|
المرأة التي اعتزلت سماءها ظهيرة صيف
أمل جمعة
(Amal Juma)
الحوار المتمدن-العدد: 3828 - 2012 / 8 / 23 - 15:55
المحور:
الادب والفن
فشلت تماماً في إغراء القطة الصغيرة لتشرب بقايا الحليب البارد الـمتموج في صحن أزرق، كانت تنظر إلي بتوجس طفولي غريب وتموءُ باحتجاج ظاهر، ليلاً زارتني القطة متلفعة بشال ازرق كبرت ونمت بسرعة فائقة، رمت لي بالشال الأزرق ومضت صامتة. حاولتْ طفلة الجيران ــ تلك التي تتوسّد حديد نافذتها كل صباح ــ مناجاة قطتّي الغاضبة وعصافير الدوري بمرح، دعتّها لتقترب بيدها الـممتدة بقطعة خبز، ولكن العصافير تخاف سياج النافذة الحديدي فتقوم بمحاولات مجنونة وبلهاء لتفوز بالخبز دون جدوى. تُلقي الطفلة سريعاً خبزها وتلحقُ بصوت أمها وحافلة مدرستها ــ يا إلهي تزعق بلا توقف. الطفلة ترفض الحديث معي وأفشل في انتزاع ابتسامة صغيرة منها، تنسحبُ بهدوءٍ إذا لـَمحتْني، بل أكثر ،تضعُ كفيّها على وجهها حتى لا أراها. قابلت أمها مصادفةً، فأرسلت إليها بعض قطع الشيكولاته ،قلت لها واثقة: "ابنتك لا تحب ساندويشة اللبنة وتلقي بها للعصافير كل صباح". لست أدري لـماذا تُصر جارتي كل مرة أن لا طفلة لديها وهي لـم تتزوج حتى ألآن تكذب جارتي بوقاحة، لكنّني أعذرها فربما تخاف الحسَد، وحتماً تشارك طفلتها الصغيرة القطيعة معي. جارتي أيضاً لا تعترفُ بوجود قطة صغيرة تموءُ كل صباح، وهي لا تعرف عصافير الدوري، تقول إن كل ما يزعجها هو النمر الغريب الذي يتجول بلا توقف، وتشكو خلو غرفتها من نافذة تمنحها بعض الفضاء. رغم جدلنا العميق لا أكره الجارة ولا تكرهني بل نحن في وعدٍ منذ سنوات خمس لاحتساء القهوة في حديقتها. سلـمني جابي شركة الكهرباء فواتيرَ كثيرة للجارة قال إنها ترفض أخذها تقول كلـما شاهدتها عبر النافذة لا يوجد لدي اشتراك أبداً مع هذه الشركة، ولكنها تضحكُ وتجددُ الوعدَ بشرب القهوة ــ لطيفة هي رغم ذاكرتها الغائبة ــ صرتُ أدفع فواتيرها فهي بلا شك تخاف العتمة. أراها كل مساء تشعل غرف بيتها الفسيح جميعاً وممراته الخارجية وتكاد تجن إذا انقطع ضوء الشارع العمومي. أخاف أن تفزع طفلتها الصغيرة وتصرخ في الليل /بصراحة أكثر أخاف الصراخ ولا أحتمله ليلاً لذا أتحمل عنها فواتيرها. اليوم، قدم لبيتي شرطي يطالبني بالتوقف عن الغناء ليلاً فالناس صارت تتجمع تحت نافذتي وتردد معي أغاني صاخبة ثم تقذف بعضها بالحجارة، يقول أن الأمر لـم يعد محتملاً فلقد تهدم برج الرادار مرتين وصار صعباً عليهم مراقبة السائقين الـمخالفين، وقرر مديرهم طردهم نتيجة الفوضى وحوادث السير الـمتكررة. حزنت كثيراً عندما بكى الشرطي وهو يسألني ماذا يفعل إذا طردوه، فهو يحب زيه البنفسجي ولا يستطيع تحمل الألوان الأخرى وبالتأكيد لن تطيعه زوجته وأطفاله وسأتحمل أنا شخصياً انهيار الوضع الأمني وتعليق ألانتخابات كان يصرخ بهبل : "هل رأيت في حيواتك جميعاً انتخابات بلا شرطة وبلد برادار معطل". سأذهب الليلة لحضور جنازة وسأمتنع عن الغناء مدة ساعتين فأنا مشغولة برتق كومة من الـملابس (عقوبتي الـمدنية)وأن أخيط ما تمزق من ملابس الـمارة وهم يستمعون لصوتي. بصراحة أحب الخياطة وأستمتع كثيراً باستخدام المقص لكن القاضي الذي عرضوني عليه آخر مرة قال إنني لـم أتقيد بشروط العقوبة وإنني قصصت كل بنطلونات الرجال وفساتين النساء فصارت لا تغطي ركبهم قال القاضي بدفء وصبر :"يا ابنتي هل رأيت أحداً في حيواتك الـمختلفة يكشف ركبتيه؟" ــ ولكن يا سيادة القاضي كل الناس بلا أرجل فلـماذا نترك ملابسهم تتلطخ بتراب الشارع أجبته. صرخ القاضي : أرجل ! ماذا تقصدين هل تهزئين بي؟ هل ضللت الطريق إلى هذا الحد ؟ الـمشكلة أن القانون يمنعني من الصراخ ويمنعني من البكاء والقهقهة خلال ساعات الدوام وعلي أن أبتسم فقط، سأقول لك سراً، يضحكني كثيراً منظر الـملابس الـمقصوصة لدرجة أنني أدخل الحمام وأضحك بشكل هستيري. ولكن أنت فقط بلا أرجل يا صغيرتي عليك تجاوز محنتك والاعتراف بعجزك. مجنون هذا القاضي، كل صباح أشاهد ساقي وأرطبهما بكرم باذخٍ بكريم من عجين ألياسمين، وأحسهما تتلاطمان وأنا نائمة ، اشتريت لهما البارحة زوج أحذية بكعب مريح ومنحتني جارتي جوارب شفافة فكيف أكون بلا ساقين ؟ نائمةُ أنا الآن على سرير بأرجل عالية وبجانبي زهرية بها ورد بنفسجي ذابل تقول الـممرضة إنني لـم أتوقف عن الثرثرة خلال التخدير، وتقول إنني عضضت الطبيب بيده رغم أن جسدي مخدر. أقسى ما حكتّه لي الـممرضة كان بخصوص أظافري التي تكسّرت وأنا أخربش بها فوق جسدي ووجهي وتركت جروحاً في وجوه الـممرضات أيضاً. لست أتعاطف مع الـممرضات بالطبع ولكن فعلي الأحمق ترك ندوباً على ما تبقى من جسدي السليم. جسدي السليم! يقول لي الطبيب إنني تجاوزت مرحلة الخطر، وكنت أشرس مريضة تقاوم التخدير وترفض الاستسلام لـمشرطه، وعلي أن أتجاوز محنتي فالحياة تنتظر. تنتظر...! يقولها بثقة جعلت بي رغبة في أن أجمع بصاقاً من ريقي الجاف وأقذفه في وجهه ولكنني تريثت قليلاً، يجب أن أكون في وضع أفضل أستطيع معه التصويب بشكل دقيق. لـم أرغب يوماً في أن أكون طبيبة بل هي الـمهنة الوحيدة التي كنت أبعدها بشكل حاسم عن حياتي طوال الوقت، وأتخيل أنني كنت سأرفض الزواج من طبيب لو تصادف وأحببت أحدهم مرة. دوماً شعرت بخوف من العابثين بجسدي هؤلاء (الأطبة) وتحايلت كثيراً للهروب منهم والاختباء تحت الطاولة أو الفرار بلا تبرير، كما فعلت مرة بطبيب ألأسنان دس إبرته البغيضة في فمي وقبل أن يكمل غسيل يديه كنت في الشارع العام، أركض بلا توقف. ومرة ثانية نزعت الجبيرة التي قيدت بها ساقي وألقيتها قبل اليوم الثالث. هل يعقل أن أحتمل خمسة عشر يوماً دون أن أرقص؟ إصرار طبيب الـمختبر القذر على أخذ عينة دم من وريدي كان أقصى ما واجهني، رفضت الاسترخاء كما طلب ولـم يستطعْ بعد جهد إلا إسقاط قطرة واحدة صرخ بي: "دَمُك بخيل". مع ذلك عدت إليه بعد سنوات لأقوم بفحص دمٍ جديد كنت أكثر هدوءاً ولـم يتعرف إلي ولكنه كرر ذات ألعبارة "يا إلهي كم أنت بخيلة بالكاد أخرج منك قطرة دم". رفستُ بقدمي الـمتأهبة يديه فطارت العينة في الهواء وسقطت أرضاً ملوثةً وجه مساعدته، تطاير شرر من عينيه الزرقاوين وكتب في تقريره تحتاج إلى مستشفى مجانين ولدرس في الكرم، مع ذلك انفجر ضاحكاً وطردني من عيادته. لـم أيأسْ وعندما طُلبَ مني فحص دم جديد _ يصر الأطباء على انتزاع قطرات دمي _ ذهبت إليه، بقي محدقاً في أوراقه دون أن ينظر إلي، كان قد فقد ذاكرته تماماً ولـم يعد يعمل ومع ذلك يأتي لـمكتبه كل صباح وأطنان من الغبار تغطي أدواته الغريبة، كان يستمع لأغنية بالفرنسية. قال:"تشبهين فتاةً كان من الـممكن أن أحبها لولا فرارها قبل سنوات من عيادتي". تمسُ يدي صدري فتصدمان بشاش أبيض أحاول نزعه بشدة لكن الـممرضة ذات الوجه الـمخدوش تصفعني بقوة وتطلب مني التوقف. كانت تهمهم لقد ضربني البارحة وطلب مني إجراء عملية تجميل لوجهي علّني أشبهك قليلاً، وهجمت لتشوه وجهي الجزء الوحيد السليم... أنزع بقوة قيود صدري وأرى كفيّ ملطختين بالدم. يا إلهي، تحملُ الكثير من الدم جثة الـممرضة الجبانة، لطختْ وجهي وصدري وبطني وصبغت شعري بلون نبيذي. حبتّان من الرمان في صحن أزرق تقدمهما لي جارتي الحمقاء ،ولكن لا تسمحُ لي بدخول بيتها لأقبّل طفلتها وأعطيها قطع الشيكولاته. تقول: إن الجو حار جداً ولا يناسب شرب القهوة. في الشارع سقطَ الصحن الأزرق وتدحرجت الرمانتان يتبعهما خطُّ من اللون ألأحمر. الشرطي نفسه قدمَ هذه الـمرة لبيتي بملابس بيضاء ،قال إن زيّهم تغيّر وصار حاسماً وإن قيادته اختارت اللون الأبيض حتى تتأكد من نصاعة ملابسهم، أخبرني أن القاضي اعتزل البارحة فهو لـم يجد في نصوصه عقوبات جديدة لـما أقترفه من مخالفات تفوق ما تحمله دساتيرهم. كنت أغطي حبات الرمان الـمفلوقة بشاش رقيق صرخ فجأة: "زوجتي تريد بعض الرمان". وبكلّ ما أوتيت من قوة قذفته بحبات الرمان ولطخت ملابسه البيضاء، تبعثر خرز أحمر في الشارع العام وتعطلت حركة الـمرور. حبسوني هذه الـمرة في قمة جبلٍ عالٍ أسمع في ظلام غرفتي صوت خرير ماء، وربما كان صوت الـمطر، يقولون إن جميع الـمارة تزحلقوا بخرزي الأحمر وكسرت أقدامهم وتم طرد الشرطي الـمسكين من الخدمة لقذارة ملابسه، أما القاضي الجديد فكان خبيثاً بما يكفي لرفض ملف التهم الطويل ضدي، وطلب من مساعديه تمزيق كل ما يخصني وحذف اسمي من الأرشيف واستبدال رقم بطاقتي الشخصية واسمي الرباعي باسم آخر... . ومع ذلك أنا سعيدة جداً بغرفتي الصغيرة وأحاول تجميع الرمان الـمفروط أمامي ونظمه في عقد طويل لا ينتهي سأربط به ــ بعد انتهاء أسري ــ نافذتي بنافذة الجارة، وأتسلل لـمطبخها أعد القهوة وأفاجئها فتخفي صدرها العاري من هول الصدمة وتدس حبتي رمان في صدرها الـمبتور، أضحك لأن الحبتين غير متوازنتين حجماً، وتبكي لأن طفلتها ماتت ذاك الصباح على سرير أبيض في مشفى بعيد، هل جعلت القهوة شديدة الـمرارة كما أحبها؟ تقول وهي تلقي بثوبها الفضفاض على جسدها. أغافل الـممرضة شبه النائمة بثوب أحمر أنزع بقوة الشاش الأبيض عن صدري وأركض في الشارع، أركض وأركض، أنفض قطرات الـماء الـمتجمعة في تجويف صدري وأركض. -------------------------------------------------------------------------------------------------- لروحيهما، إيمان ورماح، الصور الـمفقودة من ألبوم زميلات الـمدرسة، والضحكات التي سكتت قبل الأوان، إيمان رحلت في منتصف العام الدراسي في الصف الأول، ورماح أجمل زميلات الدراسة رحلت بكامل مشمشها العام الـماضي.
#أمل_جمعة (هاشتاغ)
Amal_Juma#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وكوكب أيها الشامخُ تُهديك السلام
-
مهمّات نَهاريّة
-
الغياب
-
الرائحةُ العالقةُ بيننا
-
ذاكرة المرايا
-
سأموت فيما بعد
-
المتسولة
-
العاشِقات
-
مات أبي
-
كوابيس بأخطاء نحوية فادحة
-
في صباح حار
-
أرتجلُ الحب
-
كأنها قلادة من الماس
-
إعتزال
-
سِر الغَجرية
-
تلك الأشياء الصغيرة
-
الذي لا يأتي
-
ندم الخميس
-
الطائرة ألقت بكومة رسائلي
-
نص - مملكة اليمامات
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|