم يكن مؤمناً بـ"إله شخصي". "فدينه" قائم أساساً على _ومعرّف من خلال_ ((التقدير والاحترام اللامحدودين لبنية العالم طالما أنّ العلم قادر على الكشف عنها)). لكن إذا كان هذا "ديناً"، عندها يكون دوكينز "متديناً" أيضاً.
إنّ جيمس والعديد من أتباعه المعاصرين له قد يعرّفون مفاهيمهم كما يشاؤون، طبعاً، لكن مرةً أخرى، من الواضح أنّنا نحتاج إلى كلمة خاصة تشير إلى إنكار الفكرة الأرثوذكسية للمقدس والتي تشير إليها الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية وتتشاركها: فكرة الله-الرب. ومصطلح "الإلحاد Atheism" لا يبدو خياراً سيئاً لهذه الكلمة.

البروفيسور بول كليتيور Paul Cliteur أستاذ القانون في جامعة لايدن بهولندا. كتابه القادم عنوانه ((النظرة العلمانية: دفاعاً عن العلمانية الأخلاقية والسياسية))
The Secular Outlook: A Defense of Moral and Political Secularism (Wiley -Blackwell, August 2010).
The Varieties of Atheist Experience
عن موقع الفلسفة الآن http://www.philosophynow.org
***************************
الهوامش
[1] اختلافات التجربة الدينية: دراسة في الطبيعة البشرية
The Varieties of Religious Experience: A Study in Human Nature, Penguin edition, p.31
[2] السابق، صـ 34.
[3] السابق، صـ 35.
[4] السابق، صـ 35.
[5] الندم اللطيف: أفكار وخواطر من الحياة، صـ 232
Gentle Regrets: Thoughts from a Life, 2005, p. 232
[6] أندرو بيسين، سؤال حول الله، صـ 20
Andrew Pessin, The God Question, 2009, p.20
[7] Julian Baggini, Atheism: A Very Short Introduction (2003), p.4.
[8] ما أؤمن به، أنتوني كيني، صـ 8.
[9] موسوعة الإلحاد الجديدة، مادّة (Atheism)، صـ 88
‘Atheism’, in The New Encyclopedia of Unbelief, edited by Tom Flynn, 2007, p.88



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإله: الفرضية الخاطئة
- فيروس الإله [4]
- فيروس الإله [3]
- فيروس الإله [2]
- فيروس الإله: مقدمة
- فيروس الإله [1]
- القرآن في الإسلام (بحث في معصومية القرآن وموثوقيته)
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 3 ترجمة: إبراهيم جركس
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 2
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 12 ترجمة: إبراهيم جركس
- المأزق الأخلاقي للحروب
- القرآن المنحول [1]
- التاريخ النصي للقرآن (أرثر جيفري)
- الله: فيروس عقلي مميت [2]
- الله: فيروس عقلي مميت [1]
- قفشات -أمّ المؤمنين-: هنيئاً لكم
- الفكر الحر في العالم الإسلامي ونظرية صراع الحضارات
- قصة جين الحرية: أميل إيماني
- الدين السياسي: بديل عن الدين، أم أنه دين جديد؟
- من هم مؤلفو القرآن (4)


المزيد.....




- طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال ...
- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - اختلافات التجربة الإلحادية: بول كليتيور