|
هوامش على -لغتنا والحياة- ل عائشة عبد الرحمن -بنت الشاطئ-
داود روفائيل خشبة
الحوار المتمدن-العدد: 3819 - 2012 / 8 / 14 - 14:39
المحور:
الادب والفن
هوامش على "لغتنا والحياة" لـ عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ"* داود روفائيل خشبة
"لغتنا والحياة" كتاب لـ عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" (1913-1998) كنت أحتفظ به فى مكتبتى منذ سنين عديدة لكنى لم أقرأه إلا أخيرا. ولسنا فى حاجة لتوكيد أستاذية عائشة عبد الرحمن وتبحّرها وتفقهها فى دراسة اللغة العربية والأدب العربى، وهى إلى جانب ذلك متزنة الفكر واسعة النظرة، تبرأ من كثير من التزمّت والجمود الذى يعيب الكثيرين ممن يتصدّون لمناقشة قضايا اللغة العربية. لكنى مع ذلك لم أجد الكتاب يبلغ ما توقعت من ثراء وعمق. وإنى أعزو ذلك لعاملين أساسيّين: الأول أن إيمان الكاتبة بقدسية القرآن وكماله المطلق يشكـّل قيدا صارما على توجّهها نحو اللغة العربية ويجعل انفعالها باللغة العربية مرتبطا تماما لا بعقيدتها الدينية فحسب بل – ما هو أخطر – بوجدانها الدينى. والعامل الثانى أنها، فى معالجتها لقضية العامية والفصحى، وكنتيجة طبيعية لارتباطها بلغة القرآن، يغيب عنها أننا هنا بإزاء قضيّتين متميّزتين لا قضية واحدة: قضية العامية والفصحى من ناحية وقضية اللغة الحديثة واللغة القديمة من ناحية أخرى. الواقع أن الإيمان المطلق بقدسية القرآن والتسليم غير المشروط بالإعجاز اللغوى للقرآن يكبّل تفكيرنا فى مشكلة اللغة إلى جانب ما يفرضه من انغلاق وجمود على تفكيرنا فى كل المجالات: الدين والعلم والاجتماع والسياسة والتربية وغير ذلك. لقد أصبح القول ببلاغة القرآن وإعجازه أشبه بالبديهيات التى لا تقبل المساءلة بل لا تستدعى حتى مجرّد النظر. وبالطبع فإن فى بعض القرآن شىء من البلاغة. ولكن أىّ بلاغة تلك؟ لقد جاء القرآن فى وقت كان للعرب فيه شعر لكن لم يكن لهم بعد نثر أدبى، وكان القرآن رائدا فى هذا المجال، فجاءت لغته وسطا بين الشعر والنثر. وكانت السور المكية الباكرة انبعاثات عفوية تلقائية من نوع ما يعرفه كل شاعر وكل كاتب، وكانت القافية تتحكم فى مضمون تلك الانبعاثات العفوية. ولو أننا رتبنا سور القرآن ترتيبا زمنيا (وهذا أمر تكتنفه صعاب كثيرة، لكن يمكننا أن نصل إلى ترتيب تقريبى) وقرأناها متتالية، لربما أمكننا أن نميّز فيها مراحل يظهر فيها تطوّر الأسلوب واضحا جليا. فى السور المكية القصار حيث يغلب الإيقاع على المضمون قد نعجب بجمال العبارة وحيوية الصورة، وليس هذا بالأمر المستغرب. لكننا حالما ننتقل إلى السور المدنية، حيث يتغلب المضمون التشريعى والتنظيمى والاجتماعى، نلحظ ضعف الصياغة والخلل فى تركيب العبارة، حتى إنك لا تكاد تجد آية يزيد عدد كلماتها عن خمس أو ست كلمات دون أن تجد فيها شيئا من الاضطراب. فبلاغة القرآن بلاغة نص رائد، فيها قوة وفيها ضعف، وفيها عيوب. وفى النص أخطاء يمكن لغير المسلم أن يلتمس لبعضها الأعذار بأن يعزوها لطريقة الجمع والتدوين ولسهو وخطأ الناقلين، لكن المسلم التقليدى يوصد على نفسه هذا الباب. لا أريد أن أطيل فى التعليق على موقف عائشة عبد الرحمن من بلاغة القرآن، فإيمانها بأن القرآن هو كلام الله يحول بينها وبين النظرة الموضوعية، حتى أنها تتحدّث فى انبهار عن اللغة العربية التى أعدّها الله لتلقى كتابه فجعلها تمرّ "فى قديمها بمراحل تهذيب وصقل وتصفية وانتقاء، حتى بلغت مستوى عاليا من دقة الدلالة وإحكام الصياغة والتعبير" .. "واستقرت على ضوابط للتأنيث والتذكير، وللإفراد والتثنية والجمع" (ص.43)، وهى تعجب "أن يكون للغة بادية فى العصر الجاهلى، ومع العزلة النسبية، مثل هذه الضوابط والقوانين التى تسامى بها أرقى اللغات الحديثة" (ص.47)، وكأن اللغة العربية وحدها انفردت بكل ذلك فلم تعرفه أكثر اللغات بدائية، بل إن تلك الضوابط والقوانين قد تكون مما يميّز اللغات فى بداوتها قبل أن تتطوّر. أكتفى بهذا فى هذا الجانب لأنتقل إلى سواه. موقف عائشة عبد الرحمن من قضية العامية والفصحى موقف يتسم بالتعقل والاعتدال والانفتاح، على خلاف مواقف الكثيرين سواء من المتزمتين الذين لا يرضون بأن يكون للفصحى منافس، أو من غلاة الداعين للعامية. فعائشة عبد الرحمن تقرّ فى أكثر من موضع بأن ثنائية العامية والفصحى لا ينفرد بها عصرنا ولا هى قاصرة على اللغة العربية. فكل اللغات نجد فيها لغة يتكلمها الناس فى مجريات حياتهم العادية ولغة أرقى لمناقشة الأمور الجادة؛ والعرب على امتداد تاريخهم وحتى فى عصر ظهور الإسلام كانوا يستخدمون مستوى أدنى ومستوى أرقى من اللغة حسب مقام الكلام. وعائشة عبد الرحمن لا ترى بأسا بأدب العامية بل تقدره وترحب به ولا تجد غضاضة فى وجوده جنبا إلى جنب مع اللغة الفصحى. هذا، كما قلت، موقف عاقل معتدل منفتح، لكنه يخفى فى طيّاته خلطا بين قضية العامية والفصحى من ناحية وقضية القديم والحديث فى اللغة من جهة أخرى، وهذا خلط يشارك فيه بعض المدافعين عن العامية فى مواجهة الفصحى. هذه القضية الأخيرة هى الأهم والأخطر فى نظرى. لغتنا التى نستخدمها اليوم، فى الكلام وفى الكتابة، هى لغة جديدة؛ جديدة بتراكيبها وقواعدها ومفرداتها؛ هى غير لغة القرآن وغير لغة الجاحظ وحتى غير لغة رفاعة الطهطاوى، لأن اللغة كائن حى يتغيّر ويتطوّر، ولأن اللغة انعكاس للفكر والفكر منظومة مفاهيم لا مفرّ من أن تنمو وتتطوّر وتتغيّر ما دامت الحياة تنمو وتتطوّر وتتغيّر. المشكلة أن أكثر المدافعين عن الفصحى يقصدون بها لغة مضت عليها قرون وقرون ويظنونها ثابتة دائمة على حال واحدة. وكذلك عائشة عبد الرحمن، فعلى الرغم من اعترافها وقبولها باكتساب اللغة مفردات جديدة واكتساب المفردات القديمة معانٍ جديدة، فإنها لا تعترف بلغة عربية غير لغة القرآن؛ قد تكون لهذه اللغة لهجات وأساليب ومستويات مختلفة، لكنها لغة أصيلة واحدة لا تتغيّر ولا تتبدّل ولا نقص فيها. حين تناقش الكاتبة مشكلة تعليم اللغة العربية فى مدارسنا تقول كلاما حصيفا كثيرا وتبدى ملاحظات ما زلنا فى حاجة لأن نستوعبها (انظر مثلا حديثها عن بلوى اللجان المبتسرة التى نشكلها لتطوير التعليم، ص. 189 – 191)، لكنها حين تنكر إرجاع المشكلة إلى اختلاف اللغة التى يتكلمها الطفل عن اللغة التى يٌراد له أن يقرأ بها وأن يكتب بها، فإنها تغفل أن اللغة التى يتكلمها الطفل تختلف بالفعل عن لغة القراءة والكتابة، لا من حيث الأسلوب ولا من حيث التدنى والرقى كما هو الحال فى اللغات الأخرى، لكن من حيث أن اللغة المكتوبة لغة معربة بينما لغتنا الحديثة لغة سقط منها الإعراب وتغيّرت فيها قواعد كثيرة. تقول عائشة عبد الرحمن إن التلميذ "يدخل المدرسة الابتدائية وهو ينطق على سجيته بصيغ التصغير ويُجرى النسب، ويميز بين المؤنث والمذكر، والمفرد والمثنى والجمع. لا يخلط بين كتابين وكتب ..." (ص. 197). لكنها تغفل أن ذلك الطفل لا يقول "أخى وأختى يلعبان" بل يقول "أخـُوى وأختى بيلعبوا"، ولا يقول "أختى وصديقتها تلعبان" بل يقول أيضا "أختى وصديقتها بيلعبوا". يصعب على عائشة عبد الرحمن الاعتراف بأن اللغة التى نتكلمها واللغة التى نكتبها وإن اختلفتا، وما كان لهما أن تختلفا، إلا أنهما كليهما غير لغة القرن الأول الهجرى. حرف الباء فى "بيلعبوا" ليس نافلة؛ إنه يعطى الفعل ‘زمنا’ لم يعرفه الفعل عند امرئ القيس ولا عند المتنبى ولا يعرفه الفعل فى لغة فضيلة شيخ الأزهر حين يكتب. فالفعل فى لغتنا المصرية الحديثة له على الأقل أربعة أزمنة لا ثلاثة كفعل العربية الفصحى. لا تفقد عائشة عبد الرحمن تعقلها وهدوء نبرتها إلا حين تناقش المنادين بإبدال الفصحى بالعامية، وخاصة حين تناقش أفكار ودعاوى سلامة موسى (1887 – 1958). وأنا لم أقرأ مؤلفات سلامة موسى ولا أستبعد أن يكون اشتط أكثر مما ينبغى بفعل وقوعه تحت تأثير تيارات الفكر ‘الوضعى’ الذى استفحل فى الغرب فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. لكن القارئ لا يمكن أن يخطئ ضيق الكاتبة بأفكاره إلى الحد الذى يُفقدها الموضوعية فى الحكم. إنها تستخفّ بدعوة سلامة موسى إلى لغة علمية، وتأتى بنماذج من عبارات استخدم فيها المجاز المستمد من العلوم ومن الحياة العصرية، توردها فى استهجان واضح وتصفها بالركاكة، مع أن كثيرين قد يرونها مستساغة ومعبّرة، وتأتى عائشة عبد الرحمن فى المقابل بنماذج من تعبيرات قرآنية تستخدم المجاز من الطبيعة ومن مجالات الحياة البدوية، قد يجدها القارئ الحديث مستغربة (انظر الصفحات 147 – 149). تتناول عائشة عبد الرحمن فى عجالة الدعوة لاستخدام الحروف اللاتينية فى كتابة العربية، وهذا موضوع آخر تمنعنا القدسية التى نضفيها على كل ما يتعلق باللغة العربية من أن نناقشه فى موضوعية، مع أننا كلنا نعلم أن القرآن لم ينشأ مكتوبا بل منطوقا، ثم دُوّن وقت أن كان امتلاك العرب لأدوات الكتابة بالغ التخلف والانحطاط، ورغم علمنا بأن طريقة كتابة القرآن قد تغيّرت بالفعل منذ القرون الأولى وعلى امتداد القرون الأربعة عشر التى تلت. ومع ذلك فإنه متى طرحت فكرة استخدام الحروف اللاتينية فى الكتابة تجدنا، بدل أن نناقش فوائد ومثالب هذا الاقتراح، نسارع برفع راية الدفاع عن قدسية لغة القرآن. لقد طال هذا المقال أكثر مما قدرت له، فأكتفى بهذا الآن، لكن كل جوانب الموضوع تستحق أن نعود إليها مرارا فى معالجة عقلانية هادئة متأنية، وإنى أرجو على الأخص أن أعود إلى موضوع بلاغة القرآن فى دراسة مستفيضة بعض الشىء. القاهرة، 14 أغسطس 2012
• الكتاب: لغتنا والحياة لـ الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ"، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1991.
#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أخلاط هواجس
-
ما شأن الله بالدستور؟
-
القيم والدين
-
سفسطة إخوانية
-
ثيوقراطية الدستور المقترح
-
هيپاتيا: الحقيقة، الأسطورة، الأكذوبة
-
كم يسيئون إلى إلإههم!
-
الدين: مفهومان متناقضان
-
الدولة المدنية والدولة الدينية
-
لغة الإسلام السياسى
-
الفيلسوف والسياسة
-
من هو المثقف؟
-
هل الإخوان شركاء الثورة؟
-
بكائية للثورة
-
ضرورة نقد الدين
-
المفهوم الفلسفى للدين
-
مسيرة الفكر الإنسانانى
-
دعوة للعقلانية
-
ظاهرة زغلول النجار
-
همس الحيّة
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|